إسلام ويب

أسئلة الإماراتللشيخ : محمد ناصر الدين الألباني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أجاب الشيخ في هذه المادة عن بعض أسئلة شباب من الإمارات، وقد تناول فيها الحديث عن حكم الضرائب في الإسلام، وحكم خروج المرأة من بيتها بضرورة معينة كالولادة وغيرها، كما تناول حكم العزل في الإسلام. وكذلك تناول مسألة الجمع بين الأدلة الشرعية وضرب بعض الأمثلة على ذلك، كما بين حكم التأول في الأدلة الشرعية، موضحاً خطره على المسلم في جره إلى منزلق المجاز، وغير ذلك من الأسئلة.

    1.   

    حكم تفويت صلاة الجماعة من أجل الامتحان

    إن الحمد لله، نحمده ونستيعنه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أما بعد:

    السؤال: إذا تعارض وقت صلاة الجماعة مع وقت الامتحان أو منتصفه. فما الجواب جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: إن أصل المنهج ليس على الشرع، وما بني على فاسد فهو فاسد، وهذا الذي دخل مثل هذه المدرسة التي وضعت مناهج لم تراع فيها أحكام الشريعة، فبدهي جداً أن تكون العاقبة بالتالي مخالفة للشريعة، ولذلك فهناك حكمة أو مثل عامي شامي يقول: (الذي يريد ألا يرى منامات مكربة، فلا ينام بين القبور). فالذي يريد أن يتمسك بالشريعة عليه ألا ينتمي إلى تعليم أو منهج يخالف الشريعة، وحينئذ إن فعل وانتمى إليها فلا يورد مثل هذا السؤال؛ لأنه لا يستطيع من جهة أن يضيع تلك الجهود والسنوات التي قضاها في التحصيل ليقدم في هذه الساعة من الامتحان أو الاختبار نتيجة ذلك التحصيل، فإن فعل فقد وقع في المخالفة الصريحة للشريعة.

    ولذلك على المرء أن يبتدئ الطلب للعلم على المنهج العلمي الصحيح؛ لأن ما بني على صالح فهو صالح، وما بني على فاسد فهو فاسد.

    1.   

    حكم الضرائب في الإسلام

    السؤال: ما حكم الإسلام في الضرائب؟

    الجواب: الضرائب هي التي تسمى بلغة الشرع (المكوس)، والمكوس من المتفق بين علماء المسلمين أنها لا تجوز إلا في حالة واحدة، يتحدث عنها بحجة بينة الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه العظيم الاعتصام، حيث يتكلم فيه بكلام علمي دقيق قلما نجده في كتاب آخر سواه، يفرق فيه بين البدعة التي أكد في بحثه في هذا الكتاب أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) أن هذا القول الكريم هو على إطلاقه وعمومه وشموله، وأنه ليس في الإسلام ما يسميه بعض المتأخرين بالبدعة الحسنة؛ لأن هذه البدعة الحسنة أولاً: لا دليل عليها في الكتاب ولا في السنة، وثانياً: هي مخالفة لعموم الأحاديث التي تطلق ذم البدعة إطلاقاً شاملاً، فكلما تعرض النبي صلى الله عليه وسلم لذكرها فإنه يطلق الذم عليها، ولا يقيدها بقيد ما، كمثل الحديث السابق، ومثل الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أكد الإمام الشاطبي في كتابه المشار إليه آنفاً: أن هذه الأحاديث تحمل على عمومها وشمولها، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ولكنه من إحسانه في هذا البحث العظيم أن تعرض لما يسمى أو يعرف عند بعض العلماء بـ(المصالح المرسلة)، وهذه المصالح المرسلة التي تلتبس على بعض المتأخرين من الذين ذهبوا إلى القول بأن في الدين بدعة حسنة، تختلط عليهم المصالح المرسلة بالبدعة الحسنة، وشتان ما بينهما، فالمصلحة المرسلة -التي يتبناها بعض العلماء ومنهم إمامنا الشاطبي رحمه الله- هي التي توجبها ظروف وضعية أو زمنية، تؤدي إلى تحقيق مصلحة شرعية. فهذه ليس لها علاقة بالبدعة التي يستحسنها بعض الناس؛ لأن البدعة التي يسمونها بالبدعة الحسنة إنما يقصدون بها زيادة التقرب إلى الله تبارك وتعالى، وهذه الزيادة لا مجال لها في دائرة الإسلام الواسعة، التي مما جاء فيها قول ربنا تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، ولذلك لقد أجاد إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله حينما قال كلمته الذهبية المشهورة، قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة -وحاشاه- اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] . قال مالك : فما لم يكن يومئذ ديناً -أي: يتقرب به إلى الله- فلا يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

    إذا كان هذا هو شأن البدعة التي يسمونها بالبدعة الحسنة، وهو أنهم يريدون التقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، زيادة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به، وما تركت شيئاً يباعدكم عن الله ويقربكم إلى النار إلا ونهيتكم عنه).

    إذاً: لا مجال لاتخاذ محدثة سبيلاً للتقرب إلى الله تبارك وتعالى، ما دام أن الله قد أتم النعمة علينا بإكماله لدينه.

    أما المصلحة المرسلة فشأنها يختلف كل الاختلاف عن البدعة الحسنة -المزعومة- فالمصلحة المرسلة يراد بها تحقيق مصلحة يقتضيها المكان أو الزمان ويقرها الإسلام.

    وفي هذا المجال يؤكد الإمام الشاطبي شرعية وضع ضرائب تختلف عن الضرائب التي اتُخذت اليوم قوانين مضطربة في كثير إن لم نقل في كل البلاد الإسلامية، تقليداً للكفار الذين حرموا من منهج الله المتمثل في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكان من الضرورة بالنسبة لهؤلاء المحرومين من هدي الكتاب والسنة أن يضعوا لهم مناهج خاصة، وقوانين يعالجون بها مشاكلهم، أما المسلمون فقد أغناهم الله تبارك وتعالى بما أنزل عليهم من الكتاب، وبما بين لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لذلك فلا يجوز للمسلمين أن يستبدلوا القوانين بالشريعة، فيحق فيهم قول الله تبارك وتعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61] فلا يجوز أبداً أن تتخذ الضرائب قوانين ثابتة، كأنها شريعة منزلة من السماء أبد الدهر، وإنما الضريبة التي يجوز أن تفرضها الدولة المسلمة هي في حدود ظروف معينة تحيط بتلك الدولة.

    مثلاً -وأظن أن هذا المثال هو الذي جاء به الإمام الشاطبي :- إذا هوجمت بلدة من البلاد الإسلامية، ولم يكن هناك في خزينة الدولة من المال ما يقوم بواجب تهيئة الجيوش لدفع ذلك الهجوم من أعداء المسلمين، ففي مثل هذه الظروف تفرض الدولة ضرائب معينة وعلى أشخاص معينين، عندهم من القدرة أن يدفعوا ما فرض عليهم، ولكن لا تصبح هذه الضريبة ضريبة لازمة، وشريعة مستقرة -كما ذكرنا آنفاً- فإذا زال السبب العارض وهو هجوم الكافر ودفع عن بلاد الإسلام؛ أُسقطت الضرائب عن المسلمين؛ لأن السبب الذي أوجب تلك الضريبة قد زال، والحكم -كما يقول الفقهاء- يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فالعلة أو السبب الذي أوجب تلك الفريضة قد زال، فإذاً تزول بزوالها هذه الضريبة.

    وباختصار جواب ذاك السؤال: ليس هناك ضرائب تتخذ قوانين في الإسلام، وإنما يمكن للدولة المسلمة أن تفرض ضرائب معينة لظروف خاصة، فإذا زالت الظروف زالت الضريبة.

    1.   

    حكم الكفالة الشكلية واشتراط المنفعة عليها

    السؤال: ما حكم الشرع بالنسبة لرجل مسلم يكفل، أو يشارك في الرخص التجارية التي تصدر عن بلديات الدولة، لرجل مسلم أو غير مسلم من غير أهل هذا البلد، مع إلزام المكفول أو المشارك بدفع مبلغ معين مقابل هذه الكفالة؟

    الجواب: الذي نراه والله أعلم أن هذه الكفالة إذا كانت مجرد كفالة شكلية لا يقترن بها مساعدة عملية للمكفول، فهذا من باب أكل مال الناس بالباطل، وهو المنهي عنه في القرآن الكريم.

    1.   

    حكم توليد الطبيب الرجل للمرأة

    السؤال: إذا كانت المرأة حاملاً، فهل يجوز أن يقوم على توليدها رجل؟

    الجواب: الحقيقة أن هذه المسألة من المسائل التي ابتلي بها المسلمون اليوم، لقد كانت المرأة الحامل تضع في عقر دارها، وبمساعدة بعض قريباتها، أو بمساعدة من تسمى بـ(الداية) أو (القابلة) في بعض البلاد، فتغيرت الأوضاع، وهذا كله بسبب تأثر المسلمين بالتقاليد الأجنبية الغربية، مصداقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس؟).

    وفي رواية الترمذي وغيره تأكيد هذا التقليد الأعمى لهؤلاء الكفار في أسوأ ما يمكن أن يتصوره المسلم، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمه على قارعة الطريق، لكان فيكم من يفعل ذلك) صدق رسول الله.

    فإننا نرى التقليد من المسلمين للكفار يشمل أسوأ التقاليد والعادات، من ذلك أنه أصبح عادة لازمة أن كل امرأة يجب أن تضع في المستشفى؛ سواء اضطرت إلى ذلك أو لم تضطر إليه، فأصبح تقليداً وأمراً رتيباً، وحتى البيوت الفقيرة تحاول أن تضيق من نفقاتها الضرورية؛ لتتمكن من توليد المرأة الحامل في المستشفى، وهذا تقليد من المسلمين للكفار.

    والذي نقول بعد هذه التوطئة وهذه المقدمة: إن أصل إدخال المرأة إلى المستشفى للتوليد لا يجوز القول بجوازه هكذا مطلقاً، وإنما لا بد من التحديد والتضييق، فيقال: إذا كانت القابلة أو الطبيبة المشرفة على هذه المرأة الحامل، إذا رأت بعلمها أن هذه المرأة سوف تكون ولادتها غير طبيعية، وأنها قد تتطلب إجراء عملية إضافية لها، ففي هذه الحالة تنقل إلى المستشفى، أما إذا كانت الولادة طبيعية؛ فلا يجوز أن تخرج من دارها وأن تدخل المستشفى فقط لتوليدها توليداً طبيعياً.. هذه واحدة.

    الأخرى: إذا اضطرت المرأة أن تدخل المستشفى في هذه الحدود الضيقة التي ذكرناها، فيجب ألا يتولى توليدها الرجل الطبيب، وإنما تولدها طبيبة من النساء، فإن لم توجد فحين ذلك لا بأس -بل قد نقول: يجب؛ إذا كانت ولادتها في خطر- أن يولدها الطبيب؛ ما دام أن الطبيبة غير موجودة، وهذا الجواب الأخير التفصيلي يؤخذ من قاعدتين اثنتين من علم أصول الفقه، ومن لا دراية له به لم يحسن الجواب عن المسائل العارضة، لا سيما إذا كانت جديدة، ولم يسبق أن عالجها العلماء السابقون.

    والقاعدتان هما:

    القاعدة الأولى: الضرورات تبيح المحظورات.

    القاعدة الأخرى وهي مقيدة للأولى: الضرورة تقدر بقدرها.

    لهذا قلنا: إذا كانت المرأة بإمكانها أن تضع ولدها في دارها؛ فلا يجوز لها أن تذهب إلى المستشفى، فإن اضطرت فيتولى توليدها الطبيبة وليس الطبيب، فإن لم توجد الطبيبة تولى توليدها الرجل الطبيب، لأننا قلنا: الضرورات تقدر بقدرها.

    وقولنا: إن الضرورات تقدر بقدرها، يوجب علينا أن نقول: المرأة هي التي تولدها، لكن إذا لم توجد المرأة فحينئذ نقول: الضرورات تبيح المحظورات.

    فهذا التوليد من الرجل للمرأة حينما لا توجد الطبيبة، ليس بشر من أن يتعرض المسلم لأن يأكل ما حرم الله من الميتة والدم ولحم الخنزير، فإن الله عز وجل قد ذكر في خاتمة الآية فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] فيحل لكم أن تأكلوا من هذه المحرمات، لكن قوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] ومن سياق هذه الآية من السباق والسياق أخذ العلماء القاعدتين السابقتين ذكراً: الضرورات تبيح المحظورات، لكن ليس ذلك على الإطلاق، وإنما الضرورة تقدر بقدرها؛ لأنه قال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام:119] فمثلاً: رجل في الصحراء يتعرض للموت جوعاً، فيجد هناك ميتة، أو لحم خنزير، أو نحو ذلك، فلا يجوز له أن يجلس ويأكل من هذه الميتة كما لو كان يأكل لحماً طازجاً حلالاً حتى يشبع نهمته من الجوع، وإنما بقدر ما يسد به رمقه، وينقذ به نفسه من الهلاك.

    هذه الآية هي مصدر القاعدتين السابقتين: الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها. هذا الجواب لآخر سؤال.

    1.   

    حكم ولادة المرأة في المستشفى دون ضرورة

    السؤال: بالنسبة للمرأة قلت: إنه لا يجوز أن تلد في المستشفى إلا إذا كان هناك ضرورة، فما الدليل على ذلك؟

    الجواب: الدليل ما قلناه آنفاً.

    السائل: لكن إذا كانت المرأة ستدخل المستشفى من أجل أن تلد على يد طبيبة مسلمة، فما المانع؟

    الشيخ: الأصل يجب أن تتذكر القاعدة القرآنية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] فالأصل أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج من دارها إلا لحاجة، كما جاء في صحيح البخاري حينما نزلت هذه الآية السابقة: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33] قال عليه الصلاة والسلام: (قد أذن الله لكن أن تخرجن لحاجتكن) فإذا تذكرنا هذا الأصل، وهذه القاعدة أيضاً بالنسبة للمرأة، فنحن نقول: ليس هناك حاجة بالمرأة الحامل إذا كان وضعها طبيعياً -كما تقدم- أن تدخل المستشفى.. هذا أولاً، وثانياً: إن المرأة التي تدخل المستشفى تتعرض للانكشاف لكثير من الرجال فضلاً عن النساء، فهذا التعرض لا يجوز للمرأة أن تلجأ إليه إلا في الحدود السابقة الذكر، فهذا هو الدليل لما قلناه.

    السائل: يا شيخ! إذا كان لا يوجد في البلدة امرأة قابلة، فكيف تصنع؟

    الشيخ: بارك الله فيك! أنا أجبت عن هذا الموضوع، قلت: إذا كانت تلد في دارها ولادة طبيعية، وليست بحاجة إلى أن تخرج إلى المستشفى، فأنت الآن تأتي بمثال لا يخرج عن البحث السابق، فأنت تقول: لا يوجد في هذه البلدة قابلة أو داية، فإن الجواب قد سبق: إذ (لا يوجد) معنى ذلك أنه وجدت الحاجة التي تبيح للمرأة أن تدخل المستشفى، لكن -أيضاً- حينما تدخل المستشفى يجب ملاحظة القيود السابقة التي سبق ذكرها، فأنت لا تزال معي في بحثي السابق، كل ما في الأمر أنك تفرق بين بلد وآخر، ولذلك نحن لا نستطيع أن نقول: يجوز ولا يجوز، هكذا إطلاقاً! وإنما نأتي بالتفصيل ليأخذ كل مسلم الحكم منه في أي بلد كان، وفي أي وضع كان.

    1.   

    حكم العزل

    السؤال: ما حكم العزل لرجل عزل حتى لا يكون ذلك عبئاً عليه، على الرغم من أنه يستطيع أن يصرف على أهل بيته وأولاده، ولكن زوجته تخاف الحمل؛ نظراً لمرضها وتأثير الحمل عليها؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.

    الشيخ: ما معنى عزل نفسه؟

    السائل: أي أنه عزل باختياره.

    الشيخ: لماذا عزل؟

    السائل: في الغالب أنه يخشى على زوجته.

    الشيخ: بالنسبة للمرأة جاء البيان بأنها تخشى على نفسها المرض.

    السائل: هو والله أعلم يريد أن يفسر: أنه لا يعزل من أجل أنه لا يستطيع أن يصرف على البيت والأولاد، إنما يعزل من أجل مرض امرأته.

    الشيخ: على كل حال لكل سؤال جواب.. هل انتهى هذا السؤال؟

    السائل: نعم.

    الشيخ: قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من مقدمة وجيزة تتعلق بحكم العزل في الإسلام:

    العزل في الإسلام أقل ما يقال فيه: إنه مكروه، وأعني ليس التحريم وإنما الكراهة، والكراهة تجامع في تعبير العلماء الجواز، فقد يكون الأمر جائزاً وهو مكروه، لكن إذا كان حراماً فلا يكون جائزاً، فالجواز مع التحريم لا يجتمعان، أما الجواز مع الكراهة فيجتمعان، وقد أخذنا جواز العزل من حديث جابر رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما أنه قال: [كنا نعزل والقرآن ينزل] .

    هذا الحديث في الوقت الذي يعطينا حكم جواز العزل، يعطينا قاعدة هامة جداً قلَّ من يتنبه لها من الناس، وهذه القاعدة هي: أنه إذا وقع أمر في عهد النبوة والرسالة، ولم يأتِ نهي عنه فهو دليل الجواز؛ ذلك لأنه لو كان منهياً عنه لنزل الحكم بالنهي عنه في القرآن، أو في بيان الرسول عليه الصلاة والسلام الذي مما خوطب به في القرآن: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] .

    فإذاً: قول جابر : [كنا نعزل والقرآن ينزل] فيه إشارة إلى أنهم كانوا يفعلون ذلك ولم ينزل في القرآن حكم بذلك، فمعناه: أنه يجوز، لهذا كان هذا الحديث دليلاً على جواز العزل؛ لأن الله من فوق سبع سموات قد أقر عمل هؤلاء الصحابة، ولم ينههم عن ذلك.

    لكننا قلنا بالإضافة إلى الجواز بأنه مكروه، فمن أين يأتي هذا الحكم الإضافي على الجواز؟

    هذا الحكم يأتي من ملاحظتنا لحديث رائع جداً، قلَّما يتعرض له بذكر بعض الذين يسألون عن هذه المسألة، ذاك الحديث هو قوله عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا الودود الولود، فإني مباهٍ -وفي لفظ: مكاثر- بكم الأمم يوم القيامة)، فالذي يعزل عن زوجته لا شك أنه في ذلك لا يحقق رغبة نبيه صلى الله عليه وسلم هذه، وهي المباهاة والمفاخرة بأمته على سائر الأمم يوم القيامة.

    وفي هذا الحديث تنبيه هام جداً لخطورة ما شاع وذاع وملأ الأسماع في هذا العصر مما يسمونه بـ(تحديد النسل)، أو (تنظيم النسل)، فهذا ينافي الشرع الإسلامي منافاة لهذا التوجيه النبوي الكريم، فهو يريد منا أن نكثر من نسلنا، لنحقق بذلك رغبة من رغبات نبينا صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء في الحديث السابق، وعلى العكس من ذلك؛ حينما ننظم أو (نحدد) -زعمنا- لا يحقق أحدنا أبداً هذه الرغبة النبوية الكريمة، لا سيما إذا ما جُعل التحديد أو التنظيم نظاماً عاماً يفرض من دولة ما على شعب مسلم ما، فهناك تكون الطامة الكبرى؛ لأن هذه المسألة تهون حينما ترتكب هذه المخالفة لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم من فرد، أما إذا صارت مشكلة تبنتها الدولة وتبناها الشعب، فهناك تحقيق لرغبة أعدائنا الذين يحيطون بنا من كل مكان، ولا يستطيعون -وهذا من فضل الله ورحمته بنا- أن يقضوا القضاء المبرم على الأمة المسلمة؛ لما بارك الله في عددهم.

    ولذلك فهم يخططون -كما ترون- في كثير من تصرفاتهم تخطيطاً بعيد المدى جداً جداً، وهم مع الأسف الشديد قد أوتوا صبراً وجلداً؛ بحيث أنهم يخططون إلى ما بعد خمسين سنة، فيرون أن هذا الشعب المسلم يبلغ -مثلاً- مائة مليون، فليكن بعد خمسين سنة خمسين مليوناً، وعلى ذلك فهم ينظرون إلى بعيد وبعيد جداً، تحقيقاً للمثل العربي القديم: (من لم ينظر في العواقب، ما الدهر له بصاحب).

    فنحن حينما نتبنى (التنظيم) و(التحديد) المستوردين من بلاد الكفر والضلال، والذين لا يؤمنون بما عندنا من أن المسلم إذا عني بتربية أولاده كان له أجرهم، وكانت مكاسبهم الأخروية تسجل له -أيضاً- وهو في قبره، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان -وفي رواية: إذا مات ابن آدم- انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

    انظروا كيف ينبغي أن تختلف النتائج باختلاف العقائد، فالكفار لا يوجد عندهم إيمان بالآخرة كما جاء في القرآن الكريم: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] فهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا بأنهم إذا عنوا بتربيته الولد أو البنت فلهم أجرهم من بعد وفاتهم وموتهم.

    أما المسلم فيختلف عنهم اختلافاً جذرياً، فهو إذا رزق ولداً فيعلم أنه يترتب عليه أن يقوم بعبادات لا يحلم بها الكفار، فضلاً عن أن يؤمنوا بها، فهو ساعة ولادة وليده يؤمر أمر ندب أن يؤذن في أذنه وأن يسمعه: الله أكبر، وهو في أول خروجه إلى هذه الحياة الدنيا، ثم يترتب عليه تسميته في اليوم السابع، وقص شعره والتصدق بوزنه فضة أو ذهباً، ثم الذبح عنه ويسمى (العقيقة) .. وهكذا.

    كل هذه فضائل ودرجات تكتب لهذا الوالد بسبب ولده، وهذا شيء لا يؤمن به الكفار، من هذا القبيل أيضاً -وهو أمر هام- يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ما من مسلمين -أي: زوجين- يموت لهما ثلاثة من الولد إلا لن تمسهما النار إلا تحِلة القسم) فأنبئوني بعلم: هل عند الكفار مثل هذا الفضل الذي بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم؟! الجواب: لا.

    ولذلك هم يقتصرون على أن يربوا ولداً أو ولدين وثالثهم كلبهم! فهذه تربيتهم وشأنهم من تمتعهم في حياتهم الدنيا، ولا يبتغون من وراء ذلك ثواب الآخرة، وأن يدخر لهم مثل هذا الأجر: (لن تمسهما النار إلا تحلة القسم)، ولذلك هذه الفضائل كلها إنما تتوفر بتحقيق تلك الرغبة النبوية الكريمة وهي: (تزوجوا الودود الولود، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة).

    بعد هذا التفصيل -ولعلي أطلت به عليكم- أقول جواباً عن السؤال السابق: إذا كان هناك ضرورة بالنسبة للمرأة، ولا أتصور الضرورة بالنسبة للرجل أبداً! إلا على تحقيق رغبة الجاهلية الأولى التي قال الله عز وجل في القرآن فيها: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فالرجل لا يوجد له عذر أبداً في أن يحاول من عند نفسه أن يفرض على زوجه تحديد النسل أو تنظيمه، وإنما هذا يمكن أن يتصور فقط بالنسبة للزوجة، وذلك بإشارة من طبيب مسلم حاذق يقول مثلاً للزوج: أن زوجتك هذه إذا استمرت في الحمل فحياتها في خطر، حينذاك لا أقول: تحدد النسل، فالتحديد شر من التنظيم؛ لأن التنظيم من معانيه أنه سيتابع الولادة.

    أما التحديد فكما قلنا: ثالثهم كلبهم! فقد انتهى الأمر عنده إلى هنا، فهذا منهج الكفار الذين لا يؤمنون بالقضاء والقدر، فإذا نظم الإنسان أو حدد نسله؛ فكأنه آمن بأن هذا الولد الأول وهذا الثاني سيعيشان ما عاش أبواهما، ولا يفترضان أبداً أن عند الله عز وجل قد يقبض الولد الأول والثاني، ويبقيان كأنهما أبتران لم يرزقا نسلاً، ثم يحاولان أن يتداركا ما فاتهما وهيهات هيهات! وكما قيل: (في الصيف ضيعت اللبن)

    إذاً: إنما يجوز تحديد النسل للزوجة للضرورة التي يقدرها الطبيب الحاذق المسلم. هذا نهاية الجواب.

    1.   

    معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا تحلة القسم)

    السؤال: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (لن تمسهما النار إلا تحلة القسم

    الجواب: هذا الحديث يشير إلى قوله تبارك وتعالى في الآية الكريمة: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71] (وَإِنْ مِنْكُمْ) قسم من الله، (إِلَّا وَارِدُهَا) اختلف العلماء قديماً وحديثاً في معنى الورود المقصود في هذا الحديث على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: الورود بطرف النار، كما يقال: أورد الإبل الحوض.

    والقول الثاني: المرور على الصراط من فوق النار.

    والقول الثالث وهو لا ينافي الثاني: الدخول في النار؛ لأن المرور على الصراط هو دخول في النار.

    فقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] أي: داخلها، لا فرق بين مؤمن وكافر، كلهم من الإنس والجن لا بد لهم من هذا الدخول، لكن بعد أن يتحقق هذا القسم الإلهي من الدخول هناك، بعد ذلك سرعان ما يتميز الصالح من الطالح، فالصالح يدخل الجنة، والطالح يدخل النار.

    ويفسر هذا الكلام حديث أذكره لما فيه من بيان وتفصيل، لكن لا بد لي من أن أقرن بذلك أن هذا الحديث لم يصح من حيث إسناده؛ لأنه على شهرته ينبغي أن نذكره تنبيهاً على ضعفه، لكن معناه مقبول في حدود ما جاء من الأدلة.

    ذلك الحديث يرويه بعض التابعين من المجهولين -وهو العلة- عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه لقيه في طريقه فقال: (كنا في مجلس ذكرت فيه هذه الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] قال: فاختلفنا -وذكر الأقوال الثلاثة- فما كان من جابر -كما تقول الرواية على ضعفها- إلا أن وضع إصبعيه في أذنيه وقال: صُمَّتا صُمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: لا يبقى بر ولا فاجر إلا ويدخلها، ثم تكون برداً وسلاماً على المؤمنين، كما كانت على إبراهيم).

    إذاً: هذا الدخول المذكور في هذه الآية، والمفسر أيضاً في حديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يدخل النار أحد من أهل بدر وأصحاب الشجرة، قالت: كيف هذا يا رسول الله! والله عز وجل يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]؟ ) وهنا ملاحظة مهمة من حيث أنها تساعد طالب العلم على فهم النصوص الشرعية: نجد هنا السيدة حفصة رضي الله عنها كأنها تريد أن تقول: إن الذي تقوله يا رسول الله! خلاف ما أفهم من الآية، فالآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] ولفظة (منكم) تشمل بلا شك أهل بدر وأصحاب الشجرة، فكيف التوفيق بين هذه الآية حسب فهمي، -أي: حفصة - وبين ما تقوله يا رسول الله؟!

    فقال لها بكل هدوء ولطف كما هو شأنه عليه السلام وديدنه: (فاقرئي ما بعدها: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72] ) ما هي الفائدة؟

    الفائدة: أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا سمع قولاً ولم ينكره؛ كان ذلك دليلاً على صحته في نفسه، ولكن يمكن أن يدخل فيه تخصيص وتقييد لا يخطر على بال المتكلم بتلك الكلمة.

    وهذه فائدة مهمة جداً قد يغفل عنها بعض أهل العلم، ولا بأس من أن أضرب لكم مثلاً وقع في عدم الانتباه لهذه النكتة الفقهية الدقيقة..

    فالإمام أبو محمد بن حزم صاحب الكتاب العظيم كتاب المحلى، وكتاب الإحكام في أصول الأحكام، وغيره من الكتب، قد ألف رسالة في إباحة الملاهي عامة من الآلات الموسيقية، والأغاني، وما شابه ذلك، وكان مما استدل به على ما ذهب إليه في تلك الرسالة، الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليَّ يوم عيد وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، وتضربان عليه بدف، ولما دخل أبو بكر قال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟! -وهذا استفهام استنكاري- فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما، فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا).

    الشاهد: أن الإمام ابن حزم احتج بهذا الحديث على جواز الضرب بالدف والغناء به؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أقر الجاريتين على ذلك، ولكن فاته ما أردت التنبيه عليه، من أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر الصديق على قوله السالف الذكر: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟!) فقد سمى أبو بكر الضرب على الدف والغناء به، سماه مزمار الشيطان، ولم ينكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليه، بل أقره، كما أقر حفصة على قولها في الآية هكذا، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل على استدلال حفصة قيداً كانت غافلة عنه، كذلك تماماً فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع صاحبه في الغار أبي بكر الصديق، فلفت نظره كأنه يقول له: إن الأمر كما تقول أنت يا أبا بكر! لكن هنا استثناء قد فاتك: (دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا).

    فإذا نحن جمعنا بين إقرار الرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـأبي بكر على قوله: (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!)، وبين قوله له: (دعهما، فإن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا) فإننا نخرج بنتيجة: أن مزامير الشيطان لا تجوز، ويكفي في النهي عنها النسبة إلى الشيطان.

    لكن هذا الحكم يستثنى منه الضرب بالدف في يوم العيد، وممن؟ من الجاريتين، فجمعنا بين إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر ؛ وبين قوله له، وخرجنا بنتيجة معاكسة تماماً للنتيجة التي ذهب إليها أبو محمد بن حزم رحمه الله، حيث أخذ قول الرسول عليه السلام ولم يتنبه لإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لقول أبي بكر : (أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟!).

    1.   

    حكم الدف

    السؤال: يا شيخ! هل نفهم من حديث عائشة السابق أن الدف ليس من مزامير الشيطان؟

    الجواب: لقد أجبتك على هذا بارك الله فيك! نحن نقول: الأصل في آلات الطرب أنها من مزامير الشيطان، لكن استثنى الشارع الحكيم من أن يكون مزماراً للشيطان في هذا الوقت المعين، فالأصل: أنه مزمار للشيطان في غير يوم العيد، أما في يوم العيد فليس مزماراً للشيطان، فلا منافاة والحمد لله.

    ولعل من المفيد أن نذكر أيضاً بمثالٍ آخر، وهو مهم جداً من حيث الحياة الفكرية التي يحياها اليوم العالم الإسلامي جله، والذين يعتقدون بأن الموتى يسمعون، ويحتجون على ذلك بحجج كثيرة ولسنا نحن في هذا الصدد، إلا فيما يتعلق بلفت النظر إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقر أحداً على شيء فهو حق فعلينا الاستفادة من ذلك.

    كلنا يذكر غزوة بدر، حينما أهلك الله عز وجل صناديد قريش، وألقوا في قليب بدر، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فوقف على القليب ونادى أولئك الكفار القتلى بأسمائهم: (يا فلان بن فلان! لقد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قال عمر -هنا الشاهد-: يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها).

    ماذا نفهم نحن من قول عمر هنا؟ الجواب: نفهم من ذلك نحو فهمنا من كلمة أبي بكر هناك، ومن كلمة حفصة هناك، فنفهم أن عمر بن الخطاب يرى أن الموتى لا يسمعون؛ ولذلك فهو يستغرب ويتعجب لمناداة الرسول عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الموتى، حديث يقول: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! -بأسمائهم- : إني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟) هذه المناداة تنافي -كما أفهم وهو حق إن شاء الله- ما كان تلقاه عمر بن الخطاب تعليماً من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أن الموتى لا يسمعون، ويكفي في ذلك القرآن الكريم: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل:80] .

    كذلك قوله عز وجل: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22] وهاتان الآيتان فيهما كلام من حيث التفسير، لكن خلاصة الكلام فيهما لا يتنافى أبداً مع هذه الحقيقة الشرعية، وهي: أن الموتى لا يسمعون، وهذه الحقيقة هي التي كان عمر بن الخطاب تلقاها وتعلمها من قبل من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار عنده إشكال: كيف لقننا هذا العلم ثم هو يناديهم؟! فماذا كان موقف الرسول عليه الصلاة السلام؟

    كان موقفه منه كما كان موقفه من أبي بكر، وحفصة ؛ أقرهم جميعاً على ما قالوا، ولكنه أدخل على كلامهم قيداً لا يعرفونه؛ لأنهم لا يوحى إليهم كما يوحى إليه، فلقد أقر الرسول عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب على كلمته هذه، ومعنى هذا كأنه يقول له: صدقت! الموتى لا يسمعون، لكن هؤلاء يسمعونني، ولذلك قال له في الجواب بلسان عربي مبين: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) أي: هؤلاء يسمعونني، فأنت يا عمر ! الذي تلقيته مني حق وصواب، لكن اعلم أن هذه معجزة وكرامة خاصة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أسمعهم صوته، ومن شأنهم أنهم لا يسمعون، لم؟ لأنهم موتى.

    ويؤكد هذا المعنى أن الإمام أحمد رحمه الله، روى هذه القصة بإسناده الصحيح في المسند: أن عمر قال: والموتى لا يسمعون. أيضاً جاء الجواب كما سمعتم لم يقل له: أنت مخطئ، بل الموتى يسمعون -لو كان هو مخطئاً- لكنه أقره على هذه العبارة الصريحة، ولكن أدخل في ذلك قيداً وهو: أن الموتى لا يسمعون إلا هؤلاء، ولذلك جاء في صحيح البخاري في هذه القصة من طريق قتادة عن أنس بن مالك -هذه القصة التي رويناها باستثناء رواية الإمام أحمد مروية في الصحيحين - قال قتادة : [أحياهم الله له، فأسمعهم صوته تبكيتاً وتحقيراً ونكاية بهم]

    إذاً: هذا الانتباه لإقرار الرسول عليه الصلاة والسلام لكلام الصحابي، فهذا معناه أن كلام الصحابي حق، لكن ينظر هل أدخل عليه الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً من التخصيص والتقييد فيضاف إليه، فنخرج بنتيجة سليمة مائة بالمائة، فالموتى لا يسمعون إلا هؤلاء فإنهم قد سمعوا، وآلات الطرب لا تجوز وبخاصة الدف إلا في يوم العيد، والناس كلهم لا بد أن يدخلوا النار كما فهمت حفصة من الآية، ولكن يختلفون من صالح يمر مروراً (ترانزيت) كما يقولون اليوم إلى الجنة، أما الكفار فيلبثون فيها أحقاباً.

    1.   

    حكم تعلم آلات الطرب وما يستثنى منها في العرس

    السؤال: ما دام أن آلات الطرب جائزة في يوم العيد، فهل يجوز تعليمها؟

    الشيخ: أتعني اتخاذها مهنة؟

    السائل: إما اتخاذها مهنة، أو إدخال تعليمها في المدارس.

    الجواب: لا فرق بارك الله فيك! فالذي يريد أن يعلم يكون قد اتخذ ذلك مهنة، كالمعلم يعلم الناس أي علم، فلا يجوز تعليمها، والمسألة أبسط -ولا أريد أن أقول أحقر- من أن تحتاج إلى تعلم؛ لأنها مسألة فطرية، فالناس يرقصون ويضربون الدفوف، دون أن يحتاجوا إلى تعليم، فالمسألة أبسط من ذلك.

    السؤال: ما هي المستثنيات من آلات اللهو في العرس؟

    الجواب: من المستثنيات الواردة في السنة الصحيحة من مزامير الشيطان الضرب بالدف في العرس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اضربوا عليه بالدف)، وكانوا كذلك يفعلون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شرحت هذه المسألة بشيء من التفصيل في كتـبـي آداب الزفاف في السنة المطهرة، فمن شاء التوسع في ذلك رجع إليه إن شاء الله.

    1.   

    حكم الأناشيد واستخدام الدف فيها

    السؤال: ما الحكم بالنسبة للأناشيد التي تضرب فيها الدفوف؟

    الجواب: هذه الأناشيد تسمى اليوم بغير اسمها (أناشيد دينية)، بينما لا يوجد في الإسلام أناشيد دينية، لكن يوجد في الإسلام شعر بلا شك! يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في بعضه: (إن من الشعر لحكمة)، أما أن نتغنى بأشعار ونسميها أناشيد، وأناشيد دينية، فهذا شيء لا يعرفه سلفنا الصالح إطلاقاً، وهذا في الواقع له علاقة بمبدأ كنا تحدثنا عنه قريباً في بعض جلساتنا هنا، وهو يتلخص باعتقاد ما يدندن حوله العلماء في مثل هذه المناسبة: وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف.

    فلم يكن من عادة السلف أن ينشدوا أناشيد ويسموها دينية، ولا سيما إذا اقترن بها بعض الآلات الموسيقية كالدف، وأنكر من ذلك أن نأتي بأذكار يقترن بها بعض الآلات الموسيقية -أيضاً- ونسميها (ذكراً)، وليس هو من الذكر الإسلامي في شيء، خلاصة القول: ليس هناك أناشيد دينية، وإنما هناك أشعار لطيفة في معانيها، يجوز أن يتغنى بها إما انفراداً وإما في بعض الاجتماعات كالعرس، وكما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها أنها أقبلت من عرس للأنصار، فسألها الرسول: (من أين؟ قالت: من عرس للأنصار، قال عليه الصلاة والسلام لها: هل غنيتم لهم؟ فإن الأنصار يحبون الغناء، قالت: ماذا نقول يا رسول الله؟! قال عليه الصلاة والسلام:

    أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم)

    ولولا الحنطة السمراء     لم تسمن عذاراكم

    انظروا الشعر العربي النزيه، ليس فيه شيء من الكلام الذي لا يليق، فهو شعر، ولكن ليس شعراً دينياً، بل شعر ترويح عن النفس بكلام مباح، هذا هو الذي كان معروفاً في ذلك العهد.

    1.   

    حكم الأكل مما ذبح عند الأضرحة

    السؤال: هل يجوز أكل ما ذبح للأولياء والأضرحة، علماً بأن الذابح يذكر اسم الله عند الذبح؟

    الجواب: هذا مما أُهِل لغير الله فلا يحل أكله.

    1.   

    نصف العلم

    السؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة) ما هو التفسير الممكن لهذا الحديث، بما لا يتعارض مع المعلوم من أن الله يتوب على الكافر إذا أسلم، فهل قتل المؤمن أشنع من الكفر؟

    الجواب: نصف العلم لا أدري.

    1.   

    حكم صلاة الحامل جالسة

    السؤال: يسأل السائل فيقول: هل يجوز للمرأة الحامل في الشهور الأولى إن خافت الإجهاض أن تصلي وهي جالسة؟

    الجواب: إذا كان من المعلوم أن الفتوى على قدر النص، فأنا أقول: يجوز، لكني غير مطمئن أن المرأة إذا صلت قائمة تخاف على نفسها أن تجهض، لكن كما قال تعالى: بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14]، فإذا كانت هذه المرأة غير موسوِسة، أو غير موسوَسة -يجوز الوجهان لغةً- ويغلب على ظنها فعلاً أن تسقط؛ فيجوز أن تصلي قاعدة.

    وأنا أعرف أن الأطباء ينصحون الحوامل بأن يتحركن وأن يمشين، ونعرف من التاريخ الإسلامي الأول أن المرأة كانت تضع وهي على ناقتها، لكن مع ذلك أعرف أن الحياة المدنية، وما أحاط الله عز وجل الناس اليوم به من نعم لا يعرفها السابقون الأولون، قد جعلتهم لا يتحملون من المتاعب والمصاعب والمشاق، خاصة ما يسمى (بالجنس اللطيف)، فلا أستبعد من هذا الجنس اليوم أن تخشى أن تسقط ولدها من بطنها إذا قامت تصلي قياماً لربها.

    1.   

    الجمع بين الأدلة التي تثبت السماع للموتى والأدلة التي تنفي السماع

    السؤال: قلت في مسألة: إن الموتى لا يسمعون، وقد جاء في أحاديث إثبات السماع للموتى مثل: (إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين عند انصرافهم عنه) فهل يصح هذا الحديث؟ وكيف نوفق بينه وبين ما سبق أن قلت في هذا الخصوص؟

    الجواب: أولاً: هذا الحديث صحيح؛ لأنه مخرج في صحيح البخاري : (إذا وضع الميت في قبره وانصرف الناس عنه إنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرون) هذا الحديث صحيح، لكن هذا كذاك، أي: هذا مستثنى من القاعدة العامة؛ لأنه يقول: (حين) فهو ليس في كل حين يسمع، فنفس الحديث يعطيك تخصيصاً ولا يعطيك العموم: (يسمع قرع نعالهم حين...) فما معنى (حين)؟ أي: وقت، (حين يولون عنه مدبرين) لكن هل يعني الحديث: أن الموتى كلما مر مار من المقابر فهم مشغولون بسماع قرع نعالهم؟ الجواب: لا.

    السائل: يا شيخ! ألا يحمل المعنى على وجه البلاغة كما في بعض الإعلانات؟

    الشيخ: ما هو الذي يحمل يا أخي! حدد كلامك؟

    السائل: في قوله: (يسمع قرع نعالهم) مثلاً: في إعلان عن شقة، نقول: شقة ترى البحر، فهي لا ترى البحر ولكنها في موضع يسمح لمن فيها برؤية البحر، فهنا المعنى يحمل على أن الصوت يصل إليهم، فلو أن حياً في مكانهم لسمع قرع النعال.

    الشيخ: أتعني أنهم لا يسمعون؟

    السائل: نعم.

    الشيخ: في النهاية أنك تعني: أنهم لا يسمعون قرع نعالهم؟

    السائل: أنا أتصور والله أعلم.

    الشيخ: أنا أسألك حتى أفهم منك، أتعني أنهم لا يسمعون قرع النعال؟

    السائل: قد يحمل المعنى على ذلك، والله أعلم.

    الشيخ: وقد لا يحمل، فما الذي تستفيده من القدقدة؟!

    ثم أنا أذكر السائل وسائر الحاضرين بقاعدة لغوية مهمة جداً: إذا دار الأمر بين التقدير وعدمه؛ فالأصل عدم التقدير. بعبارة أخرى: إذا أمكننا أن نفسر العبارة أو الجملة العربية من كلام الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو أي جملة عربية إذا أمكننا أن نفسرها على الحقيقة؛ فلا يجوز تفسيرها على المجاز، إلا إذا قامت القرينة الشرعية أو العقلية، فحينئذٍ يقال: وجدت القرينة التي تضطرنا إلى تفسير الآية أو الحديث، أو الجملة العربية على المجاز وليس على الحقيقة.

    لكن إذا دار الأمر بدون وجود قرينة بين تفسير الجملة على الحقيقة أو على المجاز؛ فالأصل الحقيقة وليس المجاز، وإلا فسدت اللغة، وفسد استعمالها بين الناس، فإذا قال قائل: جاء الأمير، فهل يجوز للسامع أن يفهم جاء خادم الأمير؟ على الرغم من أن هذا التعبير عربي معروف، وهو بتقدير مضاف محذوف، لكن لا يجوز؛ لأنه ليس هناك ما يضطر السامع أن يتأول قول القائل: جاء الأمير. بمعنى: ليس الأمير، وإنما جاء خادمه، أو نائبه .. إلخ، ولو فتح هذا الباب لفسد التفاهم بين الناس باللغة العربية، ومن هنا كان من رد العلماء والفقهاء على غلاة الصوفية الذين يقولون -بما يعرف عند العلماء- بوحدة الوجود، والذين يتكلمون بعبارات صريحة في الكفر وفي وحدة الوجود، فيأتي المدافعون بالباطل عن أولئك الصوفية فيتأولون كلامهم تأويلاً يتفق في نهاية المطاف مع الشريعة، فنحن نقول لهؤلاء: بهذه الطريقة لا يمكن أن نقول: إن هذا الكلام كفر، وقد قلت مرة لبعضهم: ائتني بأي جملة فيها كفر في ظاهر العبارة، وأنا -على طريقتكم- أجعلها توحيداً خالصاً؛ وهذه الطريقة هي تأويل النصوص، مثلاً: لما قال قائلهم المغرق في الضلال:

    وما الكلب والخنزير إلا إلهنا     وما الله إلا راهب في كنيسته

    فيتكلفون في تأويل: (وما الكلب والخنزير إلا إلهنا). أي: إلا إلى هنا، (إلى) حرف جر بعده (هنا)، ما هذا التأويل؟!

    لذلك مثل هذا التأويل يمكن إجراؤه على أي عبارة، مثلاً: أنا أقول لو قال قائل: القسيس خلق السموات والأرض، ما رأيكم في هذا الكلام يجوز أو لا يجوز؟ بالإجماع لا يجوز، لكن أنا أجعله توحيداً بطريقة الصوفية، وهو رب القسيس، وهذا معروف في اللغة، وهو تقدير مضاف محذوف، على حد قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:82] اسأل ماذا؟ حيطانها؟! شجرها؟! لا. إنما أهلها، كذلك العير، لكن هذا المضاف المحذوف، الأسلوب العربي نفسه يوحي به إلى السامع، فهنا لا يتساءل أحد: يا ترى هل المقصود هنا فعلاً القرية؟ الجواب: لا.

    ولذلك تسمية هذا التعبير في اللغة العربية بالمجاز مما يدفعه ابن تيمية رحمه الله في رسالته الخاصة بالحقيقة والمجاز، يقول: إن تسمية هذه العبارة بأنها مجاز من باب حذف المضاف، فهذا اصطلاح طارئ، وإلا فالعرب ما كانوا يفهمون من هذه العبارة إلا معنى واحداً هو الذي يسمونه بالمجاز بحذف المضاف، كذلك -مثلاً- في الأسلوب العربي: سال الميزاب، على طريقة المتأخرين في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، حقيقة هذه العبارة سال الميزاب، أي: الميزاب من شدة الحرارة ذاب وصار سائلاً؛ لكن مَن من العرب إذا سمع هذه العبارة يتبادر إلى ذهنه المعنى الذي يسمونه حقيقة؟ فيقولون: هنا المقصود المجاز، هذا المعنى الذي يسمونه مجازاً في هذا المثال هو المعنى الحقيقي المراد منه، سال الميزاب، أي: سال ماء الميزاب، مثل: واسأل القرية تماماً، وهكذا أمثلة كثيرة يذكرها ابن تيمية، منها مثلاً: جرى النهر، النهر: هو الأخدود الذي يجري فيه الماء، فعندما يقول العربي: جرى النهر، فلا هو يعني: جرى الأخدود نفسه بدون ماء، ولا السامع منهم من العرب يفهم إلا الذي أراده، أي: جرى ماء النهر.

    إذاً: تسمية هذه التعابير بأنها مجاز يقول ابن تيمية : هذا خطأ، المجاز: هو الذي يخرج المعنى الظاهر من العبارة إلى معنى آخر لوجود قرينة، لكن هنا لا معنى آخر إلا معنى واحد محدد وهو: اسأل القرية، أي: أهلها.. سال الميزاب، أي: ماؤه.. جرى النهر أي: ماؤه، من هنا يصل ابن تيمية إلى الرد على المتأخرين الذين يتأولون آيات وأحاديث الصفات، بأن يلجئوا إلى ارتكاب طريق التأويل وهو سلوك طريق المجاز، لكن ما الذي يضطرهم إلى ترك فهم المعاني من هذه الآيات وتلك الأحاديث المتعلقة كلها بالصفات على حقائقها، لا سيما وهم يقولون -المتقدمون منهم والمتأخرون- الأصل في كل عبارة أن تفسر على حقيقتها، فمثلاً قوله تبارك وتعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22] أي: بذاته، فيقولون: لا يجوز هذا الفهم، ويتأولونه (جاء رحمة ربك)، فأيّ مضاف محذوف يقدمونه؟ وعلى ذلك فقس، ونحن نقول: الحق كما نطق الحق في كتابه (وجاء ربك) لكن كيف يجيء؟ لا ندري، وهذا البحث طرقه العلماء قديماً وحديثاً، ونحن في مناسبة قريبة تعرضنا لمثله أيضاً.

    الخلاصة: أن الكلام العربي أول ما ينبغي أن يفسر به هو على الحقيقة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وضع الميت في قبره فإنه ليسمع قرع نعالهم وهم عنه مدبرون) فهو يسمع قرع النعال على الحقيقة، بل أنا أقول خلاف ما قلت أنت، فلا يمكن أن نتصور أنه يسمع كل شيء؛ لأنه هو بكل شيء سميع، وهذا أمر مستحيل! لكن ما دام أن الأصل أن الموتى لا يسمعون كما شرحنا لكم آنفاً، فإذا جاء نص ما يعطي لميت ما أو موتى سماعاً ما نستثنيه من القاعدة، نقول: إن المشركين في القليب سمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن ما كان يجري حولهم من أحاديث الصحابة، وحينما قال عمر : يا رسول الله! إنك لتنادي أجساداً لا أرواح فيها. لا نقول إنهم سمعوا قول عمر ؛ لأن سماعهم لقول الرسول معجزة للرسول فيوقف عندها.

    كذلك في هذا الحديث: يسمع الميت قرع نعالهم وحسب، وما نزيد على ذلك، لسببين اثنين:

    أولاً: أنه خلاف الأصل، وهو: أن الموتى لا يسمعون.

    ثانياً وأخيراً: أن الأمور الغيبية -وهذا من الغيب في البرزخ- لا يتوسع فيها أبداً، والحق الوقوف عند النص، وعدم الزيادة عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    1.   

    صفة السجود

    السؤال: ما هي صفة السجود؟

    الجواب: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه)، وهذا الحديث من عجائب ما جرى من الخلاف حول فهمه، وأعجب من ذلك العجب أن يقع ذلك من العرب أهل الإبل!

    حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فلا يبرك كما يبرك البعير) ثم يفسر هذا الإجمال بقوله: (وليضع يديه قبل ركبتيه) فادعى بعض العرب، فضلاً عن غيرهم من العجم، أن الحديث من المقلوب، فزعموا أن الراوي أراد أن يقول: وليضع ركبتيه قبل يديه، فانقلب -في زعمهم- الحديث عليه فقال: وليضع يديه قبل ركبتيه، وذلك من ذهولهم عما يشاهدونه في بلادهم من بروك الجمل، فالجمل إذا برك برك على مقدمتيه، -أي: على يديه- مع العلم أن ركبتيه في يديه وليستا في مؤخرتيه، ولذلك فالجمل يختلف عن الإنسان من هذه الحيثية، فركبتا البعير في مقدمتيه، لذلك لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فإذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) أي: لا يبرك على ركبتيه اللتين يبرك البعير عليهما، وإنما ليتلقى الأرض بكفيه، ثم يتبعهما بركبتيه.

    أما حجة المخالفين لهذين الحديثين الصحيحين، فهو حديث أخرجه أيضاً أبو داود وغيره من رواية وائل بن حجر : (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) لكن هذا الحديث هو من طريق شريك بن عبد الله القاضي، وهو وإن كان قاضياً فاضلاً، وصدوقاً صادقاً، فقد اتفق علماء الحديث على أنه كان سيئ الحفظ؛ ولذلك لما روى له الإمام مسلم في صحيحه إنما أخرج له مقروناً بغيره، إشارة منه إلى أنه لا يحتج بما تفرد به، فهذا الحديث إذاً ضعيف سنده، ومع ضعفه في سنده خالف الحديثين الأولين الصحيحين، ولذلك فلا يجوز المعارضة به لذينك الحديثين الصحيحين، هذا ما يمكن الجواب به عن هذا السؤال بإيجاز.

    1.   

    القصر في السفر

    السؤال: متى يقصر الإنسان في السفر؟

    الجواب: سؤال متى يقصر الإنسان في السفر؟ له شعب، فيمكن أن يقال في الجواب: إذا خرج من بنيان بلدته، وفي ظني أن السائل لا يعني هذا فقط، وكأني أشعر بأنه يعني: ما هو السفر الذي يقصر فيه المسافر؟

    الحقيقة: أن هذه المسألة أيضاً مسألة جرى فيها خلاف كثير وطويل جداً، وليس هناك نص صريح من كتاب الله، أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يعتبر نصاً قاطعاً رافعاً للخلاف، وإنما هناك الترجيح فقط، ونحن مع أولئك الذين ذهبوا إلى أن مطلق السفر هو سفر تجري عليه أحكام السفر والمسافر، وهذا مأخوذ من مثل قوله تبارك وتعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر [البقرة:184] .

    فكما أن الله عز وجل أطلق المرض في هذه الآية، كذلك أطلق السفر، فكل ما كان سفراً، سواءً كان طويلاً أم قصيراً، فهو سفر تترتب عليه أحكامه، ولا ينظر بعد ذلك إلى المسافة أن يقال مثلاً: يوم وليلة، أو ثلاثة أيام بلياليها، أو نحو ذلك، فإذا عرفنا أن هذا هو القول الراجح وهو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض كتبه، بل وفي رسالته الخاصة بأحكام السفر، التي كانت قد طبعت في جزء ضمن خمسة مجلدات، وهي طبعة المنار للسيد رشيد رضا رحمه الله، وطبعت في مصر .

    إذا عرفنا أن السفر مطلقاً هو الذي يترتب عليه أحكام المسافر، فحينئذٍ مجرد أن يخرج المسافر من بلدته تجري عليه أحكام المسافر، فإذا نزل في البلدة التي كان قاصداً إليها فهناك لا يزال مسافراً أيضاً؛ سواء أكثرت أم قلت، فهو لا يزال في حكم المسافر، إلا إذا نوى الإقامة، أما ما دام لم يعزم الإقامة، وهو يقول في نفسه: اليوم أسافر وغداً أسافر.. وهكذا، فمهما كانت المدة التي أقامها في البلدة التي سافر إليها طويلة فهو لا يزال مسافراً.

    وقد ثبت أن الصحابة حينما خرجوا للجهاد في سبيل الله نحو خراسان من بلاد إيران اليوم، هناك نزلت الثلوج بغزارة فقطعت عليهم طريق الرجوع إلى بلادهم، فظلوا ستة أشهر وهم يقصرون الصلاة؛ لأنهم كانوا يأملون أن تزول هذه الثلوج إما بطريقة ربانية إلهية، أو بطريقة صناعية كما قد يفعلون اليوم في بعض البلاد.

    إذاً: بهذا نعرف أن السفر ليس له حد يسمى، وإنما هو على الإطلاق كالمرض، وأن أحكامه تبدأ بمجرد خروج المسافر من بلدته، فإذا وصل إلى البلدة القاصد إليها فهو لا يزال مسافراً إلا أن يعزم الإقامة، أما ما دام أنه لم يعزم الإقامة فهو مسافر.

    1.   

    حكم لبس البنطلون

    السؤال: ما حكم لبس البنطلون؟

    الجواب: البنطلون هو من المصائب التي أصابت المسلمين في هذا الزمان؛ بسبب غزو الكفار لبلادهم، وإتيانهم بعاداتهم وتقاليدهم إليها، وتبني بعض المسلمين لها، وهذا بحث يطول أيضاً، لكني أقول بإيجاز:

    إن لبس البنطلون فيه آفتان اثنتان:

    الأولى: أنها تحجّم العورة، وبخاصة بالنسبة للمصلين الذين لا يلبسون اللباس الطويل الذي يستر ما يحجمه البنطلون من العورة من الإليتين، بل وما بينهما في السجدتين، وهذا أمر مشاهد مع الأسف لا سيما في صلاة الجماعة، حيث يسجد الإنسان فيجد أمامه رجلاً (مبنطلاً) -إن صح التعبير- فيجد هناك الفلقتين من الفخذين، بل وقد يجد بينهما ما هو أسوأ من ذلك، فهذه الآفة الأولى أن البنطلون يحجّم العورة، ولا يجوز للرجل فضلاً عن المرأة أن يلبس أو تلبس من اللباس ما يحجم عورته أو عورتها، وهذا مما فصلت القول فيه في كتاب حجاب المرأة المسلمة .

    والآفة الأخرى: أنها من لباس الكفار، ولم يكن لباس البنطلون أبداً يوماً ما في كل هذه القرون الطويلة في لباس المسلمين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)، وجاء في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه رجل فسلم عليه، فقال له: هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها) ولذلك فيجب على كل مسلم ابتلي بلباس البنطلون لأمر ما أن يتخذ من فوقه جاكيتاً طويلاً، أشبه بما يلبسه بعض إخواننا الباكستانيين أو الهنود، من القميص الطويل الذي يصل إلى الركبتين، هذا في الواقع مما يخفف من تحجيم البنطلون لعورة المسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768104617