إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. حسن أبو الأشبال الزهيري
  5. شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة
  6. شرح كتاب الإبانة - كتاب القدر - مراتب القدر وبيان أن الله خالق الخير والشر

شرح كتاب الإبانة - كتاب القدر - مراتب القدر وبيان أن الله خالق الخير والشرللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القدر سر من أسرار الله في خلقه، فالله عز وجل خلق الخلق وقدر أعمالهم وأعمارهم، وكتب في اللوح المحفوظ مآل كل واحد من خلقه ومصيره، فجعل الهداية طريق بعضهم إلى جنته برحمته، وجعل الضلالة طريق البعض الآخر إلى النار بعلمه وحكمته.

    1.   

    نشأة القدرية وما أنكروه من مراتب القدر

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أما بعد:

    ففي أول شرحنا لكتاب ابن بطة عليه رحمة الله قلنا: إن الكتاب مكون من ثلاثة أجزاء:

    الجزء الأول: الكلام عن الإيمان وما يتعلق به من مسائل، وهو يقع في مجلدين، وقد فرغنا منهما والحمد لله تعالى، ثم لخصنا الكلام فيما يتعلق بالإيمان ومسائل الكفر في محاضرتين أو ثلاث تلخيصاً بإذن الله تعالى لا يكون مخلاً بالمقصود.

    الجزء الثاني من الكتاب وهو الذي يبدأ في الجزء الثامن: ما هو القدر؟ وما هي مسائله ومراتبه؟ ثم معتقد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر، ثم الرد على من أنكر القدر، أو الرد على من قال: إن الإنسان مخير مطلقاً أو مسير مطلقاً. وهذا الكلام كله يقع في مجلدين كذلك.

    الجزء الثالث من الكتاب: الرد على الجهمية، ويقع في مجلدين كذلك.

    وبالتالي فيكون مجموع الكتاب ستة مجلدات، اثنان منهم في الإيمان، واثنان في القدر، واثنان في الرد على الجهمية.

    وموعدنا بإذن الله تعالى الليلة في الكلام عن القدر، وكل مسألة من هذه المسائل الثلاث أخذها طالب كرسالة دكتوراه أو ماجستير وبحثها، وكمنهج أكاديمي في الجامعة وفي الدراسة، إذ إنه لا بد من صناعة مقدمة لكل رسالة، فنجد -مثلاً- في هذا المجلد الثالث -وهو الأول من كتاب القدر- أكثر من مائتين وخمسين صفحة مقدمة، أظن أننا نكتفي بالدخول على المراد مباشرة من كلام المصنف، ولا حاجة بنا أن نعرج على كلام هذا الدارس أو هذا الطالب الذي صار دكتوراً أو أستاذاً كبيراً الآن، لكن على أية حال إنما يكفينا أن ندخل في القدر مباشرة.

    والقدر تعلمون أنه سر من أسرار الله تعالى في خلقه، فقد ضلت فيه طوائف كثيرة خاصة في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن ذلك من الصحابة، لكن هذه البدعة أول ما ظهرت في البصرة على يد الجعد بن درهم ، وذلك لما قال: لا قدر وأن الأمر أنف، أي: أن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، فأتى حميد بن عبد الرحمن وغير واحد إلى المدينة فقالوا: لعلنا نوفق إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أن وفقهم الله تعالى لـأبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.

    قال حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر : فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فقلت: لعل صاحبي يكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا أناس بالبصرة يتقفرون العلم. أي: يطلبون دقائقه ومسائله العويصة.

    يقولون: لا قدر وأن الأمر أنف. وكأن أبا عبد الرحمن قال: أوقد فعلوها؟ أوقد ظهروا؟ وكأن النبي عليه الصلاة والسلام قد حذرهم من ذلك، فقال: إذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، أي: لست منهم وليسوا مني، وقد أخبرني أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً -هذا هو الإسلام- قال: صدقت. قال عمر : فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر) وأعجب من ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سئل عن القدر وعن الكتابة والعلم السابق أخرج إبهامه فوضعه على لسانه ثم طبع به في كفه وقال: إن هذه لمكتوبة في اللوح المحفوظ، وإن الله تعالى علم أن علياً سيفعل ذلك في الأزل.

    ولذلك ذهب الإمام النووي إلى نقل الإجماع على أن من أنكر علم الله تعالى فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة.

    مراتب القدر

    أما قوله: (إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني) فهذا يعني: أنهم كفار وليسوا بمسلمين ألبتة؛ لأنهم أنكروا المرتبة الأولى والعظمى من مراتب القدر، وهي: إثبات علم الله عز وجل لأفعال المخلوقين، فالله تبارك وتعالى علم ما الخلق عاملون، وما هم إليه صائرون قبل أن يخلقهم، فلما علم الله تعالى أن عباده سيفعلون الخير قدر لهم ذلك ويسره لهم، وعلم أن من عباده من سيختار طريق الشر ويعمل له، فقدر له الشر ويسر له طريق الشر، وفي المقابل جعل للفريق الأول الجنة وللثاني النار، فخلق الجنة وخلق النار، وجعل لكلٍ أهلاً وسكاناً، وقال: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت).

    فالله تعالى علم ذلك في الأزل، فلما علم ذلك كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض، كتبه في اللوح المحفوظ فهو عنده تحت العرش، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة).

    فهل يكتب الله تعالى ما لا يعلمه؟ وهل يخفى على الله تعالى شيء؟ إن الله تعالى يعلم السر وأخفى، فلما علم الله تعالى ذلك في الأزل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كتبه كتابة لا تقبل المحو في اللوح المحفوظ، بخلاف الكتابة التي في أيدي الملائكة وفي أيدي الحفظة وفي أيدي الكتبة، فإنها تقبل المحو والإثبات، قال الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39].

    فقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد:39]، أي: بأيدي الملائكة في هذه الكتب التي معهم، أما الكتاب الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما أثبته الله تعالى فيه بقلم القدرة: (أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل شيء كان وسيكون إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما أمر)، أي: كتب القلم ما أمره الله عز وجل، وهذا الكتاب الذي كتبه الله عز وجل بقلم القدرة عنده تحت العرش لا يقبل محواً ولا إثباتاً إلا ما فيه، وهو الذي يستقر عليه الأمر.

    أما الكتب التي بأيدي الملائكة فإنها تقبل المحو والإثبات على حسب أعمالهم أو أعمال العباد، فهذه هي المرتبة الأولى من مراتب القدر.

    المرتبة الثانية: مرتبة علم الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد الذين لم يخلقهم بعد، فكيف بمن خلقهم سبحانه وتعالى، فهو العليم وهو البصير وهو الخبير، علم ما العباد عاملون قبل أن يخلق العباد فكتب ذلك، والعلم ثم الكتابة مرتبتان من مراتب القدر من أنكرهما كفر باتفاق.

    المرتبة الثالثة: مرتبة الإرادة أو المشيئة على خلاف ونزاع بين العلماء فيما يتعلق بحقيقة المشيئة وحقيقة الإرادة، والإرادة إرادتان: إرادة شرعية دينية مبناها على المحبة والرضا، أمرك الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد وغير ذلك من الأوامر، فإذا فعلت ذلك فأنت محبوب عند الله عز وجل؛ لأنك عملت بفضل الله وقدرته ما أمرك به شرعاً، فإذا فعلت ذلك وامتثلت الأمر واجتنبت النهي فإنك حينئذ تدخل في محبة الله عز وجل، فهذه هي الإرادة الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، من وفق لها فقد وفق للخير ودخل في مرضاة الله عز وجل.

    الإرادة الثانية: إرادة كونية قدرية، لا أقول: مبناها على المحبة والرضا، فمنها ما يحبه الله، ومنها ما يغضب الله ويسخط على فاعله، لكن هل هذا الفاعل للشر يمكن أن يفعل الشر بغير إرادة الله؟ لا، إذ لا يمكن لأحد قط من المخلوقين أن يفعل فعلاً إلا وقد أذن الله به إما إذناً شرعياً دينياً -كما هو المرتبة الأولى من مراتب الإرادة- أو إذناً كونياً قدرياً، وكونياً أي: وقع في الكون، وقدرياً أي: بقدرة الله عز وجل وإرادته، لأن العبد لا يستطيع أن يفعل شيئاً رغماً عن الله، أو بغير إرادة الله، فكل ما يقع في الكون من خير أو شر يكون بإرادة الله، أما الله تعالى فيثيب من فعل خيراً ويعاقب من فعل شراً، ويعاقبه وقد قدره عليه لأنه أفرغ له العذر ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، والعقل الذي هو مناط التكليف، فلو أنك الآن أردت أن تذهب إلى بلد ما من البلدان، ويؤدي إلى هذا البلد طريقان: أحدهما معبد ممهد، والآخر مليء بالحجارة والتكسير وغير ذلك مما يعرقل حركة السير، فأي الطريقين تسلك حينئذ؟ لا شك أنك ستسلك الطريق المعبد، وهو طريق الأنبياء إلى الله عز وجل.

    ثم من منا لا يعلم أن الزنا حرام؟ ومع هذا يختار لنفسه الزنا، من منا لا يعلم أن القتل حرام؟ ومع هذا يقترفه، ومن منا لا يعلم أن شرب الخمر حرام؟ ومع هذا يقع فيه باختياره، فلما علم الله تعالى سلفاً أن هذا العبد يخالف طريق الأنبياء، وكان عاقلاً مكلفاً مميزاً وقت ارتكابه للفعل الحرام، ومع هذا قد اختاره على الحلال وجعل الحلال خلف ظهره، كتب الله عز وجل ذلك عليه، فكيف يكون الإنسان حينئذ مسيراً؟ لا بد أن العبد قد اختار هذا الفعل بمحض إرادته؛ لأنه يعلم أن العفاف والطهر إنما هما من الله عز وجل، ويعلم أن الزنا والخنا إنما هما خلاف طريق الأنبياء والمرسلين، ومع هذا فقد اختار ذلك، اختاره بتعقل شديد، يعني: لم يكن فاقداً لعقله.

    فلما علم الله تعالى سلفاً وأزلاً قبل أن يخلق الخلق أن عبده فلاناً سيقع في جريمة الزنا كتب ذلك عليه، والكتابة ليست بمعنى الجبر، ولكن الكتابة بمعنى: إثبات علم الله الأزلي في أفعال المخلوقين.

    المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، إذ كل أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وليس في هذا دليل لاحتجاج محتج بأن العبد القاتل يقول: إذا كان الله تعالى قد كتب علي القتل، وأنا ما قتلت إلا بإرادة الله، فكيف يحاسبني الله حينئذ؟ لا يحل له أن يحتج بالقدر على المعصية، ولكن يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل، فإن تاب وإلا فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه كما هو معتقد أهل السنة والجماعة.

    أما مرتبة الخلق فنقول: هذا العبد سرق، والله تعالى هو الذي خلق فيه القدرة على السرقة، والله تعالى هو الذي خلق فيه القدرة على أن يمشي وأن يمد يده وأن يسرق أموال الناس، فهذه الأفعال كلها خلقها الله عز وجل، والذي اكتسب السرقة: السارق، والذي اكتسب القتل: القاتل، والذي اكتسب الزنا: الزاني.

    إذاً: هناك فرق بين أفعال العباد من جهة الخلق وأفعال العباد من جهة الكسب، فمن جهة الكسب كسب العباد، ومن جهة الخلق خلق الله عز وجل، وهذا باختصار شديد جداً لمراتب القدر الأربعة.

    ومن لم يعرف هذه المراتب خاصة المرتبة الثالثة والرابعة لا بد أنه ستدور في ذهنه شبهات كثيرة جداً عن القدر، ويوجه أسئلة كثيرة لأهل العلم لا محل لها عند السلف، وما كانوا يسألونها، لأنهم كانوا يعلمون ما القدر.

    وهذه المراتب ربما لا تجدها في كتب أهل العلم على هذا التفصيل، أو بهذا الترتيب والتنقيح، وإنما قد عالج السلف هذه المراتب وتكلموا عنها كلاماً مستفيضاً جداً في غضون كلام كثير لهم قالوه، وإنما أتى من بعدهم فجعل هذه المراتب كل مرتبة على حالها، وتكلم عن كل مرتبة بأدلتها، فماذا قال الإمام ابن بطة في القدر؟ قال مائتين وخمسة وثلاثين صفحة.

    1.   

    مقدمة المؤلف في أول جزء في القدر

    هداية البشر وضلالهم بإرادة الله عز وجل

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ الحمد لله، أهل الحمد ووليه، المنان الجواد، الذي ثوابه جزل -أي: كثير- وعطاؤه فضل، وأياديه متتابعة، ونعماؤه سابغة، وإحسانه متواتر، وحكمه عدل، وقوله فصل، حصر الأشياء في قدرته ]، أي: جعل كل شيء في قدرته ومشيئته، فلا يكون في الكون شيء إلا بمشيئة الله تعالى وقدرته، وهكذا السلف رضي الله عنهم إذا أراد أحد منهم أن يكتب رسالة أو يصنف كتاباً جعل مقدمة الكتاب دليلاً للموضوع، فإذا أراد أن يتكلم عن الإيمان جعل لهذا الكتاب مقدمة طويلة جداً في الإيمان ومسائل الإيمان واختلاف أهل العلم في بعض قضايا الإيمان وغير ذلك، ومثله إذا تكلم في القدر، أو في الملائكة، أو في الإنس، أو في الجن جعل المقدمة مناسبة للموضوع ودليلاً عليه ومدخلاً له.

    قال: [ حصر الأشياء في قدرته، وأحاط بها علمه ] إذاً: تكلم هنا عن مرتبة العلم، وأيضاً مرتبة الإرادة.

    قال: [ ونفذت فيها مشيئته ] وهذه مرتبة من المراتب.

    قال: [ وصلى الله على خير خلقه محمد النبي وآله وسلم.

    أما بعد: يا إخواني! وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها ]، وأقصد الطريق بمعنى: أقصرها وأقربها، ولذلك أنت دائماً تقول لآخر: أنت تكلمني كثيراً، أنا أريد أن تعطيني الموضوع مباشرة، أي: تدخل في الموضوع مباشرة من أقصر وأقرب طريق.

    قال: [ وفقنا الله وإياكم لأقصد الطريق وأهداها، وأرشد السبل وأسواها، فهي طريق الحق التي اختارها وارتضاها، واعلموا أن طريق الحق أقصد الطرق ]، أي: أن طريق الحق أقصر وأقرب الطرق في الوصول إلى الله عز وجل.

    قال: [ ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله في كتابه وجاءت به رسله ]، انظر مراد الله تعالى يتحقق في العباد بأمرين اثنين لا ثالث لهما: بالكتاب والسنة، فهل يمكن لأحد أن يزعم أو يدعي أن الله تعالى أراد منا غير ما طلبه في كتابه وفي سنة رسوله؟ وهل يزعم أحد أن مراد الله تعالى من عباده خارج عن نطاق الكتاب والسنة؟ إذاً: أنت عندما تريد أن ترضي إنساناً مستحيل أن ترضيه أبداً؛ لأنه يتلوى ويتلون ويتلطف في مراداته ولا يكاد يفرغ منها، فكلما أرضيته بشيء طلب المزيد، وكلما أرضيته بالمزيد طلب أكثر من المزيد، بحيث تعجز أنت في النهاية عن تحقيق مراده ومرضاته، وإذا رضي عنك اليوم سخط عليك غداً، والعكس بالعكس.

    أما الله عز وجل -ولله المثل الأعلى- ورسوله عليه الصلاة والسلام فمرادهما في الكتاب والسنة، والله تعالى لا يطالبنا بشيء ليس في الكتاب، وكذا الرسول عليه الصلاة والسلام لا يطالبنا بشيء ليس في السنة، وأريد أن أقول: إن مراد الله تعالى من العباد مذكور بغير زيادة ولا نقص في الكتاب والسنة، ويمكن بلوغ المرضاة وبلوغ الرضا لله عز وجل بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.

    قال: [ ومناهجه أوضح المناهج، وهي ما أنزله الله تعالى في كتابه وجاءت به رسله، ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً ]، أي: الدين ليس رأياً متبعاً من آراء الرجال، أو هوىً مبتدعاً، فدين الله تبارك وتعالى كله حق وصدق، والذي جاء في الكتاب وصحت به السنة ليس هو من الأهواء ولا البدع، وكل ما دون الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لا شك أنه إما قول لا دليل عليه، وإما هوىً مبتدعاً يأثم به صاحبه، كما قال ابن القيم :

    العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

    ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

    فبين ابن القيم -عليه رحمة الله- أن العلم في الكتاب والسنة والإجماع، خاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليه.

    قال: [ ولم يكن رأياً متبعاً، ولا هوىً مبتدعاً، ولا إفكاً مخترعاً، وهو الإقرار لله بالملك والقدرة والسلطان، وأنه هو المستولي على الأمور ]، أي: ليس أمراً من الأمور يكون في الكون إلا بإرادة الله عز وجل.

    قال: [ سابق العلم بكل كائن ] إثبات لمرتبة العلم، أي: أن الأشياء لا تقع إلا بعلم الله عز وجل، وأن الله لما علم ذلك كتبه في اللوح المحفوظ.

    قال: [ونافذ المشيئة فيما يريد سبحانه وتعالى، كان الخلق كله وكل ما هو فيه بقضاء وقدر وتدبير، ليس معه شريك ولا دونه مدبر ولا له مضاد سبحانه وتعالى، بيده تصاريف الأمور، وهو الآخذ بعقد النواصي، والعالم بخفيات القلوب ومستورات الغيوب، فمن هداه بفضل منه]، أي: من هداه الله فذلك بفضله سبحانه وتعالى.

    قال: [ فمن هداه بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر ] أي: ومن خذله الله تعالى فهو الضلال بعينه بلا حجة ولا عذر، وأثبت الله تعالى أن أهل الهداية إنما كانت هدايتهم بفضله ورحمته وطوله، وأثبت أن أهل الضلال لا عذر لهم بين يدي الله؛ لأن الله تعالى أفرغ لهم العذر ببعثة الرسل وإنزال الكتب، وميزهم بالعقل على غيرهم، فقامت عليهم حجة الله تعالى، وحينئذ فليحيا من حي عن بينة، وليهلك من هلك عن بينة، لأن الله تعالى أفرغ عذرهم فلا عذر لهم بين يديه يوم القيامة، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15] .

    فمن لم يبعث إليه رسول، أو لم يصله رسول، ولم يسمع بأن الله أرسل رسولاً ولا أنزل كتاباً حتى مات عذره الله عز وجل بذلك، وهذه المسألة خلافيه عند أهل العلم، فمنهم من قال: يحاسبه الله تعالى على الحسن والقبيح، فإذا استقبح شيئاً وفعله حاسبه عليه، أي: عذبه. وإذا استحسن شيئاً وعمله أثابه عليه، لكن الآية صريحة وواضحة في أن من لم تبلغه رسالة الرسول، ولم يسمع ببعثة الرسل وإنزال الكتب، فإنه معذور لا يحاسبه الله عز وجل.

    خلق الله ذرية آدم وإحصائه لأعمارهم وأعمالهم ومنتهى كل واحد منهم

    قال: [ فمن هداه الله بفضل منه اهتدى، ومن خذله ضل بلا حجة له ولا عذر، خلق الجنة والنار ] والجنة والنار مخلوقتان الآن، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فوجد أكثر أهلها المساكين والفقراء، واطلع في النار فوجد أكثر أهلها النساء.

    قال: [ وخلق لكل واحدة منهما أهلا هم ساكنوها، أحصاهم عدداً، وعلم أعمالهم وأفعالهم، وجعلهم شقياً وسعيداً، وغوياً ورشيداً، وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة ]، وهذا معروف في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] وهذه الآية معروفة بآية الميثاق، وهو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله عز وجل من ذرية آدم، وذلك لما خلقه أخرج ذريته من صلبه، وما ترك في ظهره أحداً إلا وقد أخرجه مؤمنهم وكافرهم، ثم أخذ الله تعالى عليهم العهد: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، فهم قد شهدوا على أنفسهم بربوبية الله عز وجل وإلهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه الإله الحق وما دونه آلهة مزعومة باطلة لا تستحق العبادة، ولذلك أخرج الله ذرية آدم من ظهره كالذر وأخذ عليهم العهد وهم على هذه الصورة، أي: على صورة الذر، وفي ذلك أحاديث كثيرة جداً.

    قال: [ وخلق آدم عليه السلام وأخذ من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة، وقدر أعمالهم، وقسم أرزاقهم، وأحصى آجالهم، وعلم أعمالهم، فكل أحد يسعى في رزق مقسوم ]، أي: أن كل واحد يسعى في رزق مقسوم من قبل، ومقدر ومعلوم لله عز وجل، ولذلك سأل غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! فيم العمل، في أمر قد قدر وفرغ منه، أم في أمر سيكون؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: في أمر فرغ منه. فقالوا: يا رسول الله! ففيم العمل إذاً؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، لكن قد يقول قائل: أنا من أهل النار! فما عرفك أنك مكتوب في اللوح المحفوظ من أهل النار؟! وحتى وإن كنت شقياً فالأعمال بالخواتيم، ولذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار)، أي: في حياته كلها. (حتى ما يكون بينه وبينها)، أي: النار. (إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وحينئذ قال عليه الصلاة والسلام: (والأعمال بالخواتيم) فالإنسان لا يدري ماذا سيختم له، أو فيم يختم له، وإذا كان الإنسان لا يعلم أهو شقي أم سعيد، فالصحابة رضي الله عنهم -بل المبشرون منهم بالجنة- ما كانوا يأمنون من مكر الله.

    فهذا عمر يقول: لو أن الناس نودوا يوم القيامة: ادخلوا الجنة إلا واحداً لظننت أني ذلك الواحد. مع أنه مقطوع له بدخول الجنة.

    وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لو أن إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله. مع أن أبا بكر يعلم أن إيمانه يساوي إيمان الأمة وزيادة، لكن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى، وهذا عنوان المؤمن: يعبد الله تعالى بالخوف والرجاء، الخوف من ناره وعذابه، والرجاء في رحمته والطمع في جنته.

    أما الذي يعبده بالخوف فقط فإنه يذهب في آخر أمره إلى اليأس من رحمة الله، وربما ينتحر؛ لأنه آيس من رحمة الله، والذي يعبد الله تعالى بالرجاء فقط لا بد أن يفرط في فرائض الله تعالى وأوامره، فإذا قيل له: صل أو صم أو زك أو حج أو افعل ما أمر الله أو انته عن ما نهاك الله عنه، قال: رحمة ربك وسعت كل شيء! الله تعالى سيرحمنا! فيترك كل شيء ويفرط في كل شيء؛ اتكالاً على رحمة الله وعلى عفو الله، ولا شك أن هذا عبد هالك، وربما أدى به ذلك إلى الكفر بالله عز وجل، ويدخل في إجماع أهل العلم: أن من نطق بالشهادتين ولكنه ترك العمل كله، وارتكب النهي كله فهو كافر بالإجماع؛ لأنه ترك جنس العمل وقارف جنس النهي.

    قال: [ فكل أحد يسعى في رزق مقسوم ]، أي: معلوم لله تعالى، وعلم الله ذلك في الأزل، وفي الحديث الطويل في الصحيحين: (إن أحدكم يخلق في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك -ملك الأرحام- ويؤمر بكتب أربع: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فانظر الملك يكتب الرزق والأجل والعمل وإذا كنت من أهل الشقاء أو من أهل السعادة، وبالتالي إذا كان الأمر كذلك فيجب علينا أمران:

    الأول: ألا نتكل على ذلك؛ لأن الذي كتب ذلك أمرنا بالسعي في تحصيل أسباب السعادة والهروب من أسباب الشقاء، وإلا لكان بإمكان النبي -وهو النبي عليه الصلاة والسلام- أن يمكث في مكة ويدعو على أهل مكة، وأنتم تعلمون أن دعاء النبي مستجاب، وكان بإمكانه عليه الصلاة والسلام أن يجلس واضعاً إحدى قدميه على الأخرى وأن يدعو على صناديد الشرك والكفر في مكة، فيقتلهم الله عز وجل في بيوتهم ويرتاح عليه الصلاة والسلام، لكن لما كان هذا يصادم قصد المهمة الرسالية الإيمانية التي لأجلها أرسل الله الرسل، ويصطدم كذلك مع نطاح الخير والشر إلى قيام الساعة، وأن المرء لا يذوق حلاوة ما عليه من طاعة إلا إذا ذاق الشقاء، كالمرء لا يشعر بالراحة إلا إذا تعب، ولا يشعر بلذة العيش إلا إذا كسب بيده، بل لا والله لا يهنأ المرء السوي إلا بأن يأكل من عمل يده، ولذلك الأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم وهم أشرف الخلق صلوات ربي وسلامه عليهم.

    قال: (يؤمر بكتب رزقه)، إذاً: الله تعالى علم مقدار الرزق وكيفيته وحجمه، ثم كتب الله تعالى العمر، فإذا جاء أجله لا يقدم ولا يؤخر لحظة واحدة.

    أما الأحاديث الكثيرة التي تقول: (من أحب أن ينسأ له في عمره فليصل رحمه)، أي: من أحب أن يزاد له في عمره فليصل رحمه، فلأهل العلم أقوال كثيرة في ذلك، فقال بعضهم: تزيد فيه بالبركة والنماء وفعل الخيرات وغير ذلك، وهذا معنىً من معاني الزيادة.

    ولذلك خذ -مثلاً- الإمام الشافعي ، فقد عاش الإمام الشافعي أربعة وخمسين سنة، وأطبق علمه الأرض كلها، وسيظل كذلك بإذن الله إلى قيام الساعة، لكن لو نظرت إلى واحد منا اليوم، فتجد أن عمره أربعة وتسعون سنة وهو لا يحسن أن يتوضأ أو يصلي، ولا شك أن العمر إنما يزاد فيه بالخير وفعل الطاعة.

    الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله إذا نظرت إلى كتبه التي صنفها، وكذلك ابن القيم وغير واحد من السلف، فستجد العجب العجاب، بينما أحدنا لو رزق من العمر مائة عام فقضاها في التعلم والتعليم والعلم والتصنيف لما صنف مثل ما صنف هؤلاء أبداً، وغير ذلك من مظاهر البركة والنماء في أعمال أهل الطاعة والسلف منهم خاصة.

    معنىً آخر للزيادة: أن الله تبارك وتعالى لما أمر هذا الملك أن يكتب العمر -أي عمر هذا الجنين في بطن أمه- قال: اكتب: إذا كان واصلاً للرحم فسيعيش ستين عاماً، وإذا كان غير واصل للرحم فسيعيش أربعين عاماً.

    إذاً: الذي يعلم العمر على التحديد واليقين بغير زيادة ولا نقصان هو الله عز وجل، فلما علم الله تعالى أن هذا الجنين سيكون عبداً طائعاً لله عز وجل، واصلاً للرحم، كتبه في اللوح المحفوظ كتابة واحدة، فمثلاً: أنه سيعيش ستين عاماً، وأخفى الله تعالى ذلك على الملك.

    فلما كان واصلاً للرحم سبق ذلك في علم الله وكتبه في اللوح المحفوظ، وليس هذا الكتاب يقبل المحو ولا الإثبات إلا ما أثبت فيه، أما الذي يقبل المحو فهو الكتاب الذي كتبه ملك الأرحام؛ لأنه كتب قبل أن يكلف بصلة الرحم -أي: كان لا يزال جنيناً-، أن هذا العبد إذا كان واصلاً لرحمه يصير عمره ستين، وإذا كان غير ذلك يصير عمره أربعين، والملك لا يعرف ذلك، والجنين الذي صار رجلاً شاباً لا يعرف كم عمره، ولو أن كل إنسان علم عمره لاجتهد وجد في عبادة الله عز وجل.

    وتصور لو أن الله تعالى أطلعك أنك ستموت يوم السبت القادم فما موقفك؟ لا بد أنك ستقضي ذلك - أي هذا الأسبوع كله- في العبادة التي لا يمكن لك أن تزيد فيها، لكن السلف رضي الله عنهم استشعروا هذه المعاني، حتى قال غير واحد منهم: والله لو أن الله أطلعني على أن موتي غداً ما استطعت أن أزيد في عبادتي شيئاً؛ لأنهم بلغوا قمة العبادة، وليس عندهم شيء أكثر من ذلك، فهذا تفسير ثان لمعنى الزيادة في العمر، والله تعالى أعلم.

    السعي والعمل بين الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها

    قال: [فكل أحد يسعى في رزق مقسوم، وعمل محتوم إلى أجل معلوم]، أي: أن كل أحد يسعى إلى رزق مقسوم الله تعالى قسمه وعلم ذلك، لكن لا بد أن تسعى، وقديماً قال السلف: الاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد، فلو مرض أحدنا ثم ذهب إلى الطبيب، واعتقد أن هذا العلاج هو الشافي، فهذا شرك مع الله عز وجل، إذ إن العلاج سبب لحصول الشفاء وليس هو الشفاء، أو ليس هو الشافي، لأن الشافي هو الله عز وجل.

    أيضاً: واحد يظن أن هذا الطعام الذي يأكله هو الشبع بعينه، لا، إذ الطعام سبب للشبع، والشراب سبب للري، ولذلك اثنان أحدهما يأكل أكثر من الآخر، أو يأكل أضعافه ولا يشبع، كأن يقعد على المائدة فيأكل عشر دجاجات ويقوم وهو مقهور، والآخر يأكل في أول الطعام نصف رغيف فيشبع، بل ولا يجد له مسلكاً أو موضعاً.

    إذاً: الطعام سبب، أما أنه يحصل به الشبع مجرداً فلا، إذ إن هذا بقدرة الله عز وجل، ولذلك المريض يقعد أسبوعاً وأسبوعين لا رغبة له للطعام والشراب، ولا يريد أحداً أن يرغمه على الأكل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإنما يطعمهم الله تعالى ويسقيهم).

    وقول السلف: وترك الأسباب قدح في التوحيد. فلو أن مريضاً ذهب إلى الدكتور وصرف له علاجاً، ثم قال: هذا العلاج هو الشافي، فقلت له: أنت بهذا تكون مشركاً، لكن لو أن المريض لم يذهب إلى الدكتور أبداً، وأقعد في المرض حتى مات، فإن هذا قدح في التوحيد، إذاً ما المطلوب مني؟ مطلوب مني أن أقول: الخير كله من عند الله عز وجل، والذي بيده الخير والشر هو الذي أمرني بالسعي والبحث.

    كذلك: آخر يقول: الله ربنا قادر على كل شيء، قادر من جهة القدرة أن يرزقني ولداً بغير زوجة، إذ إنه خلق عيسى عليه السلام بغير أب، وخلق آدم من غير أب ولا أم، فهذا دليل القدرة، ونحن لسنا في حاجة إلى دليل لقدرة الله عز وجل؛ لأننا نعتقد أن الله على كل شيء قدير بغير نماذج ولا أمثلة، لكن الله تعالى أعطانا نماذج حتى تكون نبراساً لنا، لكن هذا الرجل قاعد ومعه فلوس ولا يعمل شيئاً، فإذا قلت له: تزوج يا فلان، قال: لا، وبعد الصلاة قعد في البيت يقول: يا رب! ارزقني الولد الصالح! كيف يرزقه الولد الصالح وهو لم يتزوج بعد؟! يقول: الله قادر على كل شيء! إذاً: ترك الأسباب قدح في التوحيد، أي: من توحيد الله عز وجل أن تسعى لتحصيل أسباب الحياة، فمن أجل الولد لا بد أن تسعى في الحصول على زوجة، ومن أجل الشبع والري لابد أن تسعى في الحصول على الطعام والشراب، ولا تقول: يا رب! أشبعني! وأنت لم تتناول الشراب أو الطعام، وتقول: أنا لا آكل ولا أشرب؛ لأن ربنا قال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79]! وقد يقولون: العمل شرك بالله! مع أن الأنبياء كانوا يعملون، وربنا أمر المؤمنين بالعمل، وليس هناك آية في كتاب الله عز وجل إلا وجمعت بين الإيمان والعمل، آمنوا وعملوا، فالعمل من الإيمان.

    لذا فلا يصح لأحد أن يقول: أنا أترك العمل لأنه شرك! إن ترك العمل وترك الأسباب قدح في التوحيد، أنا ممكن أن أشتغل كل النهار، ثم يأتي إلي رب العمل فيضحك علي، وما أكثر الذين يضحكون على الناس، ثم في الأخير يعطيك خروجاً نهائياً من بلده، لكن على أية حال أنت قد شرعت في الأخذ بالأسباب، والله تعالى حينئذ لا يضيعك، بل يفتح لك أبواباً أخرى أفضل من الأبواب التي أغلقت؛ لأن كل الأبواب بإذن الله تعالى وبيديه سبحانه وتعالى، فربما فتح لك وأغلق على من أغلق عليك حقك، لأن كل هذا بيد الله سبحانه وتعالى، فحينئذ يجب على العبد أن يسعى في تحصيل أسباب الحياة وأسباب الطاعة، لكن أنت تقول: أنا لا آكل ولا أشرب ولا أتزوج ولا ولا ولا، فربما يصل بك الأمر إلى أن تقول: أنا لن أصلي ولن أصوم ولن أزكي ولن أحج، وربنا قادر أن يدخلني الجنة! بل ربنا قادر على أن يدخل شارون الجنة! لكن القادر هو الذي أخبر وبين في كتابه وعلى لسان رسوله أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، إذاً شارون لن يدخل الجنة إذا مات على ما هو عليه، وهو ممكن أن يموت على الإسلام والتوحيد ويصير أحسن مني ومنك؛ لأن ذلك بيد الله عز وجل.

    والعجيب أن رجلاً من جنوب أفريقيا كان قد بلغ في التنصير أشده، فمكافأة له عينوه رئيس مكتب البابا الفاتيكان في روما، وقد أسلم منذ أكثر من خمسة وعشرين يوماً تقريباً، فتصور هذا الرجل وقد عين رئيساً للمكتب مكافأة له على مجهوده في التنصير في جنوب أفريقيا وشرق آسيا، وكانت له طائرة معدة خاصة تنقله من مكان إلى مكان، ومن دولة إلى دولة؛ لفرط نشاطه ومجهوده الخارق الذي يبلغ مجهود أمة، وفي يوم أن أسلم أسلم معه ثلاثون ألفاً من جنوب أفريقيا، وقد اطلعت على دعوته القساوسة والعمد الذين هم رءوساء القرى في جنوب أفريقيا، فإذا بها دعوة بسيطة جداً يستطيع أن يدعو بها أي مسلم حتى وإن لم يكن له كثير حظ من علم، فقد كان يذهب للملك أو العمدة أو شيخ القبيلة أو القرية ويقول له: أنت أحسن أم فلان من الناس المسلمين؟ فيقول: أنا. فيقول له: ولم؟ أنت ما آمنت إلا بعيسى، بينما هو يؤمن بعيسى وبمحمد، إذاً هو أفضل منك؛ لأنه آمن باثنين وأنت آمنت بواحد، فيسلم الرجل، إنه شيء عجيب جداً، لكن أنا أظن أن السر في ذلك الإخلاص، وقبل الإخلاص توفيق الله عز وجل، ولا يزال الرجل يدعو إلى الآن.

    لكن قد يقول قائل: لن يتركوه، بل سيقتلونه، فلو أنهم قتلوه ففي سبيل الله، لكن لا بد أن تعتقد أنهم لن يتمكنوا من ذلك إلا بقدرة الله وإرادته، وخير للمسلم أن يقتل في طاعة، وهكذا ينبغي أن يضبط المسلم أفعاله وأقواله بقدرة الله عز وجل.

    خلق الله للخير والشر وإيجاده للعاملين بكل واحد منهما

    قال: [ فكل أحد يسعى في رزق مقسوم وعمل محتوم إلى أجل معلوم، قد علم الله ما تكسب كل نفس قبل أن يخلقها ]، إثبات مرتبة العلم.

    قال: [ فلا محيص لها عما علمه منها، وقدر حركات العباد وهممهم ]، أي: الهم بالأعمال.

    قال: [ وهواجس القلوب وخطرات النفوس، فليس أحد يتحرك حركة ولا يهم همة إلا بإذنه، وخلق الخير والشر ]، أي: أن ربنا خلق الشر، وأنت لا تذوق حلاوة الخير إلا إذا رأيت الشر، كما أنك لا تشعر بحلاوة التوبة إلا بوجود الذنب، ولكن الشر المحض ليس من أفعال الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك والشر ليس إليك)، أي: الشر المحض ليس من أفعال الله، لكن ما هو الشر؟ الشر الذي يحمل معه الخير، فالقتل شر، فلو أن قاتلاً قتل وأقيم عليه الحد على ملأ من الناس، وما أعظم الملأ في هذا الزمان، ملأ الإنترنت وملأ الدش وملأ التلفزيون وملأ الراديو، فتصور لو أن العالم كله -كما يجتمعون على المباريات والمغنيات وغير ذلك- يجتمعون لإقامة الحد في فلان؛ لأنه قتل بغير حق، فهل سيفكر أحد رأى هذا المشهد أن يقتل؟ لا يمكن، ولذلك يكون من الخير أن يقتل هذا ويراه طائفة من المؤمنين، وهذه الطائفة ربما سولت لها نفسها أن تقتل، لكن المرء سيفكر مليون مرة قبل أن يقتل أنه سيعرض في نفس المكان ويقام عليه الحد ويتفرج عليه الخلق، ولذلك يحجم فوراً.

    كذلك: النار شر وفيها الخير، فنقضي بها مصالحنا ويعذب بها من استحق العذاب وغير ذلك. أيضاً: خلق إبليس هل هو خير أم شر؟ إنه لا خالق إلا الله، فله الخلق والأمر سبحانه وتعالى، وحينئذ نقول: الله تعالى لما خلق إبليس يكون قد خلق الشر، فيكون الشر والخير من خلق الله عز وجل، ولذلك قال هنا: [ وخلق الخير والشر، وخلق لكل واحد منهما عاملاً يعمل به، فلا يقدر أحد أن يعمل إلا لما خلق له، وأراد قوماً للهدى ]، انظر مرتبة الإرادة.

    قال: [ وأراد قوماً للهدى، فشرح صدورهم للإيمان وحببه إليهم وزينه في قلوبهم، وأراد آخرين للضلال]، قوله: وأراد آخرين للضلال، إرادة كونية قدرية.

    قال: [ وأراد آخرين للضلال فجعل صدورهم ضيقة حرجة، وجعل الرجاسة -أي: الرجس والنجس- عليهم، وأمر عباده بأوامر وفرض عليهم فرائض، فلن يؤدوها إليه إلا بتوفيقه ومعونته ]، حتى تعرف لما تصلي أو تصوم أو تزكي أو تحج أو تطلب العلم أن ذلك بفضل الله وتوفيقه لك.

    قال: [ وحرم محارم وحد حدوداً، فلن يكفوا عنها إلا بعصمته ]، من الذي يعصمك من الشر؟ الله عز وجل.

    قال: [ فالحول والصول والقوة له سبحانه، وواقعة عليهم حجته، غير معذورين فيما بينهم وبينه ]، أي: أنهم غير معذورين بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

    سلامة الصدر الأول من المسلمين من استعمال الآراء والميل للأهواء ووقوع من بعدهم في ذلك

    قال: [يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلم يزل الصدر الأول ]، أي: القرون الأولى، خاصة قرن الصحابة رضي الله عنهم.

    قال: [ على هذا ]، أي: على هذا المعتقد جميعاً.

    قال: [ على ألفة القلوب واتفاق المذاهب، كتاب الله تعالى عصمتهم وسنة المصطفى إمامهم، لا يستعملون الآراء، ولا يفزعون إلى الأهواء، فلم يزل الناس على ذلك والقلوب بعصمة مولاها محروسة، والنفوس عن أهوائها بعنايته محبوسة، حتى حان حين من سبقت له الشقوة ]، أي: حتى جاء وقت البدعة والأهواء.

    قال: [ وحلت عليه السخطة، وظهر الذين كانوا في علمه مخذولين ]، أي: الذين سبق في علم الله أنهم مخذولون من أصحاب البدع والأهواء.

    قال: [ وفي كتابه السابق ]، أي: اللوح المحفوظ.

    قال: [ أنهم إلى أعدائهم من الشياطين مسلمون، ومن الشياطين عليهم مسلطون، فحينئذ دب الشيطان بوسوسته فوجد مساغاً لبغيته، ومركبا وطياً إلى ظفره بحاجته، فسكن إليه المنقاد إلى الشبهات، والسالك في بليات الطرقات، فاتخذها دليلاً وقائداً، وعن الواضحة حائداً ]، أي: عن الملة والشريعة حائلاً.

    قال: [ طالب رياسة وباغي فتنة ] أي: أن الذي يحيد عن الشريعة تجده إما أن يكون طالب رياسة أو زعامة، أو باغي فتنة، وأهل البدع والشرور أكثر من ذلك، فإما أن تحمله الرياسة على تنكب الطريق، أو يحمله حبه للفتن على تنكب الطريق.

    قال: [ معجب برأيه وعابد لهواه، عليه يرد وعنه يصدر، قد نبذ الكتاب وراء ظهره، فلم يستشهده ولم يستشره، ففي آذانهم وقر وهو عليهم عمى ]، يقول لك: رأيي صحيح ولن أتراجع عنه! وكأن رأيه قرآن أو سنة؛ لأنه تعود أن رأيه لا يرد ولا ينتقد.

    قال: [ كأنهم إلى كتاب الله لم يندبوا، وعن طاعة الشيطان لم يزجروا، فهم عن سبيل من أرشده الله متباعدون، ولأهوائهم في كل ما يأتون ويذرون متبعون، واستحوذ الشيطان على من لم يشرح الله صدره للإسلام، وأورده بحار العمى، فهم في حيرة يترددون، فجاروا عن سواء السبيل، فقالوا: بيد الشيطان من أمر الخلق ما لا يجوز أن يكون بيد الله ومشيئته ]، أي: أنهم قالوا: إن الشيطان يملك ما لا يملك الله تعالى!

    قال: [ ومشيئته فيهم حائلة تدون مشيئة الله لهم ] أي: مشيئة الشيطان في العباد نافذة أكثر من مشيئة الله عز وجل -هكذا يقولون- وهذا كفر بواح.

    قال: [ فضعفوا أمر الله ووهنوه، وردوا كتاب الله وكذبوه، وقووا من أمر الشيطان ما ضعفه الله حين قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وقد كان سلفنا وأئمتنا رحمة الله عليهم يكرهون الكلام في القدر ]، أي: قد كان السلف رضي الله تعالى عنهم يكرهون الكلام في القدر، ولهذا الموضوع أدلة ونصوص كثيرة أظن لو اكتفينا بهذا القدر لكان فيه كفاية حتى نبدأ الموضوع في الدرس القادم من أوله بإذن الله تعالى.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    حكم سب الدين

    السؤال: هل سب الدين كفر مخرج من الملة؟

    الجواب: الإجماع على أن سب الدين كفر مخرج من الملة، أما الساب فهل يخرج من الملة أو لا يخرج؟ هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فجمهور السلف على أن ساب الدين يكفر بذلك، وابن تيمية له تفصيل في ذلك، قال: إن أراد بالدين: شرع الله الذي نزل من السماء، فيكفر بالإجماع، وإن أراد به أخلاق المسبوب فلا يكفر، لكن ينبغي أن يعزر ويؤدب حتى لا يتعود أن يسب الدين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766256119