الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فعنوان هذا الدرس: (عالم الملائكة).
فالله تبارك وتعالى خلق العقلاء ثلاثة أقسام: الملائكة والجن والإنس، والملائكة خلق من خلق الله ليسوا بناتاً لله ولا أولاداً ولا شركاء معه ولا أنداداً، قال الله جل وعلا: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28].
ويمكن تناول الحديث عنهم وعلاقتهم بنا من عدة أوجه.
أولاً: أنه يجب أن تعلم أن الملائكة جند من جند الله لا يعلم عددهم إلا الله، قال الله جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].
ومساكنهم السماء، قال الله: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا [فصلت:38] أي: أهل الأرض فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38] أي: أهل السماء.
أما جبريل فهو سيد الملائكة فيما يظهر، وقد أوكل الله جل وعلا إليه ما يتعلق بحياة القلوب، فهو الذي ينزل بالوحي، ولذلك لما عرضت خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها نبينا صلى الله عليه وسلم على ابن عمها ورقة بن نوفل ، وقص النبي عليه الصلاة والسلام على ورقة رؤيته الملك قال: أبشر، هذا الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى. والمعنى: أن جبريل عليه السلام أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي على رسله، فلهذا ينزل بما فيه حياة القلوب.
وميكال ينزل بالقطر من السماء، فقد أوكل الله إليه أرزاق الناس وقطر السماء.
وأما إسرافيل فقد أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن صاحب الصور قد أصغى أذنه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).
وأوكل الله إلى ملك الموت قبض الأرواح، وهو عليه السلام له أعوان، والله جل وعلا قد ذكره لوحده، وذكره بأعوانه، فقد قال الله جل وعلا في سورة (الم تَنزِيلُ) السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، فهذا ذكر لملك الموت وحده، وذكره الله مع أعوانه في سورة الأنعام فقال جل وعلا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:61-62].
فهؤلاء الأربعة هم رؤساء الملائكة.
وذكر المفسرون في سبب نزول قول الله جل وعلا: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ [البقرة:97] أن طائفة من اليهود بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدموا إليه، فقالوا: (يا أبا القاسم! إنا سائلوك عن مسائل لا يعلمهن إلا نبي، فسألوه فأجابهم، فقالوا: بقيت واحدة إن وافقتنا فيها اتبعناك وإلا فارقناك، فأخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم العهد والمواثيق على أن يتابعوه، فقالوا: من وليك من الملائكة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: جبريل، قالوا: هذا الذي ينزل بالحرب والقتال؟ لو كان وليك من الملائكة ميكال الذي ينزل بالرحمة والقطر لاتبعناك، فأنزل الله جل وعلا رداً عليهم: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98]).
فقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هؤلاء طائفة، وَمَنْ حَوْلَهُ أي: طائفة من الملائكة آخرون يطوفون حول العرش، وكلتاهما قال الله في وصفهما: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فهذه بعض وظائف أولئك الملائكة الكرام، ونحن نعلم أن الملائكة لكل منهم وظائف، وهم مؤدبون بين يدي ربهم، فقد أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات:165]، وأخبر عنهم أنهم يقولون عن أنفسهم: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] أي: مقام لا يتجاوزه وعمل لا يتعداه.
ولا شك في أنهم جبلوا على عبادة الله فطرة، قال الله تبارك وتعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وجاءت الملائكة إلى إبراهيم في صورة رجال فلم يعرفهم، وجاء في الحديث: أن رجلاً ذهب إلى أخيه يزوره في الله فجعل الله في طريقه ملكاً على صورة رجل ليخبره بمحبة الله له.
والمقصود: أن الملائكة أعطاهم الله جل وعلا القدرة على التشكل، ويقول بعض أهل العلم: إن الفرق بين تشكل الملك وتشكل الجني: أن الجني تحكمه الصورة، أما الملك فلا تحكمه الصورة، ومعنى ذلك أنه لو قدر أن الجني ظعن وهو متشكل في أي صورة فإنه يموت؛ لأن الصورة تحكمه، أما الملك فلو قدر أن يقع هذا فإنه لا يتأثر؛ لأن الصورة لا تحكمه.
وقد رزق الملائكة الأدب مع الله، فجبريل على علو قدره ورفيع منزلته كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يأتيه كثيراً، فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فأنزل الله جل وعلا قوله: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].
وهؤلاء الملائكة الكرام لهم وظائف يوكلها الله جل وعلا إليهم، ومن ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه: (أما رأيت هذا العارض؟! إنه ملك لم ينزل من السماء قط، استأذن ربه في أن ينزل ويبشرني بأن
والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها مرتين:
المرة الأولى: في أيام الوحي الأولى، فقد رآه على كرسي بين السماء والأرض له ستمائة جناح قد سد الأفق.
ثم قدر له صلى الله عليه وسلم أن يرى جبريل في رحلة الإسراء والمعراج، ولهذا دون الله ذكرها في كتابه، فقال الله جل وعلا: وَلَقَدْ رَآهُ [النجم:13] فالرائي محمد والمرئي جبريل وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13]، فقول الله جل وعلا: نَزْلَةً أُخْرَى أي: مرة أخرى، وهذا يدل على أن هناك مرة سبقتها، وهذه المرة التي سبقتها هي التي أثبتها الله في سورة التكوير، حيث قال الله جل وعلا: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على هيئته التي خلقه الله عليها قد سد الأفق.
وفي الحديث أن مسروقاً رضي الله عنه جاء إلى عائشة أم المؤمنين، فقال لها: يا أماه! هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قف شعر رأسي مما تقول. فقال لها: ألم يقل الله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، هذا جبريل. فالمعني بالآية هنا هو جبريل عليه الصلاة والسلام.
فتقديم جبريل على غيره قرينة ظاهرة على أنه أعظم الملائكة قدراً، وأنه سيد الملائكة.
كما أن الملائكة لا يتناكحون ولا يتناسلون.
ومن هنا تعلم -يا أخي- أن الله جل وعلا غني عن عبادة خلقه، وأنه تبارك وتعالى استغنى بحمده، ولهذا أخبر جل وعلا أن الملائكة يعبدونه ويسبحونه، وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذكر أعظم؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده).
فسبحان الله وبحمده كما أمرنا ربنا وأمرنا رسولنا، وكما كانت الملائكة تصنع بين يدي ربها.
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وهذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده حول عالم الملائكة الأبرار.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر