فصل: ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه دون ما يعتقدون حله، ويلزمهم التميز عن المسلمين، ولهم ركوب غير خيل بغير سرج بإكاف، ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا القيام لهم، ولا بداءتهم بالسلام، ويمنعون من إحداث كنائس وبيع وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً، ومن تعلية بنيان على مسلم لا من مساواته له، ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس وجهر بكتابهم، وإن تهود نصراني أو عكسه لم يقر ولم يقبل منه إلا الإسلام أو دينه.
فصل: فإن أبى الذمي بذل الجزية، أو التزام حكم الإسلام، أو تعدى على مسلم بقتل أو زنا أو قطع طريق أو تجسس أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء انتقض عهده دون نسائه وأولاده، وحل دمه وماله].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تقدم لنا ما يتعلق بقسمة الغنائم، وذكرنا كيفية قسمتها، وأن الغنيمة تخمس على ما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي ، وأن الخمس الأول يخمس إلى خمسة أقسام، وأما الأربعة الأخماس الباقية فتقسم بين الغانمين، وتقدم لنا كيفية قسمتها، وتقدم لنا رأي أبي حنيفة ورأي الإمام مالك رحمه الله تعالى.
وكذلك ما يتعلق بالفيء وما هو الفيء؟ وهل يخمس الفيء أو لا يخمس؟ ذكرنا رأيين في هذه المسألة، وعرفنا أن المشهور من مذهب الشافعية أن الفيء يخمس كما تخمس الغنيمة، وذكرنا كذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، ثم ذكرنا دليله وأيضاً دليل جمهور أهل العلم.
لما تكلم المؤلف -رحمه الله تعالى- على أحكام الجهاد ناسب أن يتكلم على أحكام عقد الذمة، وما مناسبة ذلك؟ مناسبة ذلك أن الكفار لا يخلو أمرهم من ثلاثة أمور بعد خروج الإمام إليهم: إما أن يدخلوا في الإسلام، وإما أن يقاتلوا، وإما أن يبذلوا الجزية، وهذا هو ما يتعلق بعقد الذمة، فناسب أن يذكر أحكام عقد الذمة بعد أحكام الجهاد.
الذمة في اللغة: تطلق على معان منها: العهد، والضمان، والأمان.
وأما في الاصطلاح: فهو إقرار الكفار -وبعض العلماء يقول: إقرار بعض الكفار، لكن الصحيح إقرار الكفار- على كفرهم بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
والأصل فيها القرآن والسنة وإجماع العلماء -رحمهم الله تعالى- في الجملة.
أما القرآن فقول الله عز وجل: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] .
وأما السنة فحديث بريدة في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سريةً أمر عليها أميراً وأوصاه بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين، وأن يدعو عدوهم إلى إحدى ثلاث خلال: الإسلام أو بذل الجزية أو القتال).
وعندنا عقد ذمة، وعقد هدنة وأمان، وهذه كلها سنتعرض لها إن شاء الله، وسنبين شيئاً من الفروق المتعلقة بهذه الأشياء الثلاثة.
يقول المؤلف رحمه الله: إن عقد الذمة خاص بأهل الكتابين والمجوس، وما عداهم لا تعقد لهم الذمة، وبهذا نعرف الفرق بين الأمان وبين الهدنة وبين عقد الذمة، وهو أن عقد الذمة على ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله -وهو قول الشافعي- خاص بأهل الكتاب، والمجوس، وما عداهم لا تعقد لهم، وما الذي يترتب على ذلك إذا قلنا: لا تعقد لهم الذمة؟
يترتب على ذلك إسلام أو قتال.
هذا هو المشهور من المذهب، ويستدلون على ما ذهب إليه المؤلف بأن الله سبحانه وتعالى قال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].
وأما المجوس فاستدلوا بحديث عبد الرحمن بن عوف (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر).
الرأي الثاني: أن عقد الذمة ليس خاصاً بهؤلاء بل هو عام لجميع الكفار، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، إلا أن الحنفية -رحمهم الله- يستثنون عبدة الأوثان من العرب، يقولون: لا تعقد لهم الذمة؛ لأن الحجة قامت عليهم، إما قتال أو إسلام، لكن عند المالكية: أن الذمة تعقد لجميع أصناف الكفار، ودليلهم على ذلك ما تقدم من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سريةً وأمَّر عليها أميراً أوصاه بتقوى الله عز وجل في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين، وأن يدعو عدوهم). وهذا يشمل أهل الكتاب وغيرهم، وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك أيضاً مما يدل لذلك ما سلف من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه (بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر)، مع أن الآية لا تشمل.
وأما قول الله عز وجل: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [التوبة:29] . فنقول: بأن ذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق العام لا يقتضي التخصيص، وهذه قاعدة أصولية.
هذا هو الفرق الأول كما ذكرنا بين الهدنة والأمان وعقد الذمة، عقد الذمة خاص على ما ذهب إليه المؤلف -رحمه الله- بأهل الكتابين والمجوس، بخلاف الأمان فهو لكل الكفار والهدنة أيضاً لكل الكفار.
لا يعقد عقد الذمة إلا الإمام أو نائب الإمام؛ لأن عقد الذمة عقد مؤبد فلا يفتأت فيه على الإمام، وهذا من الفروق بين عقد الذمة والأمان، عقد الذمة خاص بالإمام أو نائبه، وكذلك أيضاً الهدنة هذه خاصة بالإمام أو نائبه، أما بالنسبة للأمان فهذا ليس خاصاً بالإمام أو نائبه، فالإمام له أن يؤمن، والأمير دون الإمام له أن يؤمن، وبقية أفراد المسلمين لهم أن يؤمنوا، ولهذا (قال النبي صلى الله عليه وسلم: أجرنا من أجرت يا
شروط صحة عقد الذمة:
الشرط الأول: أن تكون مع أهل الكتابين والمجوس كما سلف، وذكرنا الخلاف فيه.
والشرط الثاني: أن يعقدها الإمام أو نائبه.
والشرط الثالث: بذل الجزية.
والشرط الرابع: التزام أحكام الملة.
الجزية: هي مال يؤخذ من أهل الذمة كل عام مقابل إقرارهم على دينهم وترك قتلهم.
وهي واجبة على أهل الذمة كما تقدم لنا أن من شروط صحة عقد الذمة: أن يبذل الجزية، ويشترط فيمن تجب عليه شروط هي:
الشرط الأول: البلوغ، وعلى هذا لا تجب الجزية على غير البالغين، ويدل لهذا اتفاق العلماء -رحمهم الله- وإجماعهم على ذلك، ولحديث معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم ديناراً). رواه الترمذي وأبو داود ، وحسنه النسائي ، وصححه الحاكم .
الشرط الثاني: قوله: (ولا امرأة) يعني: الذكورة، وعلى هذا فالمرأة لا تجب عليها الجزية، وهذا أيضاً بالإجماع؛ لأن المرأة ليست من أهل القتال، ولا من أهل النصرة.
الشرط الثالث: العقل، فالمجنون لا تجب عليه الجزية، ودليل ذلك ما سلف أن المجنون ليس من أهل القتال.
الشرط الرابع: الحرية، فالرقيق لا تجب عليه الجزية أيضاً بالإجماع كما ذكر ابن المنذر رحمه الله؛ ولأن الرقيق لا يملك، ولا بد من القدرة وهو غير قادر.
الشرط الخامس: أن يكون من تؤخذ منه الجزية عنده قدرة على القتال، بأن يكون صحيح البدن، ولهذا لا تؤخذ الجزية ممن ليس من أهل القتال كالأعمى، وكذلك أيضاً (الزمن) الذي فيه عاهة دائمة، وكذلك أيضاً الشيخ الفاني ونحو ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة خلافاً للمالكية.
والصحيح في هذه المسألة: أنها لا تؤخذ من هؤلاء إلا إذا كان لهم رأي بحيث أنهم يعينون الكفار على القتال برأيهم، فتؤخذ منهم الجزية.
الشرط السادس: ألا يكون راهباً، فإن كان من الرهبان هل تؤخذ منه الجزية أو لا تؤخذ منه الجزية؟ هذا موضع خلاف، والأقرب في ذلك أنه ينظر إلى حال الراهب، إن كان هذا الراهب يعين أهل دينه ببدنه أو برأيه أو بماله فتؤخذ منه الجزية، وأما إن كان لا يعين أهل دينه بل كان حبيساً في صومعته يتعبد الله عز وجل فهذا لا تؤخذ منه الجزية.
كذلك أيضاً إذا كان هذا الراهب يخالط الناس ويكتسب.. إلى آخره، فهذا تؤخذ منه الجزية.
فأصبح عندنا للراهب ثلاث حالات:
- إن كان يعين أهل دينه بالمال، أو الرأي تؤخذ منه الجزية.
- إذا كان يكتسب تؤخذ منه الجزية.
- إذا كان حبيساً في صومعته فنقول: بأن الجزية لا تؤخذ منه.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا عبد).
هذا كما تقدم بالإجماع.
قال رحمه الله: (ولا فقير يعجز عنها).
هذا الشرط السابع أن يكون عنده قدرة مالية، فإن كان ليس عنده قدرة مالية فإنه لا تجب عليه الجزية، وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله لقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] .
وعند الشافعية: أنه تجب عليه الجزية، وتكون ديناً في ذمته، متى استطاع فإنه يؤديها، والصواب في هذه المسألة أنه لا تجب عليه الجزية كما هو قول جمهور أهل العلم.
قال رحمه الله: (ومن صار أهلاً لها أخذت منه في آخر الحول).
هذا ما عليه أكثر أهل العلم أنها تجب في آخر الحول، وما الذي يترتب على ذلك؟ يترتب على ذلك أنه إذا أسلم فإنها تسقط عنه.
والرأي الثاني: رأي الحنفية: أنها تجب في أول الحول، وعلى هذا يطالب بها في أول الحول، لكن رأي الجمهور؛ أنها تجب في آخر الحول، وهذا القول هو الأقرب كالزكاة إذا حال الحول وجبت.
هنا شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان ما يترتب على عقد الذمة، يترتب على عقد الذمة أمور:
الأمر الأول: أنه متى بذلوا الواجب عليهم من الجزية والتزموا أحكام الملة يجب قبول هذه الجزية منهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة:29]. فجعل إعطاء الجزية غايةً لكف القتال عنهم.
قال: (وحرم قتالهم).
وهذا الحكم الثاني وهو أن تعصم دماؤهم ويحرم قتالهم.
الحكم الثالث: أيضاً أن تعصم أموالهم، فيحرم أن تؤخذ أموالهم.
الحكم الرابع: يجب الدفاع عنهم، فمن قصدهم بأذى يجب أن ندافع عنهم، بل ذكر ابن حزم رحمه الله بأن ندافع عنهم حتى ولو حصل الموت صوناً لذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً الحكم الخامس: عصمة ذراريهم ونسائهم.
يمتهنون عند أخذها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]. فعند أخذ الجزية منهم يمتهنون، وكيف يمتهنون؟ قال المؤلف رحمه الله: (يطال وقوفهم)، يعني: لا تؤخذ منهم مباشرة، بل يطال وقوفهم، وتجر أيديهم، والمعنى: أن المسلم لا يمد يده لكي يأخذ الجزية، وإنما هو الذي يمد يده لكي يعطي الجزية، ودليل ذلك ما سلف قول الله عز وجل: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].
وأيضاً قال العلماء رحمهم الله: لا يقبل أن يرسلها بل لا بد أن يأتي بها بنفسه.
وقال الشافعي رحمه الله: بأن الصغار هو أن يلتزم حكم الإسلام، فإذا التزم حكم الإسلام فإن هذا هو الصغار.
وقال بعض العلماء: بأن قوله تعالى: (عن يد) يعني: عن ذل واعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم.
وقال بعض العلماء: بأن قوله: (عن يد) يعني: نقداً وليس نسيئةً.. إلى آخره، المهم أنه مثل هذه المسائل راجعة إلى ما تقتضيه الحال.
نحن تقدم لنا ما يترتب على عقد الذمة وهي خمسة أمور هذه لهم.
أيضاً هنا بقيت الأحكام المترتبة على عقد الذمة وهي عليهم.
قال: (في النفس والمال والعرض).
هذه الأحكام المترتبة على عقد الذمة التي تكون عليهم:
الحكم الأول: أن الإمام يأخذهم بحكم الإسلام في ضمان النفس، وعلى هذا إذا قتلوا نفساً فإنهم يقتلون، ويدل لذلك حديث أنس (في قصة الجارية التي قتلها يهودي فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ورض رأسه بين حجرين)، كما أنه رض رأس هذه الجارية بين حجرين.
والنفس سواء كان النفس أو ما دون النفس، يعني: في النفس أو ما دون النفس، إذا قتلوا نفساً فإنهم يقتلون، أو قطعوا طرفاً فإنه يقطع منهم هذا الطرف.
والمال أيضاً هذا هو الحكم الثاني: يلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام بالمال، فإذا أتلفوا مالاً فإنهم يضمنون هذا المال.
قال: والعرض، هذا الحكم الثالث: إذا قذفوا شخصاً فإنهم يجلدون، أو سبوا شخصاً فإنهم يعزرون، المهم يقام عليهم ما يقام على المسلم.
قال رحمه الله: (وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه).
الحكم الرابع: إقامة الحدود، كحد الزنا، ولهذا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين، والسرقة؛ لأنهم يعتقدون تحريم السرقة، والقذف كما تقدم لنا، وحد الحرابة، وسيأتي -إن شاء الله- أن ذلك مما ينقض به عهده، المهم أنه يقام عليه كما يقام على المسلم دون ما يعتقدون حله كالخمر، الخمر يعتقدون حله وإلا هو ليس حلالاً في شرائعهم؛ لأن الخمر محرم حتى في شرائعهم، لكنهم يستحلونه، فإذا شربوا الخمر فإنه لا يقام عليهم ما يقام على المسلم من الجلد.
هذا الحكم الخامس، الحكم الخامس: يجب عليهم أن يتميزوا عن المسلمين في الحياة وفي الممات، في الممات تكون مقابرهم غير مقابر المسلمين، وأما في الحياة فإنه لا بد لهم أن يتميزوا بما يميزهم عن المسلمين في اللباس أو نحو ذلك، وهذا راجع إلى ما تقتضيه الحال في الزمان والمكان، وهذا بالاتفاق، فإن ابن حزم -رحمه الله- قد نقل الاتفاق على ذلك، وأنه يجب عليهم أن يتميزوا عن المسلمين، وألا يتشبهوا بالمسلمين.
قال رحمه الله: (ولهم ركوب غير الخيل بغير سرج بإكاف).
هذا الحكم السادس، وهو أنهم لا يركبون الخيل، وإنما يركبون الحمير، قال المؤلف رحمه الله تعالى: (يركبون الحمير بإكاف) يعني: بالبرذعة، والبرذعة حلس يجعل تحت الرحل، حلس هو بمنزلة السرج للفرس، يجعل على الحمار، فيقول المؤلف رحمه الله: يركبون الحمير ويجعلون عليها البراذع فهذا لا بأس، وهذا قد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه، وهذا الأثر الوارد عن عمر رضي الله تعالى عنه أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وأبو عبيد في كتابه الأموال وهو ضعيف ليس ثابتاً.
قال رحمه الله: (ولا يجوز تصديرهم في المجالس).
هذا الحكم السابع: أنهم لا يصدرون في المجالس، ويدل لذلك حديث أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، بمعنى: أنك إذا لقيته في الطريق لا تفسح له في الطريق، وليس المعنى أنك تضايقه لا ولكن تمشي أنت في طريقك حتى يضطر هو إلى جوانب الطريق، فإذا كان لا يصدر في الطريق فكذلك أيضاً لا يصدر في المجلس؛ لأن المجلس أعظم.
قال رحمه الله: (ولا القيام لهم).
أيضاً إذا دخلوا لا تقوم لهم، ودليل ذلك ما تقدم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه)، فإذا كان لا يفسح لهم في الطريق فكذلك أيضاً لا يقام لهم بالقياس؛ لأن في كل إكراماً لهم.
لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام)؛ لأن السلام دعاء لهم بالسلامة، وأما بداءتهم بقول: كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ كيف حالك؟ أو مرحباً، أو أهلاً، ونحو ذلك من هذه العبارات فهذه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لا بأس بذلك، أن يقول: كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ كيف حالك؟ أهلاً وسهلاً؛ لأن هناك فرقاً بين السلام وبين غيره من عبارات الترحيب، السلام دعاء له بالسلامة بخلاف كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟.. إلى آخره، وإذا سلموا هل يرد عليهم السلام أو لا يرد عليهم السلام؟
نقول: هذا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يسلموا سلاماً ملحوناً كما كان اليهود يفعلون، حيث كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليك، يعني الموت، (فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وعليكم)، فإذا سلموا سلاماً ملحوناً فإنه يقال: وعليكم.
القسم الثاني: أن يسلموا سلاماً غير ملحون، ذكر ابن القيم رحمه الله أنهم إذا قالوا: السلام عليكم فإننا نقول: وعليكم السلام؛ لأن هذا من قبيل المكافأة والعدل، والله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإحسان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90].
أما ما يتعلق بتهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم هذه واضح الكلام بين العلماء رحمهم الله تعالى فيه، والخلاصة في ذلك أن نقول: أما بالنسبة للتهنئة فالتهنئة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التهنئة فيما يتعلق بالأمور الدينية، فهذا محرم ولا يجوز، بل يخشى على صاحبه كما ذكر ابن القيم رحمه الله من الكفر؛ لأن هذا رضاً بالكفر.
إذاً: ما يتعلق بالشعائر الدينية كأعياد المولد ونحو ذلك فنقول: لا يجوز لك أن تهنئهم في ذلك، هذا حرام ولا يجوز.
القسم الثاني: ما يتعلق بالأمور الدنيوية كما لو ربح في تجارة، أو ترقى في وظيفة، أو ولد له ولد، أو قدم له غائب، أو حصل له زواج، فهل تهنئهم بذلك أو لا تهنئهم؟ هذا موضع خلاف، والصواب في ذلك أنه تصح تهنئتهم في حالتين:
الحالة الأولى: إذا كان يترتب على ذلك مصلحة من تأليفهم على الإسلام ودعوتهم إليه.
والحالة الثانية: إذا كان ذلك من قبيل المكافئة، كما لو كانوا يهنئون المسلمين فنقول: بأنه يهنئه، ففي هاتين الحالتين يجوز، ويدل لذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم زار الغلام اليهودي الذي كان يخدمه)، هذا كله من قبيل المكافئة والتأليف على الإسلام.
أيضاً ما يتعلق بتعزيتهم وعيادة مريضهم هل يعاد مريضهم أو لا يعاد؟ قلنا: إن كان هناك مصلحة أو كان من قبيل المكافئة جاز.
كذلك أيضاً ما يتعلق بتعزيتهم أي: بتسليتهم عند حضور المصاب، نقول: يجوز إذا كان هناك مصلحة أو كان ذلك من قبيل المكافئة.
هذا الحكم التاسع أو العاشر، يمنعون من إحداث الكنائس، والكنيسة هي متعبد اليهود، والبيعة هي متعبد النصارى، وقيل: بأن الكنيسة هي أيضاً متعبد النصارى، فأهل العلم لهم في ذلك قولان:
القول الأول: أن الكنيسة هي متعبد اليهود، والبيعة هي متعبد النصارى.
القول الثاني: الكنيسة لليهود والنصارى معاً.
المهم أن الكنائس والبيع يمنعون من إحداثها في ديار المسلمين؛ لأن هذه الكنائس والبيع تبنى للكفر بالله عز وجل وللشرك وعدم التوحيد، والله سبحانه وتعالى قال في مسجد الضرار: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108]، والنبي صلى الله عليه وسلم حرق مسجد الضرار وهدمه، فهذه تبنى للكفر بالله.
قال رحمه الله: (ومن بناء ما انهدم منها ولو ظلماً).
ما انهدم من كنائس اليهود ومن بيعهم ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون ذلك بلا ظلم، فهل يمنعون من إعادتها أو لا يمنعون؟
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأنهم يمنعون.
والقسم الثاني: أن تهدم ظلماً، فالمشهور من المذهب أنهم يمنعون حتى ولو هدمت ظلماً.
والرأي الثاني: إذا كانت قد انهدمت ظلماً فلا يمنعون من إعادتها؛ لأن العدل واجب، والظلم لا يقره الله عز وجل حتى ولو كان على كافر.
قال رحمه الله: (ومن تعلية بنيان على مسلم).
حتى لو رضي المسلم يمنعون أن يعلو بنيانه على بنيانهم، ويؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله، أنه إذا ساوى بنيانه بنيان المسلم فلا بأس به، والعلة في ذلك أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.
قال: (لا من مساواته له).
هذا كله بالاتفاق، يمنعون من إظهار الخمر، وهذا الحكم هو الحادي عشر أو الثاني عشر مما يلزمهم، يمنعون من إظهار الخمر، ومن الخنزير، ومن الناقوس، ومن الجهر بكتابهم، يعني: إذا شربوا الخمر يشربونه سراً، وكذلك الخنزير لو أكلوه، وعبادتهم إذا تعبدوا فإنهم يمنعون من إظهار هذه الأشياء، وهذا كله بالاتفاق كما ذكره ابن حزم رحمه الله تعالى.
أيضاً من الأحكام دخول الكافر إلى المسجد، هل يجوز للذمي أن يدخل المسجد أو ليس له أن يدخل؟
المشهور من المذهب أنه ليس له أن يدخل المسجد حتى ولو أذن له المسلم.
والرأي الثاني: وهو رأي أبي حنيفة والشافعي : أن له أن يدخل، والصواب في ذلك: أن له أن يدخل عند المصلحة.
كذلك أيضاً من الأحكام إذا اتجروا إلينا يؤخذ نصف العشر من تجارة الذمي؛ لورود ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه كما في الأموال لـأبي عبيد ، وإسناده صحيح ثابت عن عمر رضي الله تعالى عنه.
هذا المذهب، لو أن يهودياً تنصر، أو أن نصرانياً تهود يقول المؤلف رحمه الله: (لم يقر على ذلك)، فيقال له: إما أن ترجع إلى دينك، وإما أن تدخل في الإسلام وهذه من الأحكام المترتبة على عقد الذمي أنه لو خالف دينه لم يقر.
والرأي الثاني: أنه لا يقبل منه إلا الإسلام؛ لأنه لما خرج من دينه اعترف بأن دينه غير صحيح.
ذكر المؤلف -رحمه الله- في هذا الفصل ما يتعلق بالأشياء التي تنقض عقد الذمة، وذكر أمثلة، والخلاصة في ذلك: نقول: الذي ينقض عقد الذمة شيئان:
الشيء الأول: الإخلال بشرط من شروط عقد الذمة.
الشيء الثاني: أن يحدث حدثاً في الدين أو الدنيا.
هذان ضابطان، إذا حصل شيء من ذلك فنقول: ذمته انتقضت، وإذا انتقضت ذمته يكون كالحربي حلال الدم والمال دون نسائه وذريته ممن لم ينقضوا العهد، والإمام مخير فيه بين القتل، أو أن يضرب عليه الرق، أو المن مجاناً، وأما الأموال فتكون فيئاً؛ لأنه أخذ من مال الكفار بلا قتال.
قال رحمه الله: (فإن أبى بذل الجزية).
هذا إخلال بشرط من شروط عقد الذمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] .
قال: (أو يلتزم حكم الإسلام).
كما تقدم يجب عليه أن يلتزم أحكام الإسلام في ضمان النفس والمال والعرض، وإقامة الحدود فيما يعتقدون تحريمه لا فيما يعتقدون حله، فإذا لم يلتزم أحكام الإسلام انتقض عهده.
قال: (أو تعدى على مسلم بقتل أو زنا).
هذا إحداث في الدنيا، إذا تعدى على مسلم بقتل أو زنا انتقض عهده، كله من الإحداث.
قال: (أو قطع طريق).
قطع الطريق أصبح محارباً، فهذا محدث في الدنيا.
قال: (أو تجسس أو إيواء جاسوس).
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الجاسوس كما تقدم لنا في الصحيحين.
قال: (أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء).
يعني: سب الله، أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سب القرآن، فإنه ينتقض عهده، وهذا إحداث في الدين.
قال: (دون نسائه وأولاده وحل دمه وماله).
أما بالنسبة لنسائه وكذلك أيضاً بالنسبة لأولاده فإن عهدهم لا ينتقض.
الهدنة في اللغة: السكون.
وأما في الاصطلاح: فهي معاقدة الإمام الكفار على ترك القتال مدةً معلومة ولو طالت.
والأمان في اللغة: الطمأنينة.
وأما في الاصطلاح: فالأمان هو رفع استباحة دم الحربي أو ماله.
الهدنة ما دليلها؟ دليلها أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً على ترك القتال.
الأمان ما دليله؟ دليله قول الله عز وجل: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6].
ومن السنة (قول النبي صلى الله عليه وسلم: أجرنا من أجرت يا
الفرق بين الأمان وبين الهدنة، أن الهدنة تكون من الإمام، وأما بالنسبة للأمان فإن الأمان يكون من جميع المسلمين، أنت لك أن تؤمن أي كافر.
الفرق الثاني: أن الهدنة تكون مع جميع الكفار، أما الأمان فإنه يكون مع أفراد الكفار أو طائفة منهم.
الفرق الثالث: العلماء يقولون: بأن الأمان مقيد لعشر سنوات فأقل، أما الهدنة فيقول المؤلف: (حتى ولو طالت)، بشرط أن تكون مدةً معلومة، أي ترك القتال مدة معلومة.
والأمان يشترط له شروط، يعني المؤمن يشترط أن يكون بالغاً، عاقلاً، سواء كان ذكراً أو أنثى، وهل تشترط الحرية؟ موضع خلاف، والصحيح أنها لا يشترط، ويشترط عدم الضرر على المسلمين.
الهدنة هل تكون عقداً مؤبداً أو لا؟
العلماء يقولون: بأن الهدنة لا تكون عقداً مؤبداً، صحيح أنها تكون طويلة حسب ما يراه الإمام من المصلحة لكن لا تكون عقداً مؤبداً؛ لأن يؤدي ذلك إلى إبطال الجهاد، بخلاف عقد الذمة، عقد الذمة يكون عقداً مؤبداً؛ لأن عقد الذمة يكون مع طوائف من أهل الكتاب أو من الكفار، وسبق أن ذكرنا أيضاً فروقاً بين عقد الذمة والأمان والهدنة.
بقينا في مسألة أخيرة وهي أن العهد مع الكفار لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يستقيموا في عهدهم، فهذا يجب علينا أن نستقيم كما قال الله عز وجل: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة:7] .
الحالة الثانية: أن ينكثوا وأن ينقضوا العهد، فهنا للإمام أن ينقض عهده معهم، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ [التوبة:12] .
الحالة الثالثة: ألا يظهر منهم نقض العهد، لكن يخشى أن ينقض العهد، يعني إذا قامت الأمارات فهنا ينبذ إليهم عهدهم إلى مدتهم ما دام خشي الخيانة منهم، ويخبرهم أنه لا عهد بينه وبينهم، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58].
بهذا نكون قد انتهينا -الحمد لله- من العبادات، وإن شاء الله نشرع في المعاملات، ونسأل الله عز وجل التوفيق والسداد إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
هذه الأسئلة من الخارج:
الجواب: نقول: النصيحة في هذا بينها النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا قاعدة عند حصول الوساوس وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينته وليستعذ بالله)، فالإنسان إذا انتهى من هذه الوساوس وقطع هذه الوساوس -بإذن الله- يعينه الله عز وجل، فعليه أن ينتهي ويستعذ بالله، (لينته وليستعذ بالله)، فمثلاً إذا كنت تشك أنك ما بالغت أو ما تمضمضت أو ما استنشقت أو نحو ذلك اقطع عن وساوسك، ولا تنظر ولا تلتفت، وعليك بالاستعاذة والدعاء بإذن الله يعينك الله عز وجل.
الجواب: نعم نقول: نصيحتنا لك: أنك تفرغ شيئاً من الوقت ما دمت قدمت إلى هذا البلد تفرغ شيئاً من وقتك لحضور الدروس، الحمد لله الدروس والدورات موجودة، لكن الإنسان عليه أن يرتب وقته، ويخلص النية، ويعينه الله عز وجل.
الجواب: الذي يظهر -والله أعلم- أن هذه الأرض ليس فيها زكاة، لكن إذا اقتسمتم هذه الأرض ونوى الإنسان أن يبيع إذا حال عليها الحول زكى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر