يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أما بعد:
فيا أمة الإسلام! من يريد أن يدخل باباً يُطل على حدائق غنّاء، أرضها خضراء، فيها أنهار خلابة، وأشجارٌ جذابة، ومناظر ساحرة، وثمارٌ يانعة، كلكم سيدخل بابها إلا من أبى.
وقد تتعجبون! من يأبى دخول هذه الحدائق الرائعة، والروضات الفائقة، كما تعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال لهم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
نعم أيها المسلمون! من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار على منهاجه، واقتفى أثره دخل الجنة، ومن تنكب سنته، وأعرض عن هديه، وخالف شرعته فقد أبى، أبى عن دخول جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، والتي نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن نفوز جميعاً بها وأن ننعم بنعيمها.
فيا لله! من سيكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيدخل معه في الزمرة الأولى إلى جنة الرحمن، فإذا دخلت الجنة ينادي المنادي (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا) وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43].
فيا لسعادتك العظيمة، عندما تدخل باب الجنة من بين الخلق الذين قد ازدحموا على بابها، فإذا دخلت استقبلتك ملائكة الرحمن تهنئك بسلامة الوصول سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر:73] .. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] وإذا دخلت الجنة فإنك ستكون على قدر أبيك آدم، ستين ذراعاً في الطول وسبعة أذرع في العرض، وعلى ميلاد عيسى عليه السلام في العمر ثلاثاً وثلاثين سنة، وعلى جمال يوسف عليه السلام، قد نزع الله من قلبك الغل والحسد، وقد ألبسك الله ثياباً خضراً من سندس وإستبرق، وحلاك بأساور الذهب واللؤلؤ.
ولا تخشى يا أخي ضيعة في الجنة، فإن الله سيعرفك على الجنة، كما تعرف بيتك وأهلك الآن، يقول الله عز وجل: وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] ويقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلُّ منه بمسكنه الذي كان في الدنيا) فإذا دخلت الجنة يُهدي ربك جل جلاله هدية وهي زيادة كبد الحوت، وهي من أطيب الطعام، ثم يُنحرُ ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، وتشرب من عينٍ فيها تسمى سلسبيلاً، ثم تسرح في الجنة.
وبينا أنت تسير في هذه الحدائق الغناء، ترى الأنهار تتفجر من أعالي الجنة وهي تسير وتجري من تحتك، نعم إنها أنهارٌ من ماءٍ غير آسن، وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه، وأنهارٌ من خمرٍ لذةٍ للشاربين، وأنهارٌ من عسلٍ مصفى، ثم تطل على نهر الكوثر، فترى خيام اللؤلؤ على حافتي النهر قد وضعت عليه، فتنظر في النهر فإذا هو يجري على الدُر والياقوت، وتربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج، وبينما أنت تسرح وتمرح في الجنان ترى هناك القصور العظام المبنية ليس من الحجر والتراب بل من الذهب والفضة.
ثم تدخل خيمتك والتي صُنعت من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا -أي ما يوازي مدينة الرياض - وهذه اللؤلؤة غير الغرف والقصور التي أعدها الله لك.. بل هي خيام في البساتين وعلى شواطئ الأنهار، ويطوف عليك الولدان المخلدون، الذين إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا، بصحافٍ من ذهبٍ وأكواب، وفيها ألوان من الطعام، وأصناف من الشراب.
وقد جعل الله عز وجل قضاء الحاجة عرقاً يفيض من جلدك كرشح المسك.
فيا لله! ما حالك يا عبد الله وأنت بين هاتين الحور؟ وبدأن يتغنين لك بأصواتٍ ساحرة، ويقلن:
نحن الخيرات الحسان أزواج قومٍ كرام |
ما حالك وهنّ يقلنّ لك:
نحن الخالدات فلا يمتنَّ نحن الآمنات فلا يخفنَّ |
نحن المقيمات فلا نظعن |
كيف تستبدل هذا النعيم بسماع أصوات أراذل الخلق من المغنيين والمغنيات، وتديم النظر في وجوه النساء العاهرات في الصحف والقنوات؟ أتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟
اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
أيها المسلمون! وحتى تتم الفرحة لأهل الجنة (يناديهم الله عز وجل فيقول: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم. هذا الموت، ثم يقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، فيقولون: نعم. هذا الموت، قال: فيأمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويا أهل النار! خلودٌ فلا موت؛ فيزدادون حزناً إلى حزنهم).
فنسألك اللهم الفردوس الأعلى، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون! الطريق إلى الجنة محفوفٌ بالمكاره، إلا أن المؤمن إذا علم ما فيها من النعم الدائمة واللذات الباقية هانت عليه المكاره، وسهلت عليه الطاعات، وتيسر له اجتناب المحرمات، ولم يبع الجنة العالية الغالية بالدنيا الفانية، بل صبر في الأيام القليلة، والمدة القصيرة؛ ليفوز بالخلود الأبدي والنعيم السرمدي.
وطريق الجنة يحتاج إلى مجاهدة النفس، ومجاهدة شياطين الإنس والجن، ولا بد فيه من التضحيات المالية والبدنية للفوز بها أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
أيها المسلمون! من الطبيعي أن يشتاق للجنة كل من سمع بها، وعلم ما أعد فيها؛ ولكن هل يكفي الشوق والتمني من غير تقديم أسباب الوصول إليها، إن من يمني نفسه بالوصول إلى الجنة ثم لا يسلك مسالكها الموصلة إليها، لهو شخص غرته الأماني الكاذبة، وخدعته الدنيا الفانية، وسيرى أنه باع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بعيش هو كأضغاث أحلام، مشوب بالنغص ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراًَ، وإن سر يوماً أحزن شهورا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته.
أما الموفق فهو الذي علم ما خلق له، وما أريد بإيجاده، ورأى علم الجنة قد رُفع فشمر إليه، وصراطها المستقيم قد وضح فاستقام عليه، علم أسباب دخولها فأتى بها، وأسباب خسارتها فانتهى عنها.
فتعال أخي الحبيب! نتذاكر جملة من موجبات الجنة، مما جاء في الكتاب والسنة، وإن كان مدارها على الإيمان والتقوى والعمل الصالح الخالص لله الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن تلك الموجبات للجنة:
الأمر الأول: توحيد الله تعالى والسلامة من الشرك، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) متفق عليه.
ومن موجبات الجنان: الإيمان والعمل الصالح، يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:82].
ومن موجبات الجنان: قراءة القرآن والعمل به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حلِّه، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيُلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارقَ ويزداد بكل آية حسنة) رواه الترمذي وصححه الألباني .
فأين التالون لكتاب الله؟ أين التالون بالأسحار؟ أين التالون في أطراف النهار؟ لقد وردت فضائل لبعض الآيات والسور، وأنها من أسباب دخولها الجنة أو من قرأها بُني له قصر في الجنة، كقراءة آية الكرسي دُبر كل صلاة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) صححه ابن حبان و ابن حجر .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصر في الجنة) رواه أحمد وحسنه الألباني .
فهل تعجزك هذه الأسباب؟ وهل يكلفك شيئاً قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة؟
إذاً: احرص على العمل، ودع عنك التواني والكسل.
ومن موجبات الجنان أيضاً: ذكر الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) رواه الترمذي وصححه.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) رواه مسلم .
فهل قلت هذا الذكر بعد انتهائك من كل وضوء حتى تفتح لك أبواب الجنة الثمانية؟
من موجبات الجنان: أداء الصلاة فرضها ونفلها، يقول عليه الصلاة والسلام: (خمس صلوات كتبهن الله تبارك وتعالى على العباد، مَن أتى بهن ولم يضع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن؛ كان له عند الله تبارك وتعالى عهدٌ أن يدخله الجنة) رواه أحمد وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يصلي لله في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه مسلم .
وهي: أربع قبل الظهر وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاة الفجر، فيا من أرهق نفسه بالعمل ببناء بيت في الحياة! أيشق عليك أن تبني لك بيتاً في الجنة بهذه الركعات التي لا تكلفك شيئاً ولا تستغرق منك وقتاً طويلاً؟ وإن سمت نفسك لتكون مرافقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعليك بكثرة السجود، يقول ربيعة بن كعب رضي الله تعالى عنه: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل حاجتك، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم .
من موجبات الجنان: قيام الليل، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وصلة الأرحام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام) رواه الترمذي وصححه.
من موجبات الجنة: الإنفاق في وجوه الخير الكثيرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (من تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله خُتم له بها دخل الجنة) رواه أحمد وصححه الألباني .
من موجبات الجنة أيضاً: التجاوز عن المعسرين، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن رجلاً مات فدخل الجنة، فقيل له: ما كنت تعمل؟ فقال: إني كنت أبايع الناس فكنت أنظر المعسر وأتجاوز في السكة -أي: في النقد- فغفر له) رواه مسلم ، أي: أنه كان يسامح الناس في الاقتضاء والاستيفاء وقبول ما فيه نقص يسير.
من موجبات الجنان والتي تدل على كرم الرحمن وواسع رحمته، وأن الله عز وجل يجزي بالقيل الكثير: إماطة الأذى عن الطريق، يقول عليه الصلاة والسلام: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس) رواه مسلم .
فلا تحقرن من الأعمال شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق!
من موجبات الجنة والتي تغبط عليها المرأة المسلمة: ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم : (أنا أول من يفتح له باب الجنة إلا أنه تأتي امرأة تبادرني، فأقول لها: مالكِ ومن أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على أيتام لي) رواه أبو يعلى بإسناد جيد.
فهنيئاً لك أختاه على هذه المكرمة الإلهية والمنحة الربانية.
من موجباتها أيضا: سلامة الصدر من الحسد والحقد والغش للمسلمين، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه لرجل من الأنصار: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت في الثلاث، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال
أخيراً من موجبات جنة الرحمن: التوبة والعودة إليه، يقول الله تبارك وتعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم:60]، ويقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [التحريم:8].
فعجِّل بالتوبة أخي الحبيب، ودع عنك التسويف، فالحياة قصيرة والموت يأتي بغتة.
أخي المسلم! هذه بعض الأسباب التي توصلك إلى جنة النعيم، فهيا أخي قم إليها، وحافظ عليها، ولازم فعلها لتكون من أهلها، مع ملازمة الأصل الأصيل من هذا الدين العظيم، من صدق الإيمان وحسن المعتقد وصحة القصد وموافقة المنهج الذي جاء به خير البشر صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، بالمعروف آمرين وعن المنكر ناهين يا رب العالمين، اللهم كما جمعتنا في هذا المكان العظيم فاجمعنا ووالدينا في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، يا رب العالمين.
سبحان ربك العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر