إسلام ويب

تفسير سورة الفرقان [27-32]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يحكي الله تعالى في هذه الآيات حال الكافر يوم القيامة حين يعض على يديه ندماً وحسرة على عدم اتباع هذا الكتاب، وهذا الرسول، وحسرة على طاعته لأئمة الكفر والضلال حتى ألقوا به في نار جهنم وبئس المصير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه ...)

    قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27].

    أي: هذا اليوم الذي يكون عسيراً على الكافرين في حسابهم وفي عذابهم وفي شدة محنتهم هو يوم يعض الظالم على يديه؛ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]، ففي هذا اليوم يندم الكافر، والظلم هنا هو الكفر، والظالم هو الكافر، والكفر أشد أنواع الظلم.

    أي: يوم يعض الظالم والكافر في هذا اليوم يديه، وذاك كناية عن الندم، فالإنسان عندما يندم ويتحسر ويشتد ندمه تجده يعض أصبعيه، وقد ورد أنه يعض أصبعيه حتى يأكلهما ولا يشعر، وهو يقول: يا ويلتاه! يا ثبوراه! يا بلاياه!

    قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ [الفرقان:27]، وليس على يد واحدة، وإنما يعض هذه إلى أن يأكلها والثانية إلى أن يأكلها.

    يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27] و(يا ليتني) كلمة تمن فات وقتها، فلم ينتهز حياته قبل موته، ولا شبابه قبل شيخوخته، ولا صحته قبل مرضه، فندم ولات حين مندم، فيعض يديه وهو يقول: يا ليتني! فيتمنى ويتحسر في ألم وفي بكاء وفي حسرة، ولا نفع من ذلك كله.

    يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]، ليتني اتخذت مع الرسول طريقاً توصلني إلى الهداية وإلى الإيمان، وتنقذني مما أنا فيه، ولكن هيهات فقد انتهت الدنيا ولن يعود ما فات.

    والوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والإنسان عند الاحتضار ورؤية الملائكة يصبح الغيب بالنسبة له شهوداً وحضوراً، فلا تنفعه توبة ولا استغفار ولا شيء، ولا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].

    وهذا كما حصل لـفرعون عندما أخذ في الغرق والاختناق، فصاح وقال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، وهيهات، فقال الله له: آلآنَ [يونس:91] أي: هل هذا وقت الإيمان؟ فقد كفر يوم طلب منه الإيمان، وأشرك يوم طلب منه الهداية، وكذب نبيين صديقين رسولين كريمين، وما آمن حتى رأى ملائكة العذاب تنزع روحه من جميع جسده وخلايا بدنه، وهكذا هنا يفعل الظالم.

    قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27] أي: لا تنفعه ليت وقد انتهى وقت أخذ الطريق والسبيل والإيمان والهداية مع الرسول، فقد كان مكذباً له منتقصاً لمنزلته مشركاً بربه، ثم بعد التمني ينادي بالويل والثبور ويقول: يا ويلتي! يا ويلتى! كل تلك قراءات، لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]، فينادي بويله، والويل واد في جهنم كله قيح وصديد، فينادي بالنهر وبالوادي هذا، وبالقيح والصديد من النار، وينادي بويله وثبوره، ويتمنى لو لم يتخذ فلاناً خليلاً، ولكل إنسان خليل.

    والآية عامة في جميع الكفار، وسبب نزولها أن عقبة بن أبي معيط وأبا جهل وشيبة وأمية وخلف وعتبة وعتيبة هؤلاء الضالون المضلون كانوا يضللون الناس الذين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخير والهداية، فكانوا يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون لهؤلاء: لا تثقوا به ولا تصدقوه، نحن قومه وعشيرته، ونحن أعرف الناس به.

    فأضلوا أولئك الذين يقولون هذا يوم العرض على الله ويوم الحساب والنشور، وينادون بالويل والثبور ويقولون: يا ويلتنا أو يا مصيبتنا! ويقولون: لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]، وهذا نشاهده الآن وفي كل ساعة، فلا تكاد تجد كافراً سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ماسونياً أو وجودياً أو من عباد الصليب من النصارى أو من عباد العجل والعزير من اليهود أو من عباد الطبيعة أو من عباد الشمس أو عباد النار أو عباد الفروج أو عباد الأصنام والأحجار إلا ووجدته ضالاً مضلاً، تجده قد أضل شخصاً بعد أن هداه عالم أو داعية أو صالح أو مؤمن أو مسلم إلى عبادة الله، وحذره وأنذره وقال له: يا فلان! أقول لك الحق: من الذي خلقني وخلقك؟ ومن الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي خلق هذه الأرض وما عليها؟ أليس الله؟ هل كنت أنا وإياك قبل؟ وهل سندوم؟ وهل دام آباؤنا وأجدادنا؟ إلى أن كاد يؤمن، فيأتيه مجنون أو شيوعي أو مرتد أو نصراني أو يهودي ويقول له: أتقبل هذا الكلام من هذا؟ هذا رجعي متأخر يؤمن بالأديان وبالأنبياء وبالأكاذيب وبالأضاليل، وهكذا يضله ثم عندما يبعث يبعث معه، فتجده يصيح ويتمنى وهيهات، ولات حين مندم، ولا ينفع التمني إذ ذاك إلا زيادة في الحسرة وفي التوجع والألم، وتجده يصيح ويقول: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:27-28].

    أي: لم أتخذه أخاً يخالل مني الجسم والروح، أي: خاللـه إلى أن سلمه حياته ومستقبله، فأضله وأوصله إلى لما توصل إليه الشياطين الإنسان، ولم يعتذر إلا بعد أن أصبح في السعير والجحيم الدائم الخالد، قال: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28]. ويقال: خليل وصديق وأخ.

    وأما الأخوة العامة فهي الأخوة بين المسلمين، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وليس غير المسلم أخاً لك.

    ولا تغتر بما يسمى بالإنسانية، فهي تعاليم وأضاليل يهودية، ولا بقولهم: الوحدة، فإنهم يعنون الوحدة مع اليهود، ولا الحرية؛ فإنما يعنون حرية اليهود.

    والإنسان ضال مضل، كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، فالإنسان كله خاسر، وهو أشد من الحيوان ضراوة وحيوانية ووحشية إلا من استثنى الله بقوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:3]، والإنسان غير المؤمن حيوان أعجم كالأنعام، بل هو أضل، فالأنعام تستفيد من بطونها ومن ظهورها ومن أوبارها وأشعارها، وهذا الكافر الحيوان الأعجم إنما ضيق على الخلق ظاهر الأرض، فبطن الأرض خير له ولك من وجوده عليها.

    قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [العصر:1-3]، ويكفي الإنسان أن يموت وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويكفي أن يموت وهو يعتقد ذلك جناناً وإن لم ينطق به عند الموت.

    وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يقول: لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا لله دخل الجنة).

    فهذا المؤمن ولو فعل كل أنواع الفسق فإن نعله وحذاءه وما يقع من رجليه أشرف من أكبر إنسان وفيلسوف وإمبراطور في الأرض إذا كان كافراً، والمؤمن هو سيد الخليقة بعد الأنبياء والرسل.

    ثم قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:3] أي: المؤمن الذي يعمل الصالحات، والصالحات قيامه بالأركان الخمسة بعد الشهادتين: الصلاة والزكاة والصيام وحج بيت الله الحرام إن استطاع إليه سبيلاً.

    ثم الرتبة الثالثة: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3]، فهؤلاء الذين دعوا إلى الله، وتحملوا في سبيل دعوتهم ما يتحمله كل داع إلى الله كما تحمل الأنبياء: هم في أعلى الرتب، وأما الإنسان غير المؤمن فليس إلا حيواناً أعجم، فلا كرامة له ولا شرف، ونحن اليوم في جامعاتنا نقول: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والعلوم الإنسانية هي الاتفاق مع اليهود والاتحاد مع الملحدين والتعاون مع النصارى، وهذا ما قاله القرآن ولا دعا إليه ولا حض عليه، ولا يقبله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

    فالله لم يقل إلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وما عدا ذلك فليس بأخ لنا، فإن كان كافراً يقول على سيد البشر الكذب ولا يؤمن بالله الخالق فلا يزيد على أنه حيوان أعجم.

    والله قد أخبرنا في كتابه بأن كل ما على الكون من جماد وحيوان يذكر الله، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].

    وهذا الكافر الإنسان لا يسبح، وإنما يكفر ويشرك رغم كونه من الأمة المحمدية، وهو من أمة الدعوة المحمدية، وأما أمة الاستجابة فهي الأمة المؤمنة.

    قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:27-28]، والخلة أعلى رتب الأخوة، ومن هنا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن الله اتخذني خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)

    ومن هنا قيل عن إبراهيم: خليل الرحمن، ونبينا كذلك خليل الرحمن، والخليل هو من خاللت محبته جميع خلايا الجسم، وهذه رتبة لا تليق إلا بالله، ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتخذ خليلاً إلا ربه وخالقه، وقال عن أبي بكر : (ولكن أخوة الإسلام) أي: أفضل بالنسبة للأخوة البشرية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ...)

    قال تعالى: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:29].

    يقول هذا الكافر: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:29]، وأين كان يوم كان يكذب النبي ويسخر به ويقول: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ ويقول: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا، فأين كان عقله وفهمه ووعيه؟ فالآن أخذ يبكي ويتحسر ويأكل يديه تحسراً وندماً ويقول: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ [الفرقان:29] أي: يقول عن خليله هذا: إنه أضله ولم يهده وأضاعه عن الطريق السوي الذي دعاه إليه سيد البشر وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وترك الطريق السوي المستقيم وخرج عنه إلى طرق الضلال، وترك القيادة المحمدية إلى قيادة الشيطان، وترك قيادة الخلفاء الراشدين إلى قيادة ماركس ولينين ، وغيرهما من الأسماء القذرة الوسخة، وترك الحق والنور إلى الباطل والظلمة، وأخذ يبكي الآن ويتحسر بعد أن فاته الوقت. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:29] أي: عن ذكر ربه وتوحيده ودينه ونبيه، وكل ذلك ذكر، فهو قد ضل عن معرفة الله والإيمان به، وعن الإيمان بكتاب الله وأنه كلام الله وقوله وكذب به، وعن كون محمد خاتم الأنبياء وسيد الرسل والخليقة، فهو الآن يتحسر ويبكي ويأكل يديه ندماً، وبدلاً من أن يرى محمداً صباحاً ومساءً، ويجالسه صباحاً ومساءً فإنه لعمى قلبه وضلال فكره ولظلمة التي أحاطت به ضاع عن النور المشرق من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أشرق على كل البشر منذ قام في هذه البقاع المقدسة، ودعا الناس جميعاً وقال لهم: إني رسول الله إليكم جميعاً، وبقي هذا الإشراق للكل إلا عليه؛ بسبب عمى بصره.

    ثم قال تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:29]، والشيطان شيطان الإنس وشيطان الجن، فالآن انقلب على خليله فأصبح يسميه الشيطان، ويقول: إن الشيطان قد خذله، أي: لم يؤازره ويؤيده ويساعده في ما سمع من القرآن من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي الهداية من نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي النور الذي سمعه من الخلفاء الراشدين والصحابة الأكرمين، ومن جاء بعدهم من العلماء الوارثين لدين الله والداعين إليه.

    يقال: فلان خذل فلاناً، أي: لم ينصره ويؤيده ويساعده، فقد ضاع عن الحق وخذل عنه ولم ينصر ويؤيد، هكذا يقول الآن عن هذا الشيطان؛ شيطانه الإنسي قبل أن يكون شيطان الجن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)

    قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

    يتأسف عليهم صلى الله عليه وسلم الذي كان في الحياة الدنيا حريصاً على إيمانهم، وعزيزاً عليه ألا يؤمنوا، وشديداً عليه أن يكفروا، فهو مع كل هذا والدنيا قد انتهت وأصبح الناس واقفين بين يدي الله للحساب وللقضاء يقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] أي: أمتي. وهي من أرسل إليهم، وهم الجن والإنس، والأبيض والأحمر والأصفر، وكل عجمي وعربي، ومن في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، وسكان المعمورة منذ برز صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إني بشير ونذير، وإنما أرسلت رحمة، وكنت رحمة مهداة، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    ومنذ ذلك الوقت وإلى يوم البعث والنشور فكل هؤلاء قومه وأمته، فمن استجاب فهو من أمة الإجابة، ومن تمرد فهو من أمة الكفر والعصيان والتخلف.

    قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فهم هجروه فلم يحكموا به، فهجروا أحكامه وحكموا بأحكام اليهود والنصارى، وهجروه فلم يدرسوه، ولا يدرس اليوم في جامعات الدنيا إلا الكلام والحرف والصنائع وما إلى ذلك، وأما كتاب الله وما فيه من علوم علوية وسفلية، من معارف فيها خبر من قبلنا ونبأ من بعدنا وحاضر ما بيننا كل هذا قد ترك، وحتى إن درس في كليات فقد أبعدوه عن الحياة العامة، وعندما أبعدوا الإسلام أبعدوا كذلك علماءه وحفاظه، وأبعدوا علماء القرآن والسنة، وعلماء الإسلام وهجروهم بهجرانهم لله ولكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ومن فعل هذا فسيكون جزاؤه ما قص الله علينا من هؤلاء، يوم يعض الظالم على يديه وهو يبكي ويصيح ويقول: يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]، وينادي بالويل والثبور ويقول: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا [الفرقان:28-29].

    وسيقول هذا يوم لا ينفعه هذا القول ولا هذا الاعتراف، وهو يسمع الآن ماذا يقول في كتابه، ويسمع النبي ما يقول في سنته صلى الله عليه وسلم، وإذا به يصعر الخد ويعرض عن ذلك ويصد ويقول: قراءته انتهت، ودراسته رجعية. وهكذا ليزداد اليهود طغياناً على المسلمين، ودوساً بأقدامهم على كراماتهم.

    وما يجري اليوم هو عقوبة إلهية للمسلمين لما طالبوا بـماركس أن يكون لهم إماماً ونبياً، وهو يهودي قذر، ابن حاخام أقذر وألعن، وأصبحت تسمع بعض المسلمين يقولون: أنا مسلم ماركسي، أنا اشتراكي إسلامي، وهكذا يعلن خزيته ولعنته على لسانه قبل لسان غيره، فمتى كان اليهودي مسلماً؟! ومتى كان المسلم يهودياً؟!

    ويقول آخرون بعد ذلك: لم سلط الله علينا اليهود؟ ولم سلط علينا الشيوعية؟ سلطهم علينا لموقفنا هذا الذليل، ولبعدنا عن الله وكفرنا وإشراكنا به وإعراضنا عن كتابه.

    وهكذا يتحسر نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته مؤمنها وكافرها يوم القيامة، ويجأر ويضرع بصوته ويقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فقد هجروه حكماً ودراسة وتعليماً وتلاوة وتبياناً، وهجروه في كل شيء يتعلق به قولاً وعملاً، فكان ما نرى.

    وقد ذل المسلمون بهجرانهم لكتاب الله الذي أعزهم ورفع شأنهم وجعلهم سادة الأرض لمدة ألف عام، وصبر الله عليهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أحد أصبر على الأذى من الله

    فقد كفروا به ورزقهم، وقالوا عنه وأعطاهم العينين والشفتين والصحة والشباب والقوة والمال، وهم لا يزدادون بذلك إلا كفراً، كما يقول الملائكة وعيسى والعزير والصالحون لربهم يوم القيامة عندما يسألهم عن ضلال من ضل وأشرك بهم فيقولون: وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ [الفرقان:18]، فقد متع الله هؤلاء بالحياة وبالأرزاق وبطول الأعمار حتى نسوا ذكر ربهم ودينه.

    وهكذا أمهلهم الله ورزقهم وما زادهم ذلك إلا عتواً وفساداً في الأرض، ولكن الله جل جلاله يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر ولن يفلته.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين ...)

    قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31].

    يعزيه ربه ويسليه بألا تبأس ولا تحزن فإن العاقبة لك، فإن رأيت هؤلاء المجرمين في عصرك يشتمونك ويكذبونك ويؤلبون الناس عليك من أمثال أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وشيبة بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم من الجبابرة الطغاة؛ فهكذا كان الأنبياء قبلك، فقد كان لكل نبي أعداء مجرمون يؤذونهم ويشتمونهم ويتعرضون لهم بالسوء، كما قص الله جل جلاله علينا ذلك في قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم والأنبياء قبل نبينا جميعاً على نبينا وعليهم سلام الله وصلاته.

    يقول الله جل جلاله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31] أي: كما جعلنا لك عدواً فكذلك كان للأنبياء قبلك، فقد كان هناك مجرمون يجرمون في حقهم، ويكذبونهم ويشنعون عليهم ولكنهم صبروا وثبتوا، فكانت العاقبة لهم، وكذلك أنت يا محمد! اصبر واثبت فالعاقبة لك.

    وقد كان ذلك، فعندما دخل مكة فاتحاً وقد ذلت الجزيرة لسلطانه ولأمره ونهيه جمعهم كما تجمع العصافير في ركن من أركان غرفة، وقال لهم: (ماذا ترون أني فاعل بكم؟) فأخذوا يتملقونه ويقولون: (أخ كريم وابن أخ كريم)، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد قدرته وعزته وسلطانه يعفو عنهم ويقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    ومنذ تلك الساعة لم يبق في الجزيرة ولا خارجها من يتعرض له، بل إنه هو صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام وجه جيوشه في غزوة مؤتة وغزوة تبوك لحرب الروم المجاورين المهددين للإسلام ولنبي الله عليه الصلاة والسلام.

    وما كاد يذهب إلى الرفيق الأعلى حتى جاء خليفتاه العظيمان، بل الخلفاء الراشدون الأربعة فنشروا الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فأخذوا الشام والعراق ومصر وفارس والمغرب، ودان الكل بدعوة الله وبدين محمد عليه الصلاة والسلام.

    وهكذا خلال نصف قرن كان العالم من أقصاه شرقاً من الصين إلى جبال الألب في أرض فرنسا غرباً، وما بين ذلك شمالاً وجنوباً يدينون بدين الإسلام، وكلهم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والمآذن في جميع هذه البقاع مدناً وقرىً وجبالاً ووهاداً وبحاراً وفي كل مكان تؤذن الأوقات الخمسة بكلمة التوحيد.

    وهكذا كانت العاقبة والنصر والتأييد له صلى الله عليه وسلم، وهكذا عاقبة كل الدعاة إذا صبروا وأخلصوا وأنابوا، فالعاقبة للمتقين.

    قال تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان:31] أي: يا محمد! إن أعرض عنك جماعة وأجرموا في حقك وخذلوك وكذبوك وعادوك وأصبحوا مجرمين بالتكذيب وبتكفير المؤمنين بك، وقولهم عنهم: بأنهم صابئون -كما نقول اليوم: خائنون- تركوا دينهم الوثني وعبادة الأصنام إلى عبادة الله فيكفيك الله هادياً ونصيراً، فالله هاديك إلى الطريق الحق، وإلى الطريق المستقيم، وإلى وسائل النصر وغايته ونصره، وقد فعل جل جلاله، فهداه إلى الطريق الحق الموصل إلى الجنة وإلى الرحمة وإلى الرضا، وكذلك كل من تبعه ودان بدينه وقال بقوله، وهو وحده النصير والمؤازر والمؤيد جل جلاله، ومن كان الله معه وناصره فلا يحسب لأحد في الأرض حساباً، ولا يخاف أحداً إلا الله.

    ولذلك كان شعار المؤمن هو الكلمة التي نقولها عشرات المرات في كل يوم في بداية الصلاة، وفي كل حركة من حركات الصلاة، وفي الأذان وفي الإقامة، وفي صلوات الفرض النافلة: الله أكبر.

    فالله أكبر تعني: لا كبير مع الله، وكل ما خطر بالبال من طاغية أو فاجر أو ظالم أو جبار فالله أعظم وأقوى منه، وهو الذي يسلطه علينا إن شاء.

    وما من جريمة أو ذنب أو عقوبة إلا نتيجة ذنب وجريمة، ولذلك فالمؤمن الحق إذا ضاقت به الأرض، وكثرت عليه الأعداء وتألبوا من مختلف بقاع الدنيا رفع يديه إلى الله وتضرع إليه قائلاً: يا رب! يا رب! ليس غيرك هادياً، وليس غيرك ناصراً، وخاصة في الثلث الأخير من الليل عندما ينزل ربنا إلى سماء الدنيا ويقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من شاك فأشكيه؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟).

    وتلك الساعة والناس نيام إذا رفع الناس أيديهم لربهم وهم قائمون راكعون ساجدون فقمن أن يستجيب الله دعاءهم ويقبل ضراعتهم.

    فالله جل جلاله القادر على كل شيء أمرنا بالدعاء وضمن لنا الإجابة، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    وقال العارف:

    لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتني الطلبا

    أي: ما ألهمك الدعاء حتى ضمن لك الإجابة، وكل ذلك شرح لقوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن ...)

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32].

    فهؤلاء الكافرون لا ينتهون عن الغث من القول، وعن سخافة المنطق ورذالة العقول، فقالوا هذه المرة: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] أي: بعد أن طلبوا أن الملائكة تنزل إلى الأرض لتصدقه، وطلبوا الرب لينزل بنفسه ويصدقه، وبعد أن قالوا: لم هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ قالوا هذه المرة: ولم هذا القرآن ينزل آية آية وسورة سورة؟ لماذا لم ينزل دفعة واحدة؟ قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] أي: لم لا ينزل القرآن جملة واحدة؟ في ساعة واحدة؟ ولو كانت لهم عقول تفهم وتدرك لفهموا لماذا.

    فالقرآن نزل خلال ثلاث وعشرين سنة من نبوة النبي عليه الصلاة والسلام منجماً مرتلاً رتلاً بعد رتل، وآية بعد آية، حسب المصالح والنوازل والأحداث وما يحتاج إليه، فكانت تحدث الحادثة مع يهود فينزل قول الله تعالى يبين الحق في ذلك، وتحدث حادثة مع الوثنيين وعباد الأصنام فتنزل آية تبين الحق في ذلك.

    وقد أنزل الله في مكة المكرمة من الآيات ما يدعو للتوحيد، وترك الأوثان، والتخلق بالأخلاق الفاضلة، والتخلي عن الأخلاق الرذيلة الفاسدة فقط، والآيات المكية والسور المكية كانت في أغلبها وفي عمومها آيات تزيف الشرك والوثنية، وتبعد الناس عن عبادة الأصنام والأحجار، وتدعو إلى عبادة الله الواحد، وإلى التصديق بمحمد نبياً ورسولاً وخاتماً للأنبياء صلى الله عليه وسلم.

    وقد ثبت ذلك خلال اثني عشر عاماً مع الشدة والتحمل وإيذاء قريش للنبي صلى الله عليه وسلم والأصحاب المكرمين المبجلين، حيث كانوا يعذبون وينكل بهم إلى أن يموت من يموت، فقد ماتت سمية أم عمار وزوجة ياسر ، وقد كان أبو جهل يعذبها ويدعوها للكفر بالله وبرسالة محمد، وهي تأبى وتقول: لا إله إلا الله، إلى أن توتر عصبه وفقد صبره وجن جنونه فطعنها في قبلها بحربة، فماتت شهيدة وهي تقول: لا إله إلا الله.

    وقد مر سيدنا صلى الله عليه وسلم عليها وهي تعذب هي وزوجها وولدها عمار فلم يقل لهم أكثر من: (صبراً آل ياسر ! إن موعدكم الجنة).

    وكان بلال يربط بحبال ويسلم للأطفال فيتلاعبون به في أزقة مكة، ويؤتى به في الحر الشديد وقت الظهيرة فيلقى عليه الحجارة وكأنها جمر متقد، فيقول له أبو جهل وأبو سفيان وعقبة بن أبي معيط : اكفر بالواحد، فكان يقول: أحد أحد. وهو عبد أسود مشترىً بالمال، فلم يقتلوه؛ خوفاً من أن يضيعوا مالهم الذي اشتروه به.

    وبعد أن عذب هذا العذاب اشتراه أبو بكر وأعتقه، فقد مر أبو بكر عليهم وهم يعذبونه وقال لهم: ماذا صنع هذا الغلام؟ لم كل هذا العذاب؟ أتبيعونه لي؟ ففرحوا؛ لأنه لم يضع مالهم فيه، فاشتراه ثم أعتقه.

    ثم أصبح بلال هذا داعياً بكلمة التوحيد، ولما دخل مكة فاتحاً صلى الله عليه وسلم أصعده على ظهر الكعبة يؤذن: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان شيوخ الكفر لا يزالون موجودين، فأخذوا يصيحون بالويل والثبور ويذكرون آباءهم وأجدادهم ويحمدون لهم أن ماتوا ولم يروا هذا الذل، وهو أن يصعد هذا العبد الأسود على ظهر الكعبة ويدوسها بقدميه، ويعلن عن محمد أنه نبي، ويبطل الأصنام المتعددة ويدعو للإله الواحد.

    ولكن بلالاً كان سيدهم وأشرفهم وأكرمهم، فقد كان مؤمناً لله موحداً، وكانوا هم مشركين وثنيين عباداً للشيطان وللأصنام.

    قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32] أي: لم لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة؟ وما هذا الفضول؟ وماذا يعنيكم ذلك ما دمتم كافرين؟

    فإن أسلمتم فتعالوا فاسمعوا لماذا، وإن بقيتم على الكفر فماذا يعنيكم ذلك؟ والله لم يقل الجواب، ولكنه فهم من خلال الآية، قال الله تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32] أي: أنزلناه كذلك منجماً على مدة ثلاث وعشرين سنة لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ [الفرقان:32]، فالوحي ثقيل، والأمانة بحمل القرآن أثقل، ولو حمله الله لنبيه صلى الله عليه وسلم دفعة واحدة لما حملتها ذاته الضعيفة، ولكن الله أنزله عليه شيئاً شيئاً وزمناً زمناً؛ ليتثبت وليتيقن وليزداد إيماناً ويقيناً ومعرفة، وليثبت به فؤادك وقلبك على الدعوة، وعلى القرآن، وعلى الوحي، وعلى الدعوة إلى الله ونشر هذا الإسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718756

    عدد مرات الحفظ

    768374694