يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:9-10].
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس معهم بالتأسي
ولذلك كثرت المواساة، وكثر التذكير بأخبار الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لتصبيره، فقال الله له: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام:34]، وفي الآية الأخرى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـفاطمة عند موته: (يا
فلذلك شرعت أشياء لخدمة هذا الأصل، من عيادات المرضى، واتباع الجنائز، فإذا فقئت عينك مثلاً، ودخلت المستشفى وأنت تتألم، ثم دخل بعدك رجل فقئت عيناه؛ تهون عليك بلواك. وإذا دخلت وقد كُسرت رجلك، ورأيت رجلاً كسرت رجلاه، وبُتِرت يداه، هانت عليك مصائبك.
هذا منهج من مناهج التصبير، ألا وهو المواساة، وكان الرسول يصبر نفسه بهذا المبدأ، فلما أوذي عليه الصلاة والسلام قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
وهذا يعطينا فقهاً للتعامل مع الناس، ألا وهو مواساة الناس بمصائب غيرهم، فإذا جاءك شخص يشكو من مرضٍ متألماً منه، فاحك له قصصاً تصبره بها، وذكِّره بعبر فيها أقوام قد أُصيبوا بأشد وأشد من الذي ابتلي به، فحينئذٍ تهون عليه تلك المصيبة التي هو فيها، ويحمد الله سبحانه وتعالى على ما أصابه.
وهذا مضمن في قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا [القمر:9] أي: كذبوا عبدنا نوحاً عليه الصلاة والسلام، فكما أن محمداً صلى الله عليه وسلم كُذِّب، فقد كُذِّب أيضاً نوح، وكما أن المشركين كذّبوا محمداً فقبلهم أهل شرك كذبوا نوحاً صلى الله عليه وسلم.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا [القمر:9] فيه إشعار بالعبودية لله.
قال سبحانه: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9] أي: وزجر نوحٌ صلى الله عليه وسلم من قومه أبلغ الزجر، وانتهروه غاية الانتهار، وأغروا به السفهاء، وسلطوا عليه الحمقى والصبيان، يرمونه بالبعر، ويضربونه بالأحجار صلى الله عليه وسلم.
قال سبحانه: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11-12]، تصوير بليغ: تُفتح أبواب السماء بماءٍ منهمر، والأرض تفجر عيوناً، فيلتقي الماء على أمرٍ قد قُدِر، ماءٌ يغطي أعالي الجبال، كما قال نوح لولده إذ قال له: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43]، فالذي ينزل الماء هو الله، والذي يفجر الأرض عيوناً هو الله سبحانه، والذي يسخر السحب ويسيرها هو الله، والذي يفجر الأرضين هو الله سبحانه وتعالى، فليكن الملتجأ إليه دائماً.
قال الله سبحانه: وَحَمَلْنَاهُ [القمر:13] أي: حملنا نوحاً عليه الصلاة والسلام ومن معه كما في الآية الأخرى، فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء:119] .
قال سبحانه: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:13] هي: السفينة، وهي: الفلك، وهي الجارية، فقد أُطلِق عليها كل ذلك، وأُطلِق عليها: ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [القمر:13]، وأُطلِق عليها: الفلك المشحون، أي: المملوء، من قولهم: شحنتُ الباخرة، أو شُحِنت الباخرة، وأُطلِق عليها: الجارية لقوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، والفلك كما في قوله تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هود:37] .
قال سبحانه وتعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14] قال كثير من المفسرين: أي تجري على مرأى منا، وبحفظنا وبرعايتنا لها، كما قال الله سبحانه وتعالى لموسى صلى الله عليه وسلم: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وكما قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، فقوله سبحانه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ، فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ، وتَجْرِي بِأَعْيُنِنَا .. كل ذلك كقول الشخص -مع ملاحظة الفارق- في الحياة الدنيا: ابنك في عيني، أي: أنا أحفظه وأرعاه لك بإذن الله فاطمئن عليه.
فالله سبحانه وتعالى يقول : تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، أي: بحفظنا وبرعايتنا.
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:14]، والجزاء هنا بمعنى: الثواب، والجزاء أحياناً يطلق بمعنى: العقاب، أي: إكراماً منا لمن كان كَفَر به قومه وهو نوح صلى الله عليه وسلم.
قال فريق من أهل العلم: إن السفينة استمرت على جبل الجودي بالهند لقرون طويلة، بل لآلاف السنين حتى يعتبر بها المعتبرون ويدَّكر بها المدكرون، وقد تقدم شيءٌ من الحديث في هذا الباب، ألا وهو: باب ترك شيءٍ للاتعاظ وللاعتبار، فالله جل ذكره قال في شأن فرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:92]، فجعل الله سبحانه جسد فرعون آية ودلالة على إغراق كل ظالم، وإهلاك كل طاغية؛ فجسد فرعون تُرِك آية، وكذلك سفينة نوح تُرِكت آية، وكذلك مدائن قوم لوط كما قال الله عنها: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الصافات:137-138]، وديار ثمود كما قال سبحانه: وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [الحجر:79] أي: بطريقٍ واضح، يمر عليهما المارة أثناء أسفارهم، وأثناء ذهابهم وإيابهم.
القائل بالجواز يستدل ويبني قوله على أمور، منها: قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ [الروم:42]، وكما قال سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً [القمر:15] .. إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالسير في الأرض للاعتبار والادكار.
ولقائل آخر أن يمنع مستدلاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه لأصحابه لما مر بديار ثمود: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، فهذا الحديث يمنع من الدخول عليهم بقصد النظر، إنما فقط يجوز الدخول عليهم مع الحالة المصاحبة لك من الخوف والبكاء أو التباكي، وللاتعاظ والاعتبار، فيقال: إن الأصل هو المنع، إلا إذا كنت باكياً كما أشار إليه حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا وجهٌ آخر أيضاً وهو قويٌ، والمسألة لا تخلو من الأخذ والرد، لكن الذي يذهب فقط للإعجاب بحضارة الكفار الفراعنة، ثم يرجع معجباً بهم، ومتغنياً بتراثهم، فهذا يُخشى عليه أن يلحقه -والعياذ بالله- شعبة من النفاق، أو شعبة من محبة الكفر والكافرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال سبحانه: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:15]، أي: فهل من متعظ؟ وهل من معتبر؟
الوجه الثاني: أنهم مبتعدون عن قول الله سبحانه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، ومبتعدون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أنهم واقعون تحت طائلة السجع المذموم الذي حذر منه ابن عباس وغيره، فقد قال ابن عباس لبعض التابعين: (وانظر إلى السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك). أما التكلف الممقوت، وتمكث شهراً تفكر في بيت شعر، أو يوماً تفكر في قافية توافق قافيتك، أو تأتي بأسلوب صعب شاق على الناس، فسعيك غير مشكور، وعملك غير محمود، والسهولة كل السهولة واليسر كل اليسر في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلما دخلت إلى أقوال علم الكلام ازددت بعداً عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذا التعقيد الزائد لا معنى له ولا حاجة.
وتوجد كتب أُثني عليها، وهي في الحقيقة جدير بها أن يثنى عليها من باب تأصيلها للعقائد، وتوضيحها للمناهج؛ ككتاب العقيدة الطحاوية وشرحها، لكن شابتها الألفاظ المعقدة زائدة التعقيد التي تجعلك تتهم نفسك عند قراءتها، ولو كان الكاتب قد أوجز وعبر بأساليب سهلة مفهومة لكان قد اجتمع إليه الحسن إلى الحسن، ولكنها تعقيدات في الألفاظ، حتى وأنت تقرأ -أيها الذكي- قد تتهم نفسك لعدم فهم هذه الألفاظ، وهذا الشيء أيضاً شاب مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في أجزائها الأول، فهي أجزاء حملت تعقيداً وألفاظاً معقدة كان من الأولى أن ينقى الكتاب منها، إلا أنها لما كانت في معرض الرد على أهل الكلام أُبيح له ذلك واستجاز ذلك رحمه الله تعالى، فلا تتهم نفسك أبداً وأنت تقرأ مثل هذه المقالات، فالعيب ليس فيك، إنما العيب في الذي لم يفهمك مراده، ولم يفهمك مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الباب.
وعلى هذه المسائل فلتقس الأمور، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، أي: هل من معتبِر؟
وهي القبيلة العاتية التي قالت عن نفسها: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، فكانت في منتهى القوة، وكانوا في منتهى الطول، وذكروا في تراجمهم أشياء تدل على قوتهم، وإن كانت الأسانيد ليست بثابتة، لكن جاءت بها جملة أقوال للمفسرين منها: أن أحدهم كان يحمل الصخرة بيديه ويلقيها على القوم فيهلكهم والعياذ بالله، فقالوا مفتخرين منكرين لنعمة الله عليهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:15-16].
قال سبحانه: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا شديدة البرودة محرقة فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر:19]، قال فريق من أهل العلم: كيف يوسم اليوم بأنه يوم نحس، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله: لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره)؟ فكيف وُصِفت الأيام هنا بأنها أيام نحس وفي الآية الأخرى فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16]، وفي الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار؟).
فالإجابة من وجوه:
الوجه الأول: أن الذي وصف الأيام بأنها أيام نحس هو الله سبحانه وتعالى، فلا راد لوصفه، ولا راد لحكمه، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى.
الوجه الثاني: أن النهي عن سب الدهر إذا كنت تعتقد أن الدهر هو المتصرف في الأمور، وأن الدهر هو الذي كان سبباً في تسليط هذه الأشياء عليك، لكن إذا رددت الأمر لله سبحانه وتعالى فلا جناح عليك.
وهذا كأوجه الجمع التي وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة)، وبين حديث الرسول: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، فمن أوجه الجمع بين هذه الأشياء: أن تعتقد أن العدوى مؤثرة بذاتها، وتجعل ذلك بمعزل عن إرادة الله سبحانه وتعالى، فنفيت العدوى بهذا الاعتبار، وقال: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) على أنه من باب الأخذ بالأسباب.
قال سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:19-20]، وقوله: (في يوم نحس): يدل على أنها كانت أياماً وليست بيوم، كما قال: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، وكذلك قال تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16]، فيوم في هذه الآية اسم جنس، قال تعالى: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ) أي: ترفعهم وتنزعهم، وكأنهم كانوا مثبتين في الأرض وهي تنزعهم من جذورهم، تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:20-22].
قال الله جل ذكره في كتابه الكريم: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:23]، وقد كذبوا بنذير واحد وهو صالح صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت الإجابة على هذا الإشكال: بأن الذي كذب بنذير واحد أو برسول واحد فقد كذب بجميع الرسل وبجميع النذر؛ لأن رسالتهم واحدة، وكما قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب جميعهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الأنبياء إخوة لعلات؛ دينهم واحد، وأمهاتههم شتى)، يعني: إخوة من الأب، فالأب المراد به هنا التوحيد الذي دعت إليه كل الرسل، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع.
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
فلا شك أن شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب العقيدة الطحاوية من أئمة المسلمين في هذا الباب رحمهما الله تعالى، ولا يطعن فيهم أحد أبداً رحمة الله تعالى عليهم، لكن كان كلامنا على شدة الألفاظ التي نحتاج إلى تيسيرها، فهم كانوا يخاطبون قوماً يحتاج للحديث معهم إلى مثل هذا الأسلوب، لكن مرادنا أن الشراح الذين يشرحون هذه الكتب لا ينبغي أن يتقيدوا بالألفاظ التي وردت فيها، ولكن يبسطونها ويسهلونها للناس حتى تُفهم، ولا تنقل الألفاظ حرفياً، وأنت لا تفهم معناها.
الجواب: ماذا تقصد بقولك: معروف أنه منافق؟ ولماذا لا تصلي خلفه؟ إن كان به عيب ظاهر، فلينظر إلى هذا العيب، هل هذا العيب يستدعي ترك الصلاة خلفه أم لا يستدعي؟ وأخونا يذكر أنه يدخن السجائر علناً أمام كل الناس، وهؤلاء الصلاة وراءهم صحيحة، لكن إذا وُجِد رجل صالح يصلي بالناس أفضل منه فليصل الناس وراء الصالح، لكن إذا لم يوجد إلا الذي يدخن السجائر، وستصلي منفرداً إذا لم تصل خلفه، فصل خلفه فصلاتك صحيحة، وإثمه على نفسه.
الجواب: المرأة التي تعمل مندوبة للمبيعات تعرض نفسها لفتن كبيرة، وتعرض غيرها أيضاً لفتن كبيرة؛ لأنها تخرج وتروج لسلعتها التي تبيعها؛ فالخروج من أصله لا يُشرع إلا للضرورة، قالت ابنتا العبد الصالح: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]، ثم في خروجها خاصة لمثل هذا العمل التي تجابه فيه الرجال، وتواجه فيه الرجال، يستدعي الأمر منها أن تخضع بالقول أحياناً أو تبتسم في وجه العميل أحياناً حتى تروج لسلعتها، فذلك يجرها إلى مفسدة عظيمة، والله سبحانه أعلم.
الجواب: الصلاة ما أجزأته، وعليه أن يغتسل غسلاً آخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وهو ما قصد بغسله رفع الجنابة إنما نوى الاغتسال للتطهر، يعني: إذا نوى الاغتسال لرفع الجنابة فإنها ترتفع ويكون قد تطهر أيضاً، لكن التطهر لا يجزئه للصلاة، فيلزمه غسلٌ آخر، والله أعلم.
وإذا قلنا: إنه ما اغتسل وما زال جنباً، فإن النبي قال: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور)، فإثم التخلف عن الجمعة لا يلحقه؛ لأنه اجتهد في المسألة أو نسي، لكن عليه أن يغتسل وعليه أن يعيد الصلاة، ويصليها ظهراً، وإن خرج الوقت.
الجواب: لا يجوز أن ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)، لكن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع عثمان في الفخذ ليس في العورة المغلظة، والخلاف قائم في الفخذ، هل الفخذ من العورة أو ليس من العورة؟
وردت أحاديث ثابتة صحيحة تفيد أن الفخذ ليس من العورة؛ إذ قد رأى أبو بكر فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورآه عمر ، وكان النبي راكباً على فرس لـأبي طلحة وحسر عن فخذه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس ، أما حديث: (الفخذ عورة)، فقد تكلم فريق من العلماء في إسناده، وعلى فرض ثبوته، فقد جمع بعض العلماء بين الحديثين بوجوه من الجمع، فقال البخاري رحمه الله: حديث جرهد الذي هو: (الفخذ عورة) أحوط، وحديث أنس الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر عن فخذه أسند، يعني أقوى من ناحية الإسناد، فجعل حديث: (الفخذ عورة) من باب الاحتياط؛ لأنه يؤدي إلى انكشاف ما بعده.
وسلك ابن القيم رحمه الله مسلكاً آخر في الجمع، فقال ما حاصله: إن العورة عورتان، عورة مخففة وهي الفخذ، وعورة مغلظة وهما السوءتان. وهذا قول له وجاهته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب: أعرف أن في إسناده كلاماً.
الجواب: اشرح الدرس، وبين لهم أن الفراعنة كفار.
الجواب: الصبي الصغير ابن سنة أو سنتين جرى العمل على عهد رسول الله أن الأطفال أمهاتهم وأخواتهم ينظفن لهم، فما ورد هذا التشديد الذي يريده الأخ السائل، فالأمر قريب، والطفل الذي لا يُشتهى ابن سنة ابن سنتين إذا انكشفت عورته لا بأس بذلك، ولا نشق على الطفل نقول واجب عليك أن تستتر؛ لأنه ليس مخاطباً بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لها ذلك، إذا لم تكن الوسيلة مضرة.
الجواب: أما تسميته بالمسيار فهذه تسمية لا وجه لها، ونحن نريد له اسماً كان على عهد السلف الصالح حتى نناقشه مناقشة موضوعية بناءً على أقوال علماء السلف، أعرف أنه انتشر في السعودية في الفترة الأخيرة، وكان البعض أطلق عليه زواج المسيار، ونحن لا نوافق على هذه التسمية من الأصل، فليصاغ السؤال صيغة أسهل وأقرب للفهم من السائل؟
وممكن أن يعرف بالتالي: امرأة تعرض نفسها على رجل ليتزوجها دون أن تفرض عليه مهراً، ولا نفقات ولا قسمة.
نعيد السؤال مرة أخرى: امرأة أرادت أن تتزوج رجلاً فعرضت عليه نفسها وقالت له: تزوجني، قال: أنا فقير، قالت: سامحتك في المهر، قال: لا أستطيع أن أنفق عليك، قالت: أنا ثرية أنفق على نفسي. قال: لا أستطيع أن آتيك في كل ليلة فأنا متزوج ومن بلد بعيدة، قالت: أنا أسامحك، المتيسر من وقتك قبلته، بهذه الصورة التي ذكرت، مَن عنده شيءٌ يمنع من مثل هذه الصورة؟ امرأة تنازلت عن صداقها، هل لتنازلها عن الصداق وجه شرعي أو ليس له وجه؟
قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، إذاً: سقطت هذه الجزئية، وقد تزوجت أم سليم على إسلام أبي طلحة ، فهذه تزوجت لإعفاف نفسها.
هذا شيء، الشيء الثاني مسألة النفقة: باتفاق العلماء أنه يجب على الزوج أن ينفق على زوجته، قالت: أنا أعرف، إلا أنني متنازلة أيضاً عن النفقة، ولنا من السلف من سلك هذا، قالت امرأة لأحد أولاد أبي طالب أظنه عقيل بن أبي طالب أو من آل العباس: أنفق عليك، ولا تتزوج عليّ، قال: قد فعلت، قالت: وأنا قد فعلت.
بقيت الثالثة وهي مسألة القسمة: هذه رضيت بساعة، ويجوز لها أن تسقط كل أيامها كـسودة بنت زمعة فإنها أسقطت أيامها لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا تريد ساعة ولا ساعتين، وقالت: يومي لـعائشة يا رسول الله! إن جاءها بعد ذلك فهو فضْل منه.
بعد هذا التقنين أو التقعيد الذي فحواه: أنه ليس هناك نهي، يبدأ النظر في مسألة المفاسد والمصالح، يعني إذا كان هذا هو الإطار الكلي للفتيا، فما هي المصلحة المترتبة من وراء هذا الزواج أو المفسدة المترتبة من وراء هذا الزواج.
يعني: إذا كانت القواعد الكلية تفيد المشروعية، إذاً: نبدأ في النظر مرة ثانية إلى المفاسد والمصالح، فمن المصالح التي قد ترد في هذا الباب قول القائل: أنا أذهب لـأندونيسيا، وهناك نساء متبرجات تبرجاً مزرياً، وأبيت في الفندق، وفي الليلة الواحدة تطرق على باب الفندق مائة امرأة بكل أنواع الجمال الذي تريد، فأريد أن أُعِف نفسي، وأنا أبقى مدة للاستيراد أو التصدير فأتزوج امرأة على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، هذا لأنني أعطيها صداقاً، وأعف نفسي بها، وهي تفرح بالصداق، حتى إنها تفرح بالمبلغ الذي هو بالنسبة لأهل بلادها طائل، وأبقى على هذه الحال، وقد أُرزق منها بولد، وقد لا أُرزق منها بولد، وقد أطلقها، وقد لا أطلقها، لكن في نيتي أنني سأفارقها ولم أُبرزه، هل أحاسب عليه شرعاً؟
سؤال: شخص تزوج امرأة وفي نيته الفراق، لكن ما قصد بالزواج أنه يدمرها، لكن قصد أن يتعفف، قال: سأتزوج وأعطيها صداقاً ثم يمكن أن أطلقها -لم يقل باللسان بل في ذهنه- وإن كانت جميلة بقيت، وإن كانت العكس أفارقها، هذا الزواج من أصله ينعقد أو لا ينعقد؟
الإمام الشافعي يرى أن هذا الزواج ينعقد ولا غبار عليه، استدلالاً بقصة ذي الرقعتين التي وردت بإسنادين كلاهما مرسل، كما عند الشافعي في الأم: أن رجلاً قرشياً كانت تحته امرأة من قريش، فكان يؤذيها ويضربها، فطلقها ثلاث تطليقات، فتعسر الأمر وانتهى، فقالوا: نبحث عن محلل يحلل هذه المرأة لزوجها، فبحثوا فما وجدوا أحداً يضمنون أنه يتزوج ويطلق إلا رجلاً كان يلبس ثياباً مرقعة ويقم المسجد -يكنس الجامع- فذهبت إليه امرأة وسيطة، وقالت: هل لك أن تبيت الليلة مع امرأة تأتيها وتجامعها ونعطيك ثوبين جميلين وتطلقها في الصباح؟ قال: لا حرج، فدخل بها وبات معها، فقالت له في الليل لما أعجبها وأعجبته: إنهم سيطرقون علينا الباب الفجر ويقولون: اخرج وطلِّق، فقل لهم: لن أطلق، واذهب إلى أمير المؤمنين عمر ، فقاموا في الفجر، وضربوا الباب، فقال: ما أنا بخارج، هي زوجتي، قالوا: طلق، قال: ما أنا بمطلق، فارتفع الأمر إلى أمير المؤمنين عمر ، فأمضى الزواج، مع أنه دخل وفي نيته أن يطلق في الصباح، فأمضى الزواج وجلد المرأة التي كانت وسيطة تعزيراً لها، وأمضى الزواج واستدل بها الشافعي على أن الشخص إذا تزوج وفي نيته أن يطلق أن الزواج صحيح، وقال: ربما نيته تتغير وهو داخل ينوي الطلاق، فقد ينوي الإمساك بعد ذلك، واستدل أيضاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) فحديث النفس لا يؤاخذ به أحد.
فالسؤال المطروح: ما المفسدة المترتبة على زواج المسيار؟
هذا له شروط غير شروط زواج المتعة؛ لأنه لابد في زواج المسيار من الولي، وهو أبوها أو أخوها الذي يزوجها، وهنا تنازلت عن الصداق، وزواج المتعة تأخذ المرأة فيه الصداق.
وإذا وجد الأطفال وجب على الأب شرعاً ما يجب عليه تجاه أي طفل، وهذه مسألة سابقة لأوانها، أليس الخليل إبراهيم عليه السلام كان تاركاً لإسماعيل وسارة في مكة، وهو وزوجته في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وكان يذهب لتفقده بمكة.
يعني أنت الآن متزوج واحدة مستقرة هنا، وجاءت أخرى قالت: أنا يتيمة أدركني، تزوجني بأي طريقة، أنقذني من الذي أنا فيه، تزوجتها وجعلتها في شقتها التي هي فيها، وتذهب إليها وقت الفراغ أيحرم؟
إذاً: هو ليس بزواج متعة؛ لأنه بولي وشهود، وتعتد بعده العدة الشرعية، وإذا رُزق ولداً فهو ولده.
وهذه المسألة أول ما قرأتها، كنت مستنكراً لها أشد الاستنكار، ولما تقرأ أقوال الأئمة تجد الجمهور على ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها). وكم من شخص يدخل بالمرأة، وفي نيته المعاشرة فيطلق في اليوم التالي، وكم من شخص يدخل وفي نيته الفراق ويمسك، ويحبها بعد ذلك، وتلتئم المعيشة.
إذاً: هل العقد صحيح؟ وهل الطلاق حرام؟ ليس حراماً، إذاً ما هو الإثم؟ ولماذا يبطل العقد؟ ما حددنا مدة، ولا أتينا بكلمة بها بمسحة من أثر المتعة.
وكما أن نية الطلاق موجودة فإن نية الإمساك موجودة، ثم أنت ما لك وللنية التي في الداخل، نحن قلنا: إن الطلاق غير محرم، وهناك توهمات أحياناً يتوهمها الشخص، أحياناً توجد مفاهيم استقرت وهي خطأ، واحد الآن زوجته تعيش معه في غاية الانضباط، ما عملت أي شيء خطأ، وزوجة جميلة وحسناء ورحيمة، فجأة قال: أنا لا أريدها، لماذا؟ قال: لا أريدها، أنتِ طالق، هل هو آثم؟ ليس آثماً، لكن هل هو أحسن؟ لا، ما أحسن، وليس هو بتصرف المحسنين، لكن التأثيم يحتاج إلى دليل؛ لأن الله قال: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة:231].
ونكرر بأن التحديد بمدة لا يجوز؛ لأن هذا داخل في زواج المتعة، فإن قال: أتزوجك وأطلقك بعد ثلاثة أيام، لا يجوز أبداً.
وأنا أذكر مثالاً لكن مع الفارق الدقيق: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني تزوجت بعده بـعبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله! يا رسول الله ما معه إلا مثل هذه الهدبة، وأشارت إلى طرف من ثوبها، تعني أنه كذا وكذا.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعلك تريدين أن ترجعي إلى
الجواب: ليس حجاباً بين الله وبين العبد أبداً، في الحقيقة ينبغي على الدعاة أن يحثوا الناس على الزواج المبكر، ويحثوا الناس على تعدد الزوجات من هذه الحالات، وإن كان البعض يحزن لكن ديننا فيه علاج لكل هذه المشاكل.
ربما ابنتك في ثالث ثانوي، وتحمل همها، المدرس يخلو بها أو لا؟ الاختلاط، زَوِّجها وانتهِي، وكم من شخص يرغب في الزواج بهذه التي هي في سنها، وديننا يشجع على ذلك، وأنت تقول: أنا لن أوظف ابنتي، ولن أجعلها تعمل، فلماذا إذاً تجعلها تدرس أربع سنوات، ثم تتخرج ولن تعمل؟!
الجواب: إذا كان بولي وشاهدي عدل فالزواج صحيح، وإذا كان بدون ولي فالزواج باطل، لكن يستحب له إذا كان صحيحاً على النحو الذي ذكرنا أن يبادر بالإعلان، ويُخبَر ولا يخفي، والله أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر