الحمد لله رب العالمين، الحمد لله علم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على خير من نطق بالضاد، الذي أعطي جوامع الكلم، القائل: (إن من البيان لسحراً)، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
فقد عرفنا فيما سبق المسند إليه من حيث الذكر، إذا كان ضميراً أو كان علماً أو كان اسم موصول، وضربنا أمثلة على ذلك، ولو سألنا مثلاً عن قول القائل: (البلاغة نافعة) هل يسوغ لك أن تسأل: لماذا ذكر المسند إليه؟ هل يخالجك شك في أن المسند إليه هنا لابد من ذكره؟ هل في ذلك شك؟ حينما يقول الشاعر:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
هل يستطيع الإنسان أن يفهم الكلام من غير أن يذكر المتكلم المسند إليه؟ لا يمكن؛ ولذلك هنالك ألفاظ في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي الشعر العربي، وفي كلام الناس، ساعة تجدها جاريةً على الأصل، فلا يسوغ لك أن تبحث عن النكتة لماذا ذكر هذا اللفظ في هذا المقام؟ ولماذا لم يذكر؟ وكذلك إذا كان اللفظ ضميراً، ففي مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ[الأحزاب:43]، الأصل هنا هو الإضمار، لو جاء بلفظ مظهر وليس بمضمر فإنك تبحث حينئذ؛ لأن في ذكر المظهر في مقام المضمر خروجاً عن الأصل، وخروجاً عن الظاهر كما سوف نعرفه بعد ذلك في المسند إليه، في الخروج عن مقتضى الظاهر، وهذا من أبلغ الكلام، وفيه أسرار بديعة، ومقامات بليغة، فمثلاً قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى[البقرة:282]، كان الأصل بادئ ذي بدئ ولأول وهلة أن يكون الكلام: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، هذا هو الأصل.
ولذلك كان للعلماء معركة حول هذه اللفظة، لماذا ذكرت؟ وكان في ذلك سؤالات وجوابات كثيرة، منظومة ومنثورة، إذا فتحتم المبسوطات من التفاسير تجدون في ذلك كلاماً طويلاً وتجدون أن أكثر الأجوبة بعيدة عن الصواب، وذلك أن هذا القرآن قرآن معجز، والذين يوفقون إلى مثل هذه الأسرار هم قلة؛ ولهذا قال بعض السائلين:
ما سر تكرار (إحدى) بعد (تذكرها) في آية لذوي الإشهاد في البقرة
في قصيدة طويلة، وجهها صاحبها سؤالاً لبعض العلماء، ولعلكم تذكروني حينما نتكلم عن الخروج عن مقتضى الظاهر، ما هو الجواب؟ ما الجواب الصحيح أو ما هو السر في تكرار لفظ (إحدى).
ولكنني أقول لكم على عُجالة: الجواب الذي تطمئن إليه النفس هو أن السر في ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل الإشهاد في الدَّين، فجعل للشهادة رجلين أو رجلاً وامرأتين، والنساء لسن أقل من الرجال في أمر التذكر، ولكن المسألة لها علاقة بما يشتغل به الإنسان، فإن المرأة كثيراً ما يكون عملها وذهنها متعلقاً بما تعمل به، وبما تشتغل به، من أمور البيت وأمور الولد وأمور الزوج؛ ولذلك تجدها أفطن ما تكون في مثل هذه المسائل، وتجدها فائقة على بعلها في هذه الأمور، التي ذهنها متعلق بها، وتجد الإنسان بارعاً في الذكاء، ولكن ذكاءه مصروف إلى أمور تجارية أو اقتصادية فتجده بارعاً في ذلك، مخلاً في الجوانب الأخرى، وإذا أردت أن تقوده إلى أن يحفظ مسائل علمية شق عليه ذلك.
فالمرأة في هذا الباب المتعلق بالبيوع، بالإشهاد، بالبيع والشراء، بالشركة والقرض والحوالة والرهن والعارية وغير ذلك من المعاملات التي يتعامل بها الناس، الأصل أنها بعيدة عن مثل هذه الأمور؛ فجعل الله تعالى الإشهاد بالنسبة للدَّين إذا لم يوجد رجل آخر جعله له رجلاً وامرأتين أو أربع من النساء، يعني جعل شهادة المرأة بنصف شهادة الرجل، لكن لماذا كرر لفظ (إحدى)؟ الصحيح في هذا أن المراد بلفظ (إحدى) في كل من اللفظتين هو كل واحدة من المرأتين وليس المراد بـ(إحدى) الأولى امرأة بعينها من الشاهدتين ولا الثانية بـ(إحدى) الثانية، بل هو صادق على كل واحدة منهما، بحيث إن كل واحدة تعين الأخرى في مسألة الشهادة؛ فهذه تقول شيئاً، وهذه تقول شيئاً، وهذه تذكرها بشيء، وهذه تذكرها بشيء، فلا نقول: إن (إحدى) الأولى المراد بها واحدة، امرأة واحدة منهما مستقلة، والثانية المرأة الأخرى، ولكنها وصف لكل واحدة منهما، كما نفعل نحن في الحديث الضعيف حينما نريد أن نقويه بأسانيد كثيرة، أو لأكثر من إسناد فإننا إذا كان الضعف يسيراً نجبر ضعف هذا بضعف هذا حتى يصير قوياً؛ فهذا هو السر - والله أعلم - في هذا التكرار.
لو سألنا عن قول الله تعالى إخباراً عن الجن حينما قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا[الجن:10]، ففي هذه الآية حذف وإثبات للمسند إليه، ولا شك أنكم تعرفون الجواب ما هو، لماذا قالوا في أمر الشر: (أريد)، وقالوا في أمر الخير: (أراد) وأظهروا الفاعل، وهو الرب عز وجل، فقالوا: ((أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا))، النكتة في ذلك واضحة، وهي التأدب، جرياً على الأدب مع الله سبحانه وتعالى في إسناد الشر إليه، وإلا فإن الله خلق الشر وخلق الخير، وأراد الشر وأراد الخير، ولكنه من باب: والشر ليس إليك، يعني لا ينسب إليك، على وجه التأدب، وإلا فإن الله أراد هذا وأراد هذا، وأراد كل شيء، وخلق هذا وخلق هذا، وقد جاء في المناظرة القصيرة التي كانت بين القاضي عبد الجبار وبين أبي إسحاق الإسفرائيني، حينما دخل القاضي عبد الجبار على الصاحب بن عباد وعنده أبو إسحاق الإسفرائيني، وكان الأول معتزلياً والثاني أشعرياً، ولكنه يرى أن الله يريد الشر إرادة كونية قدرية أن يعصي الإنسان وأن يتمرد إبليس، وأراد كل شيء؛ فلما دخل القاضي عبد الجبار قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وفطن لذلك أبو إسحاق فقال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء!
ففطن عبد الجبار أنّ صاحبه قد فطن أيضاً لما يريد، فقال: أيريد ربنا أن يعصى؟
فقال له أبو إسحاق؟ أيعصى ربنا قهراً؟ فقال له القاضي: أرأيت إن منعني الهدى، وساقني إلى الردى، هل أحسن أم أساء؟
قال: إن كان منعك ما هو لك فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له فالله يفعل في ملكه ما يشاء، فانصرف الناس من المجلس وهم يقولون: إنه ليس بعد هذا الجواب جواب، وذلك أنه أفحم القاضي بهذه الحجج حتى غُص وتلجلج، ولم يستطع أن يرد عليه بشيء.
فنحن قد تحدثنا عند الكلام عن المسند إليه إذا كان اسم موصول، وشرحنا فريقاً من تلك الأنواع التي يكون فيها المسند إليه اسم موصول، ومثلنا بقول الله سبحانه وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ[يوسف:23]، الشاهد هنا في قوله: (التي) هذا فاعل، وهو مسند إليه، وقلنا: إنه جاء به اسم موصول أو نقول: إن هذا اللفظ جاء بهذه الصيغة اسم موصول للتقليل من شأن هذه المرأة التي تنزلت إلى هذه الدرجة الحقيرة؛ فإنها بذلت نفسها بذلاً، وأخذت في المهازلة والمغازلة والمراودة من هنا ومن هناك، ولم يكفها ذلك، بل جاوزت هذا إلى أن صرَّحت بقولها: هَيْتَ لَكَ[يوسف:23]، أي: هلم وأقبل إلي، والمرأة لا تفعل ذلك، ولكن الأمر أعياها، فلما أعياها قالت هذا الكلام فوصفها بهذا الوصف.
وهناك من يقول: إن اسم الموصول هنا أو المسند إليه جيء به اسم موصول للإشارة إلى نزاهة يوسف عليه السلام؛ لأن المراودة كانت من التي هو في بيتها، ومع ذلك استعصم، وقال: مَعَاذَ اللهِ[يوسف:23]، ولم يستجب لطلبها ذلك، وهذا أيضاً أمر صحيح، كما تقول: إن الذي حدثني عنك هو صاحبك الذي لازمك، أو الذي كشف سرك هو صاحبك الملازم لك، الذي يمشي معك حذو القذة بالقذة، تريد أن تبني على ذلك أو أن تقرر أمراً، وهو أنه قد فعل ذلك الفعل.
كذلك يكون المسند إليه اسم موصول للتفخيم، وهذا كقول الله سبحانه: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ[طه:78]، (غشيهم من اليم ما غشيهم) تصور ما شئت من ذلك الغشيان، الذي حصل من البحر، كيف غطاهم، وكيف أصبحوا في ظلماته، ولكنه أبهم ذلك باسم موصول؛ حتى يذهب الذهن كل مذهب في تصور ما تحت هذه اللفظة وهي (ما)، يعني غشيهم أمر عظيم، وكذلك: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى[النجم:54]، يعني غشاها من الخلائق شيء كثير، وكقول الشاعر:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها وفي الزجاجة باق يطلب الباقي
مضى بها ما مضى من عقل شاربها: مضى بسببها، ما مضى من عقل شاربها؛ يتكلم عن الخمر، الذي شربها ذلك الانسان الذي يتحدث عنه الشاعر؛ لأنها أخذت عقله وسلبت لبه، فمضت فيما مضى بجوهر عقله، تصور أن مجمل عقله قد ذهب، بقي شيء يسير هذا الذي يقضي عليه هو ما بقي في الزجاجة، فقال: (وفي الزجاجة باق يطلب الباقي) يعني في الزجاجة قليل من الخمر يطلب ما بقي من عقله حتى يقضي عليه كله فلا يبقى له أثر.
وقد يكون أيضاً المسند إليه اسم موصول، يعني الأصل أن يؤتى به مثلاً علماً، لكنه جيء به اسم موصول، لماذا؟ للتأدب، هم يقولون: للاستهجان، يعني لاستقباح ذكره، لكن الإنسان ذوقاً يعبر عن ذلك؛ لأنه لذوقه وأدبه لا يريد أن يلفظ بهذه اللفظة، فكأنه يكني عنها باسم موصول، يلبسها لباس اسم الموصول؛ كأن يقول: الذي يخرج من السبيلين ينقض الوضوء، بدلًا من أن يذكر ما الذي يخرج يأتي باسم الموصول.
أحياناً يكون -كما قال عندكم صاحب التلخيص- لتنبيه المخاطب على خطأ، يعني هو يأتي باسم الموصول، لينبه المخاطب على خطأ وقع فيه، كقول الشاعر:
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
هؤلاء لا يفهمون الخصم، يظنون أن هؤلاء الناس إخوانهم وأصدقاؤهم، وأن باطنهم كظاهرهم، فهذا ينبههم على هذا الخطأ ابتداءً، يعني بنى على اسم الموصول، فقال:
إن الذين ترونهم إخوانكم يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
هؤلاء الذين تظنون أنهم إخوانكم يتربصون بكم الدوائر، وإذا وقعتم في مصيبة فإنهم يفرحون بها؛ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا[آل عمران:120]، فهؤلاء في الحقيقة ليسوا إخوانكم، ومثله قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ[الأعراف:194]، وليسوا بآلهة تستحق العبادة.
وأحياناً يكون كما قال عندكم أيضاً في التلخيص: المراد من ذلك الإيماء إلى وجه بناء الخبر، مثال ذلك في القرآن: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر:60]، إذا رأيت اسم الموصول فلا تأخذه وحده ولكن خذه بصلته، فإنه جزء لا يتجزأ منه، ولا يمكن أن يفهم الموصول إلا بصلته، لا يصلح أن تقول: جاء الذي، أين صلة الموصول؟ صلة الموصول هي التي تشرح المعنى، فهنا الخبر مفهوم من صلة الموصول، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر:60]، الخبر الآن من: (سيدخلون) إلى (داخرين) يفيد أنهم صاغرون، داخرون أي: صاغرون، لأنهم بمنزلة من الحقارة، هم يستكبرون وهم صاغرون، فذكر في الموصول ما يدل على الخبر؛ لأن الخبر بضده، هؤلاء الذين يستكبرون سيكونون أمثال الذر يوم القيامة، ((سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)).
كذلك من الشعر قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول
تأمل في الخبر، نحن قلنا: الإيماء إلى وجه بناء الخبر، نحن جئنا بالخبر، وأومأنا له بما في الموصول من الصلة، الذي سمك يعني: بنى، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا[النازعات:28]، يعني: سقفها، أي: بناءها، (إن الذي سمك السماء بنى لنا) (بنى لنا) هو الخبر، يعني: إن الذي بنى السماء بنى لنا بيتاً، ففي قوله: (سمك السماء) إيماء إلى وجه بناء الخبر؛ فالخبر مبني على صلة الموصول؛ لأن المعنى واحد، وهذا لطيف في البلاغة ودقيق، وهذه المواضع التي يذكر فيها المسند إليه متفاوتة من حيث الأمثلة ومن حيث المواضع؛ فأحياناً تجد الثوب البلاغي في الموصول أكثر من الضمير في بعض الأمثلة، وتجده أحياناً في اسم الإشارة أقوى وأظهر.. وهكذا.
وأحياناً يذكر المسند إليه ويكون اسم إشارة؛ وذلك لتمييزه أكمل تمييز، كما هو عندكم في التخليص، يعني يكون المسند إليه مذكوراً لتمييزه أكمل تمييز؛ لأن المراد التمييز؛ بحيث لا يكون هنالك شبهة، فإنك إذا قلت عن الشيء: هذا؛ فقد انتهى ما يحتاج إلى تعريف، أنت تشير إليه وأنت أيها المخاطب تبصره، فنحن عندنا مثل: (ليس بعد العين أين) يعني إذا كان الشيء تراه بعينك فلماذا تقول: أين هو؟ فليس هنالك أين بعد رؤيا العين، ولذلك أول ما نلقن الصبي نلقه ألفاظاً منها هذا، هذا شيء بدهي، وأمر معروف.
مثال ذلك كما في التلخيص قول الشاعر:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه من نسل شيبانَ بين الضال والسّلم
هذا أبو الصقر أشار إليه، هذا رجل يكنى بـأبي الصقر، فأشار إليه بقوله: هذا أبو الصقر، (فرداً) هنا من حيث الإعراب حال، العامل اسم الإشارة، كذلك قول الشاعر:
هذا الذي تعرفه البطحاء وطأته
كذلك قول الشاعر، وهو المتلمس يقول:
ولا يقيم على ضيمٍ يراد به إلا الأذلان: عير الحى والوتد
هذا على الخسفِ مربوطٌ برمته وذا يشج فلا يرثي له أحد
وكذلك قول الله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ[فاطر:12]، وقول المولى سبحانه وتعالى إخباراً عن زوج إبراهيم: وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا[هود:72]، أحياناً يكون للتعريف بغباوة السامع، وهذا أيضاً موجود لديكم في التلخيص، ومثّل له بقول الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
هو يريد أن يتهم جريراً بالغباء، وذلك حينما أشار إلى آبائه بإشارة كأنها إشارة إلى أناس أحياء، وأنهم أناس مشهورون، يعرفهم كل أحد، ولكن جريراً لغباوته لم يفطن لذلك ولم يلتفت إليه، بل عمي عنه لغبائه، فهو يشير إلى غبائه بذلك فيقول: (أولئك آبائي فجئني بمثلهم)، وآباؤه قد ماتوا وانتهوا، ولكنه أشار إليهم بهذه الإشارة التي كأنها إشارة إلى محسوس، وهم ليسوا بمحسوسين الآن.
وكذلك بيان حاله في القرب أو البعد أو التوسط، في القرب نقول: هذا، وفي التوسط نقول: ذاك، وفي البعد نقول: ذلك، على حسب الشيء المشار إليه، هذا ما نبحث فيه في البلاغة، ولكنه ذكره للاستيثاق، وذكره تمهيداً لشيء آخر، وهو أنه قد يأتي نحوي أحياناً باللفظ الذي يشار به للقريب فنستعمله ونشير به للبعيد، حينئذ نبحث؛ لأن المسألة خرجت عن أصلها، فنبحث عن النكتة، وكذلك العقل، وإلا فالأصل في الوضع أن هذا يكون لما قرب، وأن ذلك لما بعد، وأن ذاك للمتوسط؛ وقد يكون أحياناً المراد باستعمال هذا التحقيق، كما قال المشركون: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ[الأنبياء:36]، يريدون بذلك التحقيق، ولم يكن هو بينهم جالساً، وإنما أرادوا بالإشارة التي تدل على القريب أن يحقروا من شأنه، صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قول الله تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ[العنكبوت:64]، هذا تقليل من شأنها وتحقير لها؛ فهي بالنسبة للآخرة ليست بشيء.
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غدا قبحاً لها من دار
وكذلك قول الشاعر الذي كان يخاطب امرأة:
يا هذه لا تغلطي والله ما لي فيك خاطر
أراد أن يقلل من شأنها فإنها لا تستحق أن تكون محبوبة له، فقال لها: لا يذهب بالك بعيداً وتظني أنني أفكر فيك، فوالله أن خاطري لا يميل إليك أصلاً، ولا يفكر فيك أصلاً، فلا تفكري في هذا الأمر.
مثال ذلك قول الله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:2]، وأراد بذلك التعظيم حيث أشار إليه وكأنه بعيد مع أنه بين أيدينا، وقال في موضع آخر: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء:9]، لأن هناك غرضاً آخر، أما هنا فالغرض منه التعظيم، ذلك الكتاب الذي بين أيديكم هو كتاب عظيم، فأشار إليه باللفظ الذي يشار به للبعيد لتعظيمه، وهذا تجدونه في التفاسير، حينما تفتحوا أول سورة البقرة تجدون ذلك.
وأحياناً يكون للتنبيه عند تعقيل المشار إليه بأوصاف على أنه جدير بما يرد بعده من أجلها، يعني يؤتى بالمسند إليه اسم إشارة؛ للإشارة إلى أن تلك الصفات التي تقدمت هو حقيق بها، ويشار إليه بالبعد، لبيان رفعته ومكانته أيضاً، كما قال سبحانه وتعالى في نفس السياق الذي ذكرناه أولاً: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[البقرة:2-4]، هذه أوصاف لهم، وهم المتقون، هذه حيثيات الحكم الذي سوف نستقبله بعد ذلك، وهو قوله سبحانه: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ[البقرة:5]، أشار إليهم للتنبيه إلى أن الذي أشير إليه بهذه الإشارة يستحق مثل تلك الأوصاف.
المسند إليه كما يكون اسم موصول واسم إشارة ويكون علماً ويكون ضميراً، يكون أيضاً معرفاً بالألف واللام.
ويكون معرفاً بالألف واللام في الأصل للإشارة إلى معهود، نحن سوف نتكلم على مسألة (أل) التي تكون مقترنة بالاسم، أي اسم، ونبين كيف خلط النحاة في هذا الأمر، الأصل كما قال في التلخيص: وباللام، وهذا هو على مذهب بعض العلماء، وهو مذهب سيبويه؛ لأن سيبويه يرى أن حرف التعريف هو اللام، قال ابن مالك في الألفية:
أل حرف تعريف، أو اللام فقط فنمط عرفت قل فيه: النمط
وقال السيوطي في ألفيته:
أل حرف تعريف وسيبويه اللام قط وجلهم عليه
هذا هو مذهب الجمهور، الجمهور على أن اللام وحدها هي حرف التعريف، وليس (أل) بجملتها، وذهب الخليل إلى أن أل هي حرف التعريف، وهنالك من ضل ضلالاً بعيداً فقال: إن الهمزة هي التي للتعريف، أراد أن يكمل القسمة، طبعاً هذا الضلال ضلال لغوي وليس ضلالاً شرعياً، فلا تغضبوا على من قال ذلك عن النحاة، فقال: إن الهمزة هي التي للتعريف، واللام بعدها ليس لها محل، سبحان ربي الأعلى! كيف يدخل هذا كلام في الرأس! قال: لأنه قد ورد الحديث الضعيف: (ليس من امبر امصيام في امسفر)، فأبدل اللام، وأثبت الهمزة، ولو كانت اللام جديرة بأن تكون هي للتعريف لبقيت على حالها، وأن الهمزة قد بقيت، وكذلك قول الشاعر:
ذاك خليلي وذو يواصلني يرمي ورائي بامسهم وامسلمه
قال: إنه من هذا الباب، وهذه حجج ضعيفة، الحديث ضعيف، وهذا شعر لا يكفينا.
وعلى فرض صح الاحتجاج ليس بصحيح، فقد يكون الشيء أصلياً ولكنه يبدل عند قوم، فلا يصح التعميم، ولماذا أيضاً ظلمت الآخرين الذين لا يبدلون اللام؟ لماذا ظلمتهم وقلت إن لامهم هذه ليست للتعريف وهم يثبتونها على كل حال؟
ولا شك أنها للتعريف، هذا انتهينا منه، أن كل (أل) تدخل ما دام هذا اللفظ في الأول، هذه اللام ليست للمح الأصل، نحن عندنا لام زائدة، وعندنا لام تكون للمح الأصل كما قال ابن مالك:
وبعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نقلا
كالفضل والحارث والنعمان فذكر ذا وحذفه سيان
فهذا فضل هو من أول، معرفة، وكذلك عباس ونحو ذلك، فهي تفيد التعريف بلا شك، لكنهم عندما قالوا: الرجل خير من المرأة أرادوا بذلك الجنس، يعني هذا معنى آخر، معنى بلاغي، نحن لا ندرس ذلك نحوياً، يعني حينما يأتي النحوي يقول: (أل) هنا لا شك أنها للتعريف، وهناك تعرفون أن العلوم متداخلة، البلاغة دخلت على النحو، والنحو جزء كبير منه في البلاغة، وعلم المعاني أكثره نحو كما سبق معنا أن عبد القاهر سماه علم معاني النحو، فالعلوم متداخلة، وتجد اصطلاحات كثيرة، وأحياناً لا تدري هل هي في الأصل اصطلاحات نحوية أم منطقية أم هي للبلاغيين! هذا في أحيان قليلة، والعلوم كالجزء الواحد.
قال: وباللام للإشارة إلى معهود، هذه اللام تكون للعهد الذهني، وتكون للعهد الذكري، وتكون للحضور، عهد حضور، يعني في الساعة نفسها، مثلاً قلت: جاءني ضيف، أخبرتني بأنه جاءك ضيف، في اليوم التالي قلت: ذهب الضيف، هذه الآن عهد ذكري؛ لأن الضيف قد ذكر من قبل، قلت: جاءني ضيف ثم قلت: ذهب الضيف، في سورة المزمل: فِرْعَوْنَ رَسُولًا[المزمل:15] فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ[المزمل:16]، فقال: رسولاً، ثم قال: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ[المزمل:16]، يعني: عصى ذلك الرسول المعهود الذي قد عرفناه حينما ذكرناه، وكذلك في قوله تعالى: مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ[النور:35]، (المصباح) (أل) في (المصباح) للعهد الذكري وكذلك في (الزجاجة) للعهد الذكري.
وأحياناً يكون للحضور كقولك: الساعة أشرح البلاغة، أو استمع إلى شرح البلاغة، وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة:3]، يعني في هذا اليوم، وأحياناً تكون للمعهود ذهناً، كقوله تعالى في سورة آل عمران: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[آل عمران:36]، امرأة عمران قالت: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ[آل عمران:35-36]، وفي قراءة: (والله أعلم بما وضعْتُ) وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[آل عمران:36]، انظر عندك في التلخيص قال: أي: ليس الذي طلبت كالتي وهبت لها، هذا اختار رأياً من رأيين في هذا المقام، هل هذا من كلام الله، إخباراً عنها أم هو من كلام الله وليس إخباراً عن امرأة عمران قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[آل عمران:36]، أي: وليس هذا -إن كان من كلام الله وليس إخباراً عنها- وليس الذكر الذي طلبته كالتي وهبت لها، وهي مريم، فإنها لا تدري أن هذه الأنثى التي وهبت لها هي أفضل من الذكر الذي طلبته، فهذا المراد مغاير للمراد الآخر وهو أن يكون الكلام إخباراً عن أم مريم.
المعنى إذا كان هذا من كلام الله تعالى مجرداً عن الإخبار عن أم مريم أنه ينفي أن يكون ذلك الذكر كالأنثى التي وهب لها، بل هذه الأنثى هي أفضل من الذكر الذي كان في نيتها حينما قالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا[آل عمران:35]، فهذه الأنثى أفضل من ذلك الذكر، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى[آل عمران:36]، أي: كهذه الأنثى التي وهبت لها، وليس كأي أنثى، معهود في أذهان الناس كلهم -هكذا على حسب العادة- أن الذكر أفضل من الأنثى، ولكنه أخبرها هنا بأن هذه الأنثى هي أفضل من هذا الذكر، بمثل هذا السياق الذي فيه هذا التشبيه، فإنه يكفي حينما تشبه شيئاً بشيء في سياق النفي، تريد أن تقول: إن فلاناً ليس كفلان، يمكن أن يكون هذا أفضل ويمكن أن يكون هذا أفضل، مثلا تقول: الماء الصحي الذي نشربه ليس كزمزم، هذا مثل هذا، لكن إن كان الكلام لها هي، وهي التي تكلمت بهذا وأخبر الله تعالى عنها فإنه يكون للعكس، هي تتحسر الآن، وتقول: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى[آل عمران:36]، ثم تأتي الجملة المعترضة: وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ[آل عمران:36]، وإذا كان على قراءة: (وضعتُ) فالكلام أيضاً لا يزال جارياً لها: (والله أعلم بما وضعتُ)، وليس الذكر يا رب كالأنثى، ليس الذكر الذي طلبته كالأنثى التي وهبتني إياها، هذا بالعكس، هي لا يزال في نفسها حسرة؛ لأنها كانت تريد شيئاً ولكنه لم يأت وإنما جاء شيء آخر، وهكذا الإنسان لا يدري في أي شيء يكون الخير.
ولهذا كانت الآية تعليمًا للناس في أنهم إذا نذروا شيئاً أو طلبوا شيئاً من ربهم فعليهم أن يكلوا الأمر إلى الله، وأن يدعوه لتدبير الله، وأن لا يتدخلوا في شيء من تدبيره، فإنهم لا يعرفون العاقبة، ولا يعرفون الخير كيف يكون، ولا على أي وجه يكون، وهذا إن تأمل الإنسان في الواقع وفي أحوال الناس فإنه سوف يجد من ذلك أمثلة لا حصر لها، فإن فلاناً من الناس الذي كان يريد أن يكون مثلاً طبيباً أو أن يكون مثلاً مهندساً يدبر الله تعالى أمره ثم يصبح بعد ذلك عالماً من العلماء الكبار، أو حينما يريد الإنسان أن يكون مثلاً لاعب كرة أو حتى أن يكون فناناً مغنياً يدبر الله تعالى أمره ويحول بينه وبين ما مرهيريد، ويوجهه إلى شيء آخر، وقد لا يكون راضياً في البداية ولكنه يسعد في النهاية؛ لأنه وكل الأمر إلى تدبير الله سبحانه.
أيضاً تكون اللام أو يكون اللام، كما شئت؛ لأن هذه الحروف تذكر وتؤنث، فتقول: هذا الحرف وهذه الحرف كل ذلك واحد، تقول: رسمت هذه الباء طويلة أو قصيرة أو طويلاً كل ذلك سواء، على حسب كلامك أنت، فما دام الشي يقبل التذكير والتأنيث فالوصف بيدك أنت، قد تكون هذه اللام للجنس المراد بها الحقيقة، كما تقول: الرجل خير من المرأة، ماذا تريد بذلك؟ حينما قلت: الرجل خير من المرأة، هل تريد كل الرجال؟ لا، وإنما أردت الجنس وأردت الحقيقة، فقد يكون في النساء من هو خير من كثير من الرجال، وقد كمل من النساء أربع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يأتي أيضا لواحد، كما ذكر في التلخيص، يعني العهد يكون لواحد باعتبار عهديته في الذهن، ولكنه شيء واحد، يعني هو صالح لأن يكون للجنس، ولكن الذهن ينصرف إلى شيء آخر، كقولك: ادخل السوق، إذا قلت: السوق في سياق عام فإنه يدخل فيه كل سوق في الدنيا، لكن حينما تقول لإنسان: اذهب إلى السوق، نحن في مدينة معينة وفيها سوق معروف؛ فإنه لا ينصرف إلا إلى هذه السوق فقط، مع أنه في الأصل يشمل الجميع.
وكقوله سبحانه إخباراً عن يعقوب عليه السلام: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ[يوسف:13]، هل يريد كل الذئاب أم يريد ذئباً واحداً؟ هو يريد ذئباً واحداً، هذا قريب من السابق، يريد ذئباً واحداً، لا كل الذئاب، هذا لا تستطيع أن تطبقه مثلاً على الاستغراق ولا أن تطبقه على الجنس؛ لأن المراد هنا الحقيقة، ولكنه لا ينصرف إلا إلى ذئب واحد؛ لأنه يريد ذئباً ولا يريد كل ذئب في العالم.
هنالك بعض القصاصين تورط في كلامه عند هذه الآية حينما كان يقص على الناس أمر يوسف، فالقصاصون يشتغلون في التفصيل أو بالتفاصيل الدقيقة والجليلة في أمر القصص، الذي يقصونه، فخاض في الأمر حتى أنه ذكر اسم الذئب، فقال: إن اسم الذئب الذي أكل يوسف هو كذا وكذا فقالوا له: يا شيخ! إن يوسف لم يأكله الذئب، فقال: هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف! والصحيح أن كل الذئاب لم تأكل يوسف، فليس هنالك ذئب أكل يوسف.
أما الاستغراق فالمراد به شمول جميع الأفراد بحيث لا يبقى أحد؛ كقول الله سبحانه وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر:1-2]، (إن الإنسان) أي: كل إنسان، ((لَفِي خُسْرٍ))، هذا هو الأصل، ثم جاء بعد ذلك الاستثناء، من خرج عن ذلك، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا[النساء:28]، لا يخرج عن هذه القاعدة أحد أبداً.
لكنه يقول عندكم في التلخيص: هو ضربان: حقيقي وغير حقيقي؛ فأما الحقيقي فكقوله سبحانه: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[الأنعام:73]، أي: كل غيب وشهادة، ويكون عرفيًا كما تقول: جمع الأمير الصاغة، هذا مثاله، ولك أن تأتي تقول: جمع المدير الطلاب، ما في مشكلة، جمع مدير الجامعة الطلاب، يعني طلاب جامعته، كذلك: جمع الأمير الصاغة، يعني صاغة بلده ومملكته، لا كل صاغ في العالم، وكذلك حينما تقول: جمع الطلاب، هل المراد كل الطلاب في العالم أم طلاب جامعته؟ وهكذا.
الذي أردت أن أنبه عليه وقد سبق إلى التنبيه إليه قول محمد عبده، ونقله عندكم صاحب شرح التلخيص وهو البرقوقي، هو أن (أل) في كل اسم، سواء كانت (أل) هذه للاستغراق أم للجنس أم لما سميناه من قبل (العهد) بجميع أنواعه، العهد ملازم لها حيثما كانت، فالاستغراق الذي في: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر:2]، مثلاً ليس كالاستغراق الذي يكون مصدَّراً بكل، الذي يستغرق الجميع، بحيث لا يبقى فيه أحد، مثل (كل إنسان) كلمة (كل إنسان) أصلها ذو الإنسان، عندما تقول: الإنسان في خسر، لابد أن يخطر ببالك إن كنت من أصحاب الذوق والمهارة مسألة العهد، الأناسي المعهودون هم الذين هم في خسر، صحيح أنه في الباطن كل إنسان في خسر، لكن هذا المعنى ليس كالمعنى الذي يكون مصدَّراً بلفظ (كل)، فإن (كل) لا تحتاج إلى أن تفكر تفكيراً آخر، ولا أن تتقصّى جميع أفراد ذلك الذي أدخلت عليه هذه اللفظة حتى تعرف أن الحكم عليه صحيح، فلفظ (كل) وحدها تكفي، لكن نحن عرفنا أنه في خسر بنصوص أخرى وبأشياء أخرى، (أل) وحدها لم تكف، إنما عرفنا الأول؛ لأن المخبر هو الله، في: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا[النساء:28]، وهنا قد استثنى منهم الذين آمنوا،، فلو أخبرك مثلاً مخبر عن شيء وقال مثلاً: الطلاب حضروا، (أل) هاهنا لابد أن يذهب ذهنك معها إلى مسألة العهدية، ولك أن تبحث بعد ذلك عن الاستغراق، ولك أن تفهم أن جميع الطلاب حضروا، عندما قلت: الطلاب حضروا، لكن هل هذا كقولك: كل الطلاب حضروا؟ لا، ولن يتجزأ فهم ذهنك، بل سوف يكون جملة واحدة، سوف يحصل جملة واحدة على أن جميع الطلاب قد حضروا، فلفظ (جميع) أو لفظ (كل) الاستغراق فيهما ليس كالاستغراق الذي يكون في (أل)، فكل مع (أل) أقوى من اللفظ الذي يكون فيه (أل) فقط.
يكون المسند إليه أيضا مضافاً، قال في التلخيص: وبالإضافة لأنها أخصر طريق، يعني يكون أيضاً معرفاً بالإضافة لأنها أخصر طريق، والوصول إلى الشيء بأخصر الطرق هذا أمر فطري، وهو مقدّم بادئ ذي بدء، الإنسان يختاره لأول وهلة؛ ومثّل له عندكم بقول الشاعر:
هواي مع الركب اليمانون مصعد
يعني بدل أن يقول: الهوى الذي هو لي، قال: هواي، عندما تقول: صديقي وفيّ، هذه الإضافة في صديق والياء قد اختصرت لك كلاماً طويلاً عريضاً، طول نسبي يعني، كان أصل الكلام: الصديق الذي هو لي.. ، ولكنك استغنيت عن هذا الكلام فقلت: صديقي، وانتهى الكلام، فتوصلت بالإضافة في المسند إليه طبعاً إلى اختصار، وهي أخصر طريق.
قد يكون أحياناً كما قال عندكم: لتعظيم المضاف إليه، أو المضاف أو غيرهما، ومثّل له بـ: (عبدي حضر، عبد الخليفة ركب، وعبد السلطان عندي).
أراد في (عبدي حضر) أن يعظم نفسه، فعندما قال: عبدي حضر، أراد من ذلك تعظيم العبد أم أراد تعظيم نفسه هو؟ يريد أن يقول: إن له عبداً، وإنه قد حضر؛ فهذا أراد أن يفخر وأن يعظم نفسه.
ومثّل لتعظيم المضاف بقوله: عبد السلطان عندي، هنا أضافه إلى لفظ يخلع عليه شيئاً من العظمة، وحينما قال: عبد الخليفة ركب، هذا لتعظيم المضاف، أراد أن يعظم المضاف وهو (عبد) لا المضاف إليه، فقال: عبد الخليفة ركب، أخبر عنه بأنه قد ركب بعد أن أضافه إلى الخليفة، فأصبح ذلك العبد إنساناً يتحدث عنه ويخبر عنه بأنه ركب، ويكفيه شرفاً أنه أضيف إلى الخليفة.
نحن عندنا معروف أن الإضافة تكون للتشريف، مثل: كعبة الله، ناقة الله، وأحياناً تكون الإضافة للملك؛ لأن الشيء هو لك، ملكك، ومن ذلك الحديث الذي يشكل على بعض الناس: (سبعة يظلهم الله في ظله)، (في ظله) المراد بالإضافة هنا إضافة الملك، الظل الذي هو له المراد به ظل العرش، ولا حرج على من أجرى اللفظ أيضاً كذلك على المعنى الآخر، إذا كان معه دليل.
كذلك عندما تقول: عبد السلطان عندي، قالوا: إن المتكلم بمثل هذا الكلام أراد تعظيم المضاف والمضاف إليه، فهو أراد أن يعظم السلطان وأراد أن يعظم العبد.
أو تحقيراً نحو: ولد الحجام حاضر، هو مثّل له بهذا المثال، هذه أمثلة التلخيص، وأنتم لو تأملتم حق التأمل في هذه الإضافات وفي هذه الألفاظ لوجدتم أنها لم تأتنا بهذه المعاني من أجل الإضافة، بل من أجل الألفاظ، فهو حينما قال: الحجام وحينما قال: السلطان وحينما قال: الخليفة، حينما جاء بهذه الألفاظ عرفنا هذا الكلام، عرفنا التحقير من هذه الألفاظ، وما عرفنا ذلك من الإضافة؛ فإنك لو قلت في: ولد الحجام حاضر، الولد الذي هو للحجام حاضر ولم تضف، فإننا نفهم التحقير منه أيضاً، والتحقير لا يفهم من الإضافة، وقد سبقني إلى هذا بعض النقاد أيضاً؛ فليس كل إضافة نفهم منها مثل هذا المعنى، بل أحياناً تكون تلك المعاني بسبب الألفاظ التي جاءت في ذلك الكلام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر