إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن شهر رمضان هو شهر التوبة، فهو الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين، فالذي لا يستطيع أن يقهر نفسه ويطوعها لله عز وجل في هذا الشهر الكريم وقد صفدت الشياطين فمتى يستطيع قهر نفسه؟ ومتى يستطيع إلزام نفسه بطاعة الله عز وجل والاستقامة على طريقه سبحانه؟
والتوبة هي بداية الطريق ووسطه ونهايته، وبعد ما قدمه الصحابة الكرام من الإيمان والهجرة والجهاد والصبر أمرهم بالتوبة فقال عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فهذه الآية آية مدنية نزلت بعد الإيمان والهجرة والجهاد والصبر، أمرهم الله عز وجل فيها بالتوبة وعلق فلاحهم بها، فقال عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وقال عز وجل: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، فقسم الله عز وجل الناس إلى تائب وظالم، وليس ثم فريق ثالث: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
وقد فتح الله عز وجل هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر جميع العباد بالولوج من هذا الباب، فأمر المنافقين بالولوج منه، كما أمر المشركين عامة، وأمر اليهود والنصارى، وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم، كما أمر بذلك المؤمنين الصادقين، فالله عز وجل دعا جميع العباد إلى التوبة وإلى الدخول من هذا الباب العظيم فقد دعا إلى ذلك المنافقين فقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:145-146].
كما دعا المشركين فقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5].
وقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11].
كما دعا اليهود والنصارى الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73]، والذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، والذين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64].
فقال عز وجل بعد أن ذكر حالهم: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:74].
كما دعا إلى ذلك المسرفين على أنفسهم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
كما دعا المؤمنين الصادقين فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
والتوبة لها شرائط:
الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب.
الشرط الثاني: الندم على فعله.
الشرط الثالث: العزم على عدم العودة.
الشرط الرابع: رد المظالم.
الشرط الخامس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه وقبل أن يغلق بابها.
أما الإقلاع عن الذنب فتستحيل التوبة مع الاستمرار على الذنب، فيجب على العبد أن يقلع عن الذنب، والندم على فعله يدل على استقباح هذا الفعل، والندم توبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذنب إما أن يحرق بنار الندم في الدنيا، أو يحرق بنار الآخرة).
كذلك يعزم على ألا يعود عزماً صادقاً، واشترط بعض العلماء ألا يعود، ولكن الصحيح أن الذي يشترط هو العزم على ألا يعود، فكم من محب للصحة ويأكل ما يضره.
الشرط الرابع: وهو رد المظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات) قبل أن يكون التعامل بالعملة الصعبة بالحسنات والسيئات.
الشرط الخامس: وهو أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، وهو قبل أن تطلع الشمس من مغربها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغرها).
كذلك عندما يصل العبد إلى الحشرجة، كما قال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، فساوى الله عز وجل بين من يموت على الكفر، وبين من يتوب عند الموت في عدم قبول التوبة. قال الحسن : ابن آدم! لا يجتمع عليك حسرتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت. أي: فوت التوبة.
وقال بعض السلف منهم عمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54]، قال: حيل بينهم وبين التوبة حين سألوها، فأكثر الناس يسوفون بالتوبة، ويؤجلونها إلى الوقت الذي لا تقبل فيه فيتوبون عند حشرجة الموت، وهو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فمن شروط صحة التوبة أن تقع في الوقت الذي تقبل فيه وقبل أن يغلق بابها.
هناك علامات للتهمة في التوبة، وعلامات لصحة التوبة، فمن علامات التهمة استمرار الغفلة، والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة، وتذكر حلاوة مواقعته.
ومن علامات التهمة الاطمئنان والأمان، حتى كأنه أعطي منشوراً بالأمان، فالعبد قد تاب، ولكنه لا يدري هل قبلت توبته أم لا، وهل محيت حوبته أم لا.
أما علامات الصحة فمن علاماتها: أن يستقيم العبد على طاعة الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71]، فيكون حال العبد بعد التوبة غير حاله قبلها، فيستقيم على طاعة الله عز وجل، فالتوبة الصادقة هي التي يعقبها عمل صالح: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71].
ومن علامات الصحة كذلك: أن يستمر العبد على الخوف؛ لأنه يعلم أنه قد تاب، ولكنه لا يدري هل قبل الله عز وجل توبته أم لا، فهو على الخوف حتى تنزل عليه رسل تبشره بقول الله عز وجل: أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، فهناك يزول خوفه.
ومن علامات الصحة كذلك: أن يتقطع قلب العبد كما قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ [التوبة:110]، قال: تقطعها بالتوبة، والقلوب لا بد أن تتقطع إما بالتوبة في الدنيا، وإما يوم القيامة إذا حقت الحقائق وعاين الخلق ثواب المطيعين وعقاب العاصين.
ومن علامات الصحة: كسرة تصيب قلب العبد وتطرحه على باب الله عز وجل ذليلاً، ويكون حاله كحال عبد أبق من سيده بعد كثرة جناياته ومخالفاته، وهو يعلم أن منتهى سعادته في رضا سيده عنه، فأحيط به وأعيد إلى سيده، فما أحلى قوله عند ذلك: أسألك بقوتك وضعفي إلا رحمتني، أسألك بغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخائف الضرير، يا من ذل لك قلبه! وخشعت لك جوارحه!
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملاً يجاوز الأمر فيه مجهود الأطباء واختبارهم، فلا ينفع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وتحق الكلمة عليه أنه من أصحاب الجحيم.
فالتوبة التوبة قبل أن يأتيكم من الموت النوبة، فلا تحصلوا إلا على الخسران والخيبة. الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة. الإفاقة الإفاقة فقد قرب وقت الفاقة.
الناس في التوبة على أقسام: منهم من لا يتوب إلى الله عز وجل، بل يعيش حياة الغفلة والمعاصي حتى يموت على ذلك، فهو لم يقف يوماً في الصف، ولم يدخل بيت الله، ولم يقل: إياك نعبد وإياك نستعين، ولعله لا يدخل إلا مرة واحدة، ولا يدخل على قدميه، بل محمولاً على خشبته، ولا يدخل من أجل أن يصلي، بل من أجل أن يصلى عليه، ثم لا يعود بعد ذلك إلى المسجد مرة ثانية، فهذه حالة المصرين على المعاصي الذين يموتون على هذه الحال، نعوذ بالله من حال أهل البوار.
القسم الثاني عباد الله! من يعرف ربه عز وجل برهة من عمره وزماناً من دهره، ثم ينقلب -لعلم الله عز وجل فيه- فيعمل بمعصية الله عز وجل ويموت على ذلك.
ما أصعب العمى بعد البصيرة، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقوى، كم من وجوه خاشعة ووقع على قصص أعمالها عاملة ناصبة! كم من قارب مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرتقي لعب به موج فغرق! كل العباد تحت هذا الخطر (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)، ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده! إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن الرجل ليعمل زماناً بعمل أهل الجنة وهو من أهل النار، والعياذ بالله.
القسم الثالث عباد الله! من يعمل بمعصية الله عز وجل، ثم يوفق إلى توبة نصوح، فيعمل بطاعة الله عز وجل، ويموت على ذلك، ومن هؤلاء من يتوب قبل موته بمدة مديدة، تؤهله لأن يصل إلى الدرجات، ومنهم من يتوب قبل موته بمدة يسيرة، فحسبه أن ينجو من اللفحات، وأن يدخل الجنات.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
بقي هنا قسم هو أشرف الأقسام، وهو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أن يعمل الرجل عمره كله بطاعة الله عز وجل، ثم ينبه إلى قرب أجله، فيجتهد في العمل، حتى يموت على عمل يصلح للقاء.
لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، صار النبي صلى الله عليه وسلم أشد ما يكون اجتهاداً في أمر الآخرة، وكان لا يقوم ولا يقعد إلا قال: سبحان الله العظيم وبحمده يتأول القرآن.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر