يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : من أراد السعادة الأبدية فعليه بلزوم عتبة العبودية.
والعبودية لله تبارك وتعالى لا ينفك عنها كائن من الكائنات، ولا مخلوق من المخلوقات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم).
هناك عبودية عامة لكل من في السموات ومن في الأرض: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93].
هذه العبودية لا ينفك عنها مسلم أو كافر أو نبات أو شجر أو جماد، هذه العبودية هي عبودية القهر، وهي متعلقة بربوبية الله تبارك وتعالى، عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وأن أوامر الله تبارك وتعالى ومشيئته في خلقه نافذة، وأن كلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فالكل خاضعون لمشيئته، إذا أراد منهم أن يناموا ناموا، يمشي الدم في جسم الإنسان مثلاً بطريقة معينة لا ينفك عنها، ولا يستطيع حتى الشيوعي أن يقول: إني سأصنع لنفسي دورة دموية خاصة بي، حتى ولو لم يعترف بألوهية الله تبارك وتعالى.
فمشيئة الله والنواميس في الكون ينفذها طوعاً أو كرهاً، فهذه عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وطاعتهم الابتدائية لله تبارك وتعالى، وهذه العبودية لا تستوجب جنة، بل هي كما يقول العلماء: السجود العام لكل الكائنات، والقنوت العام لكل الكائنات، كما يقول الله تبارك وتعالى: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116].
وهناك قنوت خاص وعبودية خاصة وسجود خاص يترتب عليه دخول الجنة والنار، يقول الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31].
فالأول: قنوت عام: كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [البقرة:116].
والثاني: قنوت خاص يستوجب دخول الجنة.
وقوله: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، هذا سجود خاص، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].
كثير من الذين كتبوا في العبودية قالوا: هذه العبودية الخاصة للجن والإنس، واختلفوا في عبودية الملائكة الخاصة، هل هم عبيد لله تبارك وتعالى يعبدونه باختيارهم، أم هم مسخرون؟
وكثير من العلماء يذهب إلى أن الجن والإنس -تنشأ عبودياتهم عن اختيار، أما غيرهم فهي عبودية تسيير وقهر، ولقد أثبت بعض من كتب في هذا: أن للكائنات إدراكاً، وأنها تعبد الله تبارك وتعالى طائعة بما في ذلك الحيوانات والجماد، والجن والملائكة والقلم والجنة والنار، والرياح والشمس والقمر.
قال مجاهد : أي: إلا أصنافاً أمثالكم، يعني: كل ما يدب على الأرض من دابة أصناف مثل أمم البشر.
يقول العلماء في ذلك: إن حيوانات البروتوزوا مثلاً (7000 نوع)، والحشرات (720000 نوع)، والثديات (15000 نوع)، والبرمائيات (2000نوع)، والحيوانات الأسفنجية (3000 نوع)، والديدان الأسطوانية (6000 نوع)، والديدان المفلطحة (7000 نوع)، وشوقية الجن (8000 نوع)، والرخويات (80000 نوع)، ومفصلية الأرجل ما بين (400- 700- 32000 نوع)، كل هذه أمم تسجد لله تبارك وتعالى، وتسبحه، يقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18]، فهذه الآية تنص على سجود الدواب لله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: أن هذه الدواب تشفق من طلوع يوم الجمعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية القيامة) يعني: الدواب تنصت وتستمع إذا بزغ صباح يوم الجمعة خشية طلوع يوم القيامة؛ لأنها تعلم أن العذاب في يوم القيامة، فما من يوم أعظم عند الله تبارك وتعالى من يوم الجمعة، وكل دابة تخاف هذا اليوم عبوديةً منها لله تبارك وتعالى، فهو مالك يوم الدين.
فالدواب تبغض الكفر وأهله، وتحب الخير وأهله، وجنازة الكافر عيد لأهل الأرض؛ لأنه فساد في هذا الكون المسبح، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82].
وخذ أمثلة من الدواب بما شئت: البقر، وللأسف من البشر من يعبد البقر، والبقرة تعبد الله تبارك وتعالى، ولكن الناس عبدوها وصفقوا وطبلوا لها وبعدها رجل كبير من زعماء الدول، هذا الرجل يقول: إني أتوجه ومعي ملايين الهنود لعبادة البقرة، يقول: غيرها تحتاج منا إلى تعب وطول خدمة، أما البقرة فلا تحتاج إلا إلى عناية بسيطة.
بل أسخف من هذا يقولون: إن هناك معابد في الهند أنفق عليها ملايين المليارات من الجنيهات مختومةً برخام أبيض، ويكفيك عجباً أن تعلم أن الإله الذي تتوجه إليه الآلاف من الهند عبادة هو: الفئران.
فالبقرة تعبد الله تبارك وتعالى كما ورد في صحيح الإمام البخاري قال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فطردها، فقالت له: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أومن بذلك أنا و
خذ مثلاً: الجمال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:71-72].
فما سمعنا أن رجلاً يختلي بسبع أو نمر أو فيل أو أسد في بيته، أما الجمال فقد يصحبها الصبي الصغير، بل قد يصحب قافلة من الجمال؛ لأن الله سخرها، وذللها لبني آدم، وحين يغضب قد يقتل عشرات الرجال، ويفر الناس من أمامه، وهناك حديث صحيح يدل على عبودية هذا الجمل لله تبارك وتعالى، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لأحد رجالات الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى هذا الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حن إليه وبكى، فذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسح ذفراه بيده فسكن الجمل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: لي يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه) هذا الجمل يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من قبل الله تبارك وتعالى، فيبثه شكواه ويذرف الدموع بين يديه.
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حائط لرجل من بني النجار وفي هذا الحائط حديقة فيها جمل، كلما دخل رجل من الحائط شد عليه، فأشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتى وبرك بين يديه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بخطامه، ثم خطمه ثم دفعه إلى صاحبه، ثم نظر إلى الصحابة وقال: إنه ليس من شيء بين الأرض والسماء إلا ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الإنس والجن).
وفي حجة الوداع أتى المصطفى صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة لينحرها، فتسابقت النوق بين يديه أيتها ينحر أولها، وكأن الموت بين يديه حياة:
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا المحبوب ذكرك نير
تعاودني ذكراك في كل لحظة ويورق فكري حين كنت أفكر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
نزار قباني يقول لـعبد الناصر:
تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يوم أنت في القبر تكبر
وهذا غير صحيح فيه، وأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
نسينا في ودادك كل حي فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلونا
ومن ذلك الفرس، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا ويؤذن له عند كل سحر بدعوتين: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وقد أجيبت دعوة الفرس) هذه دعوة مجابة، فالفرس يتوجه بالعبادة إلى الله تبارك وتعالى وبالدعاء، وما سمعنا أن فرساً يعبد فرساً، ولا نملة تعبد نملة، ولكن سمعنا أن أناساً يعبدون أناساً، ويجعلون منهم طواغيت.
والفرس يدعو الله بقوله: (اللهم إنك خولتني من خولتني من ابن آدم فاجعلني من أحب ماله وولده إليك).
قال الله تعالى في الفرس: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:1-5].
بالله عليكم أين سخرت هذه الدعوة أما رفعها الله تبارك وتعالى؟
والنمل كما يقول العلماء: حيوان صغير، يقول فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية فأخرج من تحت الشجرة، ثم أحرق قرية النمل فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح)كما يقول الله تبارك وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44].
كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم
فهل النمل حيوان قاتل، هل النمل يعقل؟ يخلق الله تبارك وتعالى فيه إدراكاً قد يغيب عن بعض البشر.
أنت إذا استمعت إلى كتاب في أيامنا هذه فإنها ستختلط عليك الأمور، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً حتى من يصلون معك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ستأتي على الناس قرون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة؛ قال: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
فالزنادقة تتكلم في أمر العامة والسفيه يتكلم في أمر العامة، أما النمل فحاله كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليستغفرون لمعلم الخلق).
يعني: نملة تسبح لله تبارك وتعالى، وتعلم أن هذا معلم خير فتستغفر له، وأن هذا داعية إلى الضلالة والفسق، فلا تستغفر له، فالنملة وهي في جحرها لتستغفر لمعلم الناس الخير، والحيتان في قاع البحار تقول: اللهم اغفر لعبدك، اللهم اغفر لعبدك، فإنه يدعو إلى قرآنك وإلى كتابك ولا تختلط عليه الأمور، وإن اختلطت على بعض الناس فهو إضرار يجعله الله تبارك وتعالى في خلقه.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله؛ لأنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله؛ لأنها ترى شيطاناً) وهذه من عبودية الديكة وسخره الله لإيقاظ الناس لصلاة الفجر أو للتهجد، تقول السيدة عائشة : (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ) وهو الديك.
قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا
قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أقرب منا
كذلك الذئاب تعبد الله تبارك وتعالى كما في الحديث الصحيح: (أن ذئباً عدا على شاة فأخذها فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقي الله تنتزع مني رزقاً ساقه الله لي؟ فقال الراعي: يا عجبي ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال له الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يحدث الناس بأخبار ما قد سبق، فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى وصل إلى المدينة فزواها في زاوية من زواياها ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ما قص).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ثم أمر الراعي أن يقص عليهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق والذي نفسي بيده).
في هذا الحديث إشارة إلى أن الذئب يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويقص على الناس أخبار من قد سبق من الأمم السابقة، ومعنى هذا أن الذئب يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرك نوعية الكلام ويخبر به الراعي، ويدرك أن هذه الشاة رزق ساقه الله تبارك وتعالى إليه.
نقول للذين لم يرتفعوا إلى مصاف الصالحين: كونوا كهذه الحيوانات التي تعبد الله تبارك تعالى؛ ولذا يقول الله تبارك وتعالى لهؤلاء الضالين: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44]؛ لأن الأنعام تدرك وتسبح الله تبارك وتعالى وتسجد له.
النجم: هو ضعيف النبات الذي ليس له ساق:
يسبحه النبات جمعه وفريده والشجر عتيقه وجديده
تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده
كلما ذرف الهزار دهف سكره فالبلبل بالحمد يعيده
وكلما قام خطيب الحمام ينوح على منابر الدوح قلد المستهام تغريده
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [العنكبوت:19].
ويقول الله تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ [الحج:18].
فبنص القرآن: الشجر يسجد لله تبارك وتعالى، فالشجر له عبودية خاصة، وهو يشهد للمؤذن يوم القيامة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤذن يؤذن فيسمعه إنس ولا جن ولا حجر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة).
فالشجر يشهد للمؤذنين يوم القيامة.
كذلك له عبودية خاصة وهي التلبية، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا).
ولكن الشجر لا تنقطع، لكن إذا سمعت الملبي لبت معه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا أنا نائم رأيت فيما يرى النائم أني أقرأ من سورة السجدة، فلما أتت السجدة سجدت، فإذا بشجرة قبالتي تسجد، فسمعت الشجرة تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وحط عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، فقرأ صلى الله عليه وسلم السجدة، فلما أتى إلى السجدة سجد، وقال
فهذه شجرة يتعلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لما اعتدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وقال لجبرائيل : (أما ترى ما يفعل بي مشركو قريش؟ فقال: ألا أريك آية؟ فأشار إلى شجرة فأتت إليه، ثم جعلها تذهب إلى مكانها مرة ثانية فذهبت، فقال: حسبي).
فالجنة تشتاق إلى الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، أما عبودية النار لله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8].
وأيضاً مما يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى: قوله تبارك وتعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12].
والصحابة لما لمسوا مناديل لينة، قال: (أتعجبون من لين هذه؟ والله لمناديل
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مات: (لقد هبط إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا، كلهم حملوه معكم).
وتشترك الملائكة في جنازته وحمله، وهذا من عبودية الملائكة لله تبارك وتعالى وطاعته.
ويقول الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74].
فسجود الجبال لله تبارك وتعالى معلوم بنص القرآن الكريم.
وكذلك تشفق الجبال تعظيماً لأمر الله تبارك وتعالى من حمل الأمانة، فإن الله تبارك وتعالى لما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، لا عن معصية، وإنما تعظيماً لشأن هذه الأمانة كما قال ابن عباس قال تعالى: فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
كذلك الجبال بما فيها من حجارة تخاف من يوم الجمعة، وتسبح الله تبارك وتعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10] أي: تسبح الجبال معه لله تبارك وتعالى، كذلك تلبي مع الحاج حين يرفع صوته بالتلبية.
ولما اهتز جبل أحد قال: (اسكن أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان).
هذا يدل على ولاء الجبل للمؤمنين، وبغضه للكفار، والبراءة منهم، ألم يقل الله تبارك وتعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:90-91].
فالجبال تأنف من الكفر وأهله، وتفرح بمرور العبد الصالح عليها، كما قال ابن مسعود: ينادي الجبل الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله تبارك وتعالى، فإن قال: نعم، قال: أبشر.
وفي رواية: (إنه ما من يوم إلا والبحار تستأذن ربها أن تغرق بلاداً والملائكة أن تعاجله فتهلكه، فيقول لهم الله تبارك وتعالى: دعوا لي عبدي).
وفي رواية: (إن كان عبدكم فشأنكم، وإن كان عبدي فمني وإلي).
وقد ورد في الحديث أن الرجل قال لأهله: (إذا أنا مت فذروني ثم ألقوا بنصفي في البحر، ونصفي في البر، فأمر الله تبارك وتعالى البحر أن يجمع ما فيه، والبر أن يجمع ما فيه، ثم أحيا الله تبارك وتعالى هذا الرجل، فقال: لم سألت ما سألت؟ قال: من خشيتك وربي، فغفر الله له).
المهم: أن المولى تبارك وتعالى يأمر البحر أن يجمع ما فيه، فيجيب طاعةً لله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] قال ابن عباس : أي: المكفوف يكفه الله تبارك وتعالى أن يغرق بني آدم؛ لأن مياه البحار والمحيطات ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، واليابسة ربع الأرض فقط، ومنسوب البحار أعلى من البر، ولكن الله تبارك وتعالى يكف البحر أن يغرق هذه البقعة من الكرة الأرضية، فقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] أي: المكفوف عن إغراق بني آدم.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب الشمس؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب فتستأذن فتسجد تحت العرش فيأذن لها فتسجد، ثم تستأذن أن تخرج طالعة فيقول: اطلعي وارجعي من حيث أتيت، فتخرج طالعة من المغرب، حتى إذا كان قبل يوم القيامة تستأذن أن تخرج، فيقال لها: اخرجي طالعة من المغرب، فذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).
يقولون: إن أقرب نجم يبعد عن الأرض مسافة أربع سنوات ضوئية، يعني: ثلاثةً وعشرين مليون مليون ميل، وقالوا: إن النجم الذي يسمى سديم المرأة المسلسلة يبعد عن الأرض مليون سنة ضوئية: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات:47-48].
فالسماوات بما فيها من نجوم وبما فيها من شمس وبما فيها من قمر، تسبح وتسجد لله تبارك وتعالى.
لما طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، أشار إلى القمر فانشق حتى صار فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة وراء الجبل من الجهة الأخرى، وهذا من عبودية السموات والأرض لله تبارك وتعالى.
أيضاً السماوات والأرض تبكي لموت العبد الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].
يقول الله تبارك وتعالى للسماوات وللأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].
والله تبارك وتعالى يقول: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، فهذا تسبيح السموات، وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى وتعظيمها لأمر هذه الأمانة.
أما عبودية الأرض لله تبارك وتعالى، فلما ورد في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ووفى بالراهب المائة: (فقال الله لأرض السوء: أن تباعدي ولأرض الخير: أن تقاربي) فأطاعتا أمره، وهذا من موالاة الأرض وبغضها.
وقال تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم:90-91].
وذكر أن رجلاً من بني النجار حفظ سورة البقرة وآل عمران، ثم ارتد ولحق باليهود فعجبوا منه وقالوا: هذا كان يقرأ ويكتب لمحمد صلى الله عليه وسلم، فدق الله عنقه فمات، فلما واروه التراب لفظته الأرض، فواروه ثانياً فلفظته الأرض، وواروه ثالثاً فلفظته الأرض، فتركوه منبوذاً، وهذا يدل على عبودية الأرض لله تبارك وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فأطاعت أمره عبودية له سبحانه وتعالى.
سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: (ملك من الملائكة معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب).
ولما سألوه عن الصوت الذي فيه، قال: (هذا صوت ملك بالسحاب)، قال تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن).
ويقول علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج مكة فما استقبله حجر ولا شجر إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله!)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني .
قال الحافظ ابن حجر : إسناده جيد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، وعنقه مثنية تحت العرش).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، والعرش على قرنه خفقان الطير ما بين منكبيه سبعة آلاف سنة) فلماذا يكفر الإنسان؟ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17].
ومن أعمال الملائكة أنهم يسبحون الله تبارك وتعالى ويصلون: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البيت المعمور: (يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم).
والملائكة يحجون ويصلون، ويسبحون الله تبارك وتعالى، ويخافون الله من فوقهم، ويوالون المؤمنين ويستغفرون لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، كلما دعا وكل الله به ملكاً يقول: آمين ولك بمثل).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر