أما بعد:
فقد انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن صفة الحكمة لله سبحانه وتعالى، وسنتحدث إن شاء الله في هذا الدرس عن صفتي السمع والبصر، وصفتي الإرادة والمشيئة.
وقد تحدثنا عن أدلة إثبات صفة السمع والبصر، وقلنا: إن الأدلة على إثبات السمع والبصر أدلة عقلية وشرعية، وعندما نقول: إن الاستدلال يكون بالأدلة العقلية والأدلة الشرعية لا يعني أن الإيمان بأن الله عز وجل سميع وبصير يتوقف على الاستدلال بالعقل، وإنما نذكر الاستدلال بالعقل على هاتين الصفتين لعدة أمور:
منها: أن هاتين الصفتين من الوضوح والجلاء والبيان بحيث إن العقل دل عليهما، وأرشد القرآن إليهما.
ومنها: أن فيه الرد على الذين أولوا صفة السمع والبصر بالعلم أو بالإدراك.
شروح يقصد منها توضيح مسائل الكتاب، والاستدلال له، وبيان المسائل التي تنطوي تحته.
وهناك نوع من الشروح وهو: الشروح النقدية، وهو أن يأخذ كتاباً من كتب أهل البدع فيشرحها لينقد ما فيها من الأخطاء والبدع، ولهذا شرح أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً آخر من كتب أهل البدع، وهو: المحصل للرازي، وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، وهذا الكتاب غير موجود الآن، لكنه شرحه شرحاً نقدياً، ومن الشروح النقدية مثلاً في أصول الفقه: أن أبا الوليد الباجي رحمه الله شرح كتاب الرازي المحصول فانتقده تقريباً في كل شيء، حتى في عنوان الكتاب، فمن المفروض أن يقول: المحصول إلى...؛ لأنه يحتاج إلى تعدية بحرف الجر.
فكتاب العقيدة الأصفهانية هو للشيخ شمس الدين محمد بن الأصفهاني ، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الكتاب وهو في الديار المصرية في سنة سبعمائة واثنتي عشرة وهذا الكلام هو فيما يتعلق بالاستدلال العقلي.
يقول رحمه الله تعالى: [ومما يوضح ذلك: أن وجوب تصديق كل مسلم بما أخبر الله به ورسوله من صفاته ليس موقوفاً على أن يقوم عليه دليل عقلي على تلك الصفة بعينها، فإنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبرنا بشيء من صفات الله تعالى وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم ثبوته بعقولنا، ومن لم يقر بما جاء به الرسول حتى يعلمه بعقله فقد أشبه الذين قال الله عنهم: قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124].
ومن سلك هذا السبيل فهو في الحقيقة ليس مؤمناً بالرسول، ولا متلقياً عنه الأخبار بشأن الربوبية، ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك، أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر إن علمه بعقله آمن به، وإلا فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول وإخباره، وبين عدم الرسول وعدم إخباره، وكان ما يذكره من القرآن والحديث والإجماع في هذا الباب عديم الأثر عنده، وهذا قد صرح به أئمة هذا الطريق، يعني بهم: المشتغلين بعلم الكلام ونحوه].
أحدها: السمع، كما ذكره -يعني: المصنف- وهو ما في الكتاب والسنة من وصفه بأنه سميع بصير، ولا يجوز أن يراد بذلك مجرد العلم بما يسمع ويرى؛ لأن الله فرق بين العلم وبين السمع والبصر، وفرق بين السمع والبصر، وهو لا يفرق بين علم وعلم إلا لتنوع المعلومات]، وهذا من الاستدلال القوي على إبطال من أول السمع والبصر بأنه العلم، وذكر الدليل على ذلك، وهو قول الله عز وجل: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] ففرق بين السميع والعليم، وهكذا كل آية ورد فيها سميع عليم.
يقول: [وفرق بين السمع والبصر أيضاً عندما قال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58] ].
ثم ذكر الطريق الثانية فقال: [لو لم يتصف بالسمع والبصر لاتصف بضد ذلك، وهو: العمى والصمم، كما قالوا مثل ذلك في الكلام] يعني: أنه لو لم يكن متكلماً لكان أصم [لأن المصحح بكون الشيء سميعاً بصيراً متكلماً هو: الحياة، فإذا انتفت الحياة امتنع اتصاف المتصف بذلك، فالجمادات لا توصف بذلك لانتفاء الحياة فيها، وإذا كان المصحح هو الحياة كان الحي قابلاً لذلك، فإن لم يتصف به لزم اتصافه بأضداده]، وقد سبقت الإشارة إلى هذه الطريقة، وقلنا: إن هذه طريقة قرآنية صحيحة أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التدمرية عند القاعدة السابعة.
ثم استطرد في الرد على الفلاسفة استطراداً طويلاً، ثم قال: [الطريق الثالث لأهل النظر في إثبات السمع والبصر: أن السمع والبصر من صفات الكمال، فإن الحي السميع البصير أكمل من حي ليس بسميع ولا بصير، كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي، والموجود العالم أكمل من موجود ليس بعالم، وهذا معلوم بضرورة العقل، وإذا كانت صفة كمال فلو لم يتصف الرب بها لكان ناقصاً، والله منزه عن كل نقص، وكل كمال محض لا نقص فيه فهو جائز عليه، وما كان جائزاً عليه من صفات الكمال فهو ثابت له، فإنه لو لم يتصف به لكان ثبوته له موقوفاً على غير نفسه، فيكون مفتقراً إلى غيره...] إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثم ذكر الطريق الرابع في إثبات السمع والبصر والكلام فقال: [إن نفي هذه الصفات نقائص مطلقاً]، يعني: الطريقة الثالثة: الاستدلال بالكمال، [نقائص مطلقاً سواء نفيت عن حي أو جماد، ومتى انتفت عنه هذه الصفات لا يجوز أن يحدث عنه شيء، ولا يخلقه، ولا يجيب سائلاً، ولا يعفوا ولا يعبد ولا يدعى]، ثم استدل على ذلك وبين أنها طريقة قرآنية بقول الله تعالى: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42].
[فدل هذا على أن الذي لا يسمع ولا يبصر أنه لا يغني شيئاً، وأنه لا يستحق العبادة، والله عز وجل مستحق للعبادة، وهو الخالق سبحانه وتعالى، فلزم من ذلك: أنه سميع بصير، وهذا استدلال عقلي قرآني]، يعني: القرآن أرشد إلى الاستدلالات العقلية الصحيحة التي ليس فيها مدخل من مداخل الباطل، وليس فيها شيء من اللوازم الباطلة التي تؤثر على عقيدة الإنسان، وهو كلام نفيس في هذه المسالة.
وجه الاستدلال منهما: أن اسم الله عز وجل السميع واسمه البصير يتضمن كل منهما صفة، فاسمه السميع يتضمن صفة السمع، واسمه البصير يتضمن صفة البصر، والدليل على أن الأسماء تتضمن الصفات هو: قول الله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، ووجه الاستدلال من هذه الآية على أن أسماء الله عز وجل تتضمن صفات هو لفظ الحسنى، فالحسنى على وزن فعلى، وهي تدل على أن أسماء الله عز وجل في غاية الحسن والجمال والكمال، فلو كانت لا تتضمن صفات لكانت ليست ببالغة الغاية في الحسن؛ لأن الأعلام المحضة التي لا معاني لها ليست من الحسن في شيء، فلما كانت أسماء الله عز وجل حسنى عرفنا من هذا أنها تتضمن معاني عظيمة جداً.
ويلاحظ: أن الاستدلال بالآية الأولى والاستدلال بالآية الثانية وجههما واحد، وهو: الاستدلال بالأسماء على الصفات.
الأول: المجيب: يقول الله عز وجل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39].
المعنى الثاني: أنه سامع الأصوات: فهو سبحانه وتعالى يسمع الأصوات القليلة والكثيرة، الخفية والمعلنة، كما قال الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]... إلى آخر الآية.
وسبق أن قوله: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، جاء في كتاب التوحيد من صحيح البخاري أن هذه الآية نزلت في قصة خولة بنت ثعلبة عندما جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها الذي ظاهر منها، وكانت عائشة في نفس الدار، وهي لا تسمع شكوى خولة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك سمعها الله عز وجل من فوق سبع سموات.
المعنى الثالث: أنه يراد به النصرة والتأييد، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
والمعنى الرابع: أنه يراد به التهديد والوعيد، يقول الله عز وجل: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].. أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف:80].
جاءت هنا هذه الصفة في مساق التهديد والوعيد، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به) رواه البخاري ومسلم .
معناه: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن يجهر به.
فمعنى الإذن هنا: الاستماع.
والثاني: إثبات الرؤية لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
وكقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14].
وكقوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105].
فالرؤية هنا بمعنى: البصر.
وكذلك حديث جبريل الطويل عندما ذكر أركان الإيمان وأركان الإسلام وجاء إلى الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وكذلك ثبت أن الله عز وجل ينظر، يدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم).
فقوله: (لا ينظر إليهم) صفة منفية تدل على كمال الضد، وهو النظر في حال الرضا، وهذا استدلال بالمفهوم، هذا نوع من الاستدلال، ومعلوم أن الاستدلال تارة يكون بالمنطوق، يعني: بظاهر اللفظ، مثل: إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ [إبراهيم:39]، فمنطوق الآية: أن الله عز وجل يسمع دعاء الداعي، ويجيب دعاءهم.
وهناك نوع آخر من الاستدلال وهو الاستدلال بالمفهوم، والاستدلال بالمفهوم في باب العقائد استدلال صحيح، وقد عمل به الأئمة، فـالشافعي رحمه الله استدل على إثبات رؤية الله عز وجل بالمفهوم عندما نفى الله عز وجل عن الكفار الرؤية في سورة المطففين، دل هذا بالمفهوم على أنهم يرونه، قال الله: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
استدل الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أنهم لما حجبوا في حال الوعيد والكراهة لهم، دل ذلك على أنهم يرونه في حال الرضا عنهم ومحبته لهم.
أما المعتزلة فإن عامتهم لا يثبتون صفة السمع والبصر بناءً على أصلهم في التوحيد؛ فإنهم يعتقدون أن التوحيد يلزم منه نفي الصفات، ويوجد من المعتزلة من يثبت صفة الإدراك، وبعضهم: يثبت صفة السمع والبصر، لكن يقول: له سمع وبصر هي ذاته، فهو في الحقيقة ينفيها.
أما الأشاعرة فإنهم يتظاهرون بإثبات صفة السمع والبصر، وهم يثبتون سبع صفات، ويسمونها صفات المعاني، ومن هذه الصفات: السمع والبصر، ولكنهم يفسرونها بغير معناها الصحيح، فبعضهم يقول: إن السمع البصر هما: العلم، أو الإدراك، ولهذا التزم بعضهم بأن الله عز وجل يرى المسموعات ويسمع المبصرات؛ لأنها بمعنى واحد عنده كالعلم، وهذا باطل، وسبق في كلام شيخ الإسلام رحمه الله في شرح العقيدة الأصفهانية: أن العلم غير السمع، ولهذا فرق الله عز وجل بينهما عندما قال: سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:181]، فلو كان معناهما واحداً لما فرق بينهما سبحانه وتعالى، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: فإنه قد سبق أن أشرنا إلى أن العليم قد يعلم وهو لا يرى، وقد يعلم وهو لا يسمع، فلا يلزم من العلم وجود السمع والبصر، وهذا يدل على أن العلم صفة، وأن السمع والبصر صفتان تختلف عن العلم.
فإذا عدي بـ(في) كان معناه: التفكر والاعتبار، كقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، يعني: يعتبروا ويتفكروا.
ومنها: أن يعدى بـ(إلى)، فإذا عدي بإلى فمعناه: نظر العين، كقوله تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام:99]، انظروا يعني: بالعين.
وتلاحظون أن الآيات أو الأحاديث التي ورد فيها إثبات النظر معداة (بإلى)، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم -ثم قال: ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فهذا النظر بمعنى الإبصار.
وكذلك في السمع والبصر؛ فعندما يدعو داع من الذين يدعون الله عز وجل يسمعه، وقد كان قبل أن يسمعه سميعاً، فلما دعاه سمعه سبحانه وتعالى, وهم يقولون: إن هذا يلزم منه حدوث السمع، فإذا كانوا يقصدون: أنه يحدث لله سمع، ولم يكن من قبل سميعاً فهذا باطل لا يريده أهل السنة، وإن كانوا يقصدون أنه يسمع دعاء الداعي عندما يدعوه في ذلك الوقت، فهذا حق تثبته الأدلة وهم ينفونه، فيقولون: إن المبصرات والمسموعات الموجودة تتنوع، وقد رآها الله عز وجل من قبل برؤية واحدة، وبسمع واحد، وهم يعتبرون السمع والبصر مثل العلم، كأنه علمها بعلم واحد، وأنه لا يتجدد لله عز وجل سمع أو بصر، ويسمون هذا: حدوثاً.
وهذه الألفاظ لا ينبغي للمسلم أن يستعملها؛ لأنها ألفاظ اصطلاحية؛ كما أنه لا ينبغي للإنسان أن ينفيها نفياً مطلقاً، يعني: أن لفظ الحدوث والحيز والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ التي يستعملها أهل الكلام ألفاظ مبتدعة مخترعة تتضمن معاني صحيحة وباطلة، فلا يصح للإنسان أن ينفيها؛ لأنه قد ينفي معها شيئاً من الحق، ولا يصح أن يثبتها؛ لأنه قد يثبت معها شيئاً من الباطل.
والصحيح: أن يستفصل عن مراد القائل بها، فإذا قال: إن هذا يلزم منه الحدوث، نقول: بين لنا معنى الحدوث؟ وماذا تقصد بالحدوث؟
فإن كنت تقصد أنه إذا وجد الأمر المبصر، أو المسموع، والله عز وجل سمعه وأبصره، فهذا يحدث لله صفةً لم تكن موجودةً من قبل، بمعنى: أن الله لم يكن سميعاً ولا بصيراً حتى وجدت المسموعات والمبصرات، فهذا باطل لا نقره، فالله عز وجل سميع بصير سبحانه وتعالى، وعندما يحدث المخلوق يراه ويسمعه سبحانه وتعالى.
وإن كنت تعني بالحدوث أنه عندما يوجد المخلوق يسمعه الله ويراه، وقد حدث قريباً، ثم إذا حدث مخلوق آخر سمعه الله أو رآه، فهذا معنى حق لا ننكره، فالله عز وجل يسمع ويرى الأشياء حتى مع تأخرها وحدوثها، فهو سبحانه وتعالى يراها ويسمعها.
وهكذا كلمة الجهة؛ فإن أهل البدع ينفون صفة العلو لله عز وجل، ويقولون: إن هذا يلزم منه أن نثبت الجهة، فنقول: ما معنى كلمة الجهة عندكم؟ إن كنتم تقصدون أن الله في العلو؛ فنحن نثبت أن الله عز وجل في العلو سبحانه وتعالى، حتى لو سميتموها أنتم جهة فلا تعكر على إثباتها تسميتكم لها بالجهة، وأما إن كنتم تقصدون أنه في جهة محددة محصورة، فهذا معنى باطل لا نقره.
ولهذا في بعض الأحيان قد يأتي بعض هؤلاء المبتدعة فيطرحون على بعض أهل السنة مصطلحات، وقد يتفاعل معها بعض أهل السنة فينفيها مطلقاً، فإذا نفاها مطلقاً نفى شيئاً من الحق، أو قد يثبتها فإذا أثبتها أثبت شيئاً من الباطل.
والصحيح هو: أن نقف عند المصطلحات الشرعية، فالعلو يسمى: علواً، والسمع يسمى: سمعاً، والبصر يسمى: بصراً؛ فإذا جاءتنا ألفاظ من هؤلاء نستفصل عن معناها، فنثبت المعنى الحق، وننفي المعنى الباطل. هذه هي القاعدة في الألفاظ التي ترد من عند هؤلاء.
هنا تقدير، يعني: قلت: هذا ما شاءه الله.
وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، موضع الشاهد: (يريد).
وقوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، فيها إثبات صفة الإرادة.
وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].
ففي هذه الآيات إثبات صفة الإرادة لله سبحانه وتعالى، وهي صفة ثابتة لله عز وجل بالعقل وبالشرع، وقد أشار شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصفهانية إلى جانب الاستدلال العقلي، وأشهر دليل يستخدم في إثبات صفة الإرادة: إن الله عز وجل عندما خلق المخلوقات خصص بعضها بأشكال وألوان في الطول والقصر، والبياض والسواد، وخصصها بأنواع مختلفة. هذا التخصيص دليل على وجود إرادة عند المخصص وهو الخالق سبحانه وتعالى، فلو لم تكن هناك إرادة لما كان هناك تخصيص، فبعض الخلق جعلهم الله عز وجل بيضاً، وبعضهم سمر، بعضهم طويل، وبعضهم قصير، بعضهم عمره طويل، وبعضهم عمره قصير، بعضهم ذكر، وبعضهم أنثى، بعضهم إنسان، وبعضهم حيوان، بعضهم حي، وبعضهم جماد. هذا التخصيص يدل على أن الخالق الذي خلقهم له إرادة جعلت بعضهم هكذا، وبعضهم هكذا لحكمة، ففيه إثبات صفة الإرادة، وفيه إثبات أيضاً: صفة الحكمة.
إرادة كونية، وإرادة شرعية.
فمعنى الإرادة الكونية: أن الله عز وجل قد أراد أن يخلق هذه المخلوقات الموجودة بكل أنواعها وكل صورها الضار منها والنافع الخير والشر ونحو ذلك، فلا يمكن أن يوجد شيء في المخلوقات إلا وقد أراده الله عز وجل، ولا يمكن أن يحصل شيء لم يرده الله عز وجل من قبل، بل كل شيء أراده الله عز وجل حتى الكفر والمعاصي أرادها لحكمة، كما سبق أن أشرنا عند حديثنا عن صفة الحكمة لله عز وجل، فهذه إرادة عامة، ويدل على هذه الإرادة قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
هذه الآيات تدل على هذه الإرادة الكونية، وهذه الإرادة الكونية هي نفسها المشيئة، فقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة:253]، هي المشيئة، معناها: أن الله عز وجل شاء كوناً هذه المخلوقات جميعاً بكل أنواعها وأصنافها.
والنوع الثاني: هي الإرادة الشرعية، وهذه الإرادة الشرعية معناها: أن الله عز وجل أراد من العباد الأعمال الصالحة، ولهذا أمرهم ونهاهم، فهي موافقة لمحبة الله عز وجل، فالفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية من وجهين:
الوجه الأول: أن الإرادة الكونية لابد أن تحصل في الكون، فلا يمكن أن يوجد شيء في الكون إلا وقد أراده الله عز وجل، وأما الإرادة الشرعية فإنها قد تحصل وقد لا تحصل، فنحن نرى أن الأوامر الشرعية هي: ما أراده الله عز وجل من العباد شرعاً، وقد يطيع البعض وقد لا يطيع.
الوجه الثاني: أن الإرادة الكونية منها ما يحبه الله، ومنها ما لا يحبه الله عز وجل، فقد أراد الله عز وجل وجود الأعمال الصالحة في الكون. وهذا مما يحبه، كما أراد سبحانه وتعالى وجود الأعمال السيئة في الكون من أعمال الكفار ونحو ذلك، وهذا أيضاً مراد لله عز وجل، ولكن ليس معنى أنه مراد أنه محبوب لله.
أما الإرادة الشرعية فإنها تكون محبوبة لله عز وجل، فهو عندما أمر بالأوامر ونهى عن النواهي كان يحب من العباد أن يطيعوه فيما أمر، وأن يجتنبوا ما نهى عنه سبحانه وتعالى، فهذا هو الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وسيأتي الحديث عن هذا الأمر وفائدته في باب القدر، عند حديثنا عن خلق أفعال العباد، وعند حديثنا عن مراتب القدر بإذن الله تعالى.
الجواب على هذا: أن الله عز وجل قدر الأشياء قبل وجودوها، وهو عندما قدرها علم ما سيفعله سبحانه وتعالى، وأراد فعله في المستقبل، فهو علمها وأراد أن يفعلها في المستقبل، وهذه هي الإرادة القديمة، وهي: إرادة الله عز وجل، وهي التي يسميها العلماء: العزم، ثم بعد ذلك عندما أرادها الله سبحانه وتعالى قديماً لم يفعلها في تلك الحالة؛ لأنه أرادها في المستقبل، فإذا جاء وقتها أراد فعلها؛ لأن الفعل المعين المحدد لابد له من إرادة، وهذا هو القصد، فالأول: عزم، والثاني: قصد.
فالله عز وجل عندما قدر المقادير أراد أن يفعل ما يفعله في المستقبل. هذه إرادة قديمة، وهي التي يسميها العلماء العزم، فإذا جاء وقتها أراد الله عز وجل فعلها، فيفعلها سبحانه وتعالى، وهذا يسميه العلماء قصداً.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اختلاف أهل العلم في وصف الله عز وجل بالعزم، هل يجوز أن يوصف الله عز وجل بالعزم أو لا يجوز؟
فذكر فيها قولين: أصحهما: القول الثاني وهو الجواز، واستدل على ذلك بقول الله عز وجل: فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، هذه الآية فيها قراءتان:
القراءة الأولى وهي قراءة الجمهور: فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].
والقراءة الثانية: قراءة عكرمة وأبي جعفر وغيره: فَإِذَا عَزَمْتُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159]، فتصبح التاء هنا تاء المتكلم.
وكذلك يدل على إثبات صفة العزم لله عز وجل: ما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها عندما توفي زوجها أبو سلمة ، وحزنت عليه حزناً شديداً، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء المشهور، فقالت: (ثم عزم الله لي فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، بمعنى: أراد الله عز وجل لي قبل أن أتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكرت هذه المسألة في أثناء حديثي عن أقسام الإرادة، ونستطيع أن نقول: الإرادة عامة تشمل الإرادة الكونية. وهذه هي المشيئة، وتشمل الإرادة الشرعية. وليست هي المشيئة، فالمشيئة إذاً: موافقة للإرادة الكونية، فهي أخص من الإرادة، والإرادة بشكل عام تشمل المشيئة وزيادة ما عليها الإرادة الشرعية.
والدليل على أن المشيئة هي الإرادة الكونية؟
الدليل على ذلك: قول الله عز وجل: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13]، وقوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ [يونس:99]، فدل ذلك على أن المشيئة هنا هي المشيئة الكونية، أو هي الإرادة الكونية؛ لأن الإرادة الشرعية معناها: أن الله عز وجل يريد من العباد أن يؤمنوا، ومع هذا يقول: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ [يونس:99].
يقول: (قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى: أن يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه).
ولا شك أن هذا الكلام ليس بسليم وليس بصحيح؛ لأن مذهب السلف هو: إثبات أسماء الله عز وجل وصفاته من غير تعطيل ولا تحريف، وأما ما حكاه عن مذهب السلف فهو مذهب المفوضة الذين لا يثبتون معاني صفات الله سبحانه وتعالى.
والمفوضة مع كونهم لا يثبتون معاني صفات الله عز وجل فهم ينفونها في الحقيقة، يعني حقيقة مذهب المفوضة: هو أنهم ينفون الصفات لكن لا يحددون المراد من الآية، فالمفوضة والمعطلة من الأشاعرة الجهمية وغيرهم يتفقون جميعاً على نفي صفات الله عز وجل، لكن المفوضة يقولون: لا نعرف معنى الآية، والمؤولة يقولون معناها: كذا وكذا، إذاً: لجميع يتفق على نفي صفات الله سبحانه وتعالى، ومع هذا يقول: إن هذا هو مذهب السلف وهذا ليس بصحيح.
يقول: (كل منهما) يعني: من الطائفتين اللتين حكاهما، وهم جميعاً ينفون الصفات، ونسب إلى السلف أنهم مفوضة، يقول: (كل منهما يقطع بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله غير ظواهرها -وهذا كلام باطل- التي وضعت لها هذه الألفاظ بحق المخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفي التشبيه).
يعني: نفس كلام الأشاعرة ونفس كلام المفوضة، ومع أن موضوع الأشاعرة والمفوضة انتهى منذ زمان بعيد، وصار عدد كبير -ولله الحمد- من الدعاة وطلاب العلم يعرف أن الأشاعرة والمفوضة ليسوا من أهل السنة، وتعلمون أن إثبات الصفات هو عقيدة أهل السنة والجماعة، ومع هذا يحاول الدكتور القرضاوي أن يبرر للمفوضة وللمعطلة؛ لأن شيخه حسن البنا رحمه الله قد حكى أن مذهب السلف: هو التفويض، ولا شك أن هذا من التعصب -والعياذ بالله- للأشياخ.
يقول: (وأن اللغات مهما اتسعت لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل، فاللغة أقصر من أن تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق كالتحكم في تحديد المعاني لألفاظ التغرير.
وإذا تقرر هذا فقد اتفق السلف والخلف على أصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما بأن الخلف زادوا تحديد المعنى المراد حيثما ألجأتهم ضرورة التنزيه إلى ذلك حفظاً لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجةً ولا إعناتاً).
هو في الحقيقة لم يفهم مذهب السلف الصالح، فمذهب السلف الصالح: إثبات الصفات وليس تفويضها وعدم الإقرار بمعانيها، فهو -إذاً- حكى أن مذهب السلف: هو نفي الصفات لكن بدون تحديد للمعنى المراد من الآية؛ لأنه قال: وقد اتفق الجميع -يعني: السلف والخلف في تصوره- بأن المراد بألفاظ هذه النصوص في حق الله تبارك وتعالى غير ظواهرها.
مسألة هل ظواهر النصوص مرادهَ أو غير مرادهَ؟ هذه تحدث عنها العلماء قديماً، منهم ابن تيمية رحمه الله في الفتوى الحموية المشهورة، وبين أن مقولة: (إن منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم) أنها مقولة باطلة مبنية على أن مذهب السلف هو التفويض، كما فهمه الدكتور القرضاوي .
ثم نقل عن الشيخ البنا رحمه الله أنه يقول: (ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل).
وهو في الحقيقة: نفي للصفات لكي لا يفهم من معانيها شيء.
يقول: (ونعتقد إلى جانب هذا: أن تأويلات الخلف لا توجب الحكم عليهم بكفر ولا فسوق -والكلام للبنا - ولا تستدعي هذا النزاع الطويل بينهم وبين غيرهم قديماً وحديثاً).
كأنه يظن أن النزاع صوري ولفظي، مع أن المعركة التي حصلت بين السلف الصالح رضوان الله عليهم وبين المفوضة والمعطلة معركة حقيقية لها بناء عميق، وخلاف منهجي قوي جداً، ومع هذا يقول: هذه المسألة لا تحتاج إلى نزاع، وكأنه يقول: إن هؤلاء كانوا ينازعون في أمور لفظية.
يقول: (وقد لجأ أشد الناس تمسكاً برأي السلف رضوان الله عليهم إلى التأويل في عدة مواطن، وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه؛ من ذلك تأويله لحديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) وقوله: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن).
انظروا: يظنون أن هذه من التأويلات. هذه المسألة بحثها الشيخ محمد بن عثيمين في كتابه القواعد المثلى، وأنا أطلب من كل واحد أن يراجع كتاب القواعد المثلى ويقارن بين كلام الشيخ محمد رحمه الله، وبين كلام الدكتور القرضاوي ظن أن كلمة: (يمين الله) يعني: يد الله، مع أن الحديث أصلاً ليس بثابت.
ثم قوله: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن) فهم من ذلك: أن الأصبعين في جوف العبد، وهذا غير صحيح؛ فيمكن أن تكون قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن بدون مماسة، فالله عز وجل عندما تحدث عن مخلوق من مخلوقاته وهو السحاب قال: وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164]، والسحاب ليس بملتصق بالسماء ولا بالأرض، فلا يلزم منها المماسة، لكن هذا من الجهل، وقد تحدث العلماء عن هذه القضية ووضوحها، وقالوا: إن السلف لم يؤولوا، وإنما هذا بيان لمعاني الآيات والأحاديث، وليس هذا من التأويل في شيء.
ثم يقول: (المسافة إذاً ليست بعيدة بين الفريقين كما يتصور بعض الكاتبين أو يصور المتحمسون من كلا الفريقين).
وهذه هي القاعدة التي يدندن عليها هؤلاء وهي أنهم يقولون: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهم لم يحددوا ما اختلف فيه. ماذا يقصدون به، فقد اختلفنا مع اليهود والنصارى، هل يعني هذا أن يعذر بعضنا بعضاً، فإن قالوا: لا. ليس المقصود في أصل الدين، نقول: نحن اختلفنا مع القاديانية وهم ينتسبون إلى الإسلام، قالوا: لا، لا نقصد القاديانية، بل من هم أقل منهم شراً، نقول: إذاً: كيف تتحكمون؟! لابد أن تضبطوا هذه القاعدة، وألا تجعلوها قاعدة تعمم على كل الناس، وتتعاملوا مع الناس بها، ولهذا تجدون أن مثل هذه الطوائف قد تتعاطف مع الصوفية والأشاعرة وأهل البدع في الوقت الذي لا يمكن أبداً أن يكون هناك تعاطف بينهم وبين أهل السنة الحقيقيين.
ويقول: (واتهام الإخوان بأنهم من الأشاعرة لا ينتقص من قدرهم).
إذاً: الأشعرية ليست قضية مشكلة عند الدكتور القرضاوي.
يقول: (واتهام الإخوان بأنهم من الأشاعرة لا ينقص من قدرهم، فالمالكية والشافعية أشاعرة، والحنفية ماتريدية)، يعني: ما بقي إلا نحن الحنابلة فيما يتصور.
يقول: (والجامعات الدينية في العالم الإسلامي: أشعرية أو ماتريدية، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والديوبنت في الهند، وغيرها من المدارس والجامعات).
وهو بهذه الطريقة يتصور أنه يصحح منهج الأشاعرة بكثرة المتبعين لهم، وكما تعلمون أن الكثرة لا تدل على صحة الأمر، ولا تدل على صحة العقيدة، فالله عز وجل عندما حكى عن بعض الأنبياء قال: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود:40] وفي الحديث الصحيح في حديث ابن عباس : (يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان والثلاثة والرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد) فلا يعني هذا: أن دين هذا النبي أو عقيدة هذا النبي باطلة.
يقول: (من ذا الذي حمل لواء الدفاع عن السنة ومقاومة خصومها طوال العصور الماضية غير الأشاعرة والماتريدية).
يعني: ألغى دفاع السلف رضوان الله عليهم.
يقول: (وكل علمائنا وأئمتنا الكبار كانوا من هؤلاء الباقلاني الإسفراييني إمام الحرمين الجويني )، وهؤلاء كلهم من أهل الكلام، وكثير منهم رجع عن هذه العقيدة، في الوقت الذي يدندن القرضاوي على أن ينسبه مرة أخرى، مثلاً: الجويني يقول عند وفاته: أنا أتمنى أنني أموت على عقائد عجائز نيسابور، وليست عقائد الناس المتعلمين، عقائد العجائز، لماذا؟ لأنه يعتقد أن عقائد العجائز أسلم وأقرب إلى الفطرة، وهم اشتغلوا بأشياء بعيدة عن الفطرة.
ويقول الفخر الرازي :
نهايـة إقـدام العقـول عقال وغاية سعي العالمين ضـلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
ومع هذا يحشده القرضاوي مع الأئمة الذين يقولون بقوله.
ولو أن هناك فرصة لأتيت لكم بنقول هؤلاء الذين يتراجعون فيها عن عقائدهم، ويشعرون أنهم أخطئوا في هذه العقائد، وأنهم لم يصيبوا.
قال: (ولا توجد فئة سلمت من الزلل والخطأ فيما اجتهدت فيه، سواء في مسائل الفروع أو في مسائل الأصول).
المهم: أن هذه الفكرة -وهي: فكرة محاولة إقحام الأشاعرة والماتريدية والمفوضة في معتقد السلف- مسألة قديمة تحدث عنها المشايخ منذ زمن بعيد، من أكثر من خمسة عشر سنة.
يعني: منذ أكثر من خمسة عشر سنة تقريباً ظهر الصابوني ، وكتب مقالاً في نفس هذه المجلة، يقول فيه: إن الأشاعرة من أهل السنة، وإن الذين يقولون: إنهم ليسوا من أهل السنة مخطئون، ونقل عن شيخ الإسلام وزور في النقل أنه يقول: الأشاعرة أنصار أصول الدين، والعلماء أنصار فروع الدين، وهو ينقل عن أشعري، لكن ترك أول الكلام وآخر الكلام، ونقل ما يريد، ورد عليه عدد كبير من المشايخ منهم: الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، والشيخ: صالح الفوزان، وكذلك الدكتور: سفر الحوالي في كتاب منهج الأشاعرة في العقيدة، وألف عن الأشاعرة رسالة علمية كبيرة بعنوان: موقف ابن تيمية من الأشاعرة في ثلاثة مجلدات، يمكن لكم مراجعتها، ونحن من خلال هذه الدروس يتبين لنا الفرق بين معتقد السلف وبين معتقد هؤلاء الأشاعرة، وأنهم ليسوا من أهل السنة، فهم يخالفوننا في مصدر التلقي، حيث إن مصدر التلقي عندنا: هو النصوص الشرعية، وأنها هي المصدر الأساسي الذي نأخذ منه العقائد، أما هم فالمتكلمون منهم يقولون: إن المصدر هو العقل، والعقيدة لا تثبت عندهم إلا بالعقل، ولهذا نفوا صفات الله عز وجل الفعلية التي هي الصفات الاختيارية، ونفوا أيضاً الصفات الذاتية مثل: اليدين والعينين.. ونحو ذلك.
وكذلك يخالفوننا في القدر، فهم يقولون بالجبر، ويخالفوننا في الرؤية، فهم لا يثبتون الرؤية وإن أثبتوها بالاسم، قالوا: إن الله عز وجل يرى يوم القيامة، فإذا جاءوا يفسرون الرؤية قالوا: هي مجرد العلم والمعرفة، فلا يثبتون الرؤية التي تكون بالعين، ولهذا اقترب الأشاعرة اقتراباً كبيراً من المعتزلة، وصار أئمة الأشاعرة ممن ذكرهم القرضاوي -مثل: الجويني والرازي والغزالي - يستدلون بأدلة المعتزلة، بل إن بعضهم وصل به الغلو -مثل الرازي والآمدي - إلى مشابهة الفلاسفة والاستدلال بأدلتهم.
والحقيقة: أن الخلاف في هذه المسألة خلاف قديم، وكان المفترض ألا يجهله مثل الدكتور القرضاوي الذي اشتهر، لكن العقيدة التي في نفسه أبت إلا أن تنكشف وتتبين، علماً أن له فتاوى كثيرة تخالف النصوص الشرعية، وهو ما دعا إليه باسم: فقه التيسير، مثل قوله: بأن المرأة يجوز لها أن تمثل في القنوات الإسلامية كما يتصور، ونحو ذلك من أطروحاته التي يطرحها من خلال القنوات الفضائية، فمثل هذا لا ينبغي لأحد أن يقبل قوله، وليس هو من العلماء المعتبرين الذين يؤخذ قولهم بعين الاعتبار، وربما يأتي للحديث بقية إن شاء الله في نقد هذا الكلام.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر