الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! انتهينا من مبحث الحساب ووصلنا إلى المناسخات، فنقرأ الأبيات على وجه السرعة، وما يحتاج إلى بيان معناه أبينه؛ لأن الشرح قد تقدم معنا مفصلاً, ثم ندخل في المناسخات إن شاء الله.
قال الإمام الرحبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: باب الحساب.
وإن ترد معرفة الحساب لتهتدي به إلى الصواب
وتعرف القسمة والتفصيلا وتعلم التصحيح والتأصيلا
تقدم معنا معنى التصحيح ومعنى التأصيل, أما التأصيل فقلنا: إخراج أقل عدد يخرج منه فرض المسألة أو فروضها.
وأما التصحيح: فهو استخراج أقل عدد يستخرج منه نصيب كل وارث.
القسمة: أي القسمة الصحيحة أيضاً بلا كسر.
فاستخرج الأصول في المسائل ولا تكن عن حفظها بذاهل
كم عدد الأصول؟ قول الجمهور: إنها سبعة أصول.
فإنهن سبعة أصول ثلاثة منهن قد تعول
وهي أصل ستة, وأصل اثني عشر, وأصل أربع وعشرون.
وبعدها أربعة تمام لا عول يعروها ولا انثلام
فالسدس من ستة أسهم يرى
يعني: لو كان عندنا سدس فأصل المسألة من ستة.
والثلث والربع من اثني عشراً
إذا كان عندنا ثلث وربع فبينهما مباينة فنضرب ثلاثة في أربعة باثني عشر.
والثمن إن ضم إليه السدس
صار بينهما الآن موافقة في النصف.
فأصله الصادق فيه الحدس
الحدس هو: الظن والتخمين والتوهم في الشيء، لكن هنا ظنٌ صادق, كأنه يقول: فأصله الذي هو ثابت وليس بظن يحتمل الصدق والكذب والصواب والخطأ, بل هو ظن صادق, وهو أربع وعشرون.
فأصله الصادق فيه الحدس
أربعة يتبعها عشرونا يعرفها الحساب أجمعونا
فهذه الثلاثة الأصول
أي: ستة .. اثنا عشر .. أربع وعشرون.
إن كثرت فروضها تعول
فتبلغ الستة عقد العشرة
تعول إلى عشرة شفعاً ووتراً.
في صورة معروفة مشتهرة
وتلحق التي تليها بالأثر
وهي أصل اثنا عشر.
في العول إفراداً إلى سبع عشر
أي: إلى ثلاثة عشر, وخمسة عشر, وسبعة عشر.
والعدد الثالث قد يعول
وهو أربع وعشرون.
بثمنه فاعمل بما أقول
يعني: إلى سبعة وعشرين, عولاً واحداً.
جاء للأصول التي لا تعول بعد ذلك, فقال:
والنصف والباقي أو النصفان
إذا كانت المسألة فيها نصف وعصبة، أو نصفان كزوج زوج وأخت شقيقة.
أصلهما في حكمهم اثنان
أي: تكون المسألة من اثنين.
والنصف والباقي أو النصفان أصلهما في حكمهم اثنان
والثلث من ثلاثة يكون والربع من أربعة مسنون
والثمن إن كان فمن ثمانية فهذه هي الأصول الثانية
وهي أربعة أصول.
لا يدخل العول عليها فاعلم ثم اسلك التصحيح فيها واقسم
وإن تكن من أصلها تصح
أي: لا تحتاج إلى تصحيح.
فترك تطويل الحساب ربح
فأعط كلاً سهمه من أصلها مكملاً أو عائلاً من عولها
باب السهام:
وإن ترى السهام ليست تنقسم على ذوي الميراث فاتبع ما رسم
واطلب طريق الاختصار في العمل بالوفق والضرب يجانبك الزلل
قد تقدم معنا أنه إذا لم تنقسم السهام على الرءوس فإما أن توافق أو تباين، ففي حال الموافقة نأخذ وفق الرءوس -لا وفق السهام- وفي حال المباينة نضرب كامل عدد الرءوس في أصل المسألة أو في مبلغ عولها، ولذلك يقول:
واطلب طريق الاختصار في العمل بالوفق والضرب يجانبك الزلل
واردد إلى الوفق الذي يوافق واضربه في الأصل فأنت الحاذق
إن كان جنساً واحداً أو أكثرا فاتبع سبيل الحق واطرح المرا
وإن ترى الكسر على أجناس
عندنا الآن عدد من السهام منكسرة على عدد من الرءوس، فليس هناك كسر واحد, فيقول:
وإن تر الكسر على أجناس فإنها في الحكم عند الناس
تحصر في أربعة أقسام يعرفها الماهر في الأحكام
وهي مماثل، وقلنا: هما العددان المتساويان المتماثلان:
مماثل من بعده مناسب
والمناسب هو المتداخل, وقلنا: الأصل أنه داخل في الأكبر، والأكبر ينقسم على الأصغر قسمة صحيحة بلا كسر، فهما متداخلان, ويقال لهما: متناسبان.
مماثل من بعده مناسب وبعده موافق مصاحب
والرابع المباين المخالف ينبيك عن تفصيلهن العارف
إذاً: مماثلة .. مداخلة .. موافقة .. مباينة.
فخذ من المماثلين واحداً
إذا كانت هذه الرءوس الآن التي صار بينها انكسارات, إذا كانت متماثلة, أخذنا أحدهما واكتفينا به.
سهام ما انقسمت على الرءوس, بل انكسرت أكثر من انكسار, فننظر بينها كما تقدم معنا, فهذه المثبتة بالنسب الأربع:
فخذ من المماثلين واحداً وخذ من المناسبين الزائدا
الأكبر هو الأكبر.
واضرب جميع الوفق في الموافق واسلك بذاك أنهج الطرائق
وخذ جميع العدد المباين واضربه في الثاني ولا تداهن
أي: إذا كانت العلاقة هي المباينة فلا بد من ضرب العددين في بعضهما.
قلنا: عندنا نظرتان إذا كان الانكسار على أكثر من فريق:
النظرة الأولى: بين السهام والرءوس.
الأمر الثاني: النظر بينها بالنسب الأربع.
فحاصل النظر قلنا: نسميه جزءاً يوضع فوق أصلها أو عولها ويضرب فيها؛ لتخرج معنا جامعة التصحيح.
فذاك جزء السهم فاحفظنه
قلنا: الجزء بمعنى: الحظ، والسهم قلنا: أي: كل سهم في المسألة ينبغي أن يضرب في هذا العدد الذي أخرجناه بعد أن ضربنا فيه أصل المسألة أو مبلغ عولها.
فذاك جزء السهم فاحفظنه واحذر هديت أن تزيغ عنه
انتبه! هذا ينبغي أن تضربه في كل سهم، كل ما للورثة من سهام يضرب في جزء السهم.
واضربه في الأصل الذي تأصلا وأحص ما انضم وما تحصلا
واقسمه فالقسم إذا صحيح يعرفه الأعجم والفصيح
فهذه من الحساب جمل يأتي على مثالهن العمل
من غير تطويل ولا اعتساف فاقنع بما بين فهو كاف
ومعنى النسخ في اللغة: يأتي لثلاثة معانٍ:
أولها: بمعنى التحويل والنقل، ومنه: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى مكان آخر, ومنه: نسخت الخلية, إذا حولت عسلها ونحلها إلى مكان آخر.
والمعنى الثاني: يأتي بمعنى التغيير والتبديل، ومنه: نسخت الريح آثار الديار, غيرتها .. بدلتها.
ويأتي بمعنى: المحو والإزالة، ومنه: نسخت الشمس الظل, بمعنى: محته .. أزالته, ما بقي هناك ظل عندما جاءت الشمس.
إذاً: هذه ثلاثة معانٍ للنسخ في اللغة، كما قلت: التحويل والنقل .. التغيير والتبديل .. المحو والإزالة.
وأما في الشرع فالنسخ في الأحكام الشرعية له معنى, وفي الفرائض له معنى.
أما النسخ في الأحكام الشرعية فهو: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر بدليل متراخٍ.
أي: أن يرفع حكماً شرعياً متقدماً بحكم شرعيٍ متأخر؛ لكن دليل النسخ متراخٍ؛ لأنه لو كان متصلاً به يعتبر من باب الاستثناء, أي من باب التخصيص، ينبغي أن يكون الدليل متراخياً عن دليل النسخ.
والنسخ مهم جداً في علوم الشريعة، ومن لم يتقن الناسخ والمنسوخ لا يجوز أن يفتي, ولا أن يعظ, ولا أن يدرس.
وقد ثبت في كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للإمام الحازمي في مقدمته (ص:6)، والأثر رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى (10/117) عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه أنه دخل مسجد الكوفة وقاص يقص, يعني: ويعظ يحدث، فدعاه وقال له: أتعرف ناسخ الحديث من منسوخه؟ قال: لا، قال: ابن من أنت؟ ومن أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان، قال: أنت ابن اعرفوني, تريد أن تقول للناس: اعرفوني اعرفوني, اخرج من مسجدنا ولا تحدث به. ويحك! هلكت وأهلكت.
وهذا الأثر رواه أيضاً الإمام الحازمي عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين (ص:7) وليس هو في سنن البيهقي .
وكان الإمام الشافعي عليه رحمة الله كما قرر أئمتنا في مناقبه وفي مبحث النسخ من كتب المصطلح؛ كان أعلم أهل زمانه بالناسخ والمنسوخ من الحديث، وهو أول من ألف فيما يتعلق بهذا الفن, عندما ألف كتاب اختلاف الحديث. فالإمام الشافعي هو أول من نوه بهذا العلم، فالأحاديث المختلفة إما أن يكون بعضها ناسخاً وبعضها منسوخاً، وإما عن طريق الجمع، وإما عن طريق الترجيح، ولذلك أول ما نلجأ إليه الجمع، ثم النسخ، ثم الترجيح كما في كتاب اختلاف الحديث, وأول من ألف في ذلك الإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
وفي كتابه الأم وفي الرسالة تعرض لهذا المبحث بكثرة، ولذلك كان الإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول: ما عرفنا ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا هذا الفتى من قريش.
وأئمتنا أشاروا إلى هذا في كتب المصطلح, قال الإمام العراقي زين الدين عبد الرحيم الأثري في ألفيته:
والنسخ رفع الشارع السابق من أحكامه بلاحق وهو قمن
قمن: جدير وحقيق أن يعتنى به.
والنسخ رفع الشارع السابق من أحكامه بلاحق وهو قمن
أن يعتنى به وكان الشافعي ذا علمه ثم بنص الشارع
يعني: تذكروا الآن طرق النسخ, أولها بنص الشارع, بأن ينص على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ. وهذا أقوى طرق النسخ, مثل: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ),
فهذا الطريق الأول.
أو صاحب أو عرف التاريخ أو أجمع تركاً بان نسخ ورأوا
دلالة الإجماع لا النسخ به كالقتل في رابعة بشربه
وهذه طرق النسخ: النص, ثم قول الصحابي: هذا ناسخ وهذا منسوخ، أو: هذا في بداية الأمر وهذا في آخر الأمر.
والثالث: عن طريق معرفة التاريخ, تبين لنا أن هذا كان في مكة وذاك في المدينة، هذا في العام الثالث وذاك في العام السابع، فعند التعارض الذي في العام الثالث ينسخ بالذي حصل في العام السابع مثلاً.
وآخر الأمور: الإجماع على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ، كما أجمعوا على أن شارب الخمر لا يقتل في الخمر, مع أن الحديث صحيح به, كما رواه الإمام الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال: لم يعمل به المسلمون، ( فإن عاد الرابعة فاقتلوه ). وهذا لا ينسخ, إنما يكشف عن دليل ناسخ، ولذلك قال: (أو أجمع تركاً بان نسخ)، يعني: الإجماع يبين أنه هنا نسخ، وليس هو الذي ينسخ.
دلالة الإجماع لا النسخ به كالقتل في رابعة بشربه
إذاً: هذا العلم له شأن عظيم جليل كما قلت, ويوجد كتب كثيرة في الناسخ والمنسوخ, منها كتاب الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للإمام الحازمي , وهو من علماء القرن السادس للهجرة, توفي سنة خمسمائة وكسور, وهو من أئمة الحديث والعلماء الصالحين الربانيين, ولعله أوسع ما كتب في ذلك.
نعم يوجد للإمام ابن الجوزي أيضاً الناسخ والمنسوخ من الحديث, غير الناسخ والمنسوخ من القرآن له أيضاً.
قال في العذب الفائض (1/198): أعمال المناسخة من أرفع أبواب الفرائض قدراً، وأشهرها بين الأنام ذكراً، وأغمضها مسلكاً، وأدقها سراً، فوجب صرف الهمة لفتح مغلقها، وإيضاح مشكلاتها, وإمعان النظر في تهذيب طرقها, وحل معضلاتها.
إذاً: تعريف النسخ في الأحكام الشرعية، وثانياً: تعريف النسخ في الفرائض. ما معنى المناسخات في الفرائض؟
المناسخات في الاصطلاح: أن يموت ميت وقبل قسمة التركة يموت بعض ورثته, واحد أو أكثر.
مات ميت قبل أن تقسم تركته ومات بعض ورثته, واحد .. اثنان .. ثلاثة .. أكثر من الذين يرثونه, فالآن تحتاج أن تقسم الورثة على من يرثه في أول الأمر، ثم على من ورث من ورثه، وعلى من ورث من ورثهم, على حسب تعدد الموتى بعد الميت الأول.
وهذه المناسخات في الاصطلاح الفرضي هي المعنى اللغوي, أي أنه تقدم معنا أن النسخ في اللغة بمعنى: التحويل والنقل، والمناسخات في الفرائض بمعنى التحويل والنقل؛ لأننا نقلنا نصيب هذا الوارث الميت إلى ورثته، فحصل معنى التحويل والنقل من وارث إلى وارث في المناسخات، وفيها معنى التغيير والتبديل، فالفريضة الأولى تغيرت, كان سيوزع الميراث فيها مثلاً على أربعة من الورثة، مات أحدهم وترك أيضاً ستة من الورثة، فستتغير الفريضة, ستقسم على هؤلاء وعلى أولئك، فحصل فيها تغيير وحصل فيها تبديل، وحصل فيها محو وإزالة؛ لأن الفريضة الأولى كلها ستمحى وتزال وتنسخ وتغير بالفريضة الثانية عند حصول الميت الثاني والثالث والرابع؛ لذلك فجامعة المناسخة هي التي ستعتبر العمدة في توزيع التركة.
فإذاً: حصل المعنى اللغوي في المعنى الاصطلاحي، حيث حصل التحويل والنقل، والتغيير والتبديل, والمحو والإزالة.
للمناسخات ثلاثة أحوال:
مثاله: مات ميت وترك ورثة، ثم مات بعض ورثته, فورثه بقية الورثة الذين ورثوا معه الميت الأول، ورثوه كما ورثوا ذلك, فإرثهم ما تغير.
كما لو مات إنسان عن عشرة إخوة أشقاء يرثونه عن طريق التعصيب, فمات واحد وثان وثالث ورابع وخامس منهم, فبقي خمسة, وإرثهم من الميت الأول والثاني والخمسة كإرثهم من الأول ومن بعده على وجه واحد وعلى حد سواء، هذه يقال لها: مناسخة من الحالة الأولى .. من الحال الأول .. من الدرجة الأولى.
إذاً: أن يكون ورثة الميت الثاني فمن بعده هم ورثة الميت الأول, أي: هم بقية ورثة الميت الأول, وإرثهم من الثاني فمن بعده كإرثهم من الأول.
الميت الأول له ورثة, مات واحد منهم هذا الواحد له ورثة, لا يرثه إلا ورثته هؤلاء, الذين ورثوا معه الميت الأول لا يرث واحد منهم من الميت الثاني.
إذاً: هذا الميت الثاني عندما مات أو الثالث له ورثة جدد, فكل ميت يرثه ورثة جدد لا يرثون غيره، فهؤلاء الذين ورثوا الأول لا يرثون من الثاني ولا من الثالث ولا من الرابع، وكلما مات ميت كان له ورثة مستقلون جدد, لا يشاركهم غيرهم في الميراث.
إذاً: أخرجناها عن الحالة الأولى بأحد هذين القيدين, ولا يشترط وجودهما: أن يكون ورثة الميت الثاني فمن بعده هم بقية ورثة الميت الأول, لكن اختلف إرثهم, كانوا يرثون من الأول عن طريق التعصيب مثلاً, فورثوا من الثاني عن طريق الفرض, أو ورث معهم غيرهم, متى ما ورث واحد آخر معهم بعد ذلك صارت من الدرجة الثالثة.
إذاً: هذه باختصار أحوال المناسخة, التي لا تخرج عنها المناسخات.
الحالة الأولى: ورثة الثاني فمن بعده هم بقية ورثة الميت الأول, وإرثهم من الثاني فمن بعده كإرثهم من الميت الأول. وهذه أسهل أحوال المناسخات، ولا تحتاج إلى جوامع, إنما جامعة واحدة, واختصار قبل العمل كما سيأتينا.
الحالة الثانية: ورثة كل ميت لا يرثون غيره، وعليه فورثة الثاني فمن بعده لا يدخل فيهم واحد من ورثة الميت الأول.
الحالة الثالثة: ورثة الثاني فمن بعده هم بقية ورثة الميت الأول، لكن اختلف إرثهم من الميت الثاني والثالث عن ميراثهم من الأول، أو ورث معهم غيرهم.
الحالة الأولى أيسرها وأسهلها لا تحتاج إلى حتى جامعة ولا إلى شيء، وكل من مات تنسخه, وتعتبر من بقي كأن الميت الأول مات وتركهم. وهذه أسهل الحلول.
الحالة الثانية: نخرج جامعة واحدة.
الحالة الثالثة: بعد كل ميت سنخرج جامعة، فلو كان عندك خمسة أموات ستخرج أربع جامعات، الأصل الأول الذي أخرجناه, ثم في الميت الثاني جامعة، ثم في الميت الثالث جامعة، ثم للميت الرابع جامعة، ثم الميت الخامس جامعة, وهكذا، كل ميت بعد ذلك له جامعة, لا يمكن إلا أن تتعدد معك الجوامع إلى أن تصل إلى الجامعة الأخيرة. هذه في الحالة الثالثة, وهي أصعبها.
والثانية: يسيرة؛ لأنك ستخرج جامعة واحدة، لكنها دقيقة كما سيأتينا في كيفية استخراجها, وقد يزل طالب العلم فيها.
أما الأولى فهي السهلة, وهي التي سنتدارسها في هذه المحاضرة إن شاء الله، والثانية والثالثة فيما يأتي.
أولها: أن يكون إرث الباقين من كل الأموات بالعصوبة، يعني: ورثوا من الميت الأول فمن بعده عن طريق التعصيب فقط.
قولنا: أن يكون إرث الباقين من كل الأموات بالعصوبة، فمن هم الباقون؟ يعني: من الذي بقي بعد الميت الأول والثاني والثالث؟ الذين بقوا ورثوا من الأول والثاني والثالث بالتعصيب, يعني: كما لو مات عن عشرة إخوة أشقاء تعاقبوا موتاً إلى ثلاثة، هؤلاء الثلاثة ورثوا من جميع الأموات عن طريق التعصيب, فإذاً: إرث الباقين - أي: من الأحياء .. من الورثة, من ورثة الميت الأول -وهم من بقي, فإرث الباقين من الجميع بالتعصيب, يعني: ورثوا من مورثهم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس إلى ما شئت, ورثوا من هؤلاء جميعاً عن طريق التعصيب. هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أن يكون إرث الباقين -أي: من ورثة الميت الأول- من كل الأموات بالفرض.
هناك بالعصوبة, وهنا بالفرض.
الحالة الثالثة: أن يكون إرث الباقين من كل الأموات بهما, يعني: بالفرض وبالتعصيب. والإرث لا يخرج عن هذين كما تقدم معنا.
واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما
فإذاً: هؤلاء الورثة الذين بقوا بعد تعدد الأموات من المورث الأول فمن بعده إما أن يرثوا بالعصوبة من الجميع، أو بالفرض من الجميع، أو بالعصوبة والفرض من الجميع.
الحالة الأولى: وهي الإرث بالعصوبة, مثالها:
لو مات ميت وخلف عشرة إخوة أشقاء وعشر أخوات شقيقات، فتعاقب هؤلاء العشرون موتاً, بحيث لم يبق منهم إلا أخ وأخت.
هذه لا تحتاج أن تعمل لها مسألة.
إذاً: نعتبر الميت الأول كأنه مات وترك أخاً وأختاً فقط. وهذا الذي نسميه اختصاراً قبل العمل، ما عملنا شيئاً الآن، لماذا؟ لأنك لو عملت مسائل وأخرجت جوامع ومسائل وجوامع فلن يكفي اللوح لكتابتها وستخرج في النهاية بهذا الحل، لأن الميت الثاني ورثوه كما ورثوا من الميت الأول، فعليه نصيب الميت الثاني من إرث الأول أخذه من بقي, كما أخذوا نصيبهم من إرث الميت الأول، ثم الميت الثالث كذلك, والرابع كذلك, والخامس كذلك؛ لأنه ما دخل معهم وارث آخر, ومتى ما دخل كل ميت - كما تقدم معنا- فله جامعة؛ لأنه لا يوجد وارث آخر، فهم ورثوا من الجميع عن طريق العصوبة، فاعتبر أن الميت الأول مات وترك هؤلاء, كأنه ما خلف إخوة ولا ماتوا. هذه ما أيسرها!
وهكذا لو قلت: مات وترك عشرة أبناء وعشر بنات, أيضاً يصح، لكن هنا اختلف الأمر. فانتبه! هنا كانوا يرثون عن طريق العصوبة لأنهم أبناء, ثم صاروا يرثون عن طريق العصوبة لأنهم إخوة, فلا يضر, لأن المقصود العصوبة، يعني: ليست نوع العصوبة واحدة, وهذا لا يضر.
يعني: عندما مات الأب، وترك عشرة أبناء وعشر بنات كلهم من أم واحدة، فماذا يقال لهم فيما بينهم؟ إخوة أشقاء, إذاً: ورثوا من أبيهم عن طريق العصوبة بالبنوة. ثم مات تعاقبوا موتاً بحيث لم يبق غير ابنين مثلاً، أو لم يبق إلا ابنان وبنت, المسألة من خمسة، للذكر مثل حظ الأنثيين، فكأن الأب مات وتركهم، وموت الإخوة بعد ذلك نلغيه، فهم ورثوا بالعصوبة من أبيهم ومن إخوتهم, كون العصوبة تغيرت لا يضر, لأنها لا زالت عصوبة؛ لكن هناك عصوبة بالبنوة, وهنا عصوبة بالإخوة, لا إشكال في ذلك!
هذه الصورة واضحة، إنما الذي سيدخل فيها أمران, وصورتان معتبرتان, ينبغي أن ينتبه لهما أهل النهى والأحلام.
الصورة الأولى: إذا كان في ورثة الميت الأول من هو صاحب فرض ولم يرث من غير المسألة الأولى, وبقية الورثة ورثوا بالتعصيب من الميت الأول فمن بعده, وإرثهم ما اختلف، فهي هي أيضاً تعتبر من الحالة الأولى مع أنه عندنا الآن معهم صاحب فرض، لكن صاحب الفرض ما ورث إلا من الميت الأول, ولم يرث من الثاني ولا الثالث ولا الرابع.
هذه لا زالت تعتبر ضمن الحالة الأولى من حالات المناسخة.
وهذه موجودة في العذب الفائض (1/187), كما لو مات عن زوجة وعشرة بنين كلهم من أم واحدة قد ماتت قبل ذلك, يعني: الموجودة ليست أماً لهم؛ لأنه لو كانت أماً لهم ومات بعض الأبناء سترث على أنها أم, فترث من الأول والثاني, فتدخل في الحالة الثالثة، لكن هنا له زوجة له منها عشرة أبناء, ماتت الزوجة فتزوج زوجة أخرى، ثم مات وزوجته الثانية ليس لها ولد، وترك عشرة أبناء من زوجته الميتة، فهم فيما بينهم إخوة أشقاء مع أنهم أبناء للميت، وزوجة أبيهم لا تقربهم فلا ترث منهم.
هنا الآن إذا مات بعد ذلك بعض الأبناء -افرض أنه مات خمسة من الأبناء وبقي خمسة- والزوجة لا زالت من الحالة الأولى، فماذا نعمل في المسألة؟
نقول: مات عن زوجة وخمسة أبناء, فللزوجة الثمن, والمسألة من ثمانية, للزوجة ثمنها واحد, بقي سبعة للأبناء لا تنقسم, فنضرب خمسة في ثمانية بأربعين, للزوجة واحد في خمسة بخمسة, وللأبناء سبعة في خمسة بخمسة وثلاثين. وذلك أن الإخوة ورثوا من إخوتهم عصوبة مثل إرثهم من أبيهم بنسبة واحدة, أما الزوجة فلا ترث من الأبناء, هي لها الثمن فقط من زوجها الذي هو والد هؤلاء الأبناء, وهم فيما بينهم إخوة أشقاء.
يعني: المسألة من ثمانية, هذه لها واحد، وهؤلاء لهم سبعة. هذه السبعة إن كانوا عشرة فسيأخذون السبعة، وإن كانوا ثلاثة فسيأخذون السبعة، وإن كان واحداً فسيأخذ السبعة، فإذا كانوا عشرة ومات خمسة منهم فنصيب الخمسة انتقل إلى الخمسة, فبقيت هي هي، ولذلك قلنا: لا داعي لجامعة. هذه لا زالت تعتبر من الحالة الأولى؛ لأن نصيب الزوجة نعتبره كالدين .. كالوصية, هي وإن كان نصيبها فرضاً لكن نعتبرها كأنها غريم, أخذت الثمن وخرجت، بقي بعد ذلك التركة نستوي في أخذها لأننا أبناء, فمات بعضنا يستوي إرثنا أيضاً من بعضنا كما يستوي إرثنا من أبينا، فكأن الأب مات وتركنا.
لا زالت أيضاً من الحالة الأولى, ولذلك لا داعي أن تقول: زوجة وأبناء، ثم تقول: مات الابن وورثه الإخوة, ثم مات الأخ.. إلخ, هذا لا داعي له، لأنك تطول المسألة, وتضع لها خمسة حلول أو ستة بلا فائدة.
أيضاً انتبه لهذا الشرط: أن يكون في المسألة صاحب فرض ورث من المسألة الأولى فقط, لا زالت أولى من حالات المناسخة الأولى. وعليه نلغي كل من مات بعد الميت الأول, فكأنه غير موجود، ونجعل الميت الأول كأنه مات فترك الأحياء.
الصورة الثانية, ويدخل أيضاً قلنا: ويدخل صورتان.
الصورة الثانية: لو كان من يرث بالفرض من الأول يرث به أيضاً من غيره, ثم يموت قبل القسمة بعد من مات من العصبة, ويرثه من بقي بمحض العصوبة، فيجعل ذو الفرض كالعدم.
كما لو كان البنون كلهم من الزوجة الحية وماتت بينهم أو بعدهم عمن بقي.
إذاً: مات وترك زوجة وعشرة أبناء, الزوجة هي أم للأبناء، ورثت من الزوج ثمناً، ثم مات أحد الأبناء وترك إخوته وأمه, الأم لها الآن السدس، والإخوة عصوبة, فرضهم ما تغير, ثم مات أحد الإخوة, أيضاً إخوته سيرثونه عن طريق التعصيب, والأم لها السدس، ثم مات أخ ثالث.. رابع.. خامس.. سادس, بقي معنا أربعة إخوة, ثم ماتت هي.
بمجرد موتها نقول: بما أن ما عندها سينتقل إلى أبنائها بالتساوي, فما أخذته من تركة زوجها ومن أبنائها الذين ورثوا من زوجها عاد إلى من بقي من الأبناء, فتلغى صاحبة الفرض, وكأنها لم تكن.
فتعتبر لكن بشرط -كما قلت- أن تموت فيما بينهم، أو أن تموت بعدهم بحيث إذا جئنا لقسمة نجد صاحبة الفرض ميتة, فبقيت المسألة هي هي، لكن إن كانت ستبقى حية فلا يمكن؛ لأن الفرض سيختلف.
وعليه أيضاً الصورة الثانية تدخل في الحالة الأولى من حالات المناسخة التي كنا نبحث فيها, ولا زلنا في أول حالاتها أيضاً, وهو أن يرثوا عن طريق العصوبة، فهم يرثون بالتعصيب، فإذا كان معهم صاحب فرض له حالتان:
مثال الحالة الثانية: مات عن زوجة وعن عشرة أبناء، ثم مات اثنان الأبناء, وهم إخوة أشقاء، فكل واحد منهما سترثه أمه التي هي زوجة للميت، ثم في نهاية الأمر ماتت الزوجة، فورثها أبناؤها الذين هم فيما بينهم إخوة أشقاء, ثم مات واحد منهم, وواحد منهم, وواحد منهم، فصار خمسة من الإخوة الأشقاء موتى وأمهم ماتت، بقي في المسألة خمسة أبناء, فيقتسمون المال كما لو أن الميت الأول مات وتركهم.
لا داعي أن تقول: الميت الأول مات وترك زوجة وترك أبناء, ثم تقسم وتقول: الزوجة لها الثمن, عشرة أبناء عصبة, وتصحح المسألة، ثم تقول: مات ابن ثان فتقسم، المسألة ستخرج منك أعدادها هائلة، وستعود إلى هذه الصورة المختصرة, وهي خمسة.
سيأتينا بعض صور المناسخات في الحالة الأولى، لو أردت أن تقسمها وما اختصرتها قبل العمل ستصل معك إلى ثلاثمائة ألف ألف -يعني: ثلاثمائة مليون- وستة عشر ألف ألف، ومائة وواحد وأربعين ألفاً وستة وخمسين، وإذا اختصرتها قبل العمل سيخرج معك من تسعة.
فهذا اختصار قبل العمل، يعني: لو أردت الآن من باب إيضاح هذا, سنجعل أخوين فقط يموتان مع الأم (الزوجة), انظر كيف ستطول المسألة؛ نحن الآن سندخل في الثالثة من حالات المناسخات، فبعد كل ميت نجعل جامعة.
إذاً هنا عندنا: زوجة وابن .. ابن .. ابن .. ابن .. ابن .. ابن .. ابن, أي ثمانية أبناء, وكما قال الإمام الرحبي :
فترك تطويل الحساب ربح
الزوجة لها الثمن، وهؤلاء عصبة، المسألة من ثمانية, لها واحد ولهم سبعة، رءوسهم ثمانية لا يقسم عليهم, بين الثمانية والسبعة تباين, نضرب ثمانية في ثمانية بأربع وستين، للزوجة وواحد في ثمانية بثمانية, وهو الثمن، ثم هؤلاء بعد ذلك، بقي معنا كل واحد له سبعة؛ لأن سبعة في ثمانية ست وخمسون, سبعة .. سبعة .. سبعة .. سبعة .. سبعة .. سبعة .. سبعة .. سبعة.
طيب قبل الزوجة إن شئت فأمت - كما قلنا- بعض الأولاد، ثم انظر كيف ستطول المسألة في الجوامع الآن، وهذه كلها عبث لا فائدة منها. مات الابن فترك أماً, لأن الزوجة صارت أماً, وهؤلاء إخوة أشقاء، الأم لها السدس؛ لوجود جمع من الإخوة، والإخوة عصبة، المسألة من ستة, سدسها واحد، بقي خمسة, والرءوس سبعة.
خمسة وسبعة بينهما مباينة، نضرب سبعة في ستة اثنان وأربعون، وواحد في سبعة سبعة للأم. وهؤلاء لكل واحد خمسة.
الآن حتى نخرج الجامعة, تنظر بين سهام الميت الأول من المسألة الأولى -وهي سبعة- وبين مسألته, وهي اثنان وأربعون, فبينهما توافق, وفق السبعة واحد، ووفق الاثنين وأربعين ستة, اقسمها على سبعة ينتج ستة، تضرب ستة في أربع وستين يخرج معك الجامعة الأولى للميت الأول -ونحن ماشون بعد ذلك, كل واحد له جامعة- ستة في أربعة بأربعة وعشرين، ستة في ستة بستة وثلاثين, هذه جامعة للميت الأول فقط.
انتبه! كيف سنعطيهم ونمشي, من له شيء من الأولى أخذه مضروباً فيما فوقه، ثمانية في ستة بثمان وأربعين، سبعة في واحد سبعة، اجمع السهام يصبح معنا خمسة وخمسون، هذه للزوجة التي كانت زوجة ثم صارت أماً.
بالنسبة للإخوة ستعطيه هنا سبعة في واحد، وهنا سبعة في ستة, والمجموع تسعة وأربعون فيأخذها كل أخ ماعدا الميت, وقد تبين أن الجامعة صارت ثلاثمائة وأربعة وثمانين.
فلو فرضنا ميتاً ثالثاً لاحتجنا إلى جامعة جديدة؛ لأننا سنجعل له مسألة جديدة من ستة, لأمه السدس والباقي خمسة لإخوته لا تنقسم عليهم فنضرب عدد رءوسهم ستة في ستة التي هي أصل المسألة ينتج ستة وثلاثون, للأم منها ستة ولكل أخ خمسة أسهم.
ثم ننظر بين مسألته وبين سهامه من الجامعة الأولى, نجد أن سهامه منها تسعة وأربعون, ومسألته ستة وثلاثون وبينهما تباين, فضربهما في بعض تكون الجامعة الثانية من ألف وسبعمائة وأربع وستين, وهكذا ستتضاعف الجوامع كلما مات أخ حتى تصير أعداداً هائلة تختصر في الأخير إلى خمسة.
هذه الحالة: إذا كان إرثهم عن طريق فرض من جميع الموتى لها ثلاثة شروط:
الشرط الأول: انحصار ورثة الثاني في الباقين من ورثة الأول. وهذا الشرط في الحقيقة ذكر في كتب الفرائض, ولا أرى له داعياً، لكن لا بد منه في الحالة الأولى, كأنه للتأكيد عليه؛ لأننا في الحالة الأولى من حالات المناسخة وضعنا تعريفاً عاماً لها, أن يكون من مات بعد الأول من ورثة الأول، وألا يرثه إلا من ورث الميت الأول, كما تقدم معنا هذا، وأن يكون إرثهم من الثاني فمن بعده كإرثهم من الأول.
فقوله هنا: (انحصار ورثة الثاني في الباقين من ورثة الأول) إعادة للتعريف العام الذي ذكرناه, لا يضر.
الشرط الثاني: ألا تختلف أسماء الفروض في المسألتين, يعني: الفروض لا تتغير, ربع ربع، ثلث ثلث، نصف نصف، كل وارث لا يختلف فرضه.
الشرط الثالث: أن تكون المسألة الأولى -وهي مسألة الميت الأول- عائلة بقدر نصيب الميت الثاني أو أكثر.
وينبغي أن تكون مسألة الميت الثاني غير عائلة.
ونكمل الباقي فيما يأتي من مواعظ ومحاضرات, والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر