أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة لَيَحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه.
وكلما ذُكر كلام المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يجعل ما بين المرء وصِنْوه من النية كما بين الإنسان وربه من الخوف والمراقبة.
كلامٌ يقرر أن حقيقة المسلم العالية لن تكون فيما ينال من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، بل هو السمو الروحي الذي يغلب على الأَثَرَة؛ فيسميه الناس براً، والرحمة التي تغلب على الشهوة؛ فيسميها الناس عفة، والقناعة التي تغلب على الطمع؛ فيسميها الناس أمانة.
عباد الله: إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم.
أرأيتم الطفل كيف يشب على الخلق الكريم والنهج القويم لو تعهَّده القَيِّم بالتوجيه والتقويم، وعلى العكس من ذلك؛ لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، إنه ينشأ شريراً خطراً على نفسه ومجتمعه؟
ذلكم -يا عباد الله- أبرز مثل للنفس حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه.
عباد الله! لقد ثبت في صحيح مسلم (أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) الله أكبر! إنه لتعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة، إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبرى يقيم عليها الإسلام بناءه، هي: ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) قاعدة يقيم عليها نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته طُرَّاً، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة كلها، ( تعبد الله كأنك تراه ) .
فالمرء المسلم في مواجهة خالقه ومولاه المستعلي على جميع المخلوقات، في مواجهة مولاه بنفسه وبكل جوارحه وكل خلجاته بظاهرها وباطنها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] سبحان الله! حتى خائنة الأعين، الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، دون أن يراها أحد من الناس أو يفهمها، وحتى السر بل وما هو أخفى من السر، الخطرات التائهة في مثالب النفس لا تصل إلا ظاهر الفكر ولا يتحرك بها اللسان للتعبير، إنه لا ستر إذاً ولا استخفاء فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] وكل هذه مكشوفة لله.
( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) وإنه لخير لك -أيها المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقُبُك، إلى حيث يرقبك خالقك، فتأمن المفاجأة، إنها الرهبة في الحالَين، رهبة مصحوبة بالأمل، حال كونك متوجهاً إلى الله، مخلصاً له قلبك، عاملاً على رضاه، ورهبة مصحوبة بالذعر، حال كونك متوجهاً بعيداً عنه، وهو من ورائك محيط، فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه.
إن الإحسان على ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شئونها، فالقاضي المسلم لا يُظن في الظلم والجور حين يرقب الله كأنه يراه، ولا يجوز له أن يضع نزواته وهواه في مكان العدل الذي يطلبه منه رقيبه ومولاه، بل كيف تتجه نفسه إلى البطش والغمط ومن يرقبه يقول له: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] ويقول له: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] ؟!
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: {فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة } رواه البخاري .
وكان يزيد بن عبد الله من قضاة العدل والصلاح، وكان يقول: [[من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل فيها ]] .
إذاً خير لك -أيها القاضي المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وفي الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ... وذكر منهم: ورجل دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله } .
وإذا خلوتَ بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
إي وربي! إن الذي خلق الظلام يراني.
الإحسان أمر جليل ذو مسلك طويل يُظْهِر صِدْقَه الموقف، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه، يغيب الزوج عن زوجته اليوم واليومين والشهر والشهرين فيحمل الإحسان المرأة على صيانة عرض زوجها في غيبته بعد أن فارقها مطمئناً إلى عرضه وبيته وماله.
خرج الفاروق رضي الله عنه من الليل فسمع امرأة تقول -وقد غاب عنها زوجها للجهاد في سبيل الله-:
لقد طال هذا الليل واسودَّ جانبُهْ وأرَّقني ألاَ خليلٌ ألاعبُهْ |
فوالله لولا الله لا شيء غيرُه لَحُرِّك من هذا السرير جوانبُهْ |
مخافة ربي والحياءُ يصدني وإكرامُ بَعلي أن تُنال مراكبُهْ |
إن أشرف ما تنافس فيه المتنافسون وأفضل ما بذلت فيه الجهود: طلب العلم النافع، فهو الروح يمد الجسد بالحيوية، وهو النور الوضاء يبدد ظلمات الجهل ويهدي إلى السبيل أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
فالعلماء هم أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إلى الإحسان، والعالِم الرباني هو من تحقق فيه ذلك وجمَّل علمَه بالعمل به كما تتجمل المرأة بالحلة الحسناء للدنيا؛ لأن العلم والعمل إنما يُطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم والقرب منه والزلفى لديه.
قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: إنما فضِّل العلم؛ لأنه يُتَّقَى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.
فمن طلب بالعلم والعمل سيادة على الخلق وتعاظماً عليهم وإظهاراً لزيادة علمه ليعلو به على غيره فهو متوعَّد بالنار كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار } رواه الإمام أحمد والترمذي .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[يا حملة العلم! اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم فوافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيَهم، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره ]].
والعالم المسلم إذا عبد الله كأنه يراه كرهت نفسُه الفُتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال الإمام أحمد رحمه الله: مَن عَرَض نفسَه للفُتيا فقد عَرَّضها لأمر عظيم، قيل له: فأيما أفضل: الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي، ثم قال: وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره ونهيه وأنه موقوف ومسئول عن ذلك.
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: ما فُتِيْتَ عن المسألة والفُتيا فاغتنم ذلك ولا تنافس، وإياك أن تكون ممن يحب أن يُعمَل بقوله أو يُنْشَر قولُه أو يُسْمَع قولُه، وإياك وحب الشهرة فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة.
وكان أحد السلف يعجبه ما يراه من علم أحد الناس وحسن خطابه وسرعة جوابه، فقال له يوماً، وقد سأله عن مسألة فأجاب: [[أخشى أن يكون حظك من الدنيا لسانك ]] فكان ذلك الرجل لا يزال يبكي من هذه الكلمة.
إذاً خير لك يا صاحب العلم أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ثم أما بعد:
فيا عباد الله: إن مَن تأمل كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، علم أن جميع العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وينتج عن هذا الإحسانِ الإحسانُ في العمل بأن يؤدي الإنسان واجبه على أكمل وجه، بل الإحسان على كل شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، ولْيَحُدَّ أحدكم شفرته ولْيُرِح ذبيحته ) رواه مسلم . الله أكبر! إنه يأمر بالإحسان حتى في ذَبح الذبيحة؛ ( ولْيُرِح ذبيحته ) إنه الحرص على إراحة الذبيحة وهي تساق إلى الموت.. إلى العدم.. إلى حيث لا تشعر، وهنا تتجلى رحمة المسلم للحيوانات العجماوات التي سخرها الله له وجعلها في خدمته ومصلحته.
فالإسلام دين الرحمة، ودين الرأفة، ودين الرفق بالحيوان والإنسان.
ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي في الطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر اللهُ له فغفر له، قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر ).
وفي مقابل جزاء مَن رحم الحيوان نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر عقاب من آذى حيواناً وقسا عليه بقوله: (عُذِّبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعاً فدخلت فيها النار ).
فإذا كان هذا جزاء من يعذب الحيوان الأعجم، فكيف تكون حال مَن يُسيء معاملة والديه، أو يؤذي إخوانه، أو يصب شديد غضبه وعظيم شره على قرابته وجيرانه وبني ملته ومجتمعه.
فاتقوا الله أيها المسلمون! اتقوا الله أيها المسلمون! وراقبوا ربكم وتخلقوا بالإحسان تفلحوا وتفوزوا بوعد الله لكم إنه لا يخلف الميعاد.
هذا وصلوا رحمكم الله على النبي المصطفى والرسول المجتبى محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر.
وارضَ اللهم عن الأئمة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعنا معهم بمنك وكرمك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر