الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الأعزاء! وأيتها الأخوات الفاضلات! طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة في جنته، ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! لماذا هزمت الأمة؟! لماذا تحكم في الأمة أخس أهل الأرض من اليهود؟! لماذا صارت الأمة ذليلة لمن كتب الله عليه الذل؟!
هل لأن الأمة فقيرة؟!
هل لأن الأمة قليلة؟!
هل لأن الأمة لا تملك العقول التي تفكر وتبدع؟!
هل لأن الأمة لا تملك الثروات الطائلة والمناخ الرائع الجيد؟!
الجواب: لا، الأمة ليست فقيرة، وليست قليلة العدد، وليست فقيرة لا تملك العقول والأدمغة المبدعة.
إذاً: ما السر في هزيمة الأمة وتحكم أخس أهل الأرض فيها؟!
والجواب: أن أمتنا تحتاج إلى اليقين.
إن الأمة الآن بحاجة إلى أن تجدد ثقتها في الله، وإلى أن تجدد يقينها في الله، وإلى أن تتبرأ من كل حول وطول إلا من حول الله وطوله، وإلى أن تردد بلسانها وقلبها وأعمالها: اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ونبرأ من الأمل إلا فيك، ونبرأ من التسليم إلا لك، ونبرأ من التفويض إلا إليك، ونبرأ من التوكل إلا عليك، ونبرأ من الصبر إلا على بابك، ونبرأ من الذل إلا في طاعتك، ونبرأ من الرهبة إلا منك.
أمتنا تحتاج إلى اليقين، هذا هو موضوعنا في هذا اليوم العظيم، وسوف أركز الحديث في هذا الموضوع الكبير الجليل في العناصر التالية:
أولاً: منزلة اليقين وعلاماته.
ثانياً: أوجه اليقين ودرجاته.
ثالثاً: شموس في سماء اليقين.
وأخيراً: أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين.
فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يرزقنا اليقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
منزلة اليقين
علامات اليقين
فما هي أوجه اليقين ودرجاته؟
أما أوجه اليقين ودرجاته فقد نقل
ابن القيم رحمه الله عن
أبي بكر الوراق رحمه الله قال: اليقين على ثلاثة أوجه:
يقين خبر.
ويقين دلالة.
ويقين مشاهدة.
يقين الخبر
يقين الدلالة
يقين المشاهدة
سيدنا نوح عليه السلام
سيدنا إبراهيم عليه السلام
سيدنا موسى عليه السلام
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وهذا صاحب أعلى يقين عرفته الأرض، حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك سبباً من الأسباب إلا وأخذ به يوم الهجرة، ومع ذلك تأصلت كل هذه الأسباب في لحظة، فالتف المشركون حول الغار بين غمضة عين وانتباهتها، وهنا يقول
الصديق رضوان الله عليه صاحب أعلى ذروة سنام الصديقية في الأمة يقول للنبي: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، وهنا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم
الصديق والأمة من بعده درساً من أغلى دروس اليقين ويقول: (
يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا).
فليخرج
أبو جهل، وليخرج المشركون عن بكرة أبيهم؛ ليقلبوا الحجارة، بل ولينقبوا بين حبات الرمال عن النبي وصاحبه، فورب الكعبة لن يصلوا إليهما أبداً، لماذا؟
لقول الحبيب: (إن الله معنا).
بك أستجير ومن يجير سواكاً فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
إني ضعيف أستعين على قوي ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا
أذنبت يا ربي وقادتني ذنو ب ما لها من غافر إلا كا
دنياي غرتني وعفوك شدني ما حيلتي في هذه أو ذاكا
لو أن قلبي شك لم يك مؤمناً بكريم عفوك ما غوى وعصاكا
رباه هأنذا خلصت من الهوى واستقبل القلب الخلي هواك
رباه هأنذا خلصت من الهوى رباه قلب تائب ناجاكا
أترده وترد صادق توبتي حاشاك ترفض تائباً حاشاكا
فليرض عني الناس أو فليسخطوا فلم أعد أسعى لغير رضاكا
(
يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)؛ فمن كان الله معه لم يحزن؟! ومن كان الله معه فممن يخاف؟! ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقهر، ممن يخاف ومعه العزيز الذي لا يغلب، ممن يخاف ومعه القيوم الذي لا ينام، ممن يخاف ومعه الحي الذي لا يموت، ممن يخاف ومعه القوي الذي لا يقوى عليه شيء؟! ولا يقدر على إعلان الحرب عليه أي أحد،
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
(لا تحزن إن الله معنا):
إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ [التوبة:40]، اللهم أنزل علينا السكينة حتى تذوق قلوبنا حلاوة اليقين فيك، وبرد الثقة بك، ولذة التوكل عليك، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سحرة فرعون
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه
سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه
وهذا
خبيب بن عدي يصلب على خشبة في مكة، ويلتف المشركون من حوله ويشرعون السهام والرماح؛ لتنقض على هذا الجسد فتمزقه بجنون ووحشية؛ ويقترب
أبو سفيان من
خبيب بن عدي -وحديثه في صحيح
البخاري في كتاب المغازي- ويقول
أبو سفيان : يا
خبيب ! أيسرك أن يكون محمد في موطنك الذي أنت فيه الآن، وأنت في أهلك معافى؟!
قال: والله ما يسرني أن يكون رسول الله في موطنه الذي هو فيه الآن تصيبه شوكة تؤذيه وأنا في أهلي معافى!
فقال
أبو سفيان قولته الخالدة: والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كما رأيت أصحاب محمد يحبون محمداً!
فطلب
خبيب من
أبي سفيان أن يصلي لله ركعتين، فأذن له في ذلك، فصلى ركعتين خفيفتين والتفت إلى المشركين وقال: والله لولا أني أخشى أن تقولوا: إنني جزع من الموت لأطلت الصلاة، ثم تضرع إلى الله وقال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، وأنشد أبياته الخالدة الجميلة ومنها قوله:
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي وما أرصد الأحزاب لي ذل مصرعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وما بي خوف الموت إني لميت وإن إلى ربي إيابي ومرجعي
اللهم ارزقنا اليقين، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى كل من اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد:
وأخيراً أيها الأحبة الكرام! فإن أمتنا لا تحتاج إلا إلى اليقين، فأمتنا تملك العدد والعدة والعمق الاستراتيجي المذهل، والأموال والثروات الطائلة، وتملك العقول المفكرة، والأدمغة المبدعة، لكن الأمة لا ينقصها إلا اليقين، لا تحتاج الأمة الآن إلا إلى اليقين في الله سبحانه.
لو امتلكت اليقين لرأيت العجب العجاب! ولو تعاملت مع ربك سبحانه وتعالى باليقين في خبره وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم لعشت ورب الكعبة الحياة الطيبة التي أخبر عنها ربنا جل وعلا، ولقلت بيقين: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فوالله إنهم لفي عيش طيب.
ما أحلى العيش في بستان اليقين، ما أحلى أن تتعامل مع ربك ثم مع الخلق من الكفار والمسلمين بلغة اليقين، الأمة الآن تحتاج بحق إلى اليقين، وها نحن قد رأينا -وشاء الله أن نرى على أرض فلسطين- أطفالاً يعلمون الأمة في الشرق والغرب، بل ويعلمون العالم طعم اليقين وحلاوة اليقين، لقد رأيت بعيني في الأرض المباركة في حرب فلسطين أماً مسلمة تحمل على ذراعها الأيسر طفلها الرضيع وتنحني على الأرض لتلتقط الحجارة فتدفعها إلى ولدها وهو في السابعة من العمر، وأمام الصبي دبابة يهودية أمريكية لا تبتعد عنه إلا عشرة أمتار ليقذف الدبابة بالحجر!
آه يا مسلمون متنا قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق
أي شيء في عالم الغد نحن آدميون أم نعاج نساق
نحن لحم للوحش والصيد منا الجثث الحمر والدم الدفاق
وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق
قد هوينا لما هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق
واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنـ ـيا علينا واسودت الأعماق
وإذا الجذر مات في باطن الأر ض تموت الأغصان والأوراق
ما حرك هذه الأم إلا اليقين، ما حرك هذا الطفل المبارك على الأرض المقدسة إلا اليقين، وما أمسكوا بهذا اليقين إلا يوم أن قطعوا كل العلاقة بأهل الأرض، نعم. قطعوا اليقين في أهل الأرض، علموا يقيناً أن الشرق والغرب بل والعالم الإسلامي لن ينصرهم، فبيقين علقوا قلوبهم بالملك الحق.
فرأينا هذه الآيات والصور التي نراها كل يوم على أرض فلسطين، نرى أطفالاً يروون شجرة العز والكرامة بالدماء الطاهرة الزكية! إنه اليقين، نرى رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، وبنات في عمر الزهور والورود يواجهون أعتى الأسلحة على وجه الأرض، ولم لا؟! إنها أسلحة صنعت في أمريكا، والكفر ملة واحدة، تلك الأسلحة الأمريكية التي تقتل الإسلام والمسلمين في فلسطين.. في أفغانستان.. في الشيشان.. في العراق.. في السودان.. في الصومال، في كل مكان، ونرى هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء يجسدون لنا اليقين في زمن تعطش لليقين، لنعلم أن القلب إن تجرد لله، ذهل عن أسباب الأرض، وتلعق برب السماء والأرض، رأينا العجب العجاب!
لا تستكثروا! ففي مصر وعلى أرضها وترابها تجسد اليقين أيضاً، نعم. والله الذي لا إله غيره لا أجامل بها مخلوقاً على وجه الأرض، هذه الأرض أيضاً أرض جسدت اليقين، كنت أقرأ بالأمس كتاباً عن ملحمة السويس للشيخ المبارك
حافظ سلامة سلمه الله وحفظه، وقرأت العجب العجاب، حينما علمت أنه في يوم الثاني والعشرين من أكتوبر عام ثمانية وسبعين لما دخلت القوات اليهودية إلى مدينة السويس من خلال الثغرة المشئومة المعروفة، ووصلت إلى قلب شركة السويس لتصنيع البترول والتقطت لها الصور إلى جوار مستودعات البترول، ونشرت وكالات الأنباء العالمية هذه الصور المزرية، ووصل اليهود إلى قلب السويس، وخاطبوا المسئولين في المحافظة أن يسلموا المدينة وأن يرفعوا الأعلام البيضاء، وبالفعل رفعت الأعلام البيضاء، فقال هذا الرجل المجاهد البطل مع قلة من الجنود والضباط البواسل من جيشنا ومن المسلمين العاديين قالوا: لا، لن نسلم المدينة، وسوف نجاهد اليهود إلى آخر قطرة من دمائنا.
وسبحان ربي العظيم! هؤلاء البواسل بمجموعة من الأسلحة العادية كبدوا اليهود خسائر فادحة، حتى صرحت وكالات الأنباء بعد ثلاثة أيام فقط أن اليهود قد خسروا المعركة على أيدي رجال المقاومة الشعبية في مدينة السويس! على أيدي أهل مصر الأوفياء، ويقسم لي بالله الشيخ المبارك حفظه الله ويقول: والله لقد نفذ الماء، وتعرضنا للموت عطشاً، وقمنا في مجموعة كبيرة من الضباط والأفراد العاديين نتضرع إلى الله ونصلي صلاة الاستسقاء؛ ليرزقنا الله ماءً فكدنا أن نهلك من العطش، فيقسم بالله قائلاً: والله الذي لا إله غيره رأينا بدون مقدمات سفينة لا تزود السفن في قناة السويس إلا بالماء! رأينا صندداً من الماء قد كسر الرباط الذي له في المركب، وبدل أن يتجه مع التيار جاء هذا المركب عكس التيار، ووقف أمام هؤلاء الأطهار، فلما نزلنا فيه وجدناه سفينة مخصصة لتزويد السفن في القناة بالمياه!
لا تستكثروا شيئاً على الله، فوالله لو صدقنا مع الله لرأينا العجب العجاب، فالأمة الآن ما تحتاج إلا إلى اليقين. ولتلجأ إلى الله وسترى العجب العجاب، وستعلم يقيناً أنه لا تقدر قوة على وجه الأرض مهما كان عددها وعدتها وسلاحها أن تقف في وجه اليقين وأهله.
اللهم ارزقنا اليقين، اللهم ارزقنا اليقين، اللهم إني أسألك أن ترزق الأمة حلاوة اليقين بك، والثقة فيك والتوكل عليك، اللهم اشف صدور قوم مؤمنين بنصرة الإسلام وعز الموحدين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، وانصر المسلمين في أفغانستان، وانصر المسلمين في الشيشان، وانصر المسلمين في العراق، وانصر المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في العراق، واحفظ المسلمين في السودان، واحفظ المسلمين في كشمير، واحفظ المسلمين في الفلبين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان.
اللهم إني أسألك أن تجعل مصر واحة للأمن والأمان، يا رب! أسبغ على مصر ثوب الأمن والأمان، اللهم اجعل مصر سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم ارفع الغلاء والوباء، يا رب! استر نساءنا واحفظ بناتنا، اللهم استر نساءنا، واحفظ بناتنا، ورب أولادنا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.