فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كلامنا يدور حول قضية فتنة المرأة واحتياطات الإسلام إزاءها؛ إذ أول معالم الفتنة في بني إسرائيل كانت بالنساء، وهناك احتياطات شرعها الإسلام لسد ذرائع الفتنة بالمرأة، وينبغي أن يعلم أن حفظ العرض من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والشريعة تسير في اتجاهين لمنع وقوع الفاحشة، فهناك إجراءات وقائية وهناك إجراءات علاجية.
أما الإجراءات الوقائية فهي تحريم الزنا وبيان أنه خراب للدنيا وللدين، وهناك جملة من الآيات والأحاديث والآثار في الحث على العفة والتحذير من الفاحشة وبيان عاقبتها الوخيمة في الدنيا والآخرة.
وأعظم الإجراءات التي شرعها الإسلام لحماية المسلمين من هذه الفتنة هو الاجتهاد في إصلاح القلب؛ فإن ذلك هو أعظم رادع عن المعاصي.
ومن هذه الإجراءات منع الزواج ممن عرف -أو عرفت بالفاحشة- إذا لم يتب، فلا يجوز نكاح الزانية أو الزاني، كما قال تبارك وتعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً [النور:3] يعني: فاسقة مثله أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] لا تعتقد تحريم هذا الفعل أصلاً، أو العكس كما في الآية الكريمة، إذاً هذا يدل على أن الكفاءة في العفة شرط في الزواج، الكفاءة في العفة أن تكون مثله، فلا يزوج العفيف من فاسقة، ولا يزوج الفاسق من امرأة صالحة عفيفة؛ لعدم وجود التكافؤ، قال تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ [النور:3] يعني: فاسق مثلها مستهتر أَوْ مُشْرِكٌ [النور:3] يعتقد تحريم ذلك، وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3] أما أهل الإيمان فإنه يحرم على المؤمن أن يتزوج زانية، وكذلك بالنسبة للمؤمنة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)، فالمقصود بالحديث أن من الناس من يكون إتيانه لهذا الأمر المحرم إتياناً حقيقياً بفعل الفاحشة الكبرى، ومنها ما يكون -كما قال الإمام النووي- مجازياً دون ذلك، لكن أطلق عليه هذا اللفظ تنفيراً منه، (فالعينان زناهما النظر) بأن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، وما أوفر حظ الذين يجلسون أمام الفيديو والتلفاز وهذه الأشياء ينظرون إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، والنظر للأجنبية في حد ذاته بشهوة لا شك أنه داخل في زنا العين.
(والأذنان زناهما الاستماع) الكلام الفاحش والماجن، (واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش) البطش معناه: اللمس (والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فيكون زناً حقيقياً إذا وقعت الفاحشة.
الشاهد في الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واليد زناها البطش) ، والبطش هو المس باليد، بأن يمس امرأة أجنبية بيده، أما من تساهل في مصافحة النساء واحتج بطهارة قلبه فيقول: أنا قلبي طاهر، ونيتي سليمة فنقول: الإسلام لم يكل الناس إلى نواياهم الحسنة ولا إلى ضمائرهم، وإنما شرع من الإجراءات الصارمة ما يحسم باب الفتنة حتى لا يصير الأمر محتملاً، فلذلك لا تقبل دعوى طهارة القلب وسلامة النية، مع أن الظاهر يخالف ذلك، لا تقبل دعوى من ادعى أن قلبه سليم وقلبه طاهر ويدعي أنه لا يتأثر بذلك، فمن فعل مثل هذا فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وأقوى دليل على كذبه في هذه الدعوى أن أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأخوفهم لله وأرعاهم لحدود الله يقول وهو المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: (لا أمس أيدي النساء) ويقول (إني لا أصافح النساء)، ويمتنع من ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقتضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء، مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم، كيف وقد قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]؟! وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها) أي: يملك نكاحها. فلا ينبغي الالتفات بعد ذلك إلى بعض الناس الذين يتساهلون في هذا الباب انصياعاً أمام الضغوط الاجتماعية الواقعة من الناس، لأن بعض الناس يتساهل جداً في هذا الأمر ويحاول أن يتنصل من هذا الحكم الشرعي بحجج واهية ساقطة لا تحتاج إلى أن نبذل جهداً ووقتاً في إسقاطها، وبعض الناس قد يتهاونون بهذا الحكم بزعم أنهم يستحيون من إحراج من تمد يدها للمصافحة، غافلين عن أن هذا ليس حياء؛ لأن الحياء خير كله، والذي يأتي بالشر لا يمكن أن يكون خيراً، فإنه لا يأتي الخير إلا بالخير، فالحياء الذي يحبه الله هو الحياء الشرعي الذي يمنع من الحرام، فالحياء الشرعي في هذا الموضع هو حياؤك من الله، أن تستحي من الله أن تمد يدك إلى امرأة أجنبية فتصافحها، أما إذا دفعك حياؤك من الناس أو من هذه المرأة إلى أن تمد يدك وتصافحها فإنك استحييت من الخلق وضيعت الحياء منه تبارك وتعالى، فهذا يسمى عجزاً وليس حياءً، هذا عجز وتهاون وخذلان وليس حياءً، يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء ويأمر به ويحث عليه، ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حق يقوله، أو أمر ديني يفعله، تمسكاً بقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، فهذا هو نهاية الحياء.
يعني: كان صلى الله عليه وآله وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فنهاية الحياء أن لا يستحي الإنسان من الحق، فهذا نهاية الحياء وكماله وحسنه واعتداله، فإن من غلب عليه الحياء حتى منعه من الحق فقد ترك الحياء من الخالق واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس؛ فإن الله أحق أن يستحيا منه.
فأمثال هؤلاء ينبغي أن نضعهم في الموضع اللائق بهم، فلا نقول: إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً كما وصفهم الله تبارك وتعالى، لا أن نفتتن بهم وأن نجعلهم القدوة ونرتضيهم قدوة بدلاً من سلفنا الصالح الذين هم خير قدوة رحمهم الله تعالى أجمعين.
خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدرجة الهلاك، فينبغي في هذا الباب أن لا يأمن الإنسان على نفسه ولا من نفسه، بل الإنسان كما قال بعض السلف: من أعطى من نفسه أسباب الفتنة أولاً لم ينج آخراً، وإن كان جاهداً، فالشيطان -كما ذكرنا- لا يأتيك مباشرة ويأمرك بالحرام، لكنه يستدرجك خطوة بعد خطوة ويستنزلك درجة بعد درجة إلى أن يهون عندك ما كنت تستفظع إتيانه أو فعله، ولذلك قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168]، وقال تبارك وتعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وقال عز وجل أيضاً: وَلا تَقْرَبُوا الزنا [الإسراء:32]، وإنما قال: (تقربوا) لأنه عبارة عن خطوات، فالزنا حرام وكل ما أدى إليه حرام كما سنشرح ذلك بالتفصيل، فالإنسان عليه أن يتصرف في هذا الباب كأن سبعاً ضارياً كامن في داخله، وإنه إذا أتى شيئاً من هذه المحرمات فإن هذا السبع يخرج ويهلكه ويوقعه فيما حرم الله تبارك وتعالى، ولذلك فإن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية مدعاة للهلاك ومدرجة للإثم والفجور، وكيف لا يكون كذلك والفرصة سانحة وقد تركت الخلوة لهذه الأمور أن تستيقظ، فأي فعل من الأفعال يمر بمراحل عدة، أولها: مرحلة النزوع أو الرغبة أو الميل إلى الفعل، ثم مرحلة الوجدان أن يجد الشخص ويعزم على الفعل، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التنفيذ، وهذا الباب هو الذي نتكلم فيه باب الافتتان بهذه الشهوة، فهناك طبيعة في هذا الكائن البشري، أن الإنسان إذا اتقدت نار الشهوة واستيقظ فيه الحيوان فإنه يندفع إلى الفعل إن لم تحجزه التقوى والخوف من الله سبحانه وتعالى، فمن ثم رأينا القرآن الكريم ينهى عن الاقتراب من أسباب الزنا فيعالج هذه الجريمة الخلقية بحجز النفس عن أسبابها، يقول تبارك وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزنا [الإسراء:32] بينما نلاحظ أن هذا فعلاً هو دين الفطرة، فالله سبحانه وتعالى لم ينهنا في آية أو في حديث عن أكل الطين أو الرمل -مثلاً- أو شرب البول؛ لأن في فطرتنا نفوراً من هذه الأشياء، فلذلك الشرع ما تعرض لهذا واكتفى بوجود النفور، فالخطر من تعاطي مثل هذه الأشياء لم يتعرض له أصلاً بنهي، كذلك لما نهانا عن القتل ما قال: ولا تقربوا القتل. وإنما قال: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151] مع أن القتل جريمة بشعة والقتل من أعظم الكبائر والجرائم بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، لكن النفس بطبيعتها تأبى القتل وتنكره، فلذلك أتى النهي عن الفعل مباشرة فقال تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) أما في هذا الوزر خاصة فإن الله سبحانه وتعالى قال فيه: (ولا تقربوا) فينبغي للأخوة في حوارهم مع الناس أن ينبهوا لهذا الأمر، كحكاية: (إن قلبي سليم) و(نيتي سليمة) و(قلبي طاهر وما يؤذي أحد) كل هذا الكلام لأن الإنسان لا يستحضر أن مجرد الخلوة معصية، حتى لو وجد رجل وامرأة في مكان في خلوة ولم يخطر ببال أي منهما أي شيء فقد ارتكبا الوزر وسجلت ودونت المعصية في حقهما؛ لأن الخلوة في ذاتها حرام، وليست حراماً فقط إذا أدت إلى الفاحشة، لكن الخلوة لذاتها حرام، والحكمة من تحريمها أنها ذريعة للفاحشة وذريعة إلى القيل والقال والطعن في الأعراض، ولذلك قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فهذا كله يرينا إلى أي حد يسد الإسلام على هذه الجريمة كل من منفذ، ويحجب النفس عن أسبابها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخلوة بالأجنبية وشدد في ذلك، فالإسلام جعل بين الرجال وبين النساء الأجانب أسلاكاً شائكة، وهذه الأسلاك الشائكة كي تحجب الأجانب من الرجال عن النساء وقاية للطرفين من هذه الفتنة، وتأكد أنك إذا تتبعت خطوات ومراحل أي قصة في جريدة حصل فيها انتهاك للعرض أو العدوان عليه أو الوقوع في هذه الفاحشة -والعياذ بالله-، إذا تتبعت القصة من أولها ستجد أن البداية كانت ثغرة في الأسلاك الشائكة، ثغرة بسيطة في الأسلاك الشائكة مر وعبر من خلالها الشيطان وتسبب في وقوع هذا الفحش، فالبداية تكون في أن الله أمره من ضمن الأسلاك الشائكة بغض البصر، فلم يمتثل أمر الله وأطلق بصره، فوقع في العشق -مثلاً- وما يتلوه من ترك الدين والدنيا، أمره الله بأن لا يمس أجنبية فصافح المرأة الأجنبية وتلا ذلك ما تلاه من الحرام، نهاه عن الدخول عن المغيبة التي غاب زوجها، نهاه عن الخلوة بالمرأة وعن السفر معها، أو نهى عن سفر المرأة وحدها، فتجد أن هذه الأسلاك الشائكة حصل فيها ثغرة، ومن خلالها نفذ الشيطان فأوقع العباد في حبائله، فإذاً هذا كله يتطرق مع الحكمة العظيمة في صيانة الأعراض، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)، ومنها حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالهما الشيطان) وهذا يعم جميع الرجال (ألا لا يخلون رجل) يعني: أي رجل (بامرأة) أي امرأة، فالحديث يعم جميع الرجال ولو كانوا صالحين ومن أولياء الله، أو مسنين شيوخاً هرمين فهم فيدخلون في الحديث؛ لأن الحديث قال: (لا يخلون رجل بامرأة) سواء أكانوا رجالاً صالحين أم مسنين، أو كانت النساء صالحات أو عجائز، ومنها حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان) فإذا قال الصادق المصدوق: (فإن ثالثهما الشيطان) فقطعاً يكون ثالثهما الشيطان، ومن قال: قلبي سليم وقلبي طاهر وأنا لا أتأثر بهذا نقول له: كذبت وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندخل على المغيبات) والمغيبة: هي المرأة التي غاب زوجها في جهاد أو في سفر أو غير ذلك من الأسباب. متى غاب زوجها فيحرم على الرجل أن يدخل عليها لا في جمع زكاة ولا في علاج ولا في غير ذلك من الأسباب، يحرم أن يخلو بها، وعنه رضي الله عنه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندخل على النساء بغير إذن أزواجهن)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان)، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلجوا على المغيبات؛ فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) (لا تلجوا على المغيبات) يعني: لا تدخلوا على المغيبات (فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) فقد تكون القرابة إلى المرأة أو إلى زوجها سبيلاً إلى سهولة الدخول عليها أو الخلوة بها كابن العم وابن الخال مثلاً، فلما يكون قريباً إذا دخل البيت لا يستنكر ذلك أحد، لذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك تحذيراً خاصاً؛ لأن هذا يسهل كثيراً من الفساد، ليس فقط الفساد الذي يمكن أن يكون بمواقعة الفواحش، ولكن الفساد الذي قد ينشأ من التخبيب والإيقاع بين المرأة وزوجها، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة أن يدخل عليها والذي هو أجنبي عنها فلا يدخل في ذلك أبو الزوج؛ لأن أبا الزوج من محارمها، لكن المقصود به أخو الزوج، وابن عمه، وابن خاله وغير ذلك.
(فقال: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والعرب إذا أرادت التحذير من أي شيء وصفه بأنه هو نفس الموت، فمعنى (الحمو الموت) أن دخول الحمو على المرأة يفسد الحياة الزوجية كما يفسد الموت البدن، وقد حكى الإجماع على تحريم الخلوة بالأجنبية غير واحد من العلماء، منهم النووي والحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، قال النووي: وكذا لو كان معها من لا يستحيا منه لصغره.
والحقيقة أن كل خطوة من الخطوات التي نناقشها مع هؤلاء الناس الذين يجادلون في حكم الله ويصفون الإسلام بأنه دين شهواني وأن هؤلاء المتدينين ما وراءهم مشكلة تشغل بالهم إلا كذا وكذا، مع أن واقع هؤلاء الناس المريض الموجود في المجتمع نتيجة الانحراف عن الإسلام واقع ملموس وليس مجرد أساطير تحكى، وليس أمراً مدعى، لكنه واقع ملموس، نلمحه في كل المرافق وما يترتب عليه من الفساد. فما من شك أن الباحثين أو الأطباء الذين يتعاملون مع المرضى -خاصة الأطباء النفسيين والذين يعملون في التشريع الجنائي أو المرافق الجنائية- يطلعون على هذه الفظائع التي تحصل في المجتمع نتيجة التسيب في الاختلاط وفي التداخل وفي تعدي حدود الله تبارك وتعالى، ولا نريد أن نفصل حتى لا نقع في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، لكن هذا واقع ملموس يئن منه من بقي في قلبه شيء من الحياة.
يقول الإمام النووي: وكذا لو كان معهما من لا يستحيا منه لصغره. لو كان مع المرأة طفل -مثلاً- سنه سنتين أو ثلاث سنوات هذا لا يستحيا منه ولا يدرك شيئاً، وبالتالي فلا يفسد وجوده الخلوة؛ لأن وجوده كالعدم، وكذا أيضاً لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام، يقول الإمام الأبي رحمه الله تعالى: لا تعرض المرأة نفسها بالخلوة مع أحد وإن قل الزمن لعدم الأمن لا سيما مع فساد الزمن، والمرأة فتنة إلا فيما جبلت عليه النفوس من النفرة من محارم النسب.
يقول الشاعر:
لا يأمنن على النساء أخ أخا ما في الرجال على النساء أمين
إن الأمين وإن تعفف جهده لا بد أن بنظرة سيخون
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتب في غزوة كذا وكذا، قال: انطلق فحج مع امرأتك)، فأمره أن يترك الجهاد وينطلق كي يصحب امرأته في الحج، وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله تعالى (النساء لحم على وضم) والوضم: ما وقيت به به اللحم عن الأرض من خشب أو حصير يعني الشيء مثل السفرة على الأرض تضع عليه اللحم كي تحمي اللحم أن ينتقل عليه التراب مثلاً، سواء قطعة خشبة أو قطعة حصير، فهذا هو الوضم، فمعنى قول الإمام ابن العربي : (النساء لحم على وضم إلا ما ذُبَّ عنه) أن اللحم إذا تركته على وضم فإن الذباب يجتمع عليه ويلوثه ويفسده، إذا تركت اللحم على الوضم دون أن تدفع عنه الذباب أو تغطيه بشيء فإنه سيأوي إليه الذباب ويفسده، فهكذا أيضاً (النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه)، فيقف معها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها يذب عنها هذه الذئاب البشرية وهؤلاء الذباب ويحميها من هؤلاء، كما يقول الشاعر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الحامي
لأن أمثال هؤلاء الذئاب من البشر أو الكلاب من البشر إذا رأوا المرأة معها من يحميها فإنهم لا يجرءون عن أن يقتربوا منها.
تعدو الذئاب على من لا كلاب له.
الكلاب التي تستعمل الحراسة، يعني عدم وجود الحرس.
وتتقي مربض المستأسد الحامي.
أي: الذي يقف كالأسد يحمي عرضه.
يقول ابن العربي: كل أحد يشتهيهن وهن لا مدفع عندهن، بل ربما كان الأمر إلى التخلي والاسترسال أقرب من الاعتصام، فحد الله عليهن بالحجاب وقطع الكلام وحرم السلام، وباعد الأشباح إلا مع من يستبيحها وهو الزوج، أو يمنع منها وهم أولو المحرمية، ولما لم يكن ذلك من تصرفهن جعل الأصل قرارها في البيت، فلما لم يجد مفراً من أن يخرجن لقضاء حاجتهن أذن لهن فيه بشرط صحبة من يحميهن، وذلك في مكان المخالفة وهو السفر مقر الخلوة ومعدن الوحدة).
السفر غالباً يكون فيه وحدة ويكون فيه خلوة، فإذا تركت وحدها تتعرض لما لا تطيق، وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كبيرة. أي: حتى لو كانت امرأة كبيرة؛ فإن السفلة والسقطة من الناس لا يرتدعون حتى عن الكبيرة، كما يقول الشاعر:
ولكل ساقطة في الحي لاقطة وكل كاسدة يوماً لها سوق
فيقول النووي : قد قالوا: (لكل ساقطة لاقطة) ويجتمع في الأسفار من سفهاء الناس وسقطتهم من لا يترفع عن الفاحشة بالعجوز وغيرها لغلبة شهوته وقلة دينه ومروءته وحيائه.
فتباً لهؤلاء الذين يطلقون لبناتهم ولنسائهم العنان يسافرن دون محرم، ويجعلون من علامات المرأة المتحررة المتنورة أنها تسافر دون محرم! وأنها الآن تجهر وتفخر بأنها تسافر بدون محرم، ويخلون برجال أجانب مدعين أن الظروف تغيرت، وأن المرأة اكتسبت من التعليم ومن الحرية ما يجعلها موضع ثقة أبيها وزوجها، ما هذا إلا فكر خبيث دس إلينا ليفسد حياتنا، وما هي إلا حجج واهية ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم غيرة الرجولة والشهامة، فضلاً عن كرامة المسلم ونخوته، يقول فضيلة الدكتور الصباغ حفظه الله تعالى: ومثل الذين يتهاونون في الخلوة والاختلاط الآثم بدعوى أنهم ربوا على الاستجابة بنداء الفضيلة ورعاية الخلق مثل قوم وضعوا كمية من البارود بجانب نار متوقدة، ثم ادعوا أن الانفجار لا يكون؛ لأننا كتبنا ورقة وضعناها فوق البارود تحذيراً من الاشتعال والإحراق!! هل هذه الورقة يكون لها قيمة؟! النار موجودة بجانب البنزين أو البارود، ويقول: إن المانع من الانفجار هو هذه الورقة.
يعني أن هذه حجة واهية مثل هذه الورقة التي لا قيمة لها؛ لأنه متى ما اقترب البنزين من النار فالنتيجة معروفة في الغالب، فهذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطة للنفس وطبيعة الحياة وأحداثها، أنه متى حصل تسيب وتهاون في نظام الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء فالنتيجة معروفة.
ونحن إذا كنا نتكلم من خمسين سنة عندما كانت دعوة تحرير المرأة ونشر هذا الفساد في بلاد المسلمين ما زالت قائمة، وعندما خضنا التجربة كان يمكن أن الكلام فعلاً يحتمل، ولذلك خدع به كثير من الناس، لكن الآن المفروض أن القضية ليست محل خلاف في أن هذا من أفسد المناهج، أي: الاختلاط والإباحية التي إلى الآن نرى ثمرتها، وسنحاول أن نتكلم فيما بعد عن ذلك بالتفصيل إن شاء الله.
فالموضوع أخذ باستدراج، ففي البداية كانت المعركة حول كشف وجه المرأة، وزجوا ببعض الشيوخ في المعركة، وجعل يقول: الشرع يبيح كشف وجه المرأة، وهؤلاء الناس متزمتون أو متشددون، ويحرفون الآيات عن مواضعها.
وينحرفون في تفسير نصوص الشريعة إلى أن ينصروا هذا المذهب المرجوح القائل بإباحة كشف وجه المرأة، ثم إذا فرغوا من ذلك ترقوا إلى خطوة أخرى، إلى الآن وصل الأمر إلى ما نحن عليه الآن، فالآن المفروض أن كل شيء انكشف، وأن كل سوءات منهج تحرير المرأة ومناهج الإباحية الآن صارت تجربة خضناها وصار عندنا رصيد من الحقائق المريرة نعيشها ونحياها، فالكل منا يجد ثمرات مرة لتحرير المرأة ويراها في الطرقات وفي المواصلات وفي المرافق وفي الوظائف وفي الجامعات وفي المدارس وفي الهيئات، في كل مكان في بلادنا نرى الثمرات المريرة لا المرأة نضجت ولا المرأة حصلت خيراً، بل المرأة الآن عادت تحلم من جديد بأن تستقر في بيتها وتعود إلى مملكتها، فكل هذا الكلام مغالطات خطابية، فقط يقال للتغرير بالنفس، والمفروض أنه الآن انتهى دور الكلام الخطابي؛ لأن الواقع يقطع كل من يجادل في هذه الحقائق، فإننا ما ذقنا من هذا كله إلا الانحدار، وإذا لم يحصل وقوف لهذا التيار من الانحلال والفساد فالنهاية ستكون كما حصل في تركيا، حينما ثبتت على هذا الطريق الذي يُعلم جيداً أن من قطع الخطوات الأولى فيه لا بد أن تنتهي به إلى الإباحية المطلقة، وقد سمعت من بعض الناس أن البلاد الأوربية تخشى على فسادها من شبكات البث التركية من الفساد الذي فيها! فبعد ما كانت تبث النور لكل أوروبا ودخل الملايين من أهل أوروبا في الإسلام على يد الأتراك، إذا بهم يكيدون لنا حتى يجعلوها هي البؤرة لنشر الفساد في كل المنطقة، وهذا الشيء الوحيد الذي تفوق فيه الأتراك الآن في هذا الزمان إلا من رحم الله! هذا الفساد الذي يشيعونه في كل مكان حتى جعل بعض البلاد الأوربية تخشى على فسادها من فساد البرامج التركية والبث التلفزيوني التركي والعياذ بالله، فنفس الشيء إذا لم يحصل كبح لهذا الاتجاه ستمضي الأمور على سلمها، كل يوم يحصل تحطيم لشيء جديد من الرصيد الذي تبقى لدينا من القيم، فالأمور تتدهور، وهناك أناس لهم مصلحة في تحصين شباب المسلمين والمسلمات عن طريق الإنحلال، بعدما اجتهدوا في تحصينهم عن طريق الشبهات والطعن في الدين والأفكار البائسة كالعلمانية وغيرها، ثم الآن العمل ماض على قدم وساق لأجل تحصينهم بالانحلال خدمة لأغراض اليهود؛ لأن المطلوب من الأمة أن لا يصلح شبابها في المستقبل القريب لأي نوع من المقاومة حتى يستطيع اليهود أن يركبوهم كالحمير كما يقول اليهود، وهذا السر في أن اليهود دائماً يحاولون تحطيم جميع الأجيال بنشر الفواحش والمذاهب الهدامة حتى لا تقوى هذه الشعوب على المقاومة حينما يقوم من جديد ملك داود في بيت المقدس وتقوم مملكة داود، ويخرج إليهم المسيح الدجال كما ينتظرونه، ويسمونه المسيح المنتظر، فهدفهم كله تحطيم الأمم حتى لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة، ولا يكون عندها مبدأ، ولذلك نجد أن المخدرات تنتشر وهي سلاح أشد فتكاً من الأسلحة النووية على شباب المسلمين؛ لأن الإنسان إذا سقط صريعاً للإدمان انتهى ويشطب عليه، ولا يؤمل في أن يعالج فيما بعد إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فالأمر جد خطير، وهي عبارة عن سلسلة متشابكة من المؤامرات لتحطيم مقومات القوة في أمة المسلمين وفي أمة التوحيد كي لا يبقى عندها أي قدرة على المقاومة إذا حضر السيد اليهودي.
قرأت في أحد الكتب التي تتكلم عن التلفزيون ومفاسده، فيحكي أنه أذيع في أحد التلفزيونات أن امرأة تمر تفلة -يعني: ليس عليها طيب ولا روائح- والرجال واقفون يلتفتون إليها، ثم بعد ذلك تهتدي هذه المرأة لفكرة شيطانية، فتضع الطيب وتتضمخ بالطيب ثم تمر وإذا بالرجال جميعاً ينجذبون نحوها ويسيرون ورائها! وهذا الإعلام قد يكون صامتاً أو متكلماً، لكن أنظر إلى المعنى الذي يريدونه وإلى الهدف الحقيقي الذي هو نشر الفتنة بالمرأة عن طريق هذه الأشياء، فأي امرأة عندها بقية من كرامة كيف تقبل أنها تخرج هكذا وتعرض على الرجال بهذه الصورة وهي لا تأمن أن ينظروا إليها نظرة محرمة أو يشتهونها في أنفسهم، هل امرأة عندها كرامة؟! وهل عنده كرامة ذلك الزوج الذي يخرج يتأبط ذراع زوجه في الطريق، وقد كشفت عن محاسنها وتزينت وتلطخت بالبويات والألوان ووضعت الطيب وهو ماشٍ فخور بهذا العري وهذه الفضيحة؟! أولى لك أن تنكس رأسك في الوحل وفي الطين من أن تفتخر بأنك تعرضها للرجال؛ لأن النظر هو نوع من التمتع، والنظر إلى المرأة -خاصة إذا كانت في الزينة- هو نوع من الاستمتاع بها، فكيف يكون رجلاً؟! حتى إذا لم نقل: عنده دين. ولا: إنه متطرف ولا إرهابي فهو رجل، فكيف يقبل أن يشاركه الرجال فيها ويعرضها للناظرين هكذا بعد أن زينها في البيت، ثم تخرج إلى الرجال ويفخر بذلك؟! كما نرى ذلك في الأفراح ونرى ذلك في الطرقات، وكأننا لسنا من أمة المسلمين، وكأننا لا صلة لنا بهذا الدين ولا بهذا الرسول ولا بهذا القرآن! فالله المستعان.
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) كل عين تنظر إليها فهي واقعة في هذا الإثم، ويقول صلى الله عليه وسلم: (كل عين زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا) يعني: زانية. والعياذ بالله، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً) نهاها أن تمس الطيب إذا راحت إلى المسجد وهو مكان عبادة، فكيف إذا خرجت إلى السوق؟! وكيف إذا خرجت لغير ذلك من المرافق؟! وكيف تمر على مجالس الرجال بهذه الرائحة؟! ليس هذا من المنطق ومن العقل فضلاً عن أنه حكم الشرع، إنما يرفع الحرج عنها تماماً ما دامت أمام زوجها أو أمام محارمها بأن تضع الطيب أو تتزين أو ترفع الحجاب؛ لأن هؤلاء مأمونون، وأي إنسان عاقل يستسيغ هذا، ولا يمكن أن يعترض على هذا إلا من مسخت فطرته وانتكس إلى مرتبة أقل من مرتبة الخنازير والحيوانات والبهائم، هذا كلام منطقي جداً، حتى الذي ليس عنده دين يرى ذلك متوافقاً مع فطرته ومع عقله، فلا ضير على المرأة أن تستعطر في بيتها ولزوجها بشرط أن لا تغشى به مجالس الرجال؛ لأن الطيب من ألطف وسائل المخابرة والمراسلة، والحياء الإسلامي يبلغ من رقة الإحساس أن لا يحتمل حتى هذا العامل اللطيف الخفي، وقد خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه متطيبة فوجد ريحها، فعلاها بالدرة ثم قال: (تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن! وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تفلات) (تفلات) خاليات من الروائح.
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فمن هنا نهيت المرأة عن مخاطبة الأجانب بكلام فيه ترخيم كما تخاطب زوجها، وأمرت أن تتحرى فوراً الصوت الجاد العاري عن أسباب الفتنة، ولم يخول لها الإسلام إذا ما راب شيء في الصلاة أن تسبح كالرجال؛ لأن الرجال قد يفتتنون بصوتها، بل عليها أن تصفق، وهي في الحج لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا يشرع لها أن تؤذن للصلاة في المسجد، ولا أن تؤم الرجال، وقد سد الإسلام على المرأة كل سبيل للتسيب في هذا الباب حينما جعل أمهات المؤمنين محلاً للقدوة، فلم يبق هناك عذر لمعتذر، فإذا كانت أمهات المؤمنين اللائي هن أشرف نساء العالمين رضي الله تعالى عنهن أجمعين يقول الله تعالى لهن: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] مع أنهن أمهات المؤمنين في الحرمة وفي الاحترام، ومع ذلك نهاهن أن يخاطبن الرجال بخضوع بالقول فكيف بغير هن؟! وقال صلى الله عليه وسلم: والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، وفي رواية: والأذن تزني وزناها السمع.
وقد أفرد صلى الله عليه وسلم في المسجد باباً خاصاً للنساء يدخلن ويخرجن منه لا يخالطهن ولا يشاركهن فيه الرجال، فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع : فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات. وعن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان
ومن هذا أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام (كان إذا سلم من الصلاة مكث قليلاً)، وكانوا يرون أن ذلك كيما ينفذ النساء قبل الرجال، كان المعصوم عليه السلام إذا فرغ من الصلاة يمكث في مصلاه شيئاً قليلاً، ثم يتحول؛ لأن النساء كن في الخلف، وإذا التفت الرسول عليه السلام ستقع عينه على النساء، فلذلك كان يمكث قليلاً بعد السلام في مكانه قبل أن ينصرف أو يتحول كي تتمكن النساء بسرعة من الخروج من المسجد، فإذا خرجن يلتفت إلى الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك بوب الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في هذا بقوله: (باب انصراف النساء قبل الرجال من الصلاة)، ورواه البخاري أيضاً، وفيه: قال ابن شهاب : (فنرى -والله أعلم- لكي ينفذ من ينصرف من النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم) يعني: كي لا يحصل اختلاط بين الرجال والنساء. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وروى النسائي : (أن النساء كن إذا سلمن قمن).
إذاً السنة بالنسبة للنساء إذا سلمن ينطلقن بسرعة لئلا يحدث اختلاط، ولو أن الأخوات يلتزمن هذا الأمر الشرعي لما حصلت هذه المناظر المؤذية التي تقع أحياناً، وأنا استغرب من هذا الجيل الجديد في موضوع التهاون في أمر الاختلاط، أين الحزم الذي عهدناه في الإخوة؟ تجد الأمر فيه تساهل غريب جداً، الأخت تروح وتأتي وتقف وسط الشارع بلا حرج، والأمر عادي لا مشكلة فيه، أو الأخ يقف قريباً من مكان النساء، فهذه أوضاع ليست من الإسلام -لا أقول: ليست من السلفية-، إن هذه أوضاع ليست من الإسلام في شيء، فالأخوات عليهن الانصراف بسرعة بعد التسليم من الصلاة، والأخوة يتريثون في الخروج حتى تنصرف النساء، وفي رواية النسائي : (أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال) قال الحافظ ابن حجر : (وفي الحديث كراهة مخالطة الرجال بالنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت. وعن أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك. فقال: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير لك من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي) مع أن الصلاة في مسجده تضاعف، ولكن مع ذلك كلما كانت المرأة أبعد من الخروج والاحتكاك بالرجال كان أسلم لدينها، فهي إذا كان ولا بد -كما في هذا الزمان نظراً لأن بعض الأخوات يعانين من آبائهن -للأسف الشديد- بسبب التزامهن بالدين وليس هناك مخرج ولا وسيلة للتعلم سوى أن تخرج إلى المسجد فلا أقل من إنها إذا خرجت تراعي حدود الله سبحانه وتعالى، بأن تحتجب حجاباً كاملاً، وتراعي آداب مجلس العلم، فتنصرف مباشرة كي لا تختلط بالرجال خارج المسجد.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد، وبيوتهن خير لهن) وقال صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، وهذا كله في حال العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه، فكيف بما كان خلاف العبادة والصلاة؟!
وعن عبد الرحمن بن عابس قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما قيل له: أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم. ولولا مكاني من الصغر ما شهدته، حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب، ثم أتى النساء ومعه
قال الحافظ قوله: (ثم أتى النساء) يعني: بعدما خطب الرجال. فقوله: (أتى النساء) معنى ذلك أنه كان هناك فرق بين الرجال وبين النساء يشعر بأن النساء كن على حدة غير مختلطات بالرجال.
وقوله: (ومعه بلال): فيه أن الأدب في مخاطبة النساء في الموعظة أو الحكم أن لا يحضر من الرجال إلا من تدعو الحاجة إليه من شاهد ونحوه؛ لأن بلالاً كان خادم النبي صلى الله عليه وسلم وكان متولي قبض الصدقة، وأما ابن عباس فقد تقدم أن ذلك اغتفر له بسبب صغره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم و
يجلس الرجال حتى لا يحصل اختلاط بالنساء، وفي رواية مسلم (يجلس الرجال بيده وذلك كي لا يختلطوا بالنساء) وقد حرصت الصحابيات رضي الله تعالى عنهن على عدم الاختلاط حتى في أشد المساجد زحاماً، وفي أشد الأوقات زحاماً في موسم الحج بالمسجد الحرام، فعن ابن جريج قال: أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال، فقال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال، يعني: طفن مع الرجال غير مختلطات بالرجال، قال: قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: إن يكن يخالطن كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة، حجرة، يعني: تتخذ ناحية بعيدة من الرجال في المطاف وتطوف فيها، يقال: نزل فلان حجرة من الناس، يعني: نزل معتزلاً، وفي رواية (كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجزة) بالزاي، يعني: محجوزاً بينها وبين الرجال، قال: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، يعني: امرأة تغريها تعالي نختلط حتى نستلم الحجر الأسود، وهذا يستلزم أنها تقترب من الحجر الأسود وبالتالي تخالط الرجال، فهذه المرأة لما رأت أم المؤمنين تطوف حجرة قالت: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك وأبت، ثم يقول: يخرجن متنكرات بالليل، فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن، قمن هنا بمعنى: وقفن، مثل قوله تعالى: وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا [البقرة:20] يعني: وقفوا، كذلك هنا لكنهن كن إذا دخلن البيت قمن، يعني: يقفن حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه، ينتظرن حتى إذا خرج الرجال من داخل الكعبة يدخلن هن وحدهن، يقول: ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأخرج الرجال، ودخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها مولاة لها، فقالت لها: يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً -فخورة بأنها استطاعت أن تقبل الحجر الأسود مرتين أو ثلاثاً في الطواف- فقالت لها عائشة رضي الله عنها: لا آجرك الله، تدافعين الرجال، ألا كبرت ومررت، يعني: في سبيل تحصيل هذه السنة وهي تقبيل الحجر، تدافعين الرجال ألا كبرت ومررت من بعيد واستلمت الحجر من بعيد بالإشارة، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: روى الفاكهي من طريق زائدة عن إبراهيم النخعي قال: (نهى عمر أن يطوف الرجال مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهن فضربه بالدرة، ولقد حط الله عن النساء الجمعة والجماعة والجهاد، وجعل جهادهن لا شوكة فيه، وهو الحج المبرور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك، يعني: رجل أعمى طبعاً تعتد وتمكث مع زوجته، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك، إلى أمثلة أخرى كثيرة كلها تؤكد على حرص الإسلام على وضع وتثبيت حواجز الأسلاك الشائكة بين الرجال والنساء الأجنبيات.
والعلماء ذكروا أنه لو شهد أربعة رجال على الفاحشة بكل شروطها المطلوبة شرعاً، ثم حينما أتى بهم القاضي أو الحاكم واستشهدهم فشهد ثلاثة شهادة قاطعة ومؤكدة، والرابع تلعثم فإن الأربعة يقام عليهم الحد بالقذف، أي: لو أن ثلاثة شهدوا لا يجوز لهم أن يتكلموا، وإذا تكلموا فإنه يقام عليهم حد القذف، فالأربعة إذا شهدوا وواحد منهم تلعثم وتردد ولم يجزم بالشهادة المطلوبة فالجميع يقام عليهم الحد؛ لأن أمر الأعراض -كما ذكرنا- ليس بالأمر الهين، فينبغي أن تعلم خطورة القذف أو الطعن في عرض المعصوم وكيف تكون آثاره متعدية تتوقف لا على المرأة ولا على الرجل، بل تتعدى إلى العائلة كلها، وإلى كل من يمد لهم بقرابة، فمثل هذا الأذى ومثل هذا العدوان شرع الله سبحانه وتعالى فيه مثل هذه الإجراءات الصارمة لحفظ كرامة المرأة والرجل، ومن هذه الإجراءات تحريم قذف المؤمن أو المؤمنة بالفاحشة، وتشريع العقوبة الزاجرة لمن يفعل ذلك.
إن على الرجال أن يصونوا بناتهم وأزواجهم من الاختلاط بالأجانب والتبرج أمامهم، يقول الشاعر:
إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل السباع تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
وقال آخر:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي
فالأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون وتلك القلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود والأسلاك الشائكة التي ذكرناها فستسقط -لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع المحذور ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لها العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول الشاعر:
نعب الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر
تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر
ويقول الآخر:
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع
فجعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة التي هي صفعة قوية في وجه كل من يجادل بعدما تبين، والإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني كان رجلاً سريع الخاطر حاضر الجواب، وأحياناً الإنسان المغمور الذي بخر الهواء عقله يحتاج لصفعة قوية توقظه، فهذا الذي فعله أحمد وثيق باشا حينما سأله بعض معاشريه من رجال السياسة في أوربا في مجلس بإحدى تلك العواصم الأوربية، قال له رجل من الساسة الغربيين: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشينهم؟ فأجابه في الحال -واضطر إلى أن يستعمل هذا التعبير القاسي الشديد كي يخرص هذا الإنسان المتبلد الحس- فقال له: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر، ولما وقعت فتنة الاختلاط التي سنها أول من سنها طه حسين في الجامعة المصرية وقعت حوادث يندى لها الجبين، وبما أنه هو الذي تآمر لفتح باب الاختلاط في الجامعة سئل عن ذلك، فرد طه حسين على الحوادث التي وقعت فقال: لا بد من ضحايا. ولكنه لا يبين بماذا تكون التضحية، وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا، فالمعروف أن الإنسان يضحي بشيء رخيص في سبيل شيء أغلى وأثمن، فيضحي بشيء تافه أو قليل، أو يمكن التغاضي عنه في سبيل ما هو أعظم وأثمن، فما هو الشيء الذي هو أسمى وأغلى من أعراض المسلمات بحيث نضحي بأعراضنا في سبيل مصلحة أكبر!! والله المستعان.
وعلى أي الأحوال نستطيع بكل قوة أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها ولا جدل ولا شك، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض، وذبح العفاف، وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي أنتجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها فإنك ستجد حتماً أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله العظيم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً [النساء:27-28].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر