يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ما زلنا مع أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، وقد انتهينا من الكلام على الاختلاف في القراءات، ثم الشك في ثبوت الحديث، وذكرنا أن هذه كلها من أسباب الخلاف وتكلمنا عن أثر عدم ثبوت الحديث عندهم في الاختلاف، وذكرنا من أمثلة ذلك حديث عمار بن ياسر مع عمر بن الخطاب في تيمم الجنب، وأن أبا موسى الأشعري قال لـابن مسعود: أوما وصلك حديث عمار بن ياسر؟ قال: أو ما علمت كيف رد عليه عمر؟ وعمر رد على عمار بقوله: (نوليك ما توليت) ولم يتذكر القصة.
اختلف العلماء في الصائم الذي أكل وشرب ناسياً هل عليه قضاء أم ليس عليه قضاء؟ واجتمعوا على أنه لا إثم عليه، لكن اختلفوا هل يجزئه هذا الصوم أو لا يجزئه؟ على قولين: قول الجمهور من الشافعية والحنابلة والأحناف أنه لا قضاء عليه لو أكل أو شرب ناسياً؛ لأنه إنما أطعمه الله وسقاه.
وأصل الخلاف هنا عدم ثبوت الحديث عند قوم وثبوته عند آخرين، فعند الجمهور ثبتت رواية لم تثبت عند المالكية، واحتجوا بحديثين: الحديث الأول: حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)، هذا الحديث اتفق عليه الأئمة الأربعة، والذين ينازعون في القضاء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرض في هذا الحديث للكلام عن القضاء، وإنما أمره أن يتم هذا اليوم الذي أكل أو شرب فيه ناسياً، لكن الجمهور من الشافعية والحنابلة والأحناف أجابوا وقالوا: عندنا رواية أخرى -وهي في سنن الدارقطني - وفيها: (من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه، ولا قضاء عليه)، وهذا فصل في محل النزاع قال: (لا قضاء عليه).
وجاء المالكية فقالوا: عندنا أن الذي أكل أو شرب ناسياً لا إثم عليه وعليه القضاء، ودليلنا القواعد العامة في الشريعة، والقواعد العامة في الشريعة أدلتها كثيرة جداً، منها: أن كل عبادة قد وصفها الله لنا وصفاً بشروط وأركان، فحتى تصح لا بد فيها من توافر الشروط والأركان وانتفاء الموانع.
فالقاعدة: أن كل عبادة وصفت بوصف لها شروط وأركان لا بد أن تتوافر فيها الشروط والأركان وتنتفي الموانع حتى تقبل، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فتبين لنا أن من شروط الصلاة التطهر، فلا بد من توافر الشروط والأركان وانتفاء الموانع حتى تقبل الصلاة.
قالت المالكية: ونظرنا في الصوم فوجدنا أن أهم أركان الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة، فقالوا: هذا لم يمسك، إذاً: فقد اختل ركن من أركان العبادة، فهذه العبادة لا تقبل أو لا تجزئ؛ لأن الأركان قد اختلت، بل أهم ركن في الصيام قد اختل وهو الإمساك، وهو قد أكل أو شرب، وقواعد الشريعة تأبى أن يكون هذا العمل مقبولاً أو يجزئ عن صاحبه.
ونقول لهم: لم رفعتم عنه الإثم؟ قالوا: رفعنا عنه الإثم بالدليل الذي جاءنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، يعني: رفع الإثم وليس رفع الحكم.
وقالوا: إن حديث الدارقطني حديث ضعيف، ونقول: حديث الدارقطني الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه) حديث صحيح، وقد قال ذلك ابن العربي المالكي والقرطبي المالكي.
إذاً: كيف أجاب المالكية عن هذا الحديث بعدما صح؟ قالوا: هذا الحديث آحاد، وقد خالف القواعد العامة التي بيناها، وهي أن كل عبادة لا بد لها من شروط وأركان.
وعليه نقول: الراجح الصحيح هو قول الجمهور، أن من أكل أو شرب ناسياً فإن صيامه صحيح؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه).
لكن كيف نرد على المعترض الذي يعترض علينا ويقول: هذا خلاف القواعد فلا نعمل به؟
نقول: الحديث أصل بذاته فكيف تقولون بأنه خالف القواعد؟ فهو قاعدة مستقلة فلا تتضارب القواعد ولا تتعارض؛ لأنها كلها جاءت من مشكاة واحدة، فالحديث أصل بذاته لا بد أن يعمل به، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا قضاء عليه)، فلا قضاء عليه، لكن يمكن أن نجمع بين القواعد العامة وبين هذه القاعدة بالآتي: أن هذه القاعدة من باب الخصوص والقواعد العامة من باب العموم، ولا يتعارض عام مع خاص، وإذا تعارض العام مع الخاص فإننا نقدم الخاص على العام.
إذاً: فقواعد الشريعة تقول: كل عبادة لا بد أن تتوافر فيها الشروط والأركان، فإن اختل شرط أو ركن لا تجزئ ولا تسقط عن صاحبها، وهذا في كل عبادة، إلا في الصوم، فإن اختل ركن الإمساك وكان ناسياً فإن العبادة تصح وتقبل عند الله جل في علاه وتسقط عن صاحبها.
فهذا أثر من آثار اختلاف الفقهاء وكان تحرير محل النزاع ثبوت الحديث، فإنه لم يثبت عند المالكية فلم يأخذوا به، لكن إن صح الحديث لنا أن نقول:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
وكيف يحدث الخلاف في فهم النص عندما يظهر للفقهاء الحديث؟ نقول: يتناول كل فقيه الحديث ويفهمه فهماً مخالفاً لفهم الفقيه والعالم الآخر.
انظروا إلى اختلاف مشارب العلماء وإلى الخلاف بين العلماء، فالشافعية يرون أنه لو أعطى الرجل ولداً دون أن يعطي الآخر وأشهد على ذلك أي أحد جاز ذلك العقد، ويمتلك الولد هذه الهبة أو هذه العطية، لكن الجمهور يرون أن هذه العطية تكون باطلة، ولا يصح أن يأخذها الولد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشهد على هذا غيري)، فالجمهور قالوا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري): هذا زجر وليست إحالة، يعني لا أوافق على هذا العقد، فأشهد على ذلك غيري، فهو من باب الزجر، أما الإمام الشافعي فإنه فهم من هذا الحديث: (أشهد على هذا غيري)، أن المعظم والمقدم أو العالم الذي له وجاهة لا يفعل ذلك، لكن آحاد الناس لهم أن يفعلوا هذا؛ لأنه خلاف الأولى أو خلاف المروءات، ففهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري) أنه لو شهد أبا بكر أو شهد عمر أو شهد عثمان صح العقد وصحت العطية.
وهذا عندنا فهم خاطئ، لكن نقول: ظهر الخلاف بين الشافعية وبين جمهور أهل العلم بسبب اختلاف الفهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري)، أما الذي يدلك على أن فهم الجمهور هو الصحيح دون فهم الشافعية أنه في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإني لا أشهد على جور)، فسماه جوراً والجور معناه الباطل.
إذاً: هذه العطية باطلة بنص كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وما هي شروط العطية حتى تصح؟
الأول: أن يكون الواهب مالكاً لها.
الثاني: أن يكون مكلفاً؛ لأن الهبة من الصغير غير المكلف لا تصح.
الثالث: ألا يكون عليه دين.
وهذا فقه عال فهمه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز للمديون أن يهب هبة لأحد.
الرابع: الإيجاب والقبول.
أي: لا بد من قبض الهبة أو العطية؛ لأنه لو لم يقبض الهبة فيمكن أن يرجع فيها، والدليل على هذا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قد ترك زرعاً أو ثمراً لـعائشة فلم تقبضه وهو على فراش الموت، فقال لها: قبضتيه؟ قالت: لا، قال أبو بكر : هو الآن بين الورثة.
إذاً: يصح الرجوع قبل القبض، أما إذا قبض الموهوب له الهبة فإنه لا يصح الرجوع، والدليل على قول الجمهور قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه).
وقال الشافعية: كل واهب إذا أراد أن يرجع في هبته فله أن يرجع في هبته، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع)، يقول الشافعية: هذا حديث إسناده كالشمس، ويقول أحمد : حديث صحيح، ويقول مالك : إسناده لا غبار عليه، ويقول أبو حنيفة : حديث صحيح، إذاً: بلغهم الدليل وعلموا صحته، لكن الخلاف في فهم مراد رسول الله، فـالشافعي فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الراجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود) أن الكلب إذا استقاء ثم أكل قيئه فإنه يحل له، فكذلك الواهب يجوز له ويباح له أن يعود في هبته كما أن الكلب يعود في قيئه، وهذا فهم دقيق، لكنه ليس براجح بل هو مرجوح جداً، والرد عليه سهل وهين، وهو أن الإمام أحمد بن حنبل عند مناظرته للشافعي أجاب على الشافعي بهذا الجواب: قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات قال: (ليس لنا مثل السوء) يعني: لا يجوز لنا أن نتمثل بما تتمثل به الكلاب ولا نفعل مثل ما تفعل الكلاب، فهذه دلالة واضحة جداً على أن الواهب لا يجوز له أن يرجع في هبته بحال من الأحوال.
فـالشافعي وأحمد فهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع بين مفترق من أجل الصدقة ولا يفرق بين مجتمع من أجل الصدقة) أنه إذا كان للمرء أربعون شاة واختلط مع غيره ومعه أربعون شاة بحيث يكون المكان الذي يبيت فيه الغنم واحداً، ويكون المراح والمطرح والشراب والفحل واحداً، فهنا يخرجان شاة واحدة فقط يقتسمانها بينهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فالقسمة بينهما بالسوية) مع أنهما لو لم يختلطا للزم كل واحد منهما شاة واحدة، وكذلك إذا كانوا ثلاثة كل واحد معه أربعون شاة فصارت مائة وعشرين، والمائة والعشرون عليها شاة واحدة؛ لأن النصاب مائة وواحد وعشرون فيها شاتان، لكن معهم مائة وعشرون فلا يجب عليهم إلا واحدة.
إذاً: لا يؤخذ منهم إلا واحدة ما داموا مجتمعين، لكن بشرط أن يكون المكان والمراح والمطعم والمشرب واحداً، لكن لو تفرقوا وصار مع كل واحد منهم أربعون شاة، فإنه يكون على كل واحد منهم شاة.
هذا فهم الشافعية والحنابلة، أما أبو حنيفة فقد فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع بين مفترق) أنه لو كان هناك رجل عنده ثمانون شاة، لكنه جعلها نصفين ووضع كل أربعين في مكان منفصل عن الأربعين الأخرى، فإن عليه شاتين، ولو جمع الثمانين في مكان واحد فإن عليه شاة واحدة.
إذاً: هو يفرق في المكان فقط، لكن يشترط النصاب عند الأحناف؛ لأن الله جل وعلا لما أمر بالصدقة اشترط شرطين من أجل الصدقة: أولاً: النصاب، ثانياً: حولان الحول، فقالوا: لا بد أن يكون مالكاً للنصاب، وهذا كلام من أجود الأقوال، لكن الراجح الصحيح هو قول الشافعية والحنابلة، وهو أنه إذا جمعت الغنم وبلغت النصاب ففيها الزكاة وتقسم بينهم بالسوية.
مثاله: رجل عنده ثلاثون شاة والثاني عنده خمسون والثالث عنده أربعون، فعند الشافعية والحنابلة تقسم عليهم بالسوية، يعني: فعلى صاحب الثلاثين أقل من الثلث، والأكثر على صاحب الخمسين وأقل منه على صاحب الأربعين، كل بسهمه، وعند المالكية عليهم شاة واحدة، لكن قالوا: صاحب الثلاثين لا يقسم عليه؛ لأنه لم يبلغ النصاب، لكن عند الشافعية والحنابلة لا بد أن يكون عليه جزء بالسوية، وهذا هو الراجح الصحيح.
لا بد أن يحمل على معنى معين بالقرائن المحتفة، فكل عالم عنده النص ثابت؛ لأنه من القرآن، لكن يجتهد في فهم النص بالقرائن المحتفة.
أيضاً الشراء يدخل في معنى البيع، قال عز وجل: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف:20]، أي: باعوه.
أيضاً معنى القرء كما في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] فالقرء يحمل على الحيض، ويحمل على الطهر، فهو طهر وحيض، فعلى أيهما نحمله؟
وهل هو الحيض أو الطهر؟ فمثلاً: المطلقة هل عدتها الأطهار أم عدتها الحيض، لقول الله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]؟ وأصل الخلاف في المعنى الذي يحمل عليه القرء، فالعلماء اختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: الجمهور وهم الشافعية والمالكية ورواية عن الحنابلة، قالوا: القرء هو الطهر، واستدلوا على ذلك بالأثر وبالنظر، أما من الأثر فقالوا: قال الله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]، (لعدتهن) قال العلماء: لقبل عدتهن أو في عدتهن، فالقرء معناه هنا الطهر؛ لأن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز الطلاق في الحيض، والذي يؤكد ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـعمر : (مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها في طهر لم يجامعها فيه)، وهذا دليل قوي جداً.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها ثم يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) فقوله: (فتلك العدة) هذا هو محل الشاهد، يعني: في الطهر وليس في الحيض.
وأيضاً من الأثر ما ورد بسند صحيح عن عائشة قالت: (تعلمون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار).
الدليل الثاني: من النظر، قالوا: إن القرء لغة معناه الجمع، تقول: قرأت كذا أي: جمعت كذا، فيقولون: الطهر بالنسبة للمرأة هو تجميع الدم في الرحم، أما الحيض فهو خروج الدم وتفريقه، وهذا صحيح راجح.
القول الثاني: قول الأحناف وهو رواية عن الحنابلة، قالوا: القرء هو الحيض، فقول الله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] أي: ثلاث حيض، وقالوا: عندنا الدليل أيضاً من الأثر ومن النظر.
أما من الأثر فقد قال الله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، فإذا قلنا بقول الجمهور أن القرء معناه الطهر، فجاء شخص وطلق امرأته في نصف الطهر فهل نصف الطهر يحسب أم لا يحسب؟ يعني: لو طلقها في نصف الطهر، ثم حاضت ثم طهرت فهنا طهران، ثم حاضت ثم طهرت، فهل نقول: هذه ثلاثة أطهار أم اثنان ونصف؟ اثنان ونصف وليست ثلاثة أطهار؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228]، وهي لم تكتمل ثلاثة، والأصل بقاء اللفظ على ظاهره، وتقدير النصف مع الاثنين على الغالب يكون ثلاثة ليس هو الأصل، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة فلا بد أن تكون ثلاثة، وإذا قال الله ثلاثة فلا بد أن تكون ثلاثة، قالوا: ولا يمكن أن يكون ذلك في الأطهار، لكن لا بد أن يكون في الحيض، فإذا طلقها في الطهر الذي هو السنة فنقول: لا تستقبلي عدتك الآن حتى تحيضي، فلو حاضت تكون أول حيضة، ثم طهرت ثم حاضت تكون الثانية، ثم طهرت ثم حاضت تكون ثلاث حيضات كاملة.
إذاً: ظاهر الآية مصدق على الحيض.
واستدلوا أيضاً من الأثر بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للأمة طلقتان وحيضتان وعدتها حيضتان) فليست ثلاث حيض كالحرة الأمة، لكن هذا حديث ضعيف لا حجة لهم فيه، وقد روي مرفوعاً وروي موقوفاً وصح موقوفاً عن ابن عمر رضي الله عنهما ولم يصح مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث: وهذا هو فاصل في محل النزاع، وهو حديث في سنن النسائي وأبي داود بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فإذا جاء قرؤك فدعي الصلاة) وقال في رواية أخرى: (دعي الصلاة أيام أقرائك)، يعني: أيام حيضك، فهي لا تدع الصلاة في الطهر وإنما في الحيض، ولولا صحة هذا الحديث لكان القول الأول من أقوى الأقوال أثراً ونظراً.
إذاً: فهذه دلالة على أن القرء هو الحيض.
وأيضاً من النظر قالوا: ما هي العلة في العدة؟ أقوى العلل هي استبراء الرحم، واستبراء الرحم لا يعرف بالطهر وإنما يعرف بالحيض؛ لأن المرأة إذا حاضت دل ذلك على أنها لم تحمل، هذا على قول الحنابلة وقول الأحناف؛ لأنهم هم الذين يقولون بذلك.
إذاً: براءة الرحم تعرف بالحيض على حد قولهم هم، وإن كان هذا الأمر مردوداً عليه، لكن نقول: فصل النزاع لنا:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
فإذا جاءنا الحديث فهو مذهبنا، وإذا جاء الحديث خصمت كل الفقهاء، وإذا جاءنا النص نأخذ به ونضرب بكل قول لأي أحد عرض الحائط، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعي الصلاة أيام أقرائك) يعني: أيام حيضك، فجعل القرء بالنص الصريح هو الحيض، وينبني على ذلك العدد، وينبني عليه مسائل كثيرة، وهذا مجاله في الفقه.
فالنكاح في اللغة له معان ثلاثة: فيأتي بمعنى الاقتران، ويأتي بمعنى الوطء، ويأتي بمعنى العقد.
والأدلة على ذلك كثيرة منها: أولاً: قول الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا [النساء:6]، أي: بلغوا سن الرشد بحيث لو وطئ ينزل.
إذاً: النكاح هنا المقصود به الوطء.
الآية الثانية: قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:49] أي: إذا عقدتم العقد.
الآية الثالثة: يقول الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا [البقرة:230].
الدليل على هذه الآية من السنة هو حديث عائشة قالت : (جاءت امرأة
فهنا معنى قول الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]، أي: تعقد وتنكح ويطؤها.
إذاً: الخلاف في تفسير النكاح هل هو الوطء ولو عن طريق الزنا أو هو الوطء بعقد صحيح وبنكاح صحيح؟
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: قول الأحناف والحنابلة: أن المقصود بالنكاح هنا الوطء سواء كان بنكاح صحيح أو لا؛ لأن النظر في ذلك إلى ماء الرجل الذي قد دخل في فرج هذه المرأة، فلا يدخل عليه ماء ابنه.
القول الثاني: قول الشافعية، فقد نظروا في قول الله تعالى: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22] فقالوا: نكح أي: وطئ بعقد صحيح، وهذا هو الظاهر، وقالوا: إن الحرام لا يحرم حلالاً.
فالشافعية والمالكية يرون أنه لو زنى رجل بامرأة فإنه يجوز لابنه أن يتزوج هذه المرأة إن تابت توبة نصوحاً، واستدلوا على ذلك بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الحرام لا يحرم حلالاً)، وهذا الحديث موضوع لا يصح حجة في الأمر.
فالمعترك هنا من النظر، قالوا: أما من النظر -وهذا الكلام الذي يقصم ظهور من يخالف- قالوا: إن الله أناط حكم التحريم بالنكاح الذي هو من الحلال، والحرام لا يمكن أن يحرم حلالاً، للفارق بين الحرام وبين الحلال؛ لأن الأحناف والحنابلة يرون أنه يقاس الحرام على الحلال، قال الشافعية: هذا القياس باطل غير صحيح؛ لأن القياس هنا قياس مع الفارق.
ما هو الفارق بين الحرام والحلال؟ قالوا: الفارق الأول: أن النكاح الصحيح يكون فيه التوقير والتعظيم، فلو أن رجلاً عقد على امرأة فإنها تصبح للابن أماً، يدخل عليها ويقبل يدها ويدعو لها وله أن يسافر بها؛ لأنه محرم لها، وأما الثانية التي زنى بها الوالد فلها الإهانة والاحتقار، والمحرمية لا تنتشر بينها وبين ولد من زنى بها، فهذه الفوارق تمنع من القياس، ولذلك العلماء يقولون: إن هذا القياس قياس مع الفارق، أي: أن الأصل لا يساوي الفرع، والعلة غير متساوية.
إذاً: فالصحيح الراجح أن الحرام لا يحرم حلالاً؛ إذ الحلال معه التوقير والتعظيم، ومعه المحرمية، أما الحرام فلا تنتشر به المحرمية ولا يكون فيه توقير ولا تعظيم.
هذه مسألة فقهية شديدة الخلاف.
فهل تسمى ابنته وتنسب له أم لا تنسب؟ لا تنسب له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، والفراش معناه فراش الزوجية، فالشافعية قالوا: يجوز أن يتزوج بها؛ لأن الحرام لا يحرم حلالاً، وهي ليست ببنته أصلاً؛ لأن الولد للفراش.
وقال الجمهور: لا يجوز له أن يتزوجها؛ لأنها من مائه.
وأقول: في الحقيقة أن مذهب الشافعية قوي، لكن إذا قلنا بالأثر والاستنباط والفطرة وجمعنا أدلتنا فإن هناك دليلاً واحداً يرد على مذهب الشافعية، وهو لبن الفحل، فلو أن رجلاً تزوج امرأة فأنجبت منه، ثم طلق تلك المرأة، فثاب اللبن في ثديها من أثر جماعه، وهذه المرأة بعدما أنجبت ذهبت وأرضعت بنتاً، فهل تكون بنتاً له من الرضاع أم لا، مع أنه قد طلق المرأة التي أرضعت؟
الصحيح الراجح أن لبن الفحل متسبب في كونها بنته من الرضاع.
إذاً: لبن الفحل يحرم البنت عليه، فمن باب أولى أن تكون التي ولدت من مائه حراماً عليه، وهذه المسألة تكون مستثناة من القاعدة الصحيحة التي قعدها الشافعية وهي: أن الحرام لا يحرم حلالاً، فيكون الصحيح الراجح أن البنت من ماء الزاني لا يجوز له أن يتزوجها؛ للبن الفحل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر