أما بعد:
ها نحن مع سورة النبأ، قال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ [النبأ:1]، وتسمى: النبأ، وعمّ، وهي سورة مكية نزلت بمكة، وآياتها أربعون آية.
ومع قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:1-16].
عَمَّ [النبأ:1] أصلها: عن ما، أي: عن أي شيء يتساءلون؟ فأدغمت النون في الميم فصارت (عما)، وحذف الألف تخفيفاً فصارت: (عمَّ)، والأصل: عن أي شيء تتساءلون؟ من هم الذين تساءلوا ويتساءلون والقرآن ينزل؟ هم كفار مكة، فمنهم من يقول: إن محمداً رسول، ومنهم من يقول: إن محمداً شاعر.. وهناك من يقول: القرآن كلام الله.. وآخر يقول: إنه شعر.. ومنهم من يقول كذا وكذا .. فهم مختلفون.
ثانياً: يشمل النبوة، فقد كانوا مختلفين في نبوة رسول الله، وأكثرهم لا يؤمن به.
ثالثاً: النبأ العظيم: البعث والجزاء يوم القيامة.
رابعاً: القرآن الكريم.
والله إنه لنبأ عظيم، فهم مختلفون في التوحيد، في النبوة، في القرآن الكريم، في البعث والجزاء. كل هذا مختلفون فيه، منهم من يقول كذا.. ومنهم من يقول كذا، والفتنة دائرة بينهم، وقل من آمن وأسلم منهم إلا بعد الفتح، فقال تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2].
إذاً: النبأ العظيم؟ النبوة.. التوحيد.. البعث والدار الآخرة.. القرآن العظيم كلام الله.
وقد قلت لكم: يشمل التوحيد (لا إله إلا الله)، والنبوة المحمدية (محمد رسول الله)، والقرآن الكريم (كلام الله)، والبعث والدار الآخرة. فهو نبأ عظيم ما أطاقوه.
كَلَّا [النبأ:4] ردعاً لهم وتأديباً، لم هذا؟ لأنهم سَيَعْلَمُونَ [النبأ:4]؛ سيعلمون حقيقة النبأ العظيم وما هو.
ثم قال تعالى: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ:5].
ثُمَّ كَلَّا [النبأ:5] كذلك؛ سَيَعْلَمُونَ [النبأ:5]، سيأتي يوم يعلمون فيه الحقيقة، ويعرفون أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن البعث والدار الآخرة حق، حقاً سيعلمون.
ثم قال تعالى: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ:7].
الأوتاد: جمع وتد، فهذه الجبال تمسك الأرض وإلا لكانت تضطرب بنا، من يبني بناية تسقط عليه، كالخيمة تربط بالحبال والأوتاد حتى تسكن، فالأرض -والله- لولا هذه الجبال لمادت يميناً وشمالاً وسقط ما عليها، من جعل الجبال أوتاداً؟ إنه الله.
إذاً: فلا إله إلا الله!
أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [النبأ:6-7] أولاً.
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [النبأ:8] يكفي كوننا ذكراناً وإناثاً، من فعل هذا سوى الله؟ هذا قصير وهذا طويل، هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، من فعل هذا؟ ليس إلا الله، فكيف إذاً لا يؤمنون به ولا يعبدونه وحده ولا يؤمنون برسالة رسوله، ولا يؤمنون بلقائه والبعث يوم القيامة؟!
السبات: من الراحة والسكون. وسمي يوم السبت بيوم السبت؛ لأنهم يسبتون فيه ويستريحون من العمل، فلا يعملون، وهم اليهود. فالسبات من النوم والاستراحة.
من جعل الليل للنوم؟ آباؤنا وأجدادنا هم الذين أذهبوا الشمس عنا؟ من جعل هذا؟ اللات والعزى.. الصنم.. عيسى.. أمه؟ لا والله، ما فعل هذا إلا الله. إذاً قولوا: آمنا بالله، واعبدوه وحده ولا تشركوا به غيره.
آباؤنا فعلوا هذا.. أجدادنا؟ هكذا آيات الله الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وألوهيته وربوبيته، لذا فهو لا إله إلا هو ولا رب سواه، ويجب أن يُعبد بما أمر أن يعبد، فنفعل الواجب ونترك المكروه حتى ننجو ونسعد من شقاء الدنيا والآخرة.
ها هو ذا المصباح.. هذه الشمس.. هذه التي تضيء، من جعل هذه الشمس ذات النور والحر؟ الحر موجود في الأرض بسببها، والنور في النهار بسببها. من جعل هذا السراج؟ هل هناك من يقول أبي أو أمي؟ أو سيدي فلان أو فلان؟ ليس هناك جواب أبداً إلا الله. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25].
إذاً: لم لا تعبدون الله؟ لم تصرون على عبادة الأحجار والأصنام؟ لم تكفرون برسالة نبيه؟ ما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة إلا في السنة الثامنة من الهجرة وما بقي والله كافر، كلهم آمنوا.
هكذا يقول تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ:13] ألا وهو الشمس، من وضعها؟ من أوجدها؟ إنه الله.
المعصرات: السحب تعصرها الرياح وتحمل الماء وتتدفق به لنستريح من العطش والجوع والتعب، من فعل هذا؟ الله عز وجل.
وَأَنزَلْنَا [النبأ:14] نحن رب العزة والجلال والكمال مِنَ الْمُعْصِرَاتِ [النبأ:14] أي: السحب مَاءً ثَجَّاجًا [النبأ:14] متدفقاً.
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا [النبأ:15] الحب: القمح، والشعير، والذرة.. وما إلى ذلك، والنبات سائر النباتات.
ثم قال تعالى: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:16] أي: بساتين ملتفة بعضها إلى بعض؛ بسبب المطر، فالسواقي والمياه الجارية المطر هو السبب فيها.
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:15-16]. والجنات: جمع جنة، وهي البستان، فأشجاره ملتفة بعضها ببعض. من فعل هذا؟ ليس إلا الله. إذاً: يا عباد الله! قولوا: آمنا بالله ولقائه، واعبدوا الله بما شرع وبين رسوله.
وهكذا نزل القرآن بينهم وفيهم، وهداهم الله ودخلوا في الإسلام، وسعدوا وكملوا، ومن أصر على الشرك والكفر أهلكه الله قبل الفتح في بدر وفي غيرها.
من هداية الآيات:
أولاً: مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإلهية في كل الآيات من قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا [النبأ:6] إلى قوله: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:16] ].
إي نعم. من مظاهر هذه الآيات: بيان عظمة الله.. قدرة الله.. حكمة الله.. رحمة الله في كل ما ذكر لنا وبين، من قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا [النبأ:6] إلى قوله: وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:16]، مظاهر يظهر فيها للعيون قدرة الله.. عظمة الله.. رحمة الله.. حكمة الله.. وولاية الله. فلا يسعك إلا أن تقول: آمنت بالله وعبدت الله عز وجل.
[ ثانياً: تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد، وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت ونافٍ، ومصدق ومكذب ].
من هداية هذه الآيات: تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة المحمدية وتوحيد الله عز وجل، وأن القرآن كلام الله، إذ هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، التوحيد والنبوة والبعث الآخر والقرآن كلام الله عز وجل، قررته هذه الآيات.
[ ثالثاً ] وأخيراً [ سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها، إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف ].
من هداية الآيات التي تدارسناها: عندما تغرغر الروح في الحلقوم، ويحضر ملك الموت كل من كذب بهذه الآيات يؤمن بها ويصدّق، ويعرف أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله، وأن الدار الآخرة حق، ولكن هل ينفعه ذلك؟ لا ينفعه.
إذا حشرجت النفس في الصدر وبلغت الحلقوم، وأصبح المرء لا يقوى على أن ينطق، وشاهد ملك الموت وأعوانه؛ عندها يؤمن مهما كان كافراً، لكن هل ينفعه ذلك؟ لا ينفعه، ولهذا التوبة تقبل من أي إنسان أو جان حتى يغرغر، فإذا جاءت الروح تخرج ووصلت إلى الحلقوم ما بقي له توبة، واقرءوا ذلك في سورة النساء: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18].
نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ونحن نعبده ونشكره.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر