وبعد:
فإن من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن والرحيم، فهو أرحم الراحمين، والرحمن صفته، والرحيم يدل على أنه يرحم خلقه، والله سبحانه وتعالى رحمته وسعت كل شيء، وبلغ من رحمته عز وجل أنه خلق مائة رحمة بخلاف صفة الرحمة التي اتصف بها خلق مائة رحمة، فبث بين خلقه رحمةً واحدة فهم يتراحمون بها، وادخر عنده لأوليائه تسعة وتسعين، وفي حديثٍ صحيح آخر: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها)، وفي رواية: (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
ووصف النبي عليه الصلاة والسلام كل رحمة من هذه المائة بقوله: (إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخر تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة وجعلها لأوليائه يوم القيامة يرحمهم بها). قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) ورحمته سبحانه وتعالى أشد من رحمة الوالدة بولدها.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السعي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش) سبحانه وتعالى.
وهذه الرحمة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين إذا قبضها ربنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث حين مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، كيف لا وفجوره من أسباب منع المطر وأذية العباد والبهائم).
ورحمته سبحانه وتعالى للعصاة التائبين إذا أقبلوا على الله وتابوا إليه فإن رحمته واسعة، فإذا أقبل العبد إليه بالتوبة استقبله الله بالرحمة فغفر له ذنبه وستر عليه سبحانه وتعالى.
عن ابن عباس قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أناسٌ من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا -أي: من الزنا- فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة -نحن نريد التوجه والتوبة وإصلاح الحال، لكن ماذا نعمل بالماضي؟ وماذا نعمل بالسيئات المتراكمة؟ ماذا نعمل بالقتل الكثير والزنا العظيم؟ فروجٌ انتهكناها ودماءٌ استبحناها، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة- فنزل قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70]، ونزل أيضاً قول الله عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] ).
هذه رحمةٌ واسعة من الذي يحجرها؟ ومن الذي يمنعها؟ لما قال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، قال: لقد حجَّرت واسعاً) من الذي يستطيع أن يمنع رحمة الله؟ هذا في الدنيا برحمته يتوب عليهم، وبرحمته يغفر لهم، وبرحمته يهديهم، وبرحمته يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
ومن رحمته سبحانه أن من مات له ثلاثة من الولد وهو من الموحدين، غفر الله له ولزوجته برحمته للأولاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -صغار- إلا أدخلهم الله بفضل رحمته إياهم الجنة، يقال لهم -للأولاد-: ادخلوا الجنة -يوم القيامة- فيقولون: حتى يدخل أبوانا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم).
وحتى الأمراض رحمة من الله وتكفيراً وتطهيراً من الذنوب والسيئات، حتى الشوكة التي يشاكها العبد يكفر الله بها من خطاياه.
المصيبة التي لا اختيار للعبد فيها والمرض الذي يأتي للعبد دون سعي منه، ومع أن المرض لا نكسبه، لا نعمله بأيدينا ولا نسعى إليه يأتي إلينا رغماً عنا ومع ذلك يكون كفارة، فهل أحدٌ أرحم من الله؟
وبعض الأمراض في تكفيرها للسيئات ورحمة الله بها أشد من بعض، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمةً للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله إلا كان له مثل أجر شهيد).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجلٌ قتل تسعة وتسعين رجلاً، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا. فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجلٌ -وهو أحد العلماء-: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها -نحو القرية الصالحة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة القرية الصالحة- أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة قرية السوء- أن تباعدي، وأرسل ملكاً يحكم بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وقد قتل مائة، لكن جاء تائباً مقبلاً على ربه.
وفي قصة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك).
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر رجلاً فيمن كان سلفا أو قبلكم آتاه الله مالاً وولداً، فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً -فسرها
اللهم اجعلنا ممن رحمتهم، وأدخلنا الجنة بغير حساب، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إنا نسألك عافيتك ورحمتك التي وسعت كل شيء، فلا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وفرج كربتنا يا أرحم الراحمين.
وبرحمته أطلع الشمس والقمر وجعل الليل والنهار وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً لنا أحياءً وأمواتاً.
وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى.
وبرحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها لنا ركوباً نركب ونأكل ونشرب من ألبانها.
وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وأنزل علينا الكتاب وسماه رحمة: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52]، وقال سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ [يونس:58] بهذا التنزيل.. بهذا القرآن: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] افرحوا بالقرآن.
إن رحمة الله لا ممسك لها: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2]، وهو الذي يقسمها لا يتولى قسمتها أحد: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، وهو الذي: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإنسان:31].
فهل هناك أرحم وأكرم من الله سبحانه وتعالى؟! لكن أين العمل يا عباد الله؟ وأين التوبة والأوبة إلى الله؟ فإن الله: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإنسان:31]، وقال الله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [لأعراف:56] فأين الإحسان؟ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وأن تدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أدخلنا في رحمتك إنك على كل شيء قدير، أدخلنا الجنة برحمتك وتجاوز عنا يا أكرم الأكرمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر