فيا معشر الأبناء والإخوان! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
موضوع حديثنا الليلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( القرآن حجة لك أو عليك ) وهذا أحد ألفاظ الحديث الجليل الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله تعالى عنه، وقد سبق لنا أن تدارسنا منه أكثره، ولعلها الجملة الأخيرة في هذا الحديث: ( والقرآن حجة لك أو عليك )، ونص الحديث نتلوه تذكيراً للناسين وتعليماً لغير العالمين.
يقول صلى الله عليه وسلم: ( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ) .
فقوله صلى الله عليه وسلم: (القرآن حجة لك أو عليك) تلاحظون أنه يخاطب أمة الإسلام، وقد جرد منها شخصاً واحداً فخاطبه، وهو في الواقع يخاطب أمة الإسلام جمعاء.
القرآن يا عبد الله يا مؤمن حجة لك أو حجة عليك، إنه يذكرنا بلقاء الله تعالى، إذ لقاء الله حق، والبعث الآخر هو جزء من معتقد المؤمنين.
للإيمان ستة أركان، أولها: الإيمان بالله. وما قبل آخرها: الإيمان بالبعث والجزاء، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بلقاء الله تعالى. وعليه فمتى يكون القرآن حجة لك يا عبد الله أو عليك؟ يكون يوم القيامة، أما في الدنيا فالغالب أن الناس لا يسألون، وقل من يمتحن أمام القضاء الشرعي فيكون القرآن حجة له أو يكون حجة عليه، ولكن الوقوف بين يدي الله في ساحة فصل القضاء، يوم يجمع الله الأولين والآخرين للحساب أولاً ثم الجزاء ثانياً هنا يكون القرآن حجة لعبد الله يدخل به دار السلام، أو يكون حجة عليك فيحرم من دار السلام ويدخل دار الهوان، إذ ليس هناك سوى دارين: دار للنعيم ودار للشقاء.
في هذا المعنى يروى: أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه -وهو صاحب جليل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- جمع أهل القرآن في ولايته، جمعهم في المدينة التي كان هو والياً عليها، فكانوا قرابة الثلاثمائة من حفاظ القرآن، فخطبهم وعظّم من شأن القرآن، ثم قال: (إن هذا القرآن كائن لكم أجراً أو كائن عليكم وزراً). فهو يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك أو عليك ).
إن هذا القرآن الحاضر بين أيديكم الذي حوته صدوركم وقد كتب في صدوركم، هذا القرآن العظيم كائن لكم يوم القيامة أجراً، أو كائن لكم يوم القيامة وزراً، والأجر المثوبة، والوزر التبعة والمسئولية وما يؤخذ به الإنسان ويعاقب عليه.
ثم يقول أبو موسى: (فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن). اتبعوه امشوا وراءه، وخذوا بهديه وهداه، استنيروا به في الحياة واستضيئوا به في دنياكم، ولا بد لمن أراد أن يستضيء بالنور أن يمشي وراءه، أن يجعل النور في يده أمامه فيضيء له ما بين يديه فيمشي إلى أن يصل إلى غايته، أما من وضعه وراءه فكيف يستنير به؟ ولهذا يجيء التعبير القرآني مشيراً إلى هذا المعنى حيث يقول: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ [البقرة:101] يعني: أن بني إسرائيل نبذوا الكتاب وجعلوه وراء ظهورهم، فهم إذاً لا يستضيئون بنوره ولا يستهدون بما فيه من الهدى؛ لأنهم ما جعلوه أمامهم، فهذا المعنى يلاحظه أبو موسى رضي الله عنه ويقول: (اتبعوا القرآن). يعني: أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واعتقدوا ما جاء فيه من العقائد، واعملوا بما فيه من الصالحات تكونوا كمن يمشي وراء القرآن ويهتدي به.
(اتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة)، فإنه من اتبع القرآن، ومشى وراءه والقرآن يقوده إلى الكمالات الروحية، فإنه لا يهبط به إلا على رياض الجنة.
قوله: (ولا يتبعنكم القرآن)، لا تسمحوا لأنفسكم أن يأتي القرآن وراءكم يسوقكم، يطالبكم بحقه.
وقوله: (إنه من يتبعه القرآن زج به في قفاه ثم قذفه في النار) أي: من يتبعه القرآن يقذف به في جهنم.
هذه الكلمات من خطبة لـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه قالها في جمع من حفظة القرآن يقدرون بثلاثمائة، وما زاد على أن أخذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والقرآن حجة لك أو عليك ).
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، هل تعرفون عن هذا العبد، عن لقمان ؟ تقول الأخبار: ما زال يوصي ولده ويعظه بما سمعتم حتى انفضت كبد الولد، ومات خوفاً من الله.
والشاهد من هذا: أن القرآن حوى واشتمل على فنون المعرفة وضروب الحكمة، الأمر الذي لا يمكن أن يكون قد حواه كتاب سواه.
ومن سورة بني إسرائيل (سبحان) ذكر تعالى ثماني عشرة حكمة في سلسلة من النور ابتدأها بقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فتطرق للعقيدة، ثم تطرق لصلة الرحم، لحقوق الوالدين أولاً، فالأقارب ثانياً، تعرض للاقتصاد وكسب المال وإنفاق المال، تعرض لكرامة الآدمي وحرمة دمه وروحه، تعرض للفواحش فندد بها ونفر منها، وختم ذلك بقوله: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ [الإسراء:39]، من الحكمة التي أوحى الله على رسوله وما في هذا الكتاب الكريم، فحقاً من جعل القرآن أمامه وأخذ يبصر في الحياة بنوره فإنه سوف يكون شاهداً له، ويشق طريقه بين الصفوف المتراصة في عرصات القيامة، ويجتاز العقبة الكئود والصراط المضروب على متن جهنم ويدخل الجنة مع الداخلين.
أما من جعل القرآن وراءه فنبذه وراء ظهره، واستقبل الحياة يتخبط فيها وفي ظلماتها، يعتقد بالباطل ويقول الهجر وينطق بالسوء ويعمل الفاسد ويفكر في الشر، ويعيش عيشة البهائم المقطوعة الرجاء، الآيسة من رحمة الله، فإن هذا القرآن العظيم قطعاً سوف يكون شاهداً عليه، وسوف يقذف به في جهنم، إذ يا معاشر الأبناء! ليس هناك إلا داران فقط: دار نعيم ودار جحيم، أما هذه السماوات وهذه الأرضون فإن الله كتب أن تكون كما كانت سديماً وبخاراً، فلا يبقى كوكب يسير ولا فلك يدور، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:48-52].
معاشر الأبناء! سنحت فرصة لكلمة ذهبية، قرأنا للشيخ محمد البشير الإبراهيمي -قد توفي غفر الله لنا وله، وكان أحد علماء جمعية العلماء في الجزائر- يقول: لو اخترنا عنواناً للقرآن الكريم، والقرآن كتاب، والكتاب يقرأ بعنوانه، فلا نجد أبداً كلمة تصلح عنواناً للقرآن إلا هذه الآية من خاتمة سورة إبراهيم، ونصها كما تلوناها: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52] فسبحان الله! الذي ألهم هذا الرجل فوقع في باله أن لكل كتاب عنواناً، فما عنوان القرآن الكريم؟ قال: هذه الآية تصلح أن تكون عنواناً لهذا الكلام الإلهي هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52].
فالقرآن الكريم يكون حجة للعبد أو حجة عليه، يكون حجة له متى قدمه بين يديه، وجعله كالمصباح اليدوي، ومشى وراءه يعتقد عقائده، يتأدب بآدابه، يتخلق بأخلاقه، يحل حلاله، يحرم حرامه، ينهض بواجباته، يقوم بفرائضه، ويستمر على ذلك، فإنه لن ينتهي به إلا إلى دار السلام.
أما إذا جعله وراءه فلم يلتفت إليه، ولم يسمع إلى النداءات المتكررة، ولم يشأ حتى أن يتعرف إلى ما فيه، الناس يقرءون وهو لا يقرأ، الناس يستمعون إلى تلاوته وهو لا يستمع، الناس يتعلمون ما فيه وهو لا يتعلم، فمثل هذا سوف يزج به أو يضربه بزج في رأسه، ثم يقذف به في النار.
ناموا واستيقظ؛ ليتملق الله عز وجل بكلامه، فإن الله يحب من يقرأ كلامه، يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن) سواء بنية حفظه أو بنية التعبد والتقرب به إلى الله.
وقد ذكر لنا وعيداً شديداً وهو: أن عبداً يبيت ويصبح ولا يقرأ ولو عشر آيات في تلك الليلة يخشى أن يكتب من الغافلين، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قول: ( من قرأ في كل ليلة عشر آيات لم يكن من الغافلين ) فمفهومه: أن الذي لا يقرأ على الأقل بعشر آيات يكون من الغافلين والعياذ بالله تعالى.
( وأن من قرأ في كل ليلة بمائة آية كتب عند الله من القانتين ) هذه بشرى لكل مسلم، الذي يقرأ في الليلة مائة آية سواء يصلي بها نافلته ووتره، أو يقرؤها تلاوة من المصحف، أو يتلوها عن ظهر قلب، المطلوب أن يكون أقل ورد العبد الذي يرده كل ليلة من حياض القرآن مائة آية.
( من قرأ في ليلة بمائة آية كتب من القانتين ) وأنتم تعرفون منزلة القانتين، هم المطيعون لله الصادقون.
أهل القرآن يأتي يوم القيامة القرآن شافعاً لهم، يشفع لهم عند الله بأن يدخلهم الجنة بغير حساب، نعم، يأتي الصيام يشفع وتأتي الصلاة تشفع للذين عرفوا بها ويأتي القرآن يشفع لأهله العاملين به، الحافظين له، التالين القارئين له، الذين أصبحوا أهلاً للقرآن، عظموه، أَجَلُّوه، أكبروه، أما الذين حين يقرأ القرآن وهم يصفرون وهم يضحكون فهؤلاء ليسوا بأهل القرآن، وإنما هم خصوم القرآن، ويا ويل عبد كان القرآن خصمه: ( والقرآن حجة لك أو عليك )، فإذا جاء شاهداً عليك أنك ما قرأته، ما تلوته، ما تعلمته، ما استمعت إليه، ما أجللته ولا عظمته، ما عملت بما فيه، ما استجبت لنداءاته، فهذه الشهادة التي سوف يشهدها، ومن شهد عليه كلام الله لم يحتج بعد إلى شاهد آخر.
فهذا الحديث: حديث مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه يدعونا فيه رسول الله -يا أبناءنا- إلى أن نقرأ القرآن، فمن استطاع أن يحفظ جزءاً فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ جزءين فليحفظ، ومن استطاع أن يحفظ ربع القرآن فليحفظ، أما أن يعيش عبد الله أربعين أو خمسين سنة وإذا قرأ الفاتحة لا يحسن قراءتها فوالله لشقي هذا والعياذ بالله.
فالصدر الذي يخلو من النور الإلهي، من القرآن ماذا ينزل فيه؟ الكبر، الشح، النفاق، الوساوس، الشكوك، الأوهام، سوء الظن، العجب؛ لأن البيت الخرب -أسألكم بالله- ما الذي يوجد فيه عادة؟ كلاب، حيات، حشرات. أما الصدر الذي فيه النور فالحيات لا تستطيع مجابهة النور، والصدر معمور بكلام الله مملوء بتلك الأنوار، حتى الشيطان لا يجد مكاناً في قلبه، ولا يستطيع أن يبيت أو يظل في مكان تغمره أنوار القرآن.
( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) فلهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون ومن بعدهم يتنافسون في حفظ القرآن، يسأل بعضهم: إلى أين وصلت فيقول: وصلت إلى يونس، وآخر يقول: إلى بني إسرائيل، وثالث يقول: أنا في سورة الروم .. وهكذا إذا التقوا يسأل بعضهم بعضاً: أين وصلت في حفظ كلام الله؟ وسيدهم ذاك الذي يقول: ختمته وحفظته وفرغت منه والحمد لله، وعندما يحفظونه يحفظون كذلك معانيه؛ إذ ليس من المعقول أبداً أن يأتيك كتاب من سيدك ثم تقرأه ولا تفهمه وتنام، المعروف منا وفينا إذا وردنا كتاب بلغة غير لغتنا نبحث عن ترجمه يقرأ لنا هذا الكتاب الذي كتب بلسان غير لساننا، ولا نستطيع أن نرميه أبداً، ونحن نعلم أنه يحمل لنا تعاليم وأخباراً ضرورية، أوامر ونواهي تتوقف عليها سعادتنا في الدنيا والآخرة، فلهذا يروى عن عيسى عليه السلام هذا المعنى فيقول: كنت أهون عليك من صديقك أو قريبك يبعث إليك بكتاب فتبحث عمن يقرأ لك كتابه وتقول: أعد عليَّ، فهمني ماذا يقول، وأما كتابي فتنبذه وراء ظهرك ولا تلتفت إليه؛ بحجة أنك لا تعرف القراءة أو أنك لا تفهم.
( فإن منزلتك عند آخر آية ) يوم ما ينتهي محفوظه من آخر آية يقف المعراج ويقال له: ادخل، فهو إذاً في علو منزلته بحسب مقدار حفظه، إن حفظ الكثير ارتقى إلى درجات أكثر، وإن حفظ القليل كانت درجته بحسب قليله، وهذا لا يقال لمن لم يحفظ كتاب الله، الذي ما يقرأ كتاب الله ولا يحفظه فهو لا يخاطب بهذا، وإنما أنت تحفظ القرآن أو من القرآن فيقال لك: (اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها). فيقرأ عبد الله ويرتل ويترنم إلى أن ينتهي من جوفه ما كان قد حفظه من كلام ربه، وحينئذ يقف المعرج أو المصعد ويدخل الدار التي أعدت له.
( فقد استدرج النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه ) إذ لو كان يوحى إليه لكان نبياً، لكن النبوة أهلها معدودون، ومضى قضاء الله وقدره بتعيينهم وختموا بأكملهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلا مطمع للحصول على نبوة مهما كان الاجتهاد في الطاعة والعبادة، لكن الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب استدرج النبوة بين جنبيه، فأصبح شبيهاً بالنبي، ولكنه لا يوحى إليه؛ لأن الذي أوحاه الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل في خلال ثلاث وعشرين من السنين هو قد جمعه كله واستدرجه بين جنبيه، لكنه غير نبي.
أهل القرآن -يا أبنائي- لهم منزلة ما نستطيع أبداً أن نقدرها، تذكرون مما يفتح الله به علينا ويأتي خواطر في الدرس فنقول: تريد أن تعرف قيمة حافظ القرآن؟ قلت: نعم. نقول: ما بالك برجل استودعه الله كتابه، وقال: عبدي! احفظ لي كتابي، فهو يحفظ للرب تعالى كتابه.
يقولون في الدولة البريطانية أو المملكة المتحدة: فلان كان حامل أختام الملكة التي توقع بها الرسائل وتختم، فهذا منزلته فوق الوزير والرئيس والجنرال؛ لأنه يحمل أختام الملكة، يكتب الكتاب ويختم بالخاتم، إلى الآن -والحمد لله- عندنا القضاة يستعملون الخاتم، وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز خاتمه معروف، ويحمله خواصه.
إذاً: إذا كان حامل أختام الملكة من القداسة بهذه الصورة فالذي يحفظ كتاب الملك جل جلاله وقد استودعه في صدره وحافظ عليه يتلوه الليل والنهار، والله ما نستطيع أن نتصور علو منزلته ولا سمو مقامه أبداً، فلهذا يقول: ( من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل )، من أراد أن يعرف منزلته منكم يا أهل القرآن فليذكر هذا القول النبوي الكريم: ( لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ) ما معنى (أن يجد مع من وجد)؟ معناه: أن يغضب مع من غضب، يكون كالجبل الراسي، لا تثيره الكلمة أبداً، ولا تزعجه، ولا يحركه الجوع ويدفعه للباطل والشر.
(ولا يجهل مع من جهل) أي: ارتكبوا الباطل وفعلوا المنكر، لأن المعصية معاشر الأبناء! غشيان الذنب، وارتكاب المخالفة، اعلموا أنها نتيجة ظلمة يصاب بها القلب، فلا تتصورون أبداً أن عبداً يذكر الله وهو مع الله يقع على معصية الله، لن يكون هذا أبداً، وإنما قبل أن يقع العبد على الجريمة يعلوه دخان متراكم أسود فلا يرى فيه نوراً، فلا يرى قبح الجريمة ولا آثارها حتى يقع عليها، ويشهد لهذا قصة أبي ذر مع بلال رضي الله عنهما وهي: ( أن
أريد أن يفهم الأبناء أن صاحب النور لا يقع في المعصية، وإنما يأتي العبد معصية الله ورسوله عندما يغشى على قلبه، عندما يغطى، فيصبح كالأعمى فيقع في المعصية، ويشهد لهذه الحقيقة العلمية قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فهل يا ترى تسمع لها نهياً صريحاً: عبد الله! لا تقل، عبد الله! لا تزنِ، عبد الله! لا تكذب؟ لا، وكيف تنهانا؟
قال العلماء: إذا أقام عبد الله الصلاة أكسبته نوراً، فيشرق به قلبه، وأصبح يعيش على نور، فالذي يمشي في النور ما يقع في بئر، لا يقع على حية، لا يرمي بنفسه في حوض أو بركة من القذر والأوساخ؛ لأنه على بصيرة، ولكن الذي يمشي في الظلام من يؤمنه ألا يقع على حية أو يقع في حفرة؛ فلهذا الصلاة نور، لأنها تحدث النور وتكسبه، فمن هنا معاشر الأبناء! قال له صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) كيف ظهر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه قال لأخيه عبد الله وولي الله من صالح عباد الله يا ابن السوداء! ينتقصه في كون أمه أمة وليست بحرة، ويشهد لهذا المعنى حديث الصحيحين ونصه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) لم؟ قال: ( إن الإيمان يفارقه فيصبح كالظلة فوق رأسه ) حمامة طارت فوقعت فوقه، فأصبح في ظلمة كاملة نسي الله، وحينئذ يرتكب جريمته، أما والإيمان في القلب يشع له بالنور فيذكر الله ولقاء الله فمثل هذا يستحيل أن يعصي الله.
وحديث الإسرائيلي مع بنت عمه معروف، لما وقع بين شعبها الأربع نظرت إليه وقالت: أما تخاف الله؟ تفتض الخاتم بغير حقه؟ كيف كان وقع هذا الكلام في قلب هذا الإسرائيلي؟ قام ينتفض، يرتعد، وترك لها ما أعطاها؛ لأنها قالت: أما تخاف الله رب العالمين؟ فذكرته بالله فذكر، كان في ظلام، ودخان الشهوة ودخان الهوى حجبا عنه كل شيء، لم ير إلا فاحشته أو شهوته، لما أرسلت عليه ذاك النور وقالت: أما تخاف الله رب العالمين؛ قام ترتعد فرائصه، ذكرته فذكر.
وكونه ذكر معاشر الأبناء! يدل على أن القلب سليم، وأن المعتقد صحيح، وأن الإيمان يقين، وإنما اعتراه بخار الشهوة ودخانها أو الفطرة والطبيعة البشرية غشي عليه، فلما أشعل أدنى نور انكشفت الحقيقة، فقد يخرج مغشياً عليه، وكم وكم من عابد يذكُّر بالله في حال غفلته فيغمى عليه، فلهذا يقول صلى الله عليه وسلم: ( لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا أن يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله ) كلام الله طاقات، طاقات من أنوار لا توزن بميزان، فكيف -إذاً- تستهويه الشهوة وتستميله الفتنة أو تهزه الكلمة فيغضب مع من يغضب، أو يفسق مع من يفسق وهو يحمل النور، ومصدر الطاقة كامن في جوفه؟ إذاً: فلا يأتي هذا الأمر ممن في جوفه كلام الله.
وأما الذي لم يحفظ بعد فينبغي من الليلة أن يعزم على أن يحفظ شيئاً من كلام الله، وأهل القرآن متوافرون، وتستطيع أن تجلس إلى أي رجل في المسجد النبوي أو في أي مسجد وتقرأ عليه آية أو آيتين فيصحح لك تلاوتها بالمشافهة، فتعيدها أمامه سبع مرات وتبقى معها ترددها وأنت ماش، وأنت عامل، وأنت طالع، وأنت هابط، حتى ترسخ تلك الكلمات في نفسك، وتطلب بعد ذلك غيرها.
ولتعلم أن القضية ما هي قضية بسيطة، إن الآية الواحدة خير من ناقة، من نوق الناس التي يتباهون في اقتنائها، فهذا البخاري ومسلم وغيرهما يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحاح قوله: ( أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين؟ فيقولون: كلنا يحب ذلك يا رسول الله ) كلنا نحب أن نأتي إلى بطحان فنأتي بناقة سمينة أو ناقتين، فيقول: ( لأن يأتي أحدكم هذا المسجد -مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة- فيتعلم آية بناقة وآيتين بناقتين وثلاثاً بثلاث وأربعاً بأربع وخمساً بخمس ) .
إذاً: إنكم معاشر الذين ما يحفظون من القرآن مدعوون لأن تأخذوا بهذه الطريق الليلة، وأن تجلس ولو بالتلقين، ليس شرطاً أن تقرأ وتكتب، إذا كان الرجل لا يقرأ ولا يكتب يستطيع أن يقول: فلان علمني آية، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول: بسم الله الرحمن الرحيم، قل: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] فيقولها ويحفظها، وفي اليوم الثاني يزيده آية أخرى، في الشارع وهو مار يعطيه الآية الثانية، ويوماً بعد آخر، فلا يقضي عامه إلا وقد حفظ ثلاثمائة وستين آية، وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبون ولا كانوا يقرءون أجمعين، بل الذي يكتب ويقرأ عدد قليل، ومع هذا حفظوا القرآن الكريم.
واذكروا أن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب، اذكروا هذا المعنى ولا تنسوه، إذا كان البيت الخرب لا تسكنه إلا الحيات والحشرات، ولا ترمى فيه إلا القاذورات والأوساخ، فصدر لا قرآن فيه لا يتقبل إلا هذه الأوساخ: الكبر، الحسد، النفاق، الشك، الأوهام، الأباطيل، كلها تجد مكانها في القلب المظلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما يقول الحكمة وينطق بها ويعي ما يقول، فقطعاً أيّ قلب -يا أبنائي- ما فيه قرآن ماذا يكون فيه؟ فيه أغان، من لم يقرأ القرآن يغني، من لم يستمع القرآن يستمع الأغاني، والله يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37].
هذا والله تعالى أسأل أن يعينني وإياكم على ما التزمنا به.
الجواب: نعم، يجوز لك وخاصة في هذه الأيام، الأنوار غامرة والمصاحف جيبية، فتأخذ المصحف الصغير وتقرأ فيه الآيات السبع والعشر والعشرين والثلاثين ثم تدخله في جيبك وتركع وتطيل الركوع وترفع وتسجد، وإذا رفعت أخرجته أيضاً وقلبت الصفحة وقرأت ولا حرج؛ لأن المصاحف الآن يدوية، في الزمن الأول المصحف يكون طوله ذراعاً، أقل شيء ذراع، مصنوع من جلود غزال ضخمة ما يقوى أحد على أن يحمله، فيضعه فوق درجة عالية حتى يقرأ، أما الآن فالأمر سهل، وعلى هذا درج السلف وعاشوا يقرءون في الليل في رمضان وغير رمضان، ويتهجدون بالقرآن من المصحف المكتوب.
الجواب: النافلة بالليل أو بالنهار اقرأ كما شئت، لكن إذا كنت في جماعة قد تشوش عليهم اقرأ في نفسك، قراءة القرآن بالجهر وبالسر جائزة، لكن في الليل الأفضل أن يجهر بالقراءة؛ لأنه خال بربه ليس معه أحد، لكن في النهار والناس يصلون قد تشوش عليهم، وإن كنت في بيتك في بستانك في مسجدك اقرأ بأعلى صوتك؛ لأن سماعك لقراءتك يساعدك على الحفظ والاستذكار.
الجواب: يجوز أن تقرأ القرآن وأنت محدث، تخرج من المرحاض فتستجمر أو تستنجي وتقرأ القرآن وأنت في طريقك إلى المسجد أو إلى البيت ولا حرج، وإنما يحرم قراءة القرآن على الجنب، إذا أجنب الرجل بجماع أو باحتلام لا يحل له أن يقرأ آية من القرآن، إلا ما كان من التعوذ بالله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، فلا بأس، أما أن يقرأ ولو (يس) لا يجوز، والحائض والنفساء كذلك، إلا أن أهل العلم من التابعين رخصوا للحائض والنفساء أن تتلو غيباً إذا خافت أن يضيع محفوظها من القرآن.
الجواب: الحكم أقل ما يقال: إنهم أساءوا الأدب مع ربهم تعالى، تبقى الحرمة والآثام بحسب نفوسهم، فإن كانوا يستهزئون ويسخرون ويضحكون فهم هلكى مع الهالكين وهم كالكافرين، وإذا كانوا مشغولين فيما بينهم غير ملتفتين للقارئ لشغلهم وما هم عليه فقد يعذرون، ولكن أساءوا الأدب.
الجواب: السبب يا بني! أنه خرجت الملائكة فدخلت الشياطين، لا أقل ولا أكثر، كانت الملائكة تعمر بيوت الناس لما كانوا يذكرون الله ويعيشون على طاعته، فاستغفلتهم الشياطين واحتلت عليهم البيوت فخرج القرآن ودخلت الأغاني.
والحقيقة التي يجب ألا تخفى أن بيت عبد الله المسلم ليس هو بيت اليهودي أو النصراني، تدخل بيت المسلم ما تجد فيه صوراً ولا تماثيل ولا آلة طرب ولا أغاني تسمع، ولكن تجد هذا في بيت يهودي أو نصراني، بيت المسلم تجد فيه السجادة والمصحف واللوح، تسمع فيه كلام الله، تجد فيه كتب السنة، هذا هو الفرق، وإلا ما الفرق بين يهودي ومسلم؟
الجواب: شرحت هذا المعنى فقلت: أهل القرآن الذين يقرءونه ويعملون به ويستذكرونه ويستمعون إليه، أي: لا يفارقون القرآن، سواء كانوا يحفظونه عن ظهر قلب أو لا يحفظون، هم يعيشون على القرآن، هم أهله، أما الذي لا يسمعه إلا في الدهر مرة ولا يقرؤه إلا في العام، ولا يسمعه إلا في رمضان كيف ننسبه أنه من أهل القرآن؟ أهله الذين يعاشرونه الليل والنهار إما تلاوة، إما عملاً، إما سماعاً، إما تعلماً أو تعليماً.
الجواب: سنحت الفرصة لأن أقدم إليكم هذه الهدية، لعلكم أنتم لا تفرحون بالعلم، أنا أعني الذين يفرحون بالعلم مثلي، أنا لما عثرت عليها كأنما ملأت جيبي بالذهب والفضة، وأنتم -ممكن- ما لكم حاجة بها، أنا استملحتها، استطرفتها، استعظمتها، قلت: سبحان الله الذي ألهم هذا الرجل، وقلت: لكل كتاب عنوان، والعامة يقولون: الكتاب يقرأ من عنوانه، أليس كذلك؟ فقال الشيخ: لو أراد أحد أن يضع عنواناً للقرآن، ما قال للإنجيل أو الزبور، هو بين يديه القرآن، قال: لو أراد أحد أن يبحث عن عنوان يدل على ما في القرآن لكانت هذه الآية، فالذي وضع العنوان هو الله، وعندما تتأمل الجمل الثلاث فيها تقول: سبحان الله! حقاً عنوان القرآن، اسمع: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إبراهيم:52] يشير إلى القرآن.
وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52] أي: القرآن حق.
وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52] سبحان الله! لقد اشتملت على كل ما في القرآن؛ لأنك لو أردت أن تشرح: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إبراهيم:52] تحتاج إلى سنة أو سنتين.
تريد أن تشرح معنى: وَلِيُنذَرُوا بِهِ [إبراهيم:52] كذلك تأتي على كل ما في القرآن من المواعظ والقصص والوعد والوعيد.
تريد أن تفهم كذلك: وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [إبراهيم:52] فالقرآن كله لتقرير هذه الحقيقة: وحدانية الله.
وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:52] كذلك.
فقلت: سبحان من فتح على الرجل، وفرحت بهذه الكلمة فقلت: خذوها مجاناً، فأخونا قال: والإنجيل؟ الإنجيل إذا قرأته أيمكن أن تجد كلمة تقول: تصلح أن تكون عنواناً له، الإنجيل ليس موجوداً، وإنما بقيت منه كلمات موزعة، كلمة حق وألف كلمة باطل، الإنجيل جعلوه خمسة وثلاثين إنجيلاً، وفي التصفية الأخيرة حشروه في خمسة أناجيل، فأين الحق؟
الجواب: أولاً: إذا كان لك أيها الشاب والد صالح فلازمه، لا تفارق والدك، امش حيث مشى، واجلس حيث جلس، واطعم حيث يطعم، ولا تفارقه إلا في النوم، وإذا لم يكن لك والد صالح، مات والدك، أو كان والدك طالحاً يتمسك غريق بغريق يغرق معه، فإلى أين المفزع؟ أنصح لك يا بني أن تجالس الله تعالى، أن تلزم المسجد، فإن عمار المساجد وجلساء المساجد جلساء الله في بيته، وإن أردت القرب أكثر فادخل في الصلاة: الله أكبر، تكون وجهاً لوجه مع الله، ما يقوى عليك عفريت ولا شيطان ولا جان، وإذا سجدت فأطل السجدة؛ لأنك أقرب ما تكون إلى الله: ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ).
فيا عبد الله الشاب! إذا لم يكن لك والد صالح تعيش معه افزع إلى ربك، عليك ببيوت الله، إذا قضيت واجبك في الدكان أو في المزرعة أو في المكتب أو في المدرسة اذهب رأساً إلى المسجد، وهذا علي بن أبي طالب جنرال في القوات المسلحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، لما عضته الحياة فغضب فأتى بيت الله، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنه فاطمة : أين بعلك؟ قالت: غاضبني وذهب إلى المسجد، فجاء يبحث عنه فوجده نائماً على التراب، ما هي مساجد من هذه التي كأنها قصور الملوك، كانوا على التراب، فأخذ ينفض التراب عنه ويقول: ( قم يا
وابن عمر قال: (كنا نبيت في المسجد ونحن شبيبة)، وجربنا هذا وصح.
المسجد هو الملاذ، أما المقهى والنزهة ومجلس الجماعة فتلك مباءات الشر ومصائد إبليس، فإن كنت صادقاً يا بني فهذا هو الطريق، لازم أباك أو أخاك أو عمك الصالح أو شيخك إن ظفرت به، فإن لم تجد فالمسجد، لا تقض ساعة خارجاً، فإن الشيطان يستغلك ويأخذك من بين الناس.
من سلك هذا المسلك نجا بإذن الله؛ لأن الحماية كل الحماية في بيوت الله.
الجواب: الطرق يا أبنائي! عبارة عن مصائد توضع لاصطياد الرجال والنساء.
تعرفون المصائد؟ جمع مصيدة، فهذه الطرق الصوفية سواء الرفاعية أو النقشبندية، أو التيجانية، أو القادرية، وضعت بالفعل لصيد الناس، يأتي الجهول مثلي يعتم بالعمامة ويأخذ الطريقة من جاهل مثله وينصب نفسه إماماً وقدوة، ويعطي الإذن ويعطي الورد، ويتربب على الناس، حتى إنهم يستولون على قلوبهم فيسخرونهم تسخيراً كاملاً، حتى إن الرجل ليقدم حليلته لهذا الشيخ الطاغي باسم الطريقة.
استغل الشيطان أهل الطرق من الإنس والجن، فأصبح الاسم شيخاً مربياً والواقع لا تربية ولا تعليم؛ لأنهم جهال يرثون هذا المنصب وراثة، فلهذا كونك تحفظ القرآن ومعك بدع هذا نتيجته أنك ما عرفت القرآن، ما سألت عنه، لو تعلمت ما فيه ما بقي للبدعة مجال أبداً في نفسك؛ لأن القرآن يقول: فَاتَّبِعُونِي [آل عمران:31]، ويقول: وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، ويقول: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15]، فما وقع في البدعة إلا للظلمة التي غشيت قلبه؛ لأنه يقرأ القرآن ولم يعرف معناه، ولم يسأل عما فيه، فأُتي من هذا، فالقرآن بدون تعلم معانيه وما أراد الله منه في خطابه الناس لا يكون هادياً أبداً، فيكون كما قال تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].
فالمريض عندنا تضع المصحف بكامله على رأسه، فلا يفعل المصحف شيئاً، وحبة (إسبرين) بإذن الله تسكن الصداع، لكن لو أخذ يقرأ الآيات ويبكي تخشعاً وإيماناً أزالت مرضه وما هو أخطر منه، أما أن تضع المصحف فقط، لا. فالذي يحفظ القرآن ولا يريد أن يعلم بما فيه ولا يتعرف إليه يرتكب البدع ويعيش عليها، ولا يقيه حفظ القرآن، ولهذا لا بد من التفقه في الدين، و( من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين ).
بلغنا أن حركة دائرة في المدينة قام بها رجال ونساء تحت شعار: الطريقة الرفاعية، فإذا عثرتم على هذه فالعنوها، وفروا منها فرار الصحيح من الأجرب، وإنها لا تزيد على تخدير وتعريض الجسم للهلاك، ما تزكي النفس ولا تطهر الروح؛ لأن سداها ولحمتها البدعة، ولا يوجد المربون وإن كانوا يدعون أن فيهم مربين، وأنا أقول لكم: ما هناك من يصلحون لتربية المسلمين؟ فاقد الشيء لا يعطيه، والإناء لا ينضح إلا بالذي فيه، فلو وجدنا هؤلاء المربين لجلسنا إليهم وتعلمنا منهم، لكنها مجرد شعوذة وأباطيل، ووجدوا فراغاً فأرادوا أن يحيوا تلك البدع التي ماتت بواسطة هذه الدعوى الإصلاحية، لا رفاعية ولا نقشبندية ولا قادرية.
الجواب: الطريقة أعطه حبة حلوى بدل السيجارة، خذه من المقهى أو الدكان إلى المسجد فلا يستطيع أن يدخن في المسجد، احبسه حتى يفطم كالطفل، وهكذا استعمل معه أساليب الجذب والانتقال من حال إلى أخرى ومن مصحة إلى مصحة حتى يشفى، ائت به عندنا في الدرس في المسجد النبوي وقدم سؤالاً عن الدخان، شيئاً فشيئاً ينفتح ذهنه ويفهم عن الله مراده، وإذا عرف وهو عبد الله أطاع الله؛ لأن الدروس في المسجد النبوي عبارة عن مشافي مصحات، الذي يريد أن يعالج يشفى بإذن الله.
الجواب: نصيحتي لهم أن يعرفوا أنهم أولياء الله، وحملة كتاب الله، ما هم حملة أختام الملكة، حملة كتاب الله، فليربئوا بأنفسهم عن مستوى الهابطين؛ لأنهم أئمة هداة، فإذا عرفوا هذا وشعروا بوجودهم لو تحاول أن تحلق له لحيته قاتلك، لكن قبل أن يعرف فهو كسائر الناس، وإذا عرف انكشفت له الحقيقة، فعرفه بأنه أفضل الناس وسيد الناس؛ لأنه يحمل كتاب الله ويحفظه، فإذا عرف انتهى الأمر ولم تطالبه بألا يحلق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر