أما بعــد:
أيها الأحبة: إن مثل هذا الجمع الحاشد مهما بذل الإنسان، فإنه دون ما يجب له وإذا تصورنا أن جلوسنا في هذا الوقت سيكون ساعة من الزمان مثلاً، فإن هذه الساعة بالقياس إلى ألوف أو عشرات الألوف ممن قد يسمعون مباشرة أو بواسطةٍ، أي أن هذا الوقت سيكون زمناً طويلاً جداً وسيكون ثروةً هائلة من عمر الأمة ووقتها وأعتقد أن الاعتذار لا يسعفني ولا يشفع لي في هذا المقام ولكني أقدمه لكم على ذلك.
أيها الأحبة.. لقد كان هذا العنوان الذي أشار إليه أخي الشيخ عبد الوهاب حفظه الله "القول على الله بغير علم" كان بنظر وقبول من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى وإنه لشرفٌ كبير لي أن أتحدث عن موضوع يقترحه ويحس بأهميته سماحة الشيخ عبد العزيز، فإنه خبير بملابسات الواقع وتحدياته، عارف بحاجات الناس التي تتطلب الشرح والبيان.
أما أسباب طرق هذا الموضوع والحديث عنه، فلعل من أهم أسباب ذلك: هو جراءة كثير من الناس، من غير المختصين، على الخوض في مسائل الشريعة أصولاً وفروعاً، وهجوم كثير من هؤلاء على الخوض في الدقيق والجليل من المسائل دون خجل ولا حياء، فهذا على صعيد المتحدثين والمتكلمين.
أما على صعيد العامة من الناس وجمهور الأمة؛ فقد أصبح كثيرٌ منهم لا يستطيعون التمييز عمن أخذوا، ومن يستحق أن يستمع إليه في الشرعيات، ومن يستحق ألا يؤخذ منه ولا يلتفت إليه، فأصبح في نظر عدد من الناس أن كل من تكلم في الشرع فإنه يستمع إليه، ويردد كلامه ويهتم به، مع أننا نجد أن كثيراً من هؤلاء في مسائلهم الدنيوية يرجعون فيها إلى أهل الاختصاص دون غيرهم، فإذا كان عند أحدهم مريض -مثلاً- فإنه لا يذهب به إلى البقال ليعطيه وصفة العلاج، لأنه يعرف أين مكان استقبال المرضى، وكذلك إذا أراد ترميم منـزله فإنه لا يذهب إلى الخياط، بل يسند كل عملٍ إلى من يحسنه ويجيده، ممن كثرت دربته وعظمت خبرته فيه، فهذا في شئون دنيا الناس، لكنهم في شئون دينهم قد أصبح قسم كبيرٌ منهم يستمعون إلى من هب ودب ودرج، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن من يتكلم اليوم في قضايا الإسلام والدين وجد آذاناً تصغي إليه.
فإذا أضفنا إلى هذا أن أسهم الإسلام بحمد الله قد ارتفعت، وراياته قد رفرفت، وشجرته قد بسقت فأصبح يخطب ود الإسلام والمسلمين كل أحد، وأصبحت كثير من القيادات اليسارية والناصرية في الماضي، في عدد من الأقطار الإسلامية، تكتب عن الإسلام وتؤلف فيه، وتتحدث عنه، والأسماء كثيرة جداً، ومن طالع الصحف الكويتية قبل الغزو العراقي للكويت أدرك هذا بجلاء، فقد أصبح الحديث عن الإسلام وقضايا الإسلام شأناً لكثير ممن كنا نعرفهم بالأمس يصرحون أنهم من اليساريين مثلاً، بل بعضهم كانوا من الشيوعيين، سواءً في مصر أو في بعض بلاد المغرب العربي، أو في بلدان الخليج، أو في غيرها.
إذا عرفنا هذا أدركنا أن الكثيرين أصبحوا يتكلمون عن الإسلام ويخطبون ود هذه الجماهير، التي تقبل على الإسلام، وتبحث عن حكم الله تعالى وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام، فلو تصورنا هذا لأدركنا حجم الخطورة التي تقع فيها الأمة، إذا لم تستطع أن تميز، عمن تأخذ ومن هو الذي يستحق أن يتكلم في مسائل الشرع، ومن هو الذي يستحق أن يسكت؟
فالمفتي موقع عن رب العالمين، ومخبرٌ عما يعتقد في الظاهر أنه حكم الله ورسوله في مسألة معينة، أو في موضوع، أو نازلة ألمت بالناس.
ومن هذا المنطلق قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي ذكرته آنفاً، قال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات! أي هو منصب عظيم وكبير، وهو في نفس الوقت شرفٌ لمن يتسلم هذا المنصب، ومسئولية عليه أيضاً، ولذلك كان الله عز وجل في كتابه يتولى الإفتاء بنفسه في بعض المواضع، يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ [النساء:176] فأفتى عز وجل بنفسه ونسب هذا الفعل لذاته المقدسة الشريفة.
والكلام في نقل أقوال السلف في التحذير من الفتيا بحد ذاته يأتي في مجلدٍ كامل، لكن لو رجعت إلى مصدر واحد فقط للإطلاع، كـسنن الدارمي مثلاً باب: من هاب الفتيا، تجده قد نقل في ذلك نصوصاً كثيرة أذكر منها نصين.
الأول: منها عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات المعروفين، أنه سُئل فقال: [[لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا]] مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كبارهم، وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ويكفيه الحديث.
النص الثاني: الذي نقله الإمام الدارمي هو أن الشعبي رحمه الله سئل كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم عن فتيا أو مسألة؟
قال: على الخبير سقطت أو وقعت -أنا خبير بهذا- كان السائل يسأل أحدهم في المجلس فيقول لصاحبه: أفته أفته، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، كأن السائل يأتي في حلقة كبيرة كل واحد منهم يحيله إلى الآخر حتى يعود إلى أول شخص سأله، وغالباً ما يكون هذا المتصدر للحلقة، وما كان ذلك إلا لعلمهم بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، وأن ذلك أعظم الذنوب على الإطلاق، كما نص عليه ابن القيم رحمه الله في أكثر من موضع، وقال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فختم هذه المحرمات الخمس التي اتفقت جميع الشرائع السماوية على تحريمها، وهي أعظم المحرمات، وأمهات الذنوب -الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله- بقوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
الأول: تحريم الكلام في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله بلا علم، كما يتكلم كثير من الناس في الألوهية، والربوبية، والغيبيات، والدار الآخرة، والجنة، والنار، والصراط، بدون علم، وبدون هادٍ ولا دليل، والهادي والدليل في هذه المسائل ليس هو العقل، وإنما هو النص الشرعي، لأنها أمورٌ ليس للعقل سبيل إلى إدراكها، فالخوض في هذه المسائل بغير علم ولا دليل هو من القول على الله بغير علم.
الثاني: كما يشمل تحريم الكلام في القدر المكتوب بغير علم، ومن ذلك أن يتكلم الإنسان في أمورٍ مستقبلية إلى غير ذلك.
الثالث: الكلام في الشرع بغير علم، مثل من يتكلم في الحلال والحرام، والأحكام، والواجبات، والمحرمات، بدون أن يكون عنده توكيل من الله عز وجل أو تفويض، والتفويض هو في الأصل نص شرعي من كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحٌ ثابت، ثم إن المُبَيِّن المُعْرِب عن هذا النص ليس كل أحد، وإنما هو العالم الذي أصبح يملك أداة التعبير عن الشرع، ولذلك قال الله عز وجل في كتابه، كما في الآية السابقة: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] وقال سبحانه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وقال عن المشركين: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] فأنكر عليهم أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فإذا فعلوا شيئاً واستحسنوه واعتادوه ثم نهوا عنه قالوا: الله أمرنا بذلك!!
أما القول على الله بغير علم فهو أعظم الذنوب على الإطلاق، لأنه هو السبب حتى في الشرك.
ولذلك كان المسلم حرياً جديراً بأن يحذر كل الحذر من القول على الله تعالى بغير علم.
بل كل إنسان يملك ولكن بعد أن يستوفي الشروط، أي أن الطريق مفتوح، وليس مقصوراً على فئة معينة، لكن ليس معنى كونه مفتوحاً أنه كلأ مباح لكل أحد، ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت، ولكن في الإسلام علماء، يرجع إليهم في معرفة نصوص الكتاب والسنة ودلالاتها ومعانيها، والغريب أن الناس أيضاً يدركون هذا جيداً فيما يتعلق بمجالاتهم الدنيوية، فمثلاً المكتبات الآن تغص بألوان الكتب الطبية، وقد أصبحت الدوريات والنشرات والمجلات الطبية بالآلاف، بل ربما بعشرات الآلاف في أنحاء العالم، وهناك مراكز متخصصة في إعداد البحوث وطباعتها وتوزيعها، بحيث إن الطبيب المهتم يتابع أولاً بأول كل ما جَدَّ في عالم الطب، فهذه الكتب والمجلدات الهائلة، والمزودة بالصور والتقارير والأرقام والإحصائيات، والتي تتجدد يوماً بعد يوم، وتوافي المختصين أولاً بأول، هل أغنت الناس عن الذهاب إلى الأطباء؟ كلا، أم هل أغنت الناس عن فتح المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والوحدات الطبية ومراكز الأبحاث؟! كلا، بل لا يزال الناس يشعرون يوماً بعد يوم بمسيس الحاجة إلى مثل هذه المراكز والمستشفيات والوحدات؛ لأن هذه الأوراق وحدها لا تكفي ولا يستفيد منها أصلاً إلا الطبيب المختص.
أما عامة الناس ففائدتهم منها محدودة إلى حدٍ بعيد، قد يملكون فيها نوعاً من الثقافة التي تمكنهم من مناقشة الدكتور مثلاً، لكن أن يملكوا قدراً يمكنهم من كتابة الوصفات، ومعالجة الأمراض، فلا يكون هذا أبداً، وإلا لما كنا بحاجة إلى كليات الطب، ودراسات طويلة عريضة، ومراكز متخصصة وجهود ضخمة.
فكيف نتصور مثلاً أن وجود النصوص الشرعية في الكتب، سواء في القرآن أم في السنة، أك في كتب أهل العلم، أنه كافٍ للناس، وأنه من حق أي إنسان مسلم أن يتكلم في أي مسألة تخطر له، بمجرد أن يقف على نص يظن أنه يتعلق بهذه المسألة التي أشكلت عليه.
فالذي يأخذ الأمور ببساطة دون أن يرجع إلى المصادر والشروح والأقوال والكتب المعتمدة، من السهل جداً أن يقع في مثل هذا الخطأ، بل فيما هو أشد منه، والعجب كل العجب من قوم يتسارعون إلى عرض آرائهم في الحديث النبوي مثلاً، تصحيحاً أو تضعيفاً، قبولاً أو رداً، أو عرض آرائهم في المسائل الفقهية تحليلاً أو تحريماً، أو استحباباً أو كراهة أو إباحة، وقد ينكر أحدهم حديثاً أو حكماً شرعياً قبل مراجعة الشروح، وقبل مراجعة أقوال العلماء فيه، في الوقت الذي يسخر هؤلاء فيه مر السخرية من غيرهم، مدعين أن هذا الغير تعلموا بين يوم وليلة وتكلموا! فقد أصبحنا نسمع كثيراً من ينتقد شباباً درسوا العلوم الشرعية في أسبوع أو شهر أو ثلاثة أيام وتكلموا في الشرعيات، يقولون: هؤلاء لا بصر لهم، ثم وجدنا أنهم هم أنفسهم يتكلمون في قضايا جليلة أو خطيرة، دون أن يكلف أحد نفسه ولا حتى ساعة واحدة يراجع فيها ما قاله أهل العلم في هذه المسألة، فضلاً عن يوم وليلة أو أيام أو أسبوع أو شهر!!
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه في حديث صاحب الشجة، وهو رجل من الصحابة ذهب في غزوة فأصيب بشجة في رأسه، فأصابته جنابة، وأراد أن يسأل أصحابه ماذا يفعل، فأمروه بأن يغتسل، كما جاء في حديث من طرق، وقد حسنه بعض أهل العلم، والحديث في أبي داود وغيره، فاغتسل فمات من أثر الجرح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال} فالعاجز العيي الذي ليس عنده علم شفاؤه أن يسأل، فكان حق هؤلاء أن يسألوا إذ لم يعلموا، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى أن يسأل من يعلم، وكذلك في قصة العسيف، الذي كان عنده رجل فزنى بامرأته، وذهب أبو العسيف هذا يسأل الناس، وسأل أهل العلم فأخبروه، وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
فدل على أن الطريق الصحيح لجماهير الناس في معرفة الحلال والحرام هو أن يسألوا أهل العلم، وحين نقول تسأل أهل العلم فلا يعني هذا أنك قد أغمضت عينيك، فتعتقد وأنت أعمى، بل إذا كان عندك إمكانية وكنت إنساناً مثقفاً ولك قراءة، فإذا أفتى لك العالم بشيء، فناقشه فيما أفتاك، واعرض عليه قولا آخر سمعته، واسأله عن الدليل الذي احتج به، فلا مانع من هذا كله، لكن المهم أن تكون الفتيا، والكلام في المسائل الشرعية مضبوطاً محمياً محفوظاً، لا يملك أي إنسان أن يتكلم فيه دون قيد ولا شرط، ودون حسيب ولا رقيب.
فهذه صورة وهي صورة جراءة بعض الناس على الكلام في الشرعيات، من الإفتاء وغيرها، دون أن يتأهلوا لذلك، أو يملكوا العلم الذي يرشحهم لمثل هذا المنصب، والناس لا غنى لهم عن المفتين المتخصصين، الذين طالت دربتهم ومرانهم وممارستهم للكتب وللناس.
من هذه الشروط مثلاً الإسلام، فالكافر أو المرتد هو فاقد للأهلية، وليس من حقه أن يتكلم في ذلك حتى يسلم إن كان كافراً، أو يعلن توبته إن كان مرتداً على الملأ، فحينئذٍ يسلك الطريق، ويبدأ يتعلم حتى يصبح أهلاً لما وضعه الله تعالى له.
الشرط الثاني: هو التكليف، فإن غير المكلف الذي لم يصل إلى درجة أن يكون مكلفاً شرعياً لا يفتي أيضاً.
الشرط الثالث: هو العدالة، فالفاسق سواء أكان فسقه بقول أم كان فسقه بفعل أم كان فسقه باعتقاد، هذا لا تقبل فتواه، ولا يسمع قوله، وهذه الشروط الثلاثة التي هي الإسلام والتكليف والعدالة مجمعٌ عليها عند العلماء، أنه لا بد من توفرها في المفتي، أو في المتكلم في أمور الشرع.
وهناك شروط أخرى اختلفوا فيها منها الاجتهاد فبعضهم يقول: لا يقبل قول مفتٍ إلا أن يكون مجتهداً، ومعنى كونه مجتهداً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، عالماً بلغة العرب، عارفاً بأصول الفقه، عارفاً بالإجماع؛ لئلا يأتي بقول يناقض الإجماع وهو لا يدري، وكذلك أن يكون عارفاً باختلاف العلماء، حتى يستطيع أن يميز الاختلاف، ويأخذ بالقول الراجح ويترك القول المرجوح.
كما اشترط آخرون جودة القريحة، واليقظة، وكثرة الإصابة، والذكاء، وهو ما يعبر عنه الإمام الجويني وغيره، بأن يكون المفتي فقيه النفس، أي يكون عنده يقظة وانتباه وذكاء، بحيث يعرف حيل الناس، ويعرف ألاعيبهم ويعرف طرائقهم، ويستطيع أن يتوصل إلى الحق بأسلوب مناسب.
أولها: أن تكون له نية، فمن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
ثانيها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، بمعنى أن تكون أخلاقيات هذا المفتي أو هذا المتكلم في الشرعيات تجعله في موضع القدوة والأسوة، وتجعله فعلاً موضع الثقة في التعبير عن معاني الشرع وتوصيلها إلى نفوس الناس.
الشرط الثالث: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته، بمعنى أن يكون عنده تمكن من المسائل الشرعية وقدرة على معرفتها والإحاطة بها.
الشرط الرابع: الكفاية وإلا مضغه الناس، ويقصد بالكفاية أن يكون مستغنياً عما في أيدي الناس.
الشرط الخامس: معرفة الناس، أي: أن يعرف الناس وحيلهم وألاعيبهم، لئلا يغتر بأقوالهم أو مكرهم أو حيلهم ولذلك كان الأئمة يحتاطون في الفتيا لأنفسهم، ويمنعون غيرهم من الإفتاء بغير علم، حتى قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن شيخه يعني ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه قال: كان شديد الإنكار على هؤلاء، أي الناس الذين يتسرعون في الكلام والفتيا بغير علم، قال: فسمعته يقول يوماً من الأيام، قال لي بعض هؤلاء المتسرعين في الفتيا: أجعلت محتسباً على الفتوى؟!
أي: هل أنت مكلف من قبل السلطان بالاحتساب على أهل الفتوى؟
لأنه كما هو موجود الآن، كان كل أهل مهنة لديهم مسئول مراقب من قبل الجهات المختصة فيقولون له: هل أنت مراقب من قبل الجهات المختصة على أهل الفتوى؟
فكان يقول لهم رحمه الله: أيكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب! يقرهم على ذلك فيقول: نعم أنا محتسب أمنع من ليس أهلاً من ذلك. والغريب أن بعض هؤلاء الناس نسبوا لـابن تيمية رحمه الله أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي! ابن تيمية الذي كان يلاحق المتسللين الذين يتصدرون للفتوى وليسوا من أهلها، ويمنعهم ويُشَهِّر بهم، ينسب إليه بعضهم أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي، كيف يكون هذا؟!
وإذا احتججت أو اعترضت على بعض هؤلاء قال لك: يا أخي! لا تحجر واسعاً، أليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن عمرو بن العاص وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيقول: أنا لا أعدم من إما من أجر واحد أو أجرين، فلماذا أنت منـزعج؟
ولماذا أنت منفعل؟
ولماذا تعترض علي في كوني أتكلم وأفتي وأقول بحسب علمي في مسائل الشرع، وأكتب ما تيسر من المباحث المهمة في هذا الباب؟
لماذا تمنعني من ذلك؟!
والواقع أن ما في هذا الحديث لن يكون حتى يتوفر فيه شرطان:
الشرط الأول: أن يكون أهلاً للاجتهاد، بعلم غزير، وخبرة وتاريخ، ودراسات كافية.
الشرط الثاني: أن يبذل وسعه في الاجتهاد في المسألة التي تعرض عليه، فلا يكتفي بكونه مشهوراً مثلاً، أو معروفاً، بل يكون إلى ذلك إذا عرضت عليه مسألة، قلَّب فيها وجوه الرأي، ونظر وتأمل، وإن كانت تحتاج إلى بَحْث بَحَث أو تحتاج إلى سؤال سأل، حتى يستقصي الحق ثم يقول به، فإذا فعل هذا فلا إثم عليه، بل هو مأجور في الحالين، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد.
فهذا المفتي الذي تكلم بدون علم ولا تثبت ولا دليل شرعي، يحمل وزره ووزر من أضله بغير علم، يقول الله عز وجل: فمن أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144] فمن تكلم في شأن دينيٍ بغير علمٍ فهو من أظلم الظالمين، فهو ظالم لنفسه وظالم لغيره، ظالم للأمة، ظالم للمجتمع، وإثمه موقوف عليه، وكذلك إثم من أضلهم بغير علم كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً. وقال ابن الجوزي رحمه الله ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنـزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنـزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم. يقول: وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
أي هو أولى من الطبيب الذي يتكلف الطب وهو لا يعرف ذلك.
وقد تحدث بعض الفقهاء الحنفية عن مفتٍ يسمونه "المفتي الماجن" وقال الإمام أبو حنيفة: هذا المفتي الماجن يجب الحجر عليه.. لأنه متلاعب بفتواه، يفتي وليس أهلاً للفتوى.
وبطبيعة الحال كون الإنسان يبحث في مسألة معينة، كطالب علم، أو إنسان عنده قدرة على الرجوع إلى الكتب، وبحث مسألة واستقصى أدلتها، والأقوال الموجودة فيها، ثم وصل إلى نتيجة، هذا ممكن؛ لأن الاجتهاد -كما يقول أهل العلم- يتجزأ، بمعنى أنه يمكن للإنسان أن يكون مجتهداً في مسألة واحدة بعينها، لأن هذا الاجتهاد هو الآخر له طريقه المعروفة.
ولله در الإمام مالك رضي الله عنه عندما سأله رجل عن مسألة فقال: لا أدري قال له السائل: إنها خفيفة ويسير وسهلة، فغضب الإمام مالك وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] فأصل مسألة "حلال وحرام" ليست مسألة سهلة، أنت تعبر عن حكم الشرع، فأنت مترجم لحكم الله ورسوله، وموقع عن رب العالمين، ولست تأتينا بشيء من جيبك الخاص حتى تتساهل في هذا الأمر إلى هذا الحد، أو تفرط فيه بحجة أو بأخرى.
وقد ابتلي المسلمون بطائفة كثيرة من هؤلاء الذين صوروا أن مجرد الاختلاف في مسألة ما، يبيح للمسلم أن يختار من هذه الأقوال ما يشاء، بالرغبة والمزاج والتشهي، وليس بالدليل الشرعي، فيرون الاختلاف دليلاً على الإباحة، كما ذكر ذلك الخطابي والشاطبي وغيرهم، منكرين على هؤلاء الذين يرون الاختلاف في مسألة دليلاً على الإباحة، ويعتمدون على ذلك في جواز فعل الشيء بأن فيه خلافاً.
قال: أنا سوف أذهب وأبحث المسألة وأستقصيها من الكتب، وأصل إلى نتيجة، نقول: هذا مسلك حميد فلتفعل بشرط ألا تأتي بقول لم يُسْبَقْ إليه، وأن يكون مرادك في قلبك هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد التشهي، أو اتباع الهوى، لا بأس بهذا. وآخر قال: لن أسمع كلام فلان، نقول: من ستسمع؟
قال: أنا واثق بالعالم الفلاني وأقلده في هذه المسألة حتى قبل أن نعرف رأيه، نقول: لا بأس -ما دمت عامياً، لست من أهل البحث ولست طالب علم- أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه على أن تقلده في الرخصة والعزيمة، والتيسير والتشديد، فلا حرج في ذلك، لكن كونك تقول: بمجرد أن المسألة فيها أقوال، فأنا مأذون لي شرعاً أنني أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ما أجد أن نفسي ترتاح إليه؛ فماذا يكون معنى الشرع على هذا الحال بهذه الصورة؟
لأننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] فإن تنازعتم في شيء يعني من أمور الدين، فردوه إلى الله والرسول، فما كان فيه خلاف فليس الحكم أن آخذ ما أريد، وأنت تأخذ ما تريد، الحكم بيننا هو أن نرد الخلاف إلى الله، أي إلى القرآن، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الرد إلى شخصه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.
هذا هو الميزان، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ومن لم يقبل هذا الميزان فقد بين الله حكمه بقوله: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرa> >[النساء:59] فهذا هو الميزان، أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا يختار ما يشاء. وفي بعض المواضع نفى الله الإيمان عمن لا يقبلون ذلك، كما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنـزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنـزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت
أما التشهي في الشرع فهو لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله، كما قال الله عز وجل: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الجاثية:18-19] وقال سبحانه وتعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49] فما أنـزل الله شيء وأهواءهم شيء آخر، وأنت مطالب بالحكم بما أنـزل الله، وأهواؤهم تدعها عنك جانباً، ولا تلتفت إليها.
فالعامي أو السائل أو المستفتي إذا جاء للعالم يقول: أفتني في المسألة الفلانية، أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية؟
فهو في الحقيقة يقول له: يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي، لأن العامي أصلاً يعرف هواه. فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس؟
هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي، بل جاء يسأل العالم عن حكم رب العالمين، أو حكم سيد المرسلين في هذه المسألة.
فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له: المسألة فيها قولان، وأنت اختر من القولين ما شئت، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه، وهو ما لم يأت ليسألك عن هواه، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتيك، إنما يريد حكم الله ورسول.
المرحلة الأولى: اتخاذ الخلاف مخرجاً للتحلل من قيود الشريعة، فكلما قلنا شيئاً قالوا: هذا فيه خلاف. وإذا رجع المرء إلىالكتب القديمة فما من مسألة عالباً إلا وسيجد فيها خلافاً شاذاً، أوخلافاً ضعيفاً، وسيجد فيها أقوالاً مهجورة ولو أردت أن أذكر لكم بعض الأقوال المهجورة، التي ذكرها بعض الفقهاء لتألمتم، حتى إني أذكر على سبيل المثال، أني قرأت يوماً من الأيام أن أحد من المتقدمين يقول: إنه إذا كان على أحد ديون كثيرة لإنسان، وما استطاع أن يسدده، فأراد أن يقدم نفسه عبداً رقيقاً لهذا الدائن مقابل الدين جاز له ذلك، أو كلاماً نحو هذا، وهذا لا يقول به أحد! وليس عليه أثارة من علم أو كتاب أو سنة وهذا معارض للأصول الشرعية، لكن وجد إنسان قال به، أو قد لا يكون قال به حقيقةً، لكنه نسب إليه أو فهم عنه خطأ، فلو ذهبنا نأخذ الأقوال الشاذة والضعيفة والمرجوحة فلن ننتهي أبداً، إذاً تحللنا من أحكام الشريعة كلها، ولم ننته من الخلاف حتى الآن.
هذه المرحلة الأولى، أنه لا يلزمنا إلا المجمع عليه. وما لم يجمع عليه دعونا نأخذ منه ما نشاء.
وهي أن هؤلاء الذين كانوا يقولون: لا تحاكمونا إلا إلى المجمع عليه، سينتقلون بنا بعدها ويقولون لنا حتى الإجماع نفسه فيه خلاف، فهناك من العلماء من لا يقبل الإجماع، كما هو مذهب بعض الظاهرية، حتى بعض المتأخرين من الأصوليين قد لا يقولون بالإجماع.
فنحن معذورون أن نأخذ ما نرى، خاصةً إذا تصورنا أن من الناس من لا يفرقون بين عالم قديم وعالم معاصر، فلو جاء عالم معاصر برأي ينقض إجماعاً قديماً، اعتبروا هذا العالم حجة في نقض الإجماع، ولذلك يحتج بعضهم بعلماء متأخرين، كالشيخ محمد رشيد رضا، وهم علماء أفذاذ، ولهم منـزلة، ولهم آراء ناضجة، لكن لهم آراء -أيضاً- لا يوافقون عليها.
والمقصود ليس تقييم هؤلاء العلماء، لكن المقصود أن من الناس من لا يفرق بين عالم متقدم في وقت انعقد فيه الإجماع، أو كاد أن ينعقد، وبين عالم متأخر قد يأتي بقول ينقض إجماعاً سبقه، دون أن يكون هذا العالم اطلع على الإجماع، ولعلي أضرب لكم مثلاً، واعتذر عن هذا المثل، لأنه ليس المقصود المثال، لكنه وقع لي فأحببت أن أذكره، لأن قضيتنا أكبر من مجرد قضايا جزئية، كما يشير بعضهم، ويذكرون مثلاً قضية حلق اللحية أو الموسيقى، التصوير، أو وسائل الترفيه، أو غيرها من المسائل.
نقول: هذه كلها ليست هينة، لأن المراد كما قال الإمام مالك: ليس في الإسلام والدين والعلم شيء سهل، أو شيء هين إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] وحتى القضايا هذه لا نحكم فيها بالأمزجة أبداً، إنما نحكم فيها بما نعتقد أنه حكم الله ورسوله.
لكن مقصودي بالمثال أن أوضح كيف يفعل بعض هؤلاء في كتاب اسمه فتح المنعم، تكلم فيه عن أشياء في صحيح مسلم وعن موضوع حلق اللحية كمثال، يقول هذا المؤلف وهو معاصر: لما عمت البلوى بحلقها في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره، خوفاً من ضحك العامة عليه، لأن العامة في بعض البلاد قد يسخرون منه لأنه ملتحٍ، يقول: لاعتياد العامة على حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصلٍ أخرج عليه جواز حلق اللحية، حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق.
انظر كيف التناقض يقول: حلق اللحية محرم باتفاق العلماء، ومع ذلك يقول: ذهبت أبحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى أعطي الذين استحوا من العامة وحلقوا لحاهم، وثيقة تبيح لهم فعل هذا العمل.
فإذا كانت المسائل التي فيها خلاف، لا ننكر فيها ولا نتكلم عنها، ثم مسائل الإجماع ذاته فيها خلاف، فلا نتكلم فيها، فلم يبق عندنا إلا مسائل العقيدة، وحتى مسائل العقيدة سيستطيع هؤلاء أن يدخلوا فيها الخلاف مع بعض الفرق الضالة، من المرجئة، والجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم، وبذلك يصبح الدين كله شيئاً عائماً سيالاً غير منضبط، لا تستطيع أن تقف منه على شيء، وقد لا يبقى إلا ما يعبر عنه البعض بأنه روح الدين ولب الدين، وما هو روح الدين؟ وأين وجدت هذه الروح واللب؟
وليت المتحدثين عن هذه المسائل من العلماء! وهيهات للعلماء أن يتحدثوا بمثل هذا الكلام، إذاً لهان الخطب، ولكن كما قيل:
فلو أني بليت بها شمي خؤولته بنو عبد المدان |
لهـان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني |
وما أعجب شأن هؤلاء الناس! حينما يصل الحال ببعضهم إلى حد فقدان المنطق، وفقدان الموضوعية بصورة لا يستحون فيها من الفضيحة، فإذا قيل لهم رَأْينا في المسألة أنها حرام، قالوا: هذا يكفر الناس، سبحان الله! وقالوا: أنت تكفر الناس، أنت تعد هذه من أركان الإسلام، فتعتبر أن من يخالفك قد خرج عن الملة.
أين وجدتم هذا الكلام؟
ألا تخافون الله عز وجل! ألا تتقون وتستحون! ألا تخشون من فضيحتكم أمام الأمة، أن تنسبوا كلاماً غير صحيح، للذي يقول: إن هذا حرام فهو لا يعتبر أن فاعله أحياناً فاسقاً، فضلاً عن كونه كافراً، لأنه قد يكون ارتكب هذا المحرم بتأويل لمقتضى دليل شرعي فيكون الذي فعله غير آثم أصلاً، فضلاً عن أن يكون كافراً، فما معنى أن يقول: هذا حرام، فيقول: هذا يكفر الناس، أو أنت تعد هذا من أركان الإسلام، أو تعتبر من يخالفك في الرأي وخارجاً من الدين، خارجاً من الملة، أين الحوار الموضوعي؟
وأين المجادلة بالتي هي أحسن؟
وأين المنطقية وأسلوب الحديث في الهواء الطلق الذي نتحدث عنه كثيراً؟!
فإذا قلت لهؤلاء: قال الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لك: أنت أعلم من فلان ومن فلان حين تخالفهم؟
فإذا قلت: قال أهل العلم. قالوا: أنت من المقلدين الجامدين، تتمسك بهذه الأقوال الجامدة وتحارب من أجلها.
وكما قال سفيان الثوري رحمه الله يقول: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فبين شيئاً فيه ترخص، وتسامح، وتيسير، وتسهيل على الناس، لكن ليس ذلك عن أي إنسان، إنما عن ثقة، عن إنسان يعرف أين يضع الرخصة وأين يضع العزيمة، وأين يضع اليسر والشدة، قال: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيعلمه كل أحد، يقول مثلاً في التشديد: كل شيء هذا حرام هذا حرام هذا لا يجوز، فهذا كل إنسان قد يحسنه.
يقول سفيان: عن العالم أنه الذي يميز ويعرف، خاصة في أشياء كثيرة جديدة جدت في واقع الناس وفي حياتهم، وأصبح كثير من الناس يتساءلون عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ليس الصواب ولا المنهج السليم أنا نأتي ونقول كلما جاء شيء جديد وقفنا ضده، وقلنا: هذا لا يجوز وهذا حرام وهذا كذا وهذا كذا، بل والحمد لله قد وهب الله علماءنا في هذه البلاد قدراً طيباً حتى إن أحدهم لينظر في هذه الأشياء ويميز، ما يقبل منها فيقبله، وما يرد منها فيرده، وفق أصول وضوابط لا تتغير ولا تختلف.
إذاً الدين يسر وتيسير، وسماحة وتسهيل، وهناك من الأشياء في هذا الباب أمر يطول الحديث يطول عنه الآن، وقد سبق أن تحدثت عن هذا في أكثر من محاضرة، أو كتيب متداول في أيدي الناس.
ولا شك أننا بحاجة إلى علماء في الاقتصاد، وفي الإدارة، والاجتماع، وفي علم النفس، والسياسة، وإلى علماء في كل مجالات الحياة، يجمعون بين العلم بهذه التخصصات وبين أن يكون عندهم ثراء في العلوم الشرعية، بحيث يستطيعون أن يجعلوا هذه القضايا تحت المجهر الشرعي، ويصلوا فيها إلى نتيجة صحيحة، أو أن العالم الشرعي يستعين بمثل هؤلاء الخبراء في مجال تخصصاتهم، حتى يستطيع أن يتصور الأمور تصوراً صحيحاً، وأن يصل فيها إلى النتائج، وهناك -بحمد الله- مجامع فقهية وعلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك، مثلاً هيئة كبار العلماء في المملكة، والمجمع الفقهي في مكة وبعض المؤسسات خارج المملكة، قد يكون لها دور في ذلك وهي بداية.
على كل حال نرجو أن تتواصل حتى تحل مشكلات الأمة، على ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن ترك الشدة على الناس أن لا نلزمهم أيضاً بمذهب معين، ما دام أن الدليل مع غيره، فلا نقول: اترك المذهب إلى مذهب آخر، لأنه أسهل وأيسر، وجدت مرة مجموعة من الناس عندهم وقف، هذا الوقف عبارة عن نقود، فمثلاً عندهم مائة ألف ريال، فسألتهم وقلت لهم: على أي أساس جعلتم المال وقفاً؟
قالوا: بحثنا فوجدنا في مذهب الإمام أحمد أنه جوَّز إيقاف المال فأوقفناه، فهل بحثتم في الآراء الأخرى، وبحثتم في الأدلة، وتوصلتم إلى قناعة أن هذا هو الحق؟
فلا بأس، أما إذا كان بمجرد ما علمت أنه يوجد عالم أفتى بهذا أخذت به، فهذا لا يصلح أبداً، فالمهم أن الدين فيه تيسير، وسماحة، وفيه فرص عظيمة جداً.
وهذا جانب من الرخص.
قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة.
وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! وأرى أن هذا ليس بلازم، فحسبنا عقول هذه الأمة وأفهامها ومداركها ووعيها، فإنها هي النار التي سوف تحرق كل باطل ولن يصفو إلا الكلام الصحيح بإذن الله تعالى.
وهذه شهادة من أربعة: ابن عبد البر وابن حزم والباجي وابن الصلاح، وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، لأن النوادر والشذوذات لا تنتهي بحال من الأحوال، وهي أصلاً ما اجتمعت في واحد من العلماء، بل تجد العالم بحراً زاخراً من الفضائل، لكن عنده زلة واحدة، فأنت أخذت الزلة هذه، والزلة هذه وجمعت الزلات، وصرت تتعامل بهذه الزلات، وتقول هذه أقوال أهل العلم، أي منهج هذا؟!
وأي طريقة هذه؟!
يقول الأوزاعي إمام أهل الشام: نحن نجتنب من أقوال أهل العراق خمساً، أي خمس مسائل من مسائل فقهاء العراق لا نقبلها، ونتجنب من أقوال أهل مكة خمساً، وذكر مسائل لا نقبلها من فقه هؤلاء، ولا من فقه هؤلاء حتى أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ -وأهل الكوفة الحنفية يترخصون في النبيذ- وبقول أهل المدينة في السماع -أي في الغناء فبعض المدنيين يترخصون في الغناء دون أن يكون معه دف أو موسيقى- وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، يقول: لو عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وقول أهل المدينة في السماع، وقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، مع أنه ما خرج عن أقوال العلماء، ومع ذلك فسقه، أما الأوزاعي فذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول: يكفر ولو لم يخرج بعد من أقوال العلماء.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: وهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصةً في قول كل عالم، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول: نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
لكن ما حدود الضرورة؟
نحن نقبل بالضرورة، والضرورة لها أحكام، لكن لها ضوابط أيضاً، فليس كل شيء ظن الإنسان أنه يحتاجه أصبح ضرورة، بل للضرورة ضوابط وشروط، لا بد من تحققها فإذا تحققت هذه الضرورة فإنه يعمل بها في إطارها، وتقدر الضرورة بقدرها، دون أن يتعدى بها هذا الإطار إلى الناس كلهم بشكل عام، فالناس قد يقعون في المعصية ولكن مع الوقوع؛ ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستغفار، وألا يتحول الأمر إلى أنه يبحث عن أمر يحلل له هذه المعصية، ففرق بين من يعصي ويقول: أستغفر الله والله غفور رحيم، قد يغفر الله تعالى له، لكن أن يقع في المعصية ثم يذهب يبحث في بطون الكتب عن نص يبيح له هذه المعصية فلا. وهل أنت تتعامل مع الله عز وجل بهذا؟
الله تعالى هل سوف يسألك أنك وجدت في كتاب معين، أو في قول عالم، أو في قول متكلم أو في قول إنسانٍ ما، أن هذا الأمر حلال؟!
إن الله عز وجل يحاسبك على حسب ما أوصل إليك من كتاب أو سنة، إما آية محكمة، أو سنة ماضية ثابتة قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] هذا هو السؤال: ماذا أجبتم المرسلين؟
إذا عجزنا عن ترك معصية وقعنا فيها كأفراد لا يبيح لنا أو يسوغ لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لهذه المعصية، عَجزنا كأمة أو مجتمع عن تغيير بعض المنكرات الواقعة، من سفور، واختلاط، وربا، لا يجعلنا نذهب نبحث عن تحليل لهذا الأمر، بل نقول للحرام: هذا حرام وهو موجود، ونسأل الله أن يعيننا على إزالته، ونبحث عن الوسائل والأسباب، ولو فُرض أننا عجزنا نقول: يأتي الجيل القادم فيجعل الله تعالى تغيير هذا المنكر على يده، أما أن نتحول من العجز عن التغيير إلى البحث عن مرتبة أقل من ذلك، وهي محاولة إقناع أنفسنا بأن هذا الوضع أو هذا الحكم الذي سرنا فيه أنه مباح، فإن هذا تأخر لا يرضاه المؤمن لنفسه.
أرأيت -مثلاً- لو تصورنا وجود اليهود في إسرائيل جائزاً وهذا مثال بعيد، لكن للتمثيل فقط، قد يكون المسلمون عجزوا في هذا الوقت بسبب أوضاع كثيرة جداً، عن إخراج اليهود من أرض المسلمين، نحن نقول: عجزنا لكن هناك أجيال بعدنا ستأتي وستخرج اليهود حتماً كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما جريمتنا نحن لو أقررنا اليهود على هذا الأمر وأعطيناهم وثيقة أن لهم جزءاً من فلسطين، بحجة أننا عاجزون، فأصبح وجود اليهود وجوداً يعني -كما يعبرون- شرعياً، بمقتضى موافقة المسلمين، معنى ذلك أن هذه خيانة للقضية، فالصحيح أن نقول: نحن عاجزون عن هذا الأمر وإسرائيل واقع، نعم واقع ولا نتجاهله، ولكننا مع ذلك لا نعترف بهذا الواقع أنه واقع صحيح، بل نقول: إن هذا كفعل اللص لو دخل بيتاً واحتله، وعجز صاحب البيت عن إخراجه، فإنه يقول: سيأتيك أولادي بعدي فيخرجونك، أو تأتيك الشرطة فتخرجك، لكن لا يبقى البيت لك، ولا يصبح لك لأنك كنت لصاً قوياً متسلطاً مدعوماً من الشرق أو الغرب، وقد ظن بعض الناس أن هذا الباب -باب تغيير مراعاة الواقع- أنه يدخل في باب تغيير الفتوى، وقد يحتجون بكلام لـابن القيم رحمه الله في هذا الباب، والواقع أن هذا في وادٍ وكلامهم في تغيير الفتوى في واد آخر، أي أن هناك شيئاً اسمه تغيير الفتوى هذا موجود تكلم فيه ابن القيم، وما هو تغيير الفتوى؟
كيف يتكلم الناس في الشرعيات وهم لا يعرفون المقصود، حتى المصطلحات غير معروفة لديهم!
نقول له اضرب عشرين في عشرة فهذه مائتا درهم، لكن لو فُرض أنه جاءنا نفس السؤال في بلد آخر الدينار فيه يصرف باثني عشر درهم، وقال واحد: لله عليّ أن أخرج عشرة دنانير أو عشرين ديناراً، وقال: لم أجد دنانير في الواقع، ولا يوجد في السوق أبداً، وليس عندي إلا دراهم فكم أخرج؟
نقول له: اضرب عشرين في اثني عشر، فشكل الفتوى تغير باعتبار اختلاف مقدار صرف الدينار بين بلد وآخر.
مثال آخر: قضية عبارات الطلاق، في بعض البيئات إذ قال الرجل لامرأته: سامحتكِ، معناه: طلقتكِ، وإذا قالت: سامحني قال: سامحتكِ هذا عندهم يعتبر طلاقاً، مثل ما عندنا هنا في مجتمع نجد مثلاً خاصةً في الماضي، أكثر منه في الحاضر، إذا قالوا فلان: خلىّ زوجته، خلاها معناه طلقها، هناك لو قالت له زوجته: سامحني وقال: سامحتكِ طلقت منه، وعندنا في نجد لو أن امرأة أخطأت على زوجها وقالت له: سامحني وقال: سامحتك، هل نقول: طلقت منه؟ لا.
لكن في ذلك البلد الآخر، الذين لا يعرفون لفظة خلَّى، لو أن رجلاً أمسك بيد زوجته فقالت له: خلني فأطلق يدها، هل نقول أنها طلقت منه؟
لا. لم تطلق، لأن الفتوى هنا تغيرت بحسب المعروف عند الناس من معنى هذه الكلمة، فهذا نيته كذا وهذا نيته كذا، والأمثلة على ذلك في موضوع الطلاق والعتاق وغيرها شيء كثير.
وفي بعض البيئات مثلاً عندهم اللبن شيء والحليب شيء آخر، وبعض الناس يسمونه حليباً كله، فلو أن واحداً حلف وقال: والله لا أشرب الحليب، هل يجوز له أن يشرب اللبن؟
لا يجوز، لأن اللبن عندهم والحليب كله اسم واحد، لكن في بيئات أخرى اللبن لبن والحليب حليب، فلو حلف ألا يشرب الحليب جاز له أن يشرب اللبن، أو حلف ألا يشرب اللبن جاز له أن يشرب الحليب، هذه بحسب عادات الناس ونياتهم وبحسب ألفاظهم وأوضاعهم.
فمثلاً كان الإمام أبو حنيفة يفتي لو أن واحداً أراد أن يشتري بيتاً فشاهد غرفة واحدة في المنـزل ولم يشاهد الباقي، أن هذا يكفي، لأن البيوت في عهد أبي حنيفة كانت غرفها متساوية ومتماثلة، فإذا شاهد واحدة كانت مثالاً للباقيات، لكن الذين بعده من تلاميذه خالفوه في هذه الفتوى، وقالوا: لا يكفي هذا، لأن عادة الناس في البناء تغيرت، وأصبحت الغرف مختلفة غير متساوية في مساحاتها، إذاً تغيرت الفتوى لأنه تغير الشيء الذي بنيت عليه، وذلك يدخل في أبواب عديدة، وعلى أي حال هذا معنى تغير الفتوى.
هل نسمي هذا تغير الفتوى؟
لا يسميه العلماء تغير الفتوى أبداً، وإن كان الذين صنفوا ممن لا علم لهم ظنوا هذا من باب تغير الفتوى. هذا في الواقع من باب اختلاف اجتهاد المجتهد، والمجتهد قد يبدو له اليوم ما لم يكن بدا له بالأمس، وقد يرى اليوم مباحاً ما كان يراه بالأمس حراماً، وعليه كلما بدا له حكم جديد أن يبين ذلك للناس بالدليل.
والسلف من الصحابة رضي الله عنهم تغيرت فتواهم في مسائل كثيرة جداً، يفتي أحدهم بشيء ويبدو له خلافه ويرجع عنه، بل كان من العلماء من يفتي بمسألة ومن الغد يرجع عنها، فيبعث أحداً يقول في الأسواق: من كنا أفتيناه بكذا وكذا فليأتنا فقد تغير رأينا في هذه المسألة.
فمسألة اختلاف اجتهاد المجتهد تختلف جذريا عن مسألة تغير الفتوى، ومن العجيب أن بعض الناس يخلطون بينهما، فمثلاً من باب تغير الفتوى أن الساعة هذه التي تلبس في اليد، بالأمس كان هناك من يعتقد أنها سحر ويشك في ذلك، واليوم لا يوجد من يعتقد ذلك، هذا المثال أقرب للسخرية منه إلى الكلام العلمي الرصين المحقق، هل وجد من العلماء من قال إن الساعة سحر؟
كون بعض العوام اشتبه عليهم الأمر لأنه أمر جديد فكتب أحد العلماء كتاباً يبين أن الساعة صناعة وليست سحراً، ويزيل اللبس الموجود عندهم هذا شيء، لكن كون أحد من أهل العلم المحققين المعترف بهم قال إن الساعة سحر، هذه في الواقع سخرية بالعلماء.
من أمثلة تغير الفتوى مسألة الرقيق، وأن الرقيق كان بالأمس يسترق وأفتى العلماء بتحريم الرقيق، ونقول: لم يفت أحد من العلماء في الواقع بتحريم الرقيق مطلقاً، لأن الرق حكم شرعي باقي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ظاهرة مؤقتة لكنه ظاهرة مرهونة بأسبابها، فالرق في الإسلام ليس عن طريق سرقة الناس وبيعهم، إنما الرق عن طريق جهاد شرعي يسترق المسلمون فيه الكفار، هذا هو الرق في أصل منشأه الشرعي، وهو باقٍ أمس واليوم وغداً، وكونه اختفى لسبب أو لآخر، أو الناس حرروا أرقاءهم، أو تبنت الدول تحريرهم شيء آخر، ولا يعني أن الحكم الشرعي تغير، فالحكم الشرعي باقٍ، وآيات القرآن محكمة في هذا الأمر وليست منسوخة، ولا أحد يستطيع أن يمسحها من المصحف.
إذاً: مسألة الخضوع لضغوط الواقع هي من أخطر المسائل، التي تجعل الناس يطوعون نصوص الشرع لأمزجة البشر، ونحن نقول: الدين ولله الحمد يسر كله، والرسول عليه الصلاة والسلام بعث بالحنفية السمحة، وبعث ميسراً لا معسراً، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، والفقهاء يقولون: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وفي ذلك كلام كثير يطول، لكن المقصود أن هذا لا يعني بحال التحلل من قيود الدين وأحكامه بحجة مراعاة الواقع أو ظروف أو ضغوط الواقع أو ما أشبه ذلك، والفتوى تتغير باختلاف عوائد الناس التي تبنى عليها الفتوى، أما حكم الله ورسوله فلا يتغير بحال من الأحوال.
أقول: هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
الجواب: الحديث عن علماء الأمة، هو في الواقع طعن للأمة كلها، وطعن للأمة ذاتها؛ لأن أولئك الذين يتحدثون عن علماء الشريعة إنما يقصدون الحيلولة بين الأمة وبين دينها؛ وذلك لأن الأمة لا تستطيع الوصول إلى حقيقة دينها، إلا من خلال أولئك الهداة المرشدين الذين أقامهم الله تعالى حجة على العالمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بقائهم إلى يوم يقوم الدين، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين}.
فمحاولة النيل من هؤلاء العلماء هي في الواقع محاولة للنيل من الدين، وذلك لأن هناك فئة من الناس إما لجبنها أو خوفاً من الأمة لا تستطيع أن تنال الدين ذاته أو تمسه أو تتكلم فيه، فهي تبجل الدين ظاهراً، وتعظمه وتنطلق منه، ولكنها تنال من حملته، الذين إذا انفصلت الأمة عنهم، فقد انفصلت عن حقيقتها وظلت عن طريقها، وأصبحت ألعوبة في يد كل من هب ودب ودرج؛ ولذلك فإن النيل من العلماء من أخطر الأشياء أياً كان مستوى هذا النيل.
وفي الحقيقة إن الذين ينالون من علماء الأمة ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات -مع الأسف- كثيرة، فمنهم من ينال من العالم لعلمه وفقهه، ومنهم من ينال منه لمواقفه، ومنهم من ينال منه لقوته في الحق، وهؤلاء وإن كانوا يصدرون مصادر شتى، إلا أنه يجمعهم هم واحد، وهو محاولة إسقاط مكانة أهل العلم وأهل الفتيا، والمعرفة بدين الله تعالى وشرعه، وهم لا شك
كناطح صخرة يوم ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل |
الناس ينزعجون حينما يرون قالة في عالم أو في علماء، انتشر في بعض الفئات أو في بعض الأوساط، وهذا في الواقع أمرٌ لا يزعج؛ لأن الحق لا بد أن يحصحص يوماً من الأيام، والناس قد يتلقفون قالة تظهر، ويأخذها هذا عن هذا ويتحدثون، لكن دعك من انتشاره في وقت محدد لأنك لو نظرت إلى الأيام والليالي لوجدت أنه على الأيام لا يثبت بإذن الله تعالى في هذا الأمر إلا ما يكون فيه دعم مكانة العلماء وحفظهم وصيانتهم عن كل من أرادهم بسوء وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
الجواب: كتمان العلم والجرأة عليه هما أمران متقابلان، فإن الجرأة تعني إظهاره، وكتمانه أي: إخفاؤه، فهما أمران متقابلان، لكن الإنسان على كل حال مطالب بإظهار العلم، كما قال الله عز وجل: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] وكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق للأمة كلها، فمن حق الأمة أن تعرف أحكامها ومعانيها وحلالها وحرامها، لكن قد يحدث أحياناً ظرف ربما يستدعي السكوت عن بعض الحق لمصلحة راجحة، لأن الإنسان قد يرى لو نطق بهذا الحق أنه يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت.
فهنا تأتي قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد، فسكوتك عن الحق هو مفسدة، لكنك لو قدرت أن نطقك بالحق قد يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت فحينئذ لا شك أن السكوت يكون أولى تحصيلاً للمصلحة.
الجواب: هذا موضوع طويل سبق أن تكلمت عنه في أكثر من محاضرة، لكن باختصار هذا يختلف من إنسان لآخر، فمثلاً طالب العلم الطريقة الصحيحة هي أن ينظر في الأقوال والأدلة والراجح والمرجوح ويصل فيها إلى نتيجة، أما العامي فلا شك أنه لا يتمكن من ذلك ولا يستطيعه، حتى لو كان متخصصاً في فن آخر، لكنه عامي بالنسبة لأمور الشرع وغير قادر على معرفة الأدلة، ولا الوصول إلى مظان البحث في الكتب، فإن هذا ينظر إلى من يثق بعلمه ودينه ويقلده، وينبغي له أن يسأله عن الدليل فيما أفتاه به.
سؤالي: كيف يتعامل الشباب مع هذه الجراثيم؟
الجواب: هذه فعلاً طعنة، ولكنا مع ذلك ينبغي أن نثق أن الأمة ماضية في طريقها، وأن هؤلاء لن يضروا إلا أنفسهم، ولن يضروا الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين، وأما الحل فبالنسبة لهذا الأشياء لا بد من مقاومتها، وبيان وجه الحق فيها بأسلوب علمي مترفع عن الإسفاف والتهجم، أو النيل والسب لفلان أو علان، فقضيتنا قضية الحق والباطل، وليست قضية شخص يذهب ويجيء، هذا لابد منه أولاً.
ولابد أن نصبر ونصابر كما صبر أولئك؛ بل أعظم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، ولا بد أن تسعى الأمة من خلال المختصين، ومن خلال الجامعات الإسلامية، والكليات الشرعية إلى إيجاد الكوادر الكافية التي تحتاجها الأمة، وتستطيع أن تغطي حاجتها.
لقد أتينا إلى بعض البلاد العظيمة التي يكون عدد المسلمين فيها يزيد على مائة وخمسين مليون، فوجدنا هذا البلد الواسع لا تكاد تجد فيه من العلماء المعروفين إلا من يعدون على أصابع اليد الواحدة.
وهذا نقص خطير جداً؛ لأن كل فرد منا محتاج إلى شريعة الله حتى في ذات نفسه، فما أحوجنا إلى أن يُنتدب وينبرى لطلب العلم الشرعي وتحصيله، وتقديمه للناس -أيضاً- لأن بعض من يملكون شيئاً من ذلك أصابهم قدر كبير من حب العافية وإيثار السلامة، وحب الخمول والبعد عن الأضواء تواضعاً وزهداً، فظلموا أنفسهم وأمتهم وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].
الجواب: ..... هذه مجرد لمحات وإشارات، ومن جهة عليك أن تلقي نظرة عابرة على جهود المنصرين في أنحاء العالم الإسلامي، وبالذات العالم الأكثر فقراً، انظر إلى جهودهم وقدِّر ما هذه الجهود وما هي دوافعها، ومن جهة أخرى ليس صحيحاً أن كل مسلم يستطيع أن يظهر شعائر دينه، وما قصة الفتيات المغربيات في فرنسا عنا ببعيد، الإسلام ما دام محصوراً في مستوى معين لا يشكل خطراً عليهم فهم يغضون الطرف عنه، لكن حين تزداد أسهم الإسلام ويرتفع قدره في بلادهم، سيكون هناك شأنٌ آخر لهم مع الإسلام، وهذا بدأ يظهر الآن في الغرب، في أمريكا وبريطانيا وفرنسا .
أمر ثالث أن تلك المجتمعات أصلاً مبنية على الكفر، ولذلك هي في الواقع تحرج المسلم وتفرض عليه المخالفة في قوانين كثيرة يضطر هو أن يسايرها شاء أم أبى، بحكم المجتمع، نعم يستطيع أن يصلي، ويصوم، لكن هناك أشياء أخرى كثيرة، حتى الصلاة قد لا يكون هذا متيسراً في كل حال، قد يكون مربوطاً بعمل وبأمور اعتبارات كثيرة جداً تمنعهم من ذلك.
أمر آخر، أنه قد تجد أحياناً أن جمهور الناس هناك -وأنبه إلى هذا لأهميته- كجمهور المسلمين في كثير من البيئات، صارت صلتهم بالدين ضعيفة جداً لكنها باقية، فمثل هؤلاء قد يتعاملون مع المسلم بصورة عادية، لا يحسون بحساسية شديدة تجاهه، لكن لو صار بينهم وبين المسلمين أخذ وجذب وعداء وحروب، أو صار الإسلام خطراً يهددهم، هنا قام زعماؤهم سواءً الزعماء السياسيون أو الزعماء الدينيون، فأثروا وحركوا حماس وحمية الناس لدينهم فتحركوا.
هذا هو الموجود في بلاد النصارى منذ زمن بعيد، وهو -أيضاً- موجود بصورة عكسية في بلاد المسلمين، بمعنى قد تجد في مجتمع ما من مجتمعات المسلمين أناس لا يصلون وصلته بالدين واهية، ويمكن يسخر من المتدينين، لكن لو جاء قوم من الكفار وأغاروا على هذا الحي أو على هذا البلد المسلم، لربما كان هذا الإنسان الذي لا يصلي من ضمن المدافعين، حمية لإخوانه وبني عمه وللمسلمين معه وللناس الذين عاش معهم، لكن صلته بالدين واهية جداً، أثر بعد عين.
الجواب: هذا الكلام جميل، وقد ذكرت خلال حديثي عن الطبيب أن من حقه أن يبحث مسألة فقهية بشرط أن يسلك الطريق الصحيح، فيذهب إلى كتب الفقه، ويجمع الأقوال والأدلة، ويصل فيها إلى نتيجة معينة، وحسن جدا، لو عرض هذه النتيجة على عالم أو متخصص، وهذا الكلام نفسه نقوله عن عالم الشرع: أنه لو أراد أن يبحث قضية اقتصادية أو قضية سياسية هو عن حكم الله ورسوله فيها، فكيف نستطيع أننا نجعله يتصور هذه القضية تصوراً صحيحاً، ويدرك أبعادها الحقيقة، لا شك أن هذا العالم عليه أن يستعين بالمختصين ليطمئن على سلامة النتائج التي توصل إليها.
ثم هناك قضايا كثيرة ليست من باب الاختصاص، نستطيع أن نقول إنها ربما تكون مشاعة لطبقة معينة من المستمعين يتكلم فيها الجميع، ويتحدث فيها الناس في الإذاعات وفي المجالس وفي الأحاديث وفي الصحافة وفي كل ميدان، ففي هذه لا تنظر إلى عالم الشرع باعتبار أنه عالم شرع فقط، هو أصلاً كإنسان له قدرٌ من العلم بهذا الشيء، وكمسلم ومتخصص له قدر وتصور في هذا الأمر وحكم الله ورسوله في ما يئول إليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر