قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ *قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ * وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ * يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ * وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:13-36].
هذه القصة في سورة يس يذكر الله سبحانه وتعالى فيها كيف كذب السابقون أنبياءهم ورسلهم عليهم الصلاة والسلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أول من كذب من الرسل، ولا قومه أول من كذبوا من الأقوام، بل كُذب الرسل السابقون، وصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى جاء أمر الله سبحانه وتعالى.
وفي هذه القصة يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ [يس:13]، أي: اضرب لهم مثالاً من أمثلة صنيعنا بالأمم المكذبة.
فهذه قرية من القرى، أرسلنا إليها رسلنا، قال: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:14]، فالله سبحانه وتعالى أرسل رسولين من حواري المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى قرية أنطاكية في شمال سوريا، يدعوان القوم إلى الله سبحانه.
قال سبحانه: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ [يس:14] أي: لما كُذب الرسولان كما قدمنا قبل ذلك.
والتعزيز بمعنى: الشد، أي: شد وقوى الاثنين بالثالث، وجرى الحوار بينهم: فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [يس:14-15]، وعادة الأمم التكذيب وعدم النظر في الآيات والمعجزات التي جاء بها الرسل؛ فكذبوا الثلاثة.
قالت الرسل: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ [يس:14]، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [يس:17]، أي: فنحن رسل الله إليكم، ولا نملك لكم إلا أن ندعوكم إلى الله والهداية بيد الله.
فتشاءم القوم بالرسل كعادة أهل الكبر والغرور، فنسبوا إليهم كل مصيبة تنزل عليهم، فهؤلاء لما منع عنهم المطر قالوا: أنتم السبب.
قال الرسل: هذا الشؤم الذي تزعمونه معلق بكم، وشؤمكم الحقيقي أعمالكم الخبيثة، وبعدكم عن الله سبحانه وتعالى.
أي: عندما نذكركم بالله سبحانه وتعالى تقولون هذا الشيء.
وقوله: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ يقرؤها أبو جعفر (ءائن ذكرتم) بالمد فيها وتسهيل الهمزة الثانية، وكأن المعنى: لأننا ذكرناكم بالله سبحانه وتعالى فعلتم ذلك، وأعرضتم عن التذكير ولم تؤمنوا ولم تستجيبوا. قالوا: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [يس:19].
فما سمع خبر إيذاء المرسلين، جرى إليهم مسرعاً، وقال: يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [يس:20-21] فهؤلاء الرسل لم يطلبوا منكم مالاً، ولا مناصب، إنما جاءوا ليدعوكم إلى الرب سبحانه.
قال: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:22]، قد ذكرنا أنه أطال معهم في الكلام لعلهم يستجيبون، ولعلهم يخففون عن الرسل فلا يقتلونهم. فقالوا له: وأنت كاذب، ثم قتلوه.
قال الله تبارك وتعالى عن هذا الإنسان المؤمن: وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:22-24].
وبعد هذا الحوار الطويل الذي لم يسفر عن فائدة قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:25] فكشف عن حقيقة أمره، وأنه مؤمن مع هؤلاء الرسل. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس:26]، كأنه مجرد أن كشف عن حقيقة أمره أنه مؤمن قتلوه حالاً.
وقد جاء ابن مسعود رضي الله عنه أنهم داسوه بالأقدام حتى قتلوه.
فلما قتل إذا بالله عز وجل يدخل روحه الجنة ويكون شهيداً عند الله سبحانه، فلما رأى الجنة والنعيم الذي عند الله سبحانه تحسر على قومه، وقال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].
أي: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، وكيف صنع بي في هذا النعيم المقيم، وهذه الجنات العالية العظيمة.
يعني: هؤلاء أحقر من أن ننزل عليهم جنداً من السماء لإهلاكهم وما كنا لنفعل ذلك بهم.
فما كان الأمر إلا أن قال: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29]، من جبريل عليه السلام فهلكوا.
قوله تعالى: صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29]، منصوبة على أنها خبر كان عند أكثر القراء.
وقرأها أبو جعفر : ( إن كانت إلا صيحةٌ واحدةٌ فإذا هم خامدون)، فجعل (كان) تامة، و(صيحة) فاعل، والمعنى: ووقعت صيحة واحدة على هؤلاء فإذا هم خامدون.
والإنسان عندما تكون فيه النفس يكون حياً، فإذا خرج روحه من جسده همد وخمد، وذهبت منه الحياة. فإذا بصيحة من جبريل على هؤلاء أخمدتهم جميعهم.
انظر كيف أخمدهم الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة، ولم ينزل عليهم ملائكة، كما قال تعالى: إِنْمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة مكية حتى يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم أن الله ينصر رسله، وينصر دينه سبحانه وتعالى.
هؤلاء لا قيمة لهم عند الله، فلم ينزل عليهم جنداً من السماء، وفي يوم بدر أنزل الله سبحانه وتعالى ملائكة من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وطمأن المؤمنين بأنه ينزل عليهم من السماء ثلاثة آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وينزل ِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، فهل يستحق هؤلاء الكفرة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة؟
فالجواب: لا، فليس إنزال الملائكة تقديراً لهؤلاء الكفرة، وإنما ذلك لعظيم منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلو قدره، فأراد الله بذلك أن يري المؤمنين والأمم من بعدهم كيف جعل الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة أن يقاتل معه المؤمنون من الإنس والملائكة، ويشاهد الناس الكرامات والبركات ومعجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك عندما يسمع المؤمنون من يقول: أقدم حيزوم، ويخبرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيقول (هذا جبريل)فيخبر عن جبريل عليه السلام أنه أتى ليقاتل مع المؤمنين، وكذلك أتى جبريل عليه السلام في يوم الخندق، ففرق الله الأحزاب عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأرسل عليهم جنداً من عنده وريحاً، وأتاهم الرعب والخوف فرحلوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وجعلها الله آية للنبي صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:10-11].
فلما ابتلي المؤمنون وزلزلوا جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]، فنصر الله عز وجل نبيه، وأنزل الملائكة فإذا به يرى جبريل، قال: (أتاني جبريل وعلى ثناياه النقع)، والثنية: السن الأمامية، و(النقع) الغبار والتراب. ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (وضعت لأمتك، والله ما وضعت الملائكة أسلحتهم)، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، والملائكة معه.
والله قادر على أن يفني اليهود جميعهم ويهلكهم، ولكن هذه سنة الله في الكون كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ [التغابن:2]، فأراد أن يبتلي أحد الفريقين بالآخر: فالمؤمن يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً، ويكون قوياً صلباً في دينه.
ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت في غيره ولم تقاتل، ولكن لتكثر عدد المسلمين. وفي يوم بدر كانت هناك معجزات عجيبة، من ذلك أن يقول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه رفع سيفه على الكافر، فطارت رقبته ولم يضربه. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيدك الله بملك كريم).
ومن ذلك أن العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه أسره رجل من المسلمين ضعيف وليس في قوة العباس رضي الله عنه، فيقول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعانك عليه ملك كريم).
قال العباس رضي الله عنه: أنا لست مع الكفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا) وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، ففدى نفسه رضي الله عنه، وفدى عقيلاً أيضاً ابن أخيه، والله تبارك وتعالى أخلف عليه بعد ذلك كما قال تعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ... [الأنفال:70] الآية.
فهنا لما أخبر الله سبحانه أنه ما أنزل من بعده على قومه من جند من السماء، إنما أرسل جبريل عليه السلام فصاح في القوم صيحة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، فتحسروا على أنفسهم: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس:30]، وجاء التحسر على وجه النداء كأنه قال: يا حسرة أقبلي، والحسرة الندامة والتلهف على الشيء الذي يفوت، ففاتهم الإيمان. و(حسرة) نكرة ولذلك نصب المنادى مع كونه مفرداً، وهذا كقول من وقع في بئر: يا إنساناً أنقذني، وهو لا يعرف المنادى.
قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ [يس:30]، أي: تعجبوا لأمر هؤلاء العباد الذين يستحقون أن يتحسروا على أنفسهم وينادوا على الحسرة وعلى الندامة حين لا تنفعهم، فيكون جعلهم محل من يتحسر عليه.
أو أن الله سبحانه جعل الويل عليهم، فتكون الحسرة تعني: يا ويل أقبل لهؤلاء، أو يا عذاب أقبل على هؤلاء القوم؛ فإنهم يستحقون ذلك.
وفي قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ [يس:30]، قراءتان:
قراءة الجمهور (ما يأتِيهِم).
وقراءة يعقوب ، (ما يأتيهُم من رسول).
فأي رسول يبعث إلى قوم لا بد أن سفهاء القوم يسخرون منه ويستهزئون به.
الجواب: بلى، قد رأوا هذا الشيء كله، فقد ذهب آباؤهم وأجدادهم، والقرون السابقة الذين ما زالوا يفتخرون بهم، وكل إنسان منهم يقول: كان أبي، وكان جدي ويحفظ نسبه إلى الجد العاشر. فكل هؤلاء ذهبوا، ولم يرجع أحد.
وهذا دليل من القرآن العظيم على أنه لا أحد يموت فيرجع إلى الدنيا مرة ثانية إلا أن تكون معجزة لنبي من الأنبياء، فيحيي ميتاً ثم يموت مرة ثانية، كما كانت للمسيح عليه الصلاة والسلام.
وما يذكره البعض من الناس من رجوع روح فلان وما أشبه ذلك كله من الكذب والخرافات، فمن مات قد ذهب إما إلى روضة من رياض الجنة، وإما إلى حفرة من حفر النيران في قبره، فهو منشغل بذلك عن أمر الدنيا.
في قوله: (لما) قراءتان: قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة ، ( إن كل لمّا ) بالتشديد. وباقي القراء: ( إن كل لَمَاَ) بالتخفيف.
و (إن كل لما) مثل: ( ما كل إلا كذا) فهذا أسلوب قصر، ويكون المعنى: أن الجميع راجع إلى الله، ولا يفلت أحد من الله سبحانه تعالى.
قال تعالى: ( وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:32]، أي: أن الله يجمعهم ويحضرون بدون اختيارهم يوم الحشر، أما على قراءة الجمهور فالمعنى: إن كل راجع ومجموع إلينا، و(إن) هنا مخففة من الثقيلة، فلما خففت رفع ما بعدها؛ لأنها صارت لا تعمل.
وجاءت اللام في (لَمَا) من أجل أن تفرق بين (إن) التي بمعنى (ما) وبين (إن) التي تأتي لتأكيد الجملة بعدها.
وسواء كان الأسلوب أسلوب قصر، أو أسلوب تأكيد، فالمقصود أن الجميع محضرون إلى ربهم سبحانه، ليجازيهم على أعمالهم.
كان الكفار يكذبون بالعبث والنشور، ويقولون: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]، أي: سنرجع مرة أخرى! فيقول الله عز وجل: انظروا فيما أمامكم من الآيات.
في قوله تعالى: (الأرض الميتة) قراءتان: قراءة الجمهور: (الأرض الميتة). وقراءة المدنيين نافع وأبي جعفر : ( وآية لهم الأرض الميّتة أحييناها)، بالتشديد.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أحياها، وكل إنسان له عينان يرى الأرض جرداء، ثم ينزل عليها المطر، فإذا بها كما قال الله تعالى: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، فأنبتت ما يأكل الناس والأنعام.
قال تعالى: وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا [يس:33]، أي: جنس الحب، أي: حبوباً كثيرة أخرجناها فأطعمناكم إياها.
قال سبحانه: وَجَعَلْنَا فِيهَا [يس:34]، أي: في هذه الأرض التي كانت ميتة.
جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [يس:34] فيها النخل الباسقة، وفيها الأعناب العظيمة الجميلة.
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [يس:34]، فجر الله في هذه الأرض من العيون أما الإنسان فيحفر البئر لعله يجد الماء، فقد يجد وقد لا يجد.
وفي قوله تعالى: وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ، قراءتان:
قراءة الجمهور: (من العُيون) بضم العين.
وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي : (من العِيون )، بكسر العين.
وكذلك في الكلمات التي على هذا الوزن كجيوب وبيوت، فتقرأ جُيوب وبُيوت، وجِيوب بِيوت، بالفتح والكسر في القراءات التي ذكرنا.
أي: ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه من الأرض، أو من ثمر العيون.
وفي قوله تعالى: (من ثمره) قراءتان:
قراءة الجمهور: ( من ثَمرَه ), بفتح الثاء.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف : ( ليأكلوا من ثُمره )، بضمها، وكأن الثَّمر تجمع على ثمار، ويجمع الجمع على ثُمر.
واللام في قوله: (ليأكلوا) إما أن تكون تعليلية أو للعاقبة أي: تكون العاقبة أن يأكلوا من الثمار.
قال تعالى: وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35]
قرأ الجمهور: ( وما عملته أيديهم ).
وقرأ شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف : ( وما عملت أيديهم ).
قد تكون (ما) نافية، فيكون المعنى: أن الله سبحانه هو الذي أخرج ذلك والتقدير: لتأكلوا هذه الثمار ولم تعمل أيديكم هذه الثمار، إنما الذي خلقها وأوجدها الرب سبحانه وتعالى، الذي أنزل الماء من السماء، وأحيا هذه الأرض.
أو تكون (ما) بمعنى (الذي) فيكون قوله تعالى: لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس:35]، أو ( وما علمت أيديهم ).
والمعنى: أن الله خلق لك هذا القمح، ثم أخذته وطحنته ثم عجنته وأدخلته الفرن، فأخرجته خبزاً، فهذا الذي عملت يداك مما أخرجه الله سبحانه، وكلا المعنيين صحيح.
قال تعالى: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:35] أي: هلا شكروا الله سبحانه على ما أخرج لهم، وعلى ما رزقهم من عقول فيصنعون ذلك.
وانظر إلى البهائم والحشرات والطيور كيف تأكل الثمرة كما هي، وتلتقط الحبة كما هي؛ لكن أنت أيها الإنسان أعطاك الثمار، وأعطاك الحبوب، وأعطاك العقل لتفكر، وألهمك كيف توقد النار وكيف تصنع الطبيخ، وكيف تصنع الحلوى، أفلا تشكر الله سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يحجب عنك ذلك، فتأكل الطعام كما يخرج من الأرض بدون طبخ وإصلاح.
أي: يقدس الله تعالى عن ألا يشكر، وينزه عن النقص والعيب، وعن أن يذكر معه غيره، وعن أن يكون له الصاحبة أو الولد، أو الشريك في ملكه، فهو الخلاق العظيم العليم وحده لا شريك له.
وقوله (سبحان) مصدر، والفعل سبح، أي: أسبح الله تسبيحاً وسبحاناً، فعبر بالمصدر نيابة عن جملة فيكون المعنى: سبحوا الله تسبيحاً عظيماً.
قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا [يس:36]، (الأزواج) هنا بمعنى: الأصناف والأنواع، فكلها خلقها الله سبحانه وتعالى، من أين؟ قال: مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ [يس:36]، فأخرج لكم من الأرض أزواجاً: وَمِنْ أَنفُسِهِمْ [يس:36] خلق الذكر والأنثى، وخلق لهم الأولاد والأحفاد والذريات وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ [يس:36].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر