أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:20-26].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زلنا مع قصة سليمان بن داود عليهما السلام.
وبالأمس علمنا أنهم كانوا في ساحة عظيمة، وهو عليه السلام يتعهد رجاله وجيشه وجنوده من الإنس والجن، ومن الطير أيضاً، ثم إذا به يفقد الهدهد، ولم يجده في ذلك التجمع العظيم، كما قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ [النمل:20]. وتفقده للطير كان لأمر ما، وكان يطلب الهدهد لمهمة، وهذه المهمة هي أن الهدهد وهبه الله عز وجل علماً بالمياه حيث توجد، فكان إذا طار في مكان وفيه ماء يضرب بجناحيه، ويعلم الناس أن الماء هنا في هذا المكان، فيجدون الماء.
فلعل سليمان عليه السلام افتقد الماء لتلك الجموع، وأراد من الهدهد أن يعرف مكان الماء، فتفقد الطير ولم يجد الهدهد، كما قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل:20]؟ فأين هو؟ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]؟ أي: هل ضعف بصري وقدرتي عن معرفة الهدهد أين هو؟ أو أن الهدهد في مكان آخر بعيد عنا؟ كما قال: أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]؟
فقال الهدهد: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، أي: بخبر صادق أطلعك عليه.
إذاً: فقوله: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22]، أي: عن سليمان في الزمان أو المكان، ثم قال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] بعلمك وقدرتك، وبالفعل ما كان يدري عن سبأ، ولا أين هي هذه البلاد. ولذلك قال له: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ [النمل:22] من هذا البلد بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]. ليس فيه شك أبداً، والنبأ: الخبر العظيم.
فقال الهدهد: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً [النمل:23]. ألا وإنها بلقيس . تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، أي: أوتيت من كل متطلبات الحياة من الجيوش .. من الأموال .. من الصناعة .. من كل شيء، وعرشها عظيم؛ لأنه عظيم كبير، وكان مصنوعاً من الذهب والفضة. فعرشها الذي تجلس عليه للحكم مصنوع من الذهب والفضة، فقال الهدهد: إنه عرش عظيم، وهو حقاً عظيم.
وقوله: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ [النمل:23]، أي: أعطيت مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] من متطلبات هذه الحياة. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. لا يقادر قدره، وعرش الله أعظم.
وبعض الإخوان؛ لجهلهم إذا أرادوا أن يحيوا أحداً يركعون له، وهذا خطأ، وشرك ولو تعمده العبد، فيجب أن لا نسجد إلا لله عز وجل. وليس من شرط السجود أن تضع وجهك على الأرض، بل الانحناء والانكسار هو السجود في خضوع وذلة.
وقال الهدهد هنا: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا [النمل:24] نساء ورجالاً يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النمل:24]، أي: هذا السجود وما معه من الشركيات والكفر زينه الشيطان، والشيطان هو إبليس، عليه لعائن الله. فهو يحسن القبيح، ويجمل الفاسد؛ من أجل أن يوقع بني آدم في معصية الله؛ ليهلكوا ويشقوا كما شقى وهلك. هذه هي مهمته. ولذلك قال هنا: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]. وهذه كلمات الهدهد الحكيم، فهو الذي قال: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النمل:24] الشركية والكفرية، فصدهم بذلك عن السبيل المنجي المسعد، أي: صرفهم عن عبادة الله عز وجل، تلك العباد التي يسعد فاعلها في الدنيا والآخرة. فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل:24]. وكأنه يقول: هداية هذه الأمة صعب؛ لأن الشيطان أعماهم وأصمهم واستعبدهم، حتى عبدوا الشمس، فلهذا فهم لا يهتدون.
والهدهد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله مع ثلاثة، وهي: الضفادع، والنحل، والصرد. ونهى عن قتل النمل إلا إذا آذى، فمن ضره النمل له أن يقتله. وأما هذه الثلاثة فلا تقتل، وهي: الضفادع كلها، والنحل المعروف، والصرد، وهو طائر معروف. هذه نهى صلى الله عليه وسلم عن قتلها، كما أخرج هذا أبو داود في سننه، وصححه أيضاً.
قال: [ معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصص سليمان عليه السلام. قوله تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ [النمل:20]، أي: تفقد سليمان جنده من الطير طالباً الهدهد لأمر عنّ له، أي: ظهر، وهو يتهيأ ] أي: سليمان برجاله وجيشه [ لرحلة هامة ] من الرحلات [ فلم يجده ] أي: لم يجد الهدهد [ فقال ما أخبر تعالى به عنه: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل:20]؟ ألعارض عرض لي ] أنا [ فلم أره؟ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]؟ أي: بل كان من الغائبين. لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا [النمل:21]. بأن ينتف ريشه ويتركه للهوام تأكله، فلا يمتنع منها. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل:21] بقطع حلقومه. أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، أي: بحجة واضحة على سبب غيبته.
قوله تعالى الآية (21): فَمَكَثَ [النمل:22]، أي: الهدهد، غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22]، أي: زمناً قليلاً وجاء، فقال في تواضع رافعاً عنقه مرخياً ذنبه وجناحيه: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22]، أي: اطلعت على ما لم تطلع عليه. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]. وسبأ قبيلة من قبائل اليمن، والنبأ اليقين: الخبر الصادق الذي لا شك فيه.
وأخذ يبيّن محتوى الخبر ] أي: ما حواه الخبر [ فقال: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً [النمل:23] هي بلقيس تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] من أسباب القوة ومظاهر الملك. وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]، أي: سرير ملكها الذي تجلس عليه، وصفه بالعظمة؛ لأنه مرصع بالجواهر والذهب.
وقوله: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل:24]. أخبر أولاً عن أحوالهم الدنيوية، وأخبر ثانياً عن أحوالهم الدينية ] فأخبر عن أحوالهم المادية بقوله: وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23]. فهذا إخبار عن أحوالهم الدنيوية. ثم أخبر عن أحوالهم الدينية فقال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ [النمل:24].
[ وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [النمل:24]، أي: الباطلة الشركية. فَصَدَّهُمْ [النمل:24] بذلك عَنِ السَّبِيلِ [النمل:24]، أي: سبيل الهدى والحق، فهم لذلك لا يهتدون لأن يسجدوا لله الذي يخرج الخبء، أي: المخبوء -فهو من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول- في السموات من أمطار، والأرض من نباتات، ويعلم سبحانه وتعالى ما يخفون في نفوسهم، وما يعلنون عنه بألسنتهم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26]. وصف الرب تعالى بالعرش العظيم؛ ليقابل وصف بلقيس به ] فوصف الله برب العرش العظيم؛ ليقابل وصف بلقيس بأنها صاحبة العرش العظيم [ وأين عرش مخلوقة وإن كانت ملكة بنت ملك هو شراحيل من عرش الله الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء؟ ] فأين هذا وذاك؟
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً ] من هداية الآيات: [ مشروعية استعراض الجيوش، وتفقد أحوال الرعية ] والنظر إليها. وهذا واجب كل ذي سلطان ودولة، وسليمان تفقد جيشه من الإنس والجن والطير. ففيه مشروعية تفقد الجيوش ومعرفتها في كل مكان وزمان.
[ ثانياً: مشروعية التعزير لمن خالف أمر السلطان بلا عذر شرعي ] والضغط على من خالف أمر السلطان. وهذه سنة باقية إلى يوم الدين، فالذي يخرج عن الحاكم بدون إذن وبدون معرفة وبدون حجة يعزر إما بالسجن أو حتى بالقتل، وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]. فلا يخرج بدون إذن وهم في حاجة إليه. ومن هنا أخذ أن من يخرج عن السلطان أو عن الحاكم بدون إذن أو بدون حجة فالسلطان أن يعذبه أو يقتله لهذه الآية.
[ ثالثاً: مشروعية اتخاذ طائرات الاستكشاف ودراسة جغرافية العالم ] فينبغي للدولة المسلمة أن توجد طائرات للاستكشاف وللاطلاع على العالم، وأن تدرس أيضاً جغرافية العالم؛ لتعرف الأقاليم والبلاد، وهذا مشروع لهذه الآية الكريمة، وهي قوله وتعالى: فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]. فلم يكن سليمان وهو السلطان والحاكم يدري عن هذه المنطقة، وكان فيها ملكة وهو لا يدري. وسيأتي الكلام على هذا في الدرس الآتي إن شاء الله.
[ رابعاً: تحقيق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ). إذ لم يلبثوا أن غلب عليهم سليمان ] فسليمان احتل المنطقة بكاملها، وأسقط هذا العرش ومزقه، والرسول الكريم يقول: ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) أبداً، ولن يفوزوا، ولن ينجحوا.
[ خامساً: بيان أن هناك من كانوا يعبدون الشمس؛ إذ سجودهم لها عبادة ] وهذه الآية دليل على أنهم كانوا يسجدون للشمس. وقد وجد في العالم أمم كانت تعبد الشمس، وتعبد الخير والشر.
[ سادساً: بيان أن الأحق بالعبادة ] هو [ الله الذي لا إله إلا هو، رب العرش العظيم ] وما عبد غيره بحق أبداً. بل كل من عبد من دون الله فعبادته باطلة؛ لأن الخالق الرازق المحيي المميت هو الله، والموجب للكون كله هو الله، وتلك المعبودات -مثل الشمس- مخلوقة، خلقها الله عز وجل، وعيسى عليه السلام ومريم اللذان يعبدانهما النصارى هما مخلوقان لله، والله خالقهما. إذاً: لا يعبد في الكون أحد إلا الله؛ لأن المعبودات مخلوقة مربوبة، والذي يعبد هو خالقها وربها. والعقل يقول هذا، وكذلك الشرع.
[ سابعاً: مشروعية السجود لمن تلا هذه الآية أو استمع إلى تلاوتها: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:26] ] فهذه الآية من السجدات المجمع عليها في كتاب الله عز وجل، فإذا تلاها التالي وهو في صلاته أو خارج صلاته وانتهى إليها يسجد لله عز وجل، فيكبر الله أكبر ويسجد، ويقول: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، إلى آخر ما جاء في هذا، ثم يرفع رأسه قائلاً: الله أكبر بدون ما يسلم. والمستمع الذي أصغى واستمع إلى القارئ الذي يقرأ إذا سجد القارئ يجب أن يسجد. وأما السامع فقط فليس عليه سجود، ولكن المستمع الذي يصغي يستمع إلى القراءة فإذا سجد القارئ ينبغي أن يسجد معه.
والآن نحن ما سجدنا؛ لأن المكان ليس متاحاً للسجود، وأنتم مستقبلون الدرس، لا تستطيعون أن تسجدوا. ولو سجد القارئ لكنا سجدنا بالإيماء والإشارة، ولكن ما دام ما سجد فنحن المستمعون ليس علينا شيء.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر