الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله في باب المسح على الخفين: [ وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس، وعنه من المسح بعده ].
قوله: (وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس، وعنه: من المسح بعده)، أي: ابتداء مدة المسح على الخفين، فإنه سبق أن ذكر المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل -كما في حديث علي بن أبي طالب - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم؛ أن المسح مؤقت بهذه المدة في الحضر والسفر.
وهذه المدة عند الفقهاء مختلف في ابتدائها، فهل يكون ابتداؤها من المسح، أو يكون ابتداؤها من اللبس؟ أو يكون ابتداؤها من الحدث وإن لم يقع المسح، أو أن ثمة وجهاً ثالثاً فيها؟
للفقهاء رحمهم الله في ذلك أقوال، ولكن أشهرها وأوجهها قولان:
القول الأول: أن المدة تبتدئ من أول حدث بعد لبس الخفين.
والقول الثاني: أن المدة تبتدئ من أول مسح بعد الحدث.
وفي المسألة أقوال أخرى، ولكن المعتبر هذان القولان، إما من أول حدث بعد اللبس، أو من المسح بعد الحدث، والرواية الأولى هي التي عليها أكثر الفقهاء، وهي مذهب أبي حنيفة و الشافعي ، وهي الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، وعليها أكثر أصحابه.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد ، وهي قول لطائفة من الفقهاء: أن ذلك من المسح بعد الحدث، وهذه المسألة ليس فيها نص، وإنما هو فقه في حديث علي ونحوه: ( جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم )، فمنهم من اعتبر أن هذه عبادة مؤقتة من الشارع، فاعتبر أول الوقت الذي يجوز فيه الفعل، ومنهم من اعتبر ذلك بالفعل، وأنت ترى أنك إذا قلت: إنها عبادة مؤقتة، فتعتبر بأول وقتها، وهذه مقدمة عند التحقيق مشتركة بين القولين، فإذا قيل: إنها عبادة مؤقتة، وهي كذلك، والعبادة المؤقتة من الشارع تعتبر بأول وقتها، قيل: هذه مقدمة صحيحة، ولكنها مجملة، ومشتركة بين القولين، فهل الاعتبار بوقتها بالقوة، أو الاعتبار بوقتها بالفعل؟ فإن قلت: إن الاعتبار بوقتها بالقوة أي: ما يكون محلاً للمسح في تطبيق هذه العبادة، فهذا من الحدث؛ لأنه لو توضأ وغسل قدميه، ولبس الخفين، ثم مسح بعد ذلك قبل أن يحدث، فإنما هو تجديد للوضوء، وليس رفعاً للحدث.
فإذاً: ابتداؤها من الحدث، وإلا فقد قالت طائفة من الفقهاء: من أول مسح ولو كان تجديداً، لكن هذا القول بعيد، إنما المعتبر والمتوجه أحد هذين القولين، إما أن الوقت ابتداؤه بالقوة، أو ابتداؤه بالفعل، فإذا قلت: ابتداؤه بالقوة فمعناه من الحدث، وإذا قلت: ابتداؤه بالفعل، فمعناه من المسح بعد الحدث، وكلا القولين كما ترى مما يحتمل النظر، ولذلك فهذه المسألة من المناسب فيها الأخذ بأحوط القولين، ولا سيما أن هذا في باب الرخص، واعتبار الفقيه وطالب العلم بل حتى العامي بالأحوط، هذا يتجه في مثل هذا النوع من المسائل التي ليس فيها قول معتبر من الاستدلال أقوى من مثل هذا النظر، أو ما هو من مادته، وإلا فمن استدل بذلك قال: إنها عبادة مؤقتة اعتبر أول الوقت. فيقال هذه المقدمة هي عند التحقيق مشتركة بينهما، هل المراد أول الوقت بالفعل، أو المراد أول الوقت بالقوة؟
وإن كان هذا المصطلح يستعمله أهل المنطق في الأصل، لكن يستعمله بعض الفقهاء حتى المائلين عن المنطق، فـالحافظ ابن رجب رحمه الله مع أنه مائل عن طرق علم الكلام والمنطق والنظر فيها، إلا أنه استعمل مثل هذا التعبير في قواعده الفقهية.
المقصود أن القوة والفعل أمر متحقق سواء سميته بهذا الاصطلاح أو لم تسمه. وعليه فهذه المسألة مذهب الجمهور فيها وهو الراجح في مذهب أحمد أنه من الحدث، وهذا القول أحوط، وليس في القول الثاني ما يقويه عن هذا، ولا سيما أن الرواية الأولى هي التي عليها الجماهير؛ أما الرواية الثانية فيذكرونها من مفردات المذهب.
قال المصنف رحمه الله: [ ومن مسح مسافراً ثم أقام أتم مسح مقيم ]. وهذا لا إشكال فيه، وعليه عامة أهل العلم، بل حكي فيه الاتفاق؛ أنه إذا مسح مسافراً ثم أقام أتم مسح مقيم، وإن كان مثل هذه المسألة لا يتأتى فيها الإجماع على مقصوده الصريح، إنما هو قول عامة أهل العلم؛ وذلك لأنه صار مقيماً فاعتبرت حاله. قال: [ وإن مسح مقيماً، ثم سافر أو شك في ابتدائه أتم مسح مقيم، وعنه يتم مسح مسافر ]. إذا مسح مقيماً ثم سافر، قال المصنف: (أتم مسح مقيم) مع أنه قد يتأتى في أوائل النظر في القياس أنه يتم مسح مسافر؛ لأنهم قالوا في المسألة الأولى: إن مسح مسافراً ثم أقام أتم مسح مقيم، فكذلك عكسه. لكن هذا ليس بلازم في القياس، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: أن هذه المسألة لا تعتبر بالقياس في أصلها؛ لأنها من باب الرخص والعبادات المحضة. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد على روايتين مشهورتين، والتي عليها أكثر الأصحاب هي الأولى، أن من مسح مقيماً ثم سافر فإنه يتم مسح مقيم. والرواية الثانية: أنه يتم مسح مسافر، وهذه وإن لم تكن هي الاصطلاح في مذهب الإمام أحمد ، وليس عليها الأكثر، لكن نصرها كبار محققي أصحاب أحمد ، ومنهم أبو بكر الخلال فإنه انتصر لهذه الرواية انتصاراً بالغاً. قال: لأن العبرة بما هو عليه، فكما أنه يتم مسح مقيم إذا سافر ثم أقام، فكذلك هنا العبرة بما هو عليه، وذكر أن أحمد نص عليها في آخر أمره، ونقلها عنه كثيرون، وانتصر لها كذلك طائفة من أصحاب أحمد بعد أبي بكر الخلال كـأبي الخطاب ، و أبي بكر عبد العزيز ونحو هؤلاء. وهذه في أول النظر أشبه باعتبار الأخذ بحاله هنا وحاله هنا، أما الرواية الأولى وهي المشهورة من مذهب الإمام أحمد فوجهها أن حاله مترددة بين اعتبار مدة الإقامة أو اعتبار مدة السفر، فإنه تلبس بالمدة وهو مقيم ثم سافر، فصار له حالان، فغلب في حال اجتماع الحالين أضيقهما؛ لأن الأصل هو غسل القدمين، وهذا الذي يشار به إلى أن قياس هذه المسألة على المسألة السابقة لو صح القياس في هذا النوع من المسائل من قياس الشبه؛ فإنها ليست مطابقة حتى يقال: إن القياس يقضي بتصحيح أن يكون مسحه مسح مسافر في هذه الحال، وإن كانت هذه الرواية قوية في مذهب الإمام أحمد ، فهذا مقام آخر، لكن من حيث النظر فهذا له حالان، فغلب أضيقهما، إذا اعتبرت هذا النظر؛ لأن الأصل هو الغسل، فستنتهي بك النتيجة إلى موافقة رأي المذهب، إلى أنه إن مسح مسافراً ثم أقام أتم مسح مقيم، وإن مسح مقيماً ثم سافر أتم مسح مقيم، حتى يبين من هذا التقرير أن كلام الأصحاب رحمهم الله، وهذا عليه كثيرون من الفقهاء، بل هو ظاهر مذهب الجمهور من الفقهاء، وهو المذهب عند الحنابلة: أن هذا ليس فيه قدر من التمانع. وبعض الأصحاب استدل له: بأنه اجتمع له مبيح وحاظر، فغلب الحاظر، وهذا ليس بظاهر، والأظهر في الاستدلال لقول الحنابلة: أنه اجتمع له حالان: حال الإقامة وحال السفر، فإذا أريد التغليب، فإما أن يغلب مبتدأ الفعل، وإما أن يغلب حاله التي هو عليها، وإما أن يقال: صار ثمة تعارض بين الحالين، فيغلب أضيقهما؛ لأن ذلك هو الذي يقتضيه استصحاب الأصل من حيث أن الأصل غسل القدمين. أما إذا قلت بتغليب الحال الأولى، فهذا يقع به ما هو شبه مخالفة للإجماع؛ لأنك لو غلبت الحالة الأولى لزمك أنه إن مسح مسافراً ثم أقام أن تجعله يتم مسح مسافر، وهذا خلاف قول عامة أهل العلم، والقول به على أحسن أحواله شاذ، ولما تعذر القول بتغليب الحالة الأولى مع أنها هي المبتدأة في العبادة، تأتى لك أن تقول: لا يصح له أن يغلب الحالة الثانية؛ لأن تغليب الحالة الثانية ليس بأولى من تغليب الحالة الأولى، والحالة الأولى تغليبها فيه تعذر؛ لأنه يوجب مخالفة قول العامة، أو مخالفة الاتفاق على رأي بعضهم، وعلى أحسن الأحوال الوقوع في القول الشاذ. فلما علم أنه لا يتأتى تغليب الحالة الأولى بان أنه لا يتأتى كذلك تغليب الحالة الثانية؛ لأن تغليب الثانية ليس بأولى من تغليب الحال التي ابتدئ بها، وإنما يقال: صار تمانع بين الحالين، فغلب الأضيق لما فيه من الاحتياط للعبادة من جهة، والاحتياط في مثل هذا النوع فيما يظهر لي له محل في الشريعة، ولما فيه من الاعتبار باستصحاب الأصل. وكذلك إذا شك، ولهذا المصنف قال: (أو شك في ابتدائه)، كذلك إذا شك في ابتدائه فإنه يغلب الأضيق. قال: [ ومن أحدث ثم سافر قبل المسح أتم مسح مسافر ]. لأنه لم تكن له حال الإقامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يمسح المسافر ...)، وهذا كذلك.
قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض كله ويثبت بنفسه ].
قوله: (ولا يجوز المسح إلا على ما يستر محل الفرض)، محل الفرض هو القدم إلى الكعبين، وهذا هو الذي عليه كثير من الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أنه لا بد أن يكون الخف ساتراً لمحل الفرض، وأن يكون ثابتاً بنفسه، فأما إذا لم يكن ساتراً لمحل الفرض، فهذا على قسمين: إما أن يكون الخف ليس ساتراً لمحل الفرض؛ لأن صفته مقطوعة عن تمام محل الفرض، كأن يكون الخف كاشفاً للعقب، فهذا لا يسمى خفاً، ولا يصح المسح عليه كذلك، وإما أن يكون خفاً ساتراً لمحل الفرض لكنه مخرق، وهذا ما يأتي في كلام المصنف.
قال المصنف رحمه الله: [ فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم، أو كان واسعاً يرى منه الكعب، أو الجورب خفيفاً يصف القدم، أو يسقط منه إذا مشى، أو شد لفائف، لم يجز المسح عليه ].
الخف المخرق فيه خلاف مشهور بين الفقهاء، ولا يظهر أن أحد القولين ينسب لجمهور العلماء، بل الخلاف في هذه المسألة يعد من الخلاف المشهور بين الفقهاء، والراجح في مذهب أحمد و الشافعي أنه لا يمسح على الخف المخرق، والأصل في مذهب أبي حنيفة و مالك وطائفة كذلك هو المسح عليه، بل أطلق بعض الفقهاء ذلك، وإن كان مذهب مالك يعتبر ذلك بألا يكون فاحشاً، واعتبره أبو حنيفة : بأن يكون أقل من ثلاثة أصابع، وهذا من جنس قول مالك في الجملة، لكنه مقدر عند أبي حنيفة ، ومعتبر بما اعتبر به عند مالك .
لكن مذهب الثوري من أهل الكوفة ومحدثيهم يقول: إنه يجوز المسح على الخف المخرق. فالخلاف في المسألة بيّن وليس فيها نص، فمنهم من اعتبر: أن ذلك مما تجري به العادة، ويشق التحرز منه، والشريعة مبنية على التخفيف، وهذا من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في المسح على الخفين مطلقاً، والخفاف مظنة هذا، هكذا ذكر بعض الفقهاء رحمهم الله، وإن كان مثل هذا فيما يظهر أنه ليس متجهاً؛ لأن كون الخفاف مظنة لهذا، أو يغلب فيها هذا، هذا يحتاج إلى إثبات، وهو خلاف الظاهر؛ لأن الخفاف تكون من الجلد ومن المواد المسبوكة والمصنوعة بقوة، وليست كالجوارب والبحث هنا في الخفين؛ ولأن الجمهور ما أجازوا أصلاً المسح على الجوربين، ولكن إذا قيل: إن هذا مما يشق التحرز منه، ولا يخرج الخف عن اسمه، فمثل هذا النظر يتجه اعتباره.
أما ظاهر مذهب الإمام أحمد فهو عدم المسح على الخف المخرق، ومعتبرهم في ذلك أن المسح على خلاف الأصل، وأنه إذا اجتمع ما يكون منكشفاً من القدم وما يكون مستتراً فإنه لا يجمع بينهما فلم يصح المسح، والذي يظهر والله أعلم أن المسح على مثل ذلك فيه نوع من السعة، وإن كان الخلاف في المسألة فيه قوة، ومما يقويه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، وإن كان هذا ليس فيه ترك الشيء، يعني: ليس فيه أنه مسح العمامة وترك ناصيته، بل إنه مسح بناصيته وعلى العمامة، فهذا الاستدلال غير مطابق لمسألتنا، ولكن فيه نوع من الاحتجاج من جهة أن الشارع جمع بين هذا وهذا، وإنما هو محل للمسح ولم يكن ساتراً لمحل الفرض، ومع ذلك صح المسح عليه، خاصة على المذهب عند الحنابلة، وقول كثير من الفقهاء على قول من يقول: بأنه لا بد من استيعاب جميع الرأس، فإن العمامة في حديث المغيرة الثابت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، لم تكن ساترة لمحل الفرض، ومع ذلك مسح الشارع عليها، فلما مسح عليها دل على أنه يقع المسح على ما ليس ساتراً لمحل الفرض، فإن قيل: إن هذا استتم بمسح الناصية، قيل: هو من هذا الوجه يؤخر الدليل عن كونه مطابقاً لمسألتنا، ولكنه يعطي نوع دلالة، ويعطي وجهاً من الاعتبار والنظر؛ بأنه يسوغ المسح على ما ليس ساتراً لمحل الفرض.
وفي الخفين جرت السنة أن المسح لا يستوعب فيها، كما يستوعب في العمامة، بل ظاهر آثار الصحابة كما سيأتي: إنما يمسح ظاهر الخف، ولا يستوفى كاستيفاء الجبيرة مثلاً، ولا حتى كالعمامة، بل فيه تجوز، فهذا التجوز في قدره يقضي والله تعالى أعلم: بأنه يتجه مثل هذا القول على ما قدره الإمام مالك رحمه الله، بشرط أن يكون هذا مما يعرض للناس، ولهذا لا يكون فاحشاً، أما إذا كان الخرق فاحشاً، ولا يلبس عادة، فإن هذا لا يصح المسح عليه، أما إذا كان يسيراً فإن هذا يظهر التجوز فيه. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن لبس خفاً فلم يحدث حتى لبس عليه آخر جاز المسح عليه ].
(جاز المسح عليه) أي: على الفوقاني.
(وإن لبس خفاً فلم يحدث)، أما إن أحدث فعلى تقريرهم السابق أن المدة تبتدئ من الحدث، فلا يجوز أن يمسح على الفوقاني؛ لأن المدة اعتبرت بالتحتاني.
قال المصنف رحمه الله: [ ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يده على الأصابع، ثم يمسح إلى ساقه ].
أي: إلى مبتدأ الساق، لا أن يستوفي الساق، وهذا هو الذي جاءت به الآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإلا فإن مقتضى القياس أنه يستوعب الخف بالمسح، لكن الآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم مستفيضة بأن المسح هكذا، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله في أجوبته أن مبنى ذلك هو آثار الصحابة، وهم يفسرون هذه الرخصة، وهذا الذي ذكره المصنف هو مذهب الإمام أحمد و أبي حنيفة خلافاً لـمالك و الشافعي ، فإن هذه طريقة معروفة لطائفة من الفقهاء: أنه يمسح ظاهر الخف وباطنه، وهذا قول معروف، وليس بدعاً، فهو ظاهر مذهب مالك و الشافعي وجملة من الفقهاء، ولكن الأظهر هو الأول، ويروى فيه أثر عن علي رضي الله تعالى عنه: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره. وفيه آثار عن جملة من الصحابة ذكرها الإمام أحمد في بعض أجوبته.
ومما ينبه إليه هنا: أن رأي الإمام أبي حنيفة وقع هكذا، مع أن ظاهر القياس ومقتضى القياس: أن يكون المسح على الظاهر والباطن قياساً على الجبيرة، وعلى مسح الرأس؛ بأنه يستوعب، ولأن الأصل في القدم الغسل ظاهراً وباطناً، وهذا يبين أن الأئمة رحمهم الله وإن غلبوا دليلاً إلا أنهم قد يخرجون عنه في بعض الأوجه لمعتبر من الاستدلال، ومنها ما يكون من آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فـأبو حنيفة قال في هذه المسألة فيما يظهر على خلاف القياس، وإن كان القياس في هذه المسائل كما سبق أن ثمة نظراً في اعتباره من جهة، وأيضاً أن القياس الذي يرد على مثل هذا النوع من المسائل هو من قياس الشبه، وإذا قلت: إنه من قياس الشبه، قد يتجه فيه أن هذا مقتضى القياس، وقد يقال: مقتضى القياس أن يمسح الظاهر فقط، وهو أشبه ما لو مسح على رأسه ونحو ذلك.
وعلى كل حال فهذه المسألة ليست من صريح القياس.
قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز المسح على العمامة المحنكة إذا كانت ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه ].
وهذا مذهب الإمام أحمد ، وقول للإمام مالك رحمه الله خلافاً للشافعي و أبي حنيفة ، والحجة فيه حديث المغيرة الثابت في الصحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، فثبوت المسح على العمامة جاء في حديث علاء بن أمية ، وجاء في حديث المغيرة ، وجاء في حديث بلال ، وكلها في الصحيح، وعليه فالمسح على العمامة ثابت بسنن صحيحة من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا طريقة أهل الحديث كـأحمد ونحوه فيه أجود من طريقة كثير من الفقهاء الذين لم يرخصوا في المسح على العمامة، وعليه فمذهب الإمام أحمد بيّن في ذلك، والدليل فيه بيّن.
ولكن المصنف يقول: (إذا كانت ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه)، وهذا يقوي أنه يجوز المسح على الخف المخرق؛ لأن الغالب على حال الناس أن الجوارب يدخلها الانشقاق الجزئي، وفي المذهب يجيزون المسح على الجوارب.
[ ولا يجوز على غير المحنكة، إلا أن تكون ذات ذؤابة، فيجوز في أحد الوجهين ].
العمامة على ثلاثة أوجه: إما أن تكون مصمتة، أي: ليست محنكة ولا ذات ذؤابة، فهذه في المذهب لا يرون المسح عليها، ويقولون: إنها ليست من عمائم المسلمين في الأصل، وإنما كانت من عمائم أهل الذمة، وهذا فيما يظهر أنه قد يتغير بتغير الأحوال، ولكن يقولون: إن المسح إنما يكون على العمامة المحنكة أو ذات الذؤابة التي يكون منها تحت الحنك كور منها، أو لها ذؤابة، أما المحنكة فهذه لا يختلف المذهب في جواز المسح عليها.
وأما ما كانت ذات ذؤابة ففيها وجهان عن الإمام أحمد .
[ ويجزئه مسح أكثرها، وقيل: لا يجزئه إلا مسح جميعها ].
(ويجزئه مسح) أكثر العمامة، (وقيل: لا يجزئه إلا مسح) الجميع، وظاهر حديث المغيرة أنه لا بد من مسح الجميع.
قال المصنف رحمه الله: [ ويمسح على جميع الجبيرة إذا لم تتجاوز قدر الحاجة ].
(ويمسح على جميع الجبيرة)، الجبيرة تستوعب بالمسح؛ لأن هذا هو الأصل، وقيدها المصنف بقوله: (إذا لم تتجاوز قدر الحاجة)، ومن المعروف أن ثمة ما هو تحسيني، وما هو حاجي، وما هو ضروري، فإذا كانت الجبيرة على قدر الضرورة؛ فهذه لا جدل أنه يمسح عليها عند من يسوغ المسح على الجبيرة، وإلا فطائفة من الفقهاء: لا يرون المسح على الجبيرة أصلاً، ويرون التيمم، لكن من يرى المسح على الجبيرة فبقدر الضرورة يجوزون ذلك، وهكذا اشترط بعضهم ممن يقول بالمسح على الجبيرة، وهو القول الراجح أن المسح على الجبيرة جاء في السنة، كما في حديث صاحب الشجة، وإن كان حديث جابر متكلم فيه، لكن احتج به الإمام أحمد رحمه الله.
وأما إذا جاوزت موضع الضرورة إلى موضع الحاجة، فهذا أيضاً على الراجح وهو المذهب عند الحنابلة: أنه يجوز المسح على الجبيرة إذا كانت على قدر الحاجة، ولو لم تكن على قدر الضرورة، ونص الإمام أحمد : على أن الضرورة لا تنضبط في هذه المسائل، وهذا من فقهه رحمه الله، حيث قال: إن هذا شديد على الناس ولا ينضبط تقدير الجبيرة بقدر الضرورة، ولا يناسب حال الناس وصحتهم، ومداواة جراحهم، وما إلى ذلك، وإنما يقال: إن ذلك معتبر بما هو من الحاجة، وهذا المناسب لنظر الشريعة، وتيسيرها لهذه الأحوال العارضة من أحوال المكلفين التي تنقص فيها استطاعتهم، والله يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ولو ألحق ذلك بقدر الضرورة، ورتب عليه الصحة والبطلان، لضاق على الناس إتيان هذه العبادة على الوجه الصحيح، وهذا نص عليه الإمام أحمد في بعض أجوبته.
أما إذا كان ذلك تحسينياً، وهل يقع هذا التحسيني؟ نقول: هذا ليس هو الغالب على الناس، لكن أحياناً يقع بعض الذي يكون عنده مثلاً انحراف أو شيء، ويكون هادئ البال وقت إجراء الجبيرة عليه، فقد يكون مهتماً بحاله وزينته، فيقول للطبيب أو المختص: زد من هنا قليلاً لأجل أن يكون الشكل ممتداً، إلى هكذا أو إلى هكذا، بالنظر إلى الشكل، وليس إلى الحاجة، فإذا قدره على معنى تحسيني في نفسه لم يصح، أما إن قال: إن الألم يمتد عن محل الكسر، وأن هذه المنطقة تؤلمه لو لمسه أحد، أو إذا احتك بشيء، فطلب منه أن يزيد حتى ينفك عنه الألم، أو رأى صاحب الاختصاص من الأطباء أن هذا أصلح، هذا قد يدخل في الضرورة إذا قدره الطبيب، لكن حتى لو قدره صاحب الحال وقال له الطبيب: إن هذا لا يلزم، لكن قال: إن هذا يؤلمني، وهذا أدعى إلى سلامتي وارتياحي، فهذا يدخل على الأقل في باب الحاجة.
قال المصنف رحمه الله: [ ومتى ظهر قدم الماسح، أو رأسه، أو انقضت مدة المسح استأنف الطهارة، وعنه يجزئه مسح رأسه وغسل قدميه ].
(ومتى ظهر قدم الماسح) أي: بعدما مسح، وإلا لو كان قبل أن يمسح فإنه لا يضره؛ لأن الطهارة معتبرة بالوضوء الأول، (ومتى ظهر قدم الماسح، أو رأسه، أو انقضت مدة المسح؛ استأنف الطهارة) إذا ظهر قدمه بعدما مسح -أي: بعد حدث- أما إن ظهر قدمه بعدما مسح لتجديد لم يضر، وإنما إذا مسح بعد حدث، (أو رأسه) إذا ظهر رأسه بعدما مسح على العمامة من حدث، (أو انقضت مدة المسح) تم يوم وليلة في حق المقيم، أو ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فالحكم كما قال المصنف: (استأنف الطهارة)، أي: أن طهارته تبطل عندهم، (وعنه يجزئه مسح رأسه).
إذا زالت العمامة أو انكشفت، وغسل القدمين في الخفين، هذه المسألة فيها أقوال للفقهاء ذكر المصنف منها قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، والقول الثالث وهو مشهور في المسألة أن طهارته لا تبطل مطلقاً ولا يلزمه شيء، فلا تبطل طهارته بانقضاء مدة المسح، ولا تبطل طهارته بانكشاف قدمه بعد المسح بعد الحدث، وكذلك الرأس في المسح على العمامة.
والقول الثاني: أنه يغسل القدمين، وهذا يتخرج على قول من يقول بعدم اشتراط الموالاة، وهكذا علله بعض الفقهاء.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن الفقهاء والأئمة الذين قالوا بعدم اشتراط الموالاة، وإن لم يقدروا ذلك بما قدره مشترط الموالاة من أنه لا ينشف العضو حتى يغسل الذي بعده في المدة المعتادة، فالذين قالوا بعدم اشتراط الموالاة لا يظهر أنهم يقصدون عدم اشتراط الموالاة على الأبد، بمعنى: لو غسل وما بقي إلا غسل القدمين، ثم انصرف عن وضوئه من بعد طلوع الشمس إلى الظهر فإنه يمكنه أن يرجع ويستكمل، وهذا الجزم به والله أعلم لا يظهر أن هذا هو المقصود، أو في مثل مدة المسح، أنه يجلس ثلاثة أيام بلياليهن.
فلا يقال له: أنه يجوز له أن يغسل القدمين؛ لأن الموالاة لا تشترط، فمعناه أنه جلس في فصل الأعضاء ثلاثة أيام، هذا لا يظهر أنه مبني عند أحد من المتقدمين، وإن نص عليه بعض المتأخرين وخرج عليه.
إنما عدم اشتراط الموالاة أنهم لا يقيدونه بالتوالي المعتاد، لكنه لا يكون تفريقاً فاحشاً باليوم واليومين إلى ثلاثة أيام كما في مسح المسافر.
المقصود أن هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للفقهاء، وهي أشهر ما قيل في المسألة.
القول الأول: أنه يستأنف الطهارة، هذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله؛ لأنها رخصة من الشارع علقت بهذه الصفة، وهي المسح، فإذا زال المسح بانقضاء مدته انتهى هذا الترخيص من الشريعة، وينتهي بانتهاء الرخصة ما يتعلق بها من أحكام، ومن أحكام هذه الرخصة صحة الطهارة بالمسح، ولولا هذه الرخصة ما صحت الطهارة بالمسح، فإذا انقضت هذه الرخصة بانقضاء مدتها، أو بزوال صفتها، أي: بزوال الخف مثلاً، أو زوال العمامة على المذهب، قالوا: فإذا زالت الرخصة زالت أحكامها المصححة بها، ومن أحكامها المصححة بها: اعتبار الطهارة، وهذا نظر فيه وجاهة بيّنة، ولذلك هذه المسألة الخلاف فيها فيه قوة، ولكن الرواية الأولى التي ذكرها المصنف وهي مذهب الإمام أحمد والمذهب عند الأصحاب، وهذا فيما يظهر أنه أقرب.
وأما تفريق ذلك؛ بأن يقال: إنه يغسل القدمين فهذا بعيد، ويمنعه تصحيح واشتراط الموالاة، فمن يشترط الموالاة لا يتأتى هذا على طريقته، فهذا التفريق بعيد.
وأما القول: بأن طهارته تصح مطلقاً ولا يلزمه شيء؛ لأن انتهاء المدة ليس ناقضاً من نواقض الوضوء، قيل له لم يُقل: إنه دخل في ناقض من نواقض الوضوء، وإنما رخص له في هذا الفعل، فلم يجز له بعد ذلك الاستمرار، ألا ترى أنه لا يصح له أن يمسح على الخف بعد انقضاء المدة، لماذا لا يصح له ذلك؟ هل لكونه أحدث؟ فالجواب: ليس كذلك، إذ الحدث لا يمنع ذلك في الأصل، وإنما يقال: لأن الرخصة انتهت، فارتفعت أحكامها، فكما يرتفع حكمها بانقضاء المدة، يرتفع الحكم هنا كذلك، فهذا القول فيه وجاهة.
ويلاحظ هنا دقة الفقهاء في تعبيرهم المحكم ما يقولون: أحدث، أو من نواقض الوضوء، إنما يقولون: استأنف الطهارة، ولا يقولون: إنه أحدث، فلا يسمون ذلك حدثاً، حتى لا يقال: إن من الأحداث في الشريعة انقضاء المدة، وهو لم يسم حدثاً.
وأما القول: بأن طهارته ابتدأها شرعاً بيقين، وقد يقال بإجماع، فلا يرفع ذلك إلا بدليل، فهذا شبيه بما يسمى في الأصول: استصحاب الإجماع في محل الخلاف، وهذه طريقة لبعض الفقهاء، وإن كانت خلاف مذهب الجماهير من الأصوليين، وهي طريقة ضعيفة؛ لأن وقوع الخلاف معلم بانقضاء وانقطاع محل الإجماع، وأن هذا القدر الزائد الذي فيه خلاف ليس داخلاً، وإلا لصار أصحاب القول الثاني مخالفين للإجماع أو لفقهه، يعني: إذا قلت: إنه يستصحب الإجماع، كان يجب أن يكون الإجماع محله إلى هذه النهاية، وليس إلى القدر الذي صار فيه الإجماع.
فالقول بأنهم صاروا مخالفين للإجماع أو لفقهه غير صحيح، أما إنهم مخالفون للإجماع فهذا بعيد؛ لأنهم هم أرباب الإجماع، فلا يتأتى عقلاً ولا شرعاً أن تقول: إنهم مخالفون للإجماع؛ أليس الإجماع اتفاق المجتهدين؟ وهؤلاء لم يتفقوا، ولا تقول: إنهم مخالفون لفقهه؛ لأن الإجماع في أصله ليس نظراً، وإنما صح الدليل من حيث هو خبر بني على مستند، فهو كما تعرف: يعتبر نتيجة وليس مقدمة، وفي التعبير بالمنطق لا يسمى دليلاً، وإن كان في التسمية الشرعية نسميه دليلاً، لكن في التعبير المنطقي لا نسميه دليلاً؛ لأن الدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب، والإجماع نتيجة، ولهذا احتاج إلى مستند، ولا يتأتى إجماع إلا وله مستند من الشريعة.
فالمقصود أن من يصحح هذا كما هي طريقة لبعض الفقهاء رحمهم الله، يقولون: إن طهارته صحت بيقين فلا تنقطع إلا بدليل؛ لأن هذا الفعل دخله بيقين فلا يرتفع إلا بيقين، في مثل إذا وجد الماء في أثناء الصلاة فلا يقطع صلاته؛ لأنه دخل الصلاة بدليل وإجماع، فلا يخرج عنه إلا بدليل، فنفي الدليل هذا فيه نظر.
وأما استصحاب الإجماع في محل الخلاف، فهذه طريقة قد تبدو في أوائل النظر، وبسيط النظر أنها طريقة جيدة ومنضبطة، ولكنها توهم كثيراً، وليس الانضباط البسيط مؤذن بأن الطريقة تكون صحيحة، وإلا هي قد تمشي مع بعض الناس في نظره وفقهه، ويبدو له أنها طريقة سهلة لضبط المسائل، لكن هذا بعيد عن القياس العقلي الصحيح، وعن النظر العقلي الصحيح، والنظر الشرعي كذلك، ويكفي فيه هذه الجملة: (أن استصحاب الإجماع في محل الخلاف خطأ من جهة دليل العقل والشرع)؛ لأن الإجماع حجة، وهم أرباب الإجماع من جهة دليل الشرع، ومن جهة دليل العقل وقياسه، فإنك تقول: إن وقوع الخلاف مؤذن ومعلم بانقضاء محل الإجماع.
بل إن الاختلاف يكاد يكون دليلاً على أن المسألة معلمة بانقضاء محل الإجماع، وبأن المسألة الثانية مسألة لا تقبل الإجماع، ومنفكة عن الإجماع لوجود الخلاف فيها.
قال المصنف رحمه الله: [ ولا مدخل لحائل في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة ].
أي: أن الطهارة الكبرى لا يصح فيها المسح على شيء إلا الجبيرة، أما الخف وما إلى ذلك فلا يصح، كما جاء في حديث صفوان بن عسال المرادي رضي الله تعالى عنه، وهو حديث صحيح قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن من غائط ولا بول ولا نوم، ولكن من الجنابة )، فإذا كان الغائط والبول والنوم فإنهم يمسحون عليها، ولكن الجنابة لا بد فيها من نزع الخفين.
وحديث صفوان حديث مصحح رواه الإمام أحمد وأهل السنن، قال: ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة )، فالجنابة لا يصح فيها المسح إلا على الجبيرة؛ لحديث صاحب الشجة.
قال المصنف رحمه الله: [ باب نواقض الوضوء، وهي ثمانية: الخارج من السبيلين قليلاً كان أو كثيراً، نادراً أو معتاداً ].
(باب نواقض الوضوء) أي: الأحداث التي تنتقض بها الطهارة، ومنها الحسي ومنها الحكمي، والأصل أن تقدير هذه الأحداث موقوف على الشريعة، سواء كان حكمياً أو كان حسياً، فإن هذا كله مردود إلى الشريعة ولا يدخله القياس.
قال: (وهي ثمانية: الخارج من السبيلين قليلاً كان أو كثيراً) وهذا متفق عليه، إذا كان بولاً أو غائطاً ونحو ذلك.
قال: (نادراً أو معتاداً)، وهذا هو الراجح، أن كل ما خرج من السبيلين فإنه يكون ناقضاً للوضوء نادراً أو معتاداً، وقال بعض الفقهاء: بأن النادر وما ليس معتاداً ينظر إلى حاله، ولكن هذا على خلاف الظاهر، فإنه يصيب هذا المحل الذي هو محل للنجاسة، فلا ينفك عن النجاسة بحال، وقد يندر إن لم يكن شبه مستحيل أن يأتي خارج غير معتاد من مادة ليست نجسة، أو لم يتأثر بالنجاسة، هذا التقدير فيه بعد شديد.
فالشاهد أن ما ذكره الأصحاب رحمهم الله هو الذي عليه الأكثر: أن ما خرج من السبيلين ولو نادراً أو معتاداً من أي مادة كان فإنه يكون ناقضاً للوضوء.
قال المصنف رحمه الله: [ الثاني: خروج النجاسات من سائر البدن، فإن كانت غائطاً أو بولاً نقض قليلها ].
(خروج النجاسات من سائر البدن) وإن كان بين الفقهاء اختلاف في تسمية بعض النجاسات كالقيء مثلاً، هل هو نجس أو ليس نجساً؟ والجمهور على أنه نجس.
فخروج النجاسات من غير السبيلين، قالوا: إن كان الخارج بولاً أو غائطاً كما في بعض العمليات الجراحية مثلاً، إذا خرج البول من غير مخرجه فإنهم يجعلونه ناقضاً للوضوء قليلاً كان أو كثيراً، كحكمه لو خرج من مخرجه المعتاد، أي: من أحد السبيلين.
وأما إذا كانت النجاسة ليست بولاً ولا غائطاً كالقيء مثلاً، عند الجمهور، والدم عند العامة الذين يرون نجاسته، فهذا لا يكون ناقضاً للوضوء إلا ما كان فاحشاً، في مذهب الإمام أحمد .
والقول الثاني: أن النجاسة إذا خرجت من غير السبيلين فإنه ينقض قليلها وكثيرها، وهذا هو مقتضى القياس، قالوا: والعفو عن يسيره ليس فيه نص، والمتحقق في مذهب الإمام أحمد يكون العفو عن يسير ذلك، واعتبر ذلك بآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنه وجد في الباب آثار مختلفة ومتنوعة عن الصحابة رضي الله عنهم: أنهم ما كانوا يتقون يسير ذلك، كما في يسير الدم الذي يكون عن بعض البثور أو ما إلى ذلك، فإنه جاء عن جملة من الصحابة منهم ابن مسعود و ابن عمر و ابن عباس و أنس أنهم ما كانوا يتقون ذلك، وهذا معتبر الإمام أحمد رحمه الله في هذا التخصيص، وإن كان القياس على خلاف ذلك، والخلاف في المسألة مشهور.
أما تحديد أنه نجس أو ليس نجساً، فهذا باب آخر، وكما هو المعروف: أن القيء فيه خلاف، ولكن قوى الاعتبار أنه جاء في حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه، وجاء من حديث أبي الدرداء كذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ )، هذا رواه أبو الدرداء وصدقه ثوبان ، وقال: أنا صببت له وضوءه، وهذا حديث صححه الإمام أحمد رحمه الله، وقال: حديث ثوبان حديث صحيح، وهو أقوى حديث في الباب، ونص الإمام أحمد على كلمتين فيه، على أنه أقوى حديث في الباب، وهذه ليست مفصحة بالتصحيح، لكنه نص في بعض جواباته أيضاً على أنه حديث صحيح، وهذا هو معتبره في أن القيء يتوضأ منه.
[ وإن كان غيرهما لم ينقض إلا كثيرها، وهو ما فحش في النفس ].
لأنه لم يعتد من الشارع أنه يتوضأ مما ليس نجساً، ولو كان الخارج من غيرهما ناقضاً للوضوء لكان مظنة لغسل الفم، أو التنزه عنه، ولهذا النخامة مثلاً وإن كانت مما يستقذر فلم ينقل الوضوء منها.
فما توضأ منه ظهر من هذا الوجه أن ذلك على سبيل أنه ناقض، وإن كان هذا ليس مما يقطع به؛ لأنه يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قاء وتوضأ كان على سبيل استجماع قوة البدن، فإن الوضوء مما يقوي البدن ويشده، وقد يكون له حدث سابق، فهذه على كل حال واقعة عين ليس فيها عموم، وليس فيها ما يقتضي ذلك جزماً، ولكن هذا مما هو محتمل.
وفي مثل هذا النوع من المسائل: الأولى بالمسلم أنه يتقي مثل هذا الخلاف؛ لأن هذه أمور عارضة. إذا مسح مقيم ثم سافر، إذا كذا.. إذا كذا، هذه أمور عارضة، وليس فيها نص يقطع به، أو يكون فيها نص فيه احتمال كحديث ثوبان ، فالاحتياط في مثل هذه المادة فيه وجاهة، ولا سيما أن الاحتياط ليس فيه تعد، ولا تضييق للأحكام ومشقة على المكلفين.
[ وحكي عنه: أن قليلها ينقض ].
والقول الثاني في المسألة: أنه لا فرق بين اليسير والكثير. وفي المسألة قول ثالث لطائفة: أنه لا يكون ناقضاً ما لم يخرج من السبيلين، ومن النجاسات ما تجب إزالته؛ لكونه نجساً، لكنه لا يكون ناقضاً كالدم عندما نقول بنجاسته، وهو قول العامة، وعلى هذا القول الذي ذكر يقولون: يجب التنزه منه، لكنه لا ينقض الوضوء؛ لكونه نجاسة خرجت من غير المحل المعتاد، ويجعلون النقض بخروج النجاسة من المحل المعتاد وهو السبيلان، وهذا مبني على التوقيف، ولا قياس في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر