إسلام ويب

التعليق على مقدمات الشاطبي في الموافقات [3]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأدلة السمعية قد تفيد القطع أو الظن بحسب رتبتها من تواتر وآحاد، وقد اعتبرت الشريعة الضروريات الخمس، وذلك مأخوذ من خلال استقراء الأدلة التي تواترت معنوياً في ذلك، هذا وقد نبه الشاطبي إلى أنه أدخل في علم الأصول مسائل لا يترتب عليها فروع فقهية، ويكثر فيها الجدل والمناظرة، والخوض فيها لا يستحسن شرعاً.

    1.   

    إفادة الأدلة السمعية للقطع والظن

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فهذا هو المجلس الثالث في التعليق على مقدمات أبي إسحاق الشاطبي ، وينعقد في الشهر السادس من سنة 1428 من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام بمكة المكرمة.

    قال المصنف رحمه الله: [وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجةً، أو خبر الواحد أو القياس حجةً، فهو راجع إلى هذا المساق؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق، لا ترجع إلى باب واحد، إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه، وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضاً، فصارت بمجموعها مفيدةً للقطع، فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب، وهي مآخذ الأصول، إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه، فحصل إغفاله من بعض المتأخرين، فاستشكل الاستدلال بالآيات على حدتها، وبالأحاديث على انفرادها، إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع، فكر عليها بالاعتراض نصاً نصاً، واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع، وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة، ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات والجزئيات مأخذ هذا المعترض، لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة، إلا أننا نشرك العقل، والعقل إنما ينظر من وراء الشرع، فلا بد من هذا الانتظام في تحقيق الأدلة الأصولية.

    فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل، على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس, والنسل، والمال، والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه].

    وهذا السياق الذي ذكره هو تمام لما سبق ذكره، فلما ذكر الدليل السمعي، وأشار إلى المشهور في علم الكلام كما هي صفة كلامه والتعبير الذي عبر به، وأن الدليل السمعي القطع فيه معدوم أو نادر، وذكر السبب: وهو أن براءته من الموانع القطعية متعذر في الجملة، وذكر هذه الموانع، وهي مذكورة عند كثير من المتكلمين كـالرازي وغيره، وهذا التحصيل ليس محققاً لا من جهة النظر ولا من جهة دلائل الشرع.

    وبعد ذلك يقول: (وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد)، وكأنه يتجه إلى المنهج الذي سار عليه كثير من النظار، وهذا له مقام باعتبار الأصول، فهو يعد من المقدمات الأولى في الأصول، حتى في مسائل أصول الدين، وفي مقدمات الأدلة يذكرونها، لما ظن كثير من النظار أن الدليل الواحد لا يكون مفيداً للقطع، من هنا جاءت عبارته: (وإنما الأدلة المعتبرة هنا)، يقصد القطعية، (المستقرأة من جملة أدلة ظنية)، وذكر الاستدلال بمثل قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، وقال: إن ثبوت وجوب الصلوات الخمس القطعي فيه ليس مثل هذا السياق من القرآن، إنما القطعي فيه الاستقراء.

    هذا الكلام نتيجته أنه ينظر هنا ولو على درجة التنظير، ولا يلتزم بهذا؛ لأن مقدمات الاستدلال كثر فيها التفاوت بين التقرير النظري الذي يقال في كتب النظار، سواءً في علم أصول الدين، أو في أصول الفقه، أو في كتب معايير العلم التي يذكرونها كمقدمات علمية، فليس كل ما ينظر به في هذا العلم، ملتزم عندهم تماماً عند التطبيق؛ ولهذا ربما تجد أن بعض النظريات لو التزم بها صاحبها لأدت إلى امتناع كثير من الحقائق الشرعية والعلمية التي يقررها كما يقررها غيره من أهل العلم باعتبارهم فقهاء أو علماء أو ما إلى ذلك.

    فلا نقطع بأن منهج أبي إسحاق الشاطبي من حيث التطبيق يلتزم بهذا، ولكن هذا التنظير عنده فهو يقول: (إن الدليل الواحد لا يكون مفيداً للقطع)، وهذا منهج جرى عليه النظار من المعتزلة وغيرهم، وليس هذا المنهج هو المعتبر عند التحقيق.

    فالأدلة السمعية من الكتاب والسنة قد تفيد القطع وقد تفيد الظن، فأدلة السنة من جهة الثبوت منها المتواتر القطعي ومنها الآحاد الظني، أما أدلة الكتاب فهي محققة القطع من جهة ثبوتها، فالقرآن كتاب محفوظ من عند الله.

    أما ما يتعلق بالدلالة فقد تكون الدلالة قطعية وقد تكون ظنية، فإن وجوب الصيام على المكلفين، أو وجوب الحج على المكلفين في قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، هذه الدلالة قطعية؛ لأنها دلالة مطابقة قطعية من حيث اللسان والدلالة، وللدليل القطعي الثبوت وهو القرآن، أما إذا قيل: إن الآية ليس فيها ذكر لفورية الصيام والحج مثلاً، إنما فيها قدر من الاشتراك، وهل الاستطاعة في الآية تعني أنه على الفور، أم أنها لا تنافي التراخي، أو ما إلى ذلك من جهة تفصيل الفعل، ومن جهة كذا، ومن جهة كذا، فهذه جهات تفرض على هذا الدليل، لا يفيدها بالقطع، ولربما لا يفيدها بالظن، فهذه التفاصيل مثلاً لا يفيدها هذا الدليل المجمل، والآية التي في وجوب الحج لم تذكر تفصيلاً مثلاً لعدد الجمار التي يرمى بها، فهي لا تدل على التفصيل لا بالقطع ولا بالظن، وإنما تستفاد التفاصيل من أدلة أخرى، كبعض المسائل في الحج أو في الصيام تستفاد منه بالظن، مثل مسألة التراخي، إنما الذي نريد أن نصل إليه كمنهج أن الآية التي في الحج أو الآية التي في الصيام، وهي قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ، أنها من حيث الدلالة دلت على أن الصيام مكتوب على المكلفين من المؤمنين، وأن الصيام كتب على هذه الأمة كما كتب على الذين من قبلهم من أتباع الرسل، فهذه الدلالة دلالة قطعية، فلا يقال: إن هذه الدلالة لم تتحصل بالقطع من هذا الدليل، بل بجملة الاستقراء، ولا يعني حينما نقول: إنها قطعية من هذا الدليل، أن غيره من الأدلة لا يدل على هذه الدلالة أي: العلم بوجوب الصيام، فالحكم معروف من هذه الآية ومن غيرها، لكن القصد أن الدليل المعين القطعي الثبوت كالآية من كتاب الله، لا يمكن أن تدل على حكم دلالةً قطعية، هذه هي النظرية، وهو المنهج الذي يشير إليه الشاطبي هنا بالتنظير، وهو منهج كثير من المتكلمين يقولون: الدلالة القطعية لا بد أن تكون مجموعة من جملة الاستقراء لا من دليل واحد، وهذه النظرية ممنوعة أصلاً باعتبار أن الدليل القطعي الثبوت يمكن أن يكون قطعي الدلالة، كدلالة قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]، على أن الصيام مكتوب على هذه الأمة، هذه دلالة قطعية، أما كونه مكتوباً باعتبار حال الحضر ويرخص في حال السفر بالفطر، فهذه التفاصيل قد يكون الدليل يحتملها وقد لا يحتملها أصلاً، وإنما إذا ذكرت يستدل عليها بأدلة أخرى من أدلة الشريعة.

    ولكن النتيجة أن الدليل المعين يمكن أن يكون دليلاً قطعياً، وإلا لو التزم أبو إسحاق بالنظرية التي أشار إليها؛ لأنه لم يستكمل الإقبال عليها فيما أرى، فهذه النظرية لو التزم بها لأورد عليها تساؤلات كما أورد بعض النظار عليها ذلك؛ لأنه إذا قيل: إن الأدلة حتى القطعية الثبوت، باعتبار الدلالة لا تكون قطعيةً كأعيان من الأدلة، وإنما قطعية الدلالة يكون بالاستقراء، فهذا الاستقراء أفاد اجتماع الظنيات، فكأن النتيجة عند هؤلاء يقولون: إن الدلالات ليس فيها قطعي، وإنما هي ظنيات، فإذا اجتمعت الظنيات صارت قطعيات.

    وهذا مشكل عند كثير من النظار؛ لأن بعضهم يقولون: إن الظنيات ولو اجتمعت، ليس بالضرورة أنها تفيد القطع، بل بعضهم يمنع تولد القطعي من الظني مطلقاً حتى ولو اجتمعت فهذا يحتاج إلى تفصيل أي المراد بدرجة الدلالة والظنية، وهو أولى.

    فهذه الجملة التي انتهى إليها الشاطبي رحمه الله ليست من الجمل المحققة، بل الصواب أن الدليل المعين إذا كان قطعي الثبوت، يمكن أن يكون قطعي الدلالة أو ظني الدلالة، بل حتى الدليل الظني الثبوت، يمكن أن يكون له دلالةً قطعيةً، لكن يبقى أنه لا تثبت هذه الدلالة بالقطع فلا يكون الحكم قطعياً؛ لأن مبدأه من حيث الثبوت ليس قطعياً، لكن من حيث تصريح الدليل بالحكم على سبيل القطع والمطابقة المحضة، أو التامة بحسب موازين لسان العرب، لا إشكال فيه فهو قطعي الدلالة.

    إذاً: المعنى المطابق لكلام الشارع مطابقة تامة على وفق لسان العرب دلالته قطعية.

    فالقطع في الدلالة يتولد من الدليل المعين ويتولد من الاستقراء، وليس هناك اطراد، فالاستقراء لا يستلزم القطعية مطلقاً، كما أن الدليل المعين لا يستلزم الظنية مطلقاً، فقد يكون استقراء ولا يتحصل منه إلا دلالة ظنية، وقد يكون الاستقراء ويتحصل منه دلالة قطعية، كما أن الدليل المعين قد يتحصل منه الدلالة القطعية باعتبار تمام المطابقة، وقد يتحصل منه الدلالة الظنية.

    1.   

    دلالة الشرع على الضروريات الخمس

    قال المصنف رحمه الله في مسألة الضروريات الخمس: [ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين, ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه] إلخ: إن كان مقصوده أنه لا يوجد دليل معين سمى هذه الضروريات الخمس بمجموعها، على أنها هي كليات مصالح الشريعة، أو على أنها هي الضروريات الخمس مثلما سمى الشارع عليه الصلاة والسلام المباني في حديث ابن عمر لما قال مثلاً: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج ).

    أو كما سمى مباني الإيمان في حديث جبريل بالمباني الستة، إن أراد أن الشارع ما سماها، ومع ذلك اعتبرت قطعيةً، فهو كلام صحيح. لكن يقال: هذا ليس هو الموجب لتسمية الشيء قطعياً أن يذكر باسمه الاصطلاحي، فإن ثمة معاني قطعية والشارع ما سماها بالاسم الاصطلاحي، ولكنه نطق بها على التمام والمطابقة في قوله بالنسبة لمعناها أو يكون معناها مطابقاً لقوله مطابقةً تامة، فتكون معتبرةً به.

    فالعلماء رحمهم الله الذين ذكروا هذه الكليات والضروريات الخمس، جمعوها باعتبار توافر النصوص عليها، ثم إن الدلالة من القول قد تكون مطابقةً وقد تكون من باب التضمن، وقد تكون من باب اللزوم، فلو أن أحداً قال: إن الكلي هو الدين، وأن حفظ النفس وحفظ المال وحفظ العرض إلخ، تعود إلى حفظ الدين، باعتبار أن الدين أمر بحفظ ذلك، وهو حفظ لمقام من مقامات الدين، فهذا صحيح.

    فهذه المعاني يدخل عليها التسلسل في الإثبات، قد يكون بعضها مطابقاً لبعض وقد يكون من باب اللزوم أو من باب التضمن، فالتوحيد واحد، توحيد الله هو معرفته وعبادته، وبعض العلماء يقول: التوحيد نوعان هما: توحيد العلم والخبر وتوحيد الإرادة والقصد، أو أنه توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فهذا يكون من باب التفسير للمعاني وليس بينها شيء من التعارض أو التمانع.

    وهذه الأمور تنظم العلم، وحقيقة هذه التراتيب التي يذكرها العلماء هي من باب التنظيم العلمي أكثر من كونها من باب التعيين لعلم يتعذر الزيادة أو النقص عليه؛ لأنه يدخلها كما ترى الاختلاف في الاصطلاح وتنوعه.

    ثم قال: (ولو استندت إلى شيء معين، لوجب عادةً تعيينه، أو يرجع أهل الإجماع إليه وليس كذلك).

    المعنى أنه لو استندت الضروريات الخمس إلى دليل معروف معين لذكره العلماء، فإن قيل: إن دليل الضروريات هو الإجماع، فالإجماع لا بد له من مستند ولو وجد ذلك لذكر، لكن دليلها النصوص المتواترة الكثيرة.

    فالنصوص المطابقة الدالة على وجوب حفظ الدين من القرآن كثيرة، والأدلة الدالة بالتصريح على وجوب حفظ النفس، أيضاً هي كثيرة ومطابقة. فالقرآن فيه تحريم القتل، وتعظيم أمر الدماء.. إلخ، ومثله ما يتعلق بالمال وما يتعلق بالعقل والعرض.. إلخ.

    اعتبار الضروريات الخمس باستقراء الأدلة

    قال المصنف رحمه الله: [ لأن كل واحد منها بانفراده ظني، ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبراً واحداً دون سائر الأخبار، كذلك لا يتعين هنا؛ لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الانفراد، وإن كان الظن يختلف باختلاف أحوال الناقلين، وأحوال دلالات المنقولات، وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه، وكثرة البحث وقلته، إلى غير ذلك، فنحن إذا نظرنا في الصلاة، فجاء فيها: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] ، على وجوه، وجاء مدح المتصفين بإقامتها، وذم التاركين لها، وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وقتال من تركها أو عاند في تركها، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى، وكذلك النفس نهى عن قتلها، وجعل قتلها موجباً للقصاص متوعداً عليه، ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك، كما كانت الصلاة مقرونةً بالإيمان، ووجب سد رمق المضطر، ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه، وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك، ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس، ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير، إلى سائر ما ينضاف لهذا، علمنا يقيناً وجوب الصلاة وتحريم القتل ].

    فالصفات المتنوعة المختلفة هي التي توجب القطعية هذا ما يريده الشاطبي ، وليس بلازم، بل حتى الصفة الواحدة إذا كانت الدلالة فيها قطعيةً فإنها توجب القطعية، وهذه الصفات التي ذكرها على مسألة الصلاة أو مسألة النفس، هل كل صفة بعينها قطعية أم ظنية؟ فإن كانت الصفة المعينة يمكن أن تكون قطعية، فمعنى هذا: أن الصفة المعينة مأخوذة من دليل معين، وإن كان يرى - كما هو طرد نظريته - أن الصفة المعينة في سائر ما ذكر وفي غيرها لا تكون قطعيةً، فمعناه أنه يقول: إن القطعي يتولد من الصفات المختلفة في دلالتها والمختلفة في دليلها؛ لأن دليلها ليس معيناً بل مختلف، فدليلها متنوع وهي ظنية عند الانفراد، فتوجب هنا القطع لاجتماعها، وهذا لا شك أنه تطويل، بل ورود الاعتراض عليه أقوى في النظر.

    وقد أورد عليه كثير من النظار أن القطعي لا يتولد من الظني، وأن كثرة الظنيات خاصةً أنها وردت على محل واحد، أو على صفة واحدة، أو على صفات مختلفة، وما دام أن الظني في الأصل يمكن رفعه، فيلزم عليه أنه حتى ولو تعدد يمكن رفع المتعدد، فهذا أقل مما يكون من الاعتراض.

    وبالرجوع إلى مقتضى اللسان العربي والصيغ المطابقة، يُعلم أن الدليل المعين يفيد القطع إذا كان مطابقاً مطابقةً تامةً لمدلوله، ولو كان كل ما في القرآن لا يفيد إلا الظن، ولا يفيد القطع إلا بالاستقراء الذي أشار إليه أبو إسحاق رحمه الله، لكان عليه من الإشكال شيء كثير، فإن الحقائق الإلهية الأولى في أول نزول القرآن، كانت تعرف بالقطع، مع أن تعدد الصفات لم تكثر في مقامها، وإنما المعروف عند العرب وعند غيرهم من أهل اللسان، أن الكلام إذا كان مطابقاً للمقصود، أو أن الدلالة إذا كانت مطابقةً لهذا الكلام، فإنه يكون مفيداً للقطع فيه؛ لأن القطع ليس إلا عدم احتمال إرادة خلاف ما ذكر، هذا هو القطع، ليس المقصود فيه أنه إرادة معنىً إضافي فيه؛ لأنه حتى الظني أو القطعي بالمجموع يمكن أن يكون المراد معنىً إضافياً غير ما ذكر.

    إنما القطعي الذي يراد ويمكن ضبطه، هو الذي إذا ذكر، فإنه يعلم أنه لا يمكن رفعه، وأما أنه يذكر ما هو زيادة عليه، فهذا ممكن في سائر الأحوال، سواءً في الدليل المعين، أو الدليل المركب بالاستقراء.

    1.   

    منهجية الشاطبي وبعده عن التقليد والتكلف

    قال المصنف رحمه الله: [ وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة. وبهذا امتازت الأصول من الفروع، إذ كانت الفروع مستندةً إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة، فبقيت على أصلها من الاستناد إلى الظن، بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق، لا من آحادها على الخصوص ].

    وحتى تعود الأمور إلى ضبط أدق كأن الإشكال في طريقة أبي إسحاق رحمه الله، أنه من المعظمين لطريقة السلف الأول، خاصةً في كتابه الاعتصام وفي هذا الكتاب، وأراد أن يحقق المنهج البريء من كثير من التقليد أو من التكلف، وهنا أشار إلى إبراء علم أصول الفقه من الظنيات، وأشار إلى إبرائه من التكلفات ومن الخلافات اللفظية .. إلخ، فهو يروم رحمه الله التحقيق، وأن يحصّل لعلم المقاصد وعلم الأصول بوجه عام ضبطاً يتناسب مع ما كان عليه السلف الأول من أئمة الفقه والحديث.

    لكنه وجد أن هذا العلم هكذا قد رتب، وهو يحتاج إلى جملة من المقدمات, ولم يجد في طريقة السالفين من الفقهاء والمحدثين اعتناءً بمثل هذه المقدمات، فلم يجد لها تقريراً إلا في كتب المتكلمين وفي كتب النظار، فلما عاد إلى كتبهم وجد جملة من النظريات، فصارت عنده الأقرب إلى الضبط والتحقيق، والبراءة من التردد فمال إليه، مع أن هذا المنهج الذي حرص عليه الشاطبي في كثير من كلامه، حتى في غير هذا الكتاب، هو وجه من التحقيق من جهة، لكنه ضيق المنهج العلمي الواسع وضيق منهج التدريب من جهة أخرى.

    حتى لما أراد تطبيق مسألة السنة والبدعة، صار أصله قوياً واستلزم هذا الأصل الذي قرره في كتاب الاعتصام، أنه انتهى إلى نتائج حكم فيها على بعض الأعمال أنها من باب البدع المنكرة، وهي عند التحقيق لا تصل إلى درجة الجزم بأنها بدعة، لكنه مال إلى الاحتياط، ولم يجد تنظيراً لهذه المقدمات إلا في كتب النظار والمتكلمين وهو الذي ربما أدخل عليه هذا الإشكال الذي لم يكن من الضروري الوصول إليه، ولهذا لما قال: (وبهذا امتازت الأصول من الفروع)، فيقال: حتى على طريقة السالفين، فإن الأصول الدلالة فيها قطعية من كتاب الله، سواءً بالدليل المعين القطعي أو بمجموع الأدلة.

    ففي باب العقائد يذكر الأصل العقدي في القرآن في مواضع كثيرة، ويذكر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أما في الفروع فما كان متفرداً منها فهو في الجملة يدخل في باب الظنيات، وأما كلياتها فتذكر في عدد من النصوص، لكن حتى يتبين أن هذه الطريقة لا يمكن انضباطها، فلو رجعت إلى باب الخبر والقصص في القرآن، فإن ثمة جملاً خبريةً في القرآن لم تذكر إلا مرةً واحدة، إما في قصة نبيٍ من الأنبياء أو قومٍ من أتباع نبي أو ممن خالف نبياً، ومع ذلك يعلم أن هذه الحقيقة التي في القرآن هي قطعية.

    اقرأ مثلاً في سورة الكهف، المدة الزمنية التي ذكرت في قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [الكهف:25]، هذه المدة لم تذكر في القرآن في غير هذا السياق ومع ذلك فالعلم بأنهم لبثوا في كهفهم هذا القدر علم قطعي، أما ما يزيد على ذلك فإنه يكون ظنياً؛ لأن المقصود بقطعية الدلالة: هو أن يُعلم أنه لا يمكن رفعها، أما أنه يمكن الزيادة عليها أو أن الدليل يحتمل معنىً إضافياً آخر، فهذا ليس مقصوداً.

    فإذاً: لو رجعت إلى باب الخبر، لوجدت أن هذه من المعاني الكلية القطعية، ولهذا لما بلغ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال: كذب) فقول ابن عباس يدل على أن هذه الدلالات هي من الدلالات القطعية عند الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

    1.   

    الفرق بين أدلة تشريع الأحكام وأدلة وقوعها

    قال المصنف رحمه الله: [ فصل: وينبني على هذه المقدمة معنىً آخر: وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذاً معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به؛ لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم ].

    وهذا المعنى الذي تحت هذا الفصل، هو الذي يذكرونه في باب المصالح المرسلة، وليس المقصود هنا الكلام على قاعدة المصالح المرسلة كقاعدة؛ لأن المهم لطالب العلم في هذه القواعد التي يذكرها الأصوليون وعلماء القواعد أن يفرق بينها؛ لأن البعض أحياناً يستعمل كل قاعدة فقهية كلية دليلاً مستقلاً بتشريع الأحكام، مع أن رتب الدليل ومنازله مختلفة.

    ولهذا لما ذكر أبو إسحاق في أصول الأدلة، قال: إن الدليل إما أن يكون عقلياً أو عادياً أو سمعياً، والدليل العادي ليس مناسباً في هذا المحل، ليس معناه أن الدليل العادي لا يعتبر، ولكن لما تكلموا في الأصول عن الحقائق قالوا: إن الحقيقة قد تكون عقليةً أو شرعيةً أو عادية، فليس الإشكال في اعتبار الدليل العادي أو العرفي، لكن الإشكال في الترتيب، ومنزلة هذا الدليل.

    وفي هذا الموضع كأنه لم يضع الدليل العادي مع العقلي والسمعي باعتبار أنه كان يتكلم عن الدليل الذي يحصل به التشريع، ولهذا لما جاء للدليل العقلي قال: (والمراد بالعقل هنا: المركب مع الشرعي)، قال: (لأن العقل وحده ليس بشارع).

    فالدليل العادي هو من أدلة وقوع الأحكام وليس من أدلة تشريع الأحكام، هذا هو الفرق فقاعدة: (العادة محكمة) هذه لا تصلح أن تكون دليلاً على التشريع، فمنهج الرسل أصلاً جاء لرفع العوائد الجاهلية، عندما يوجد تشريع ينظم ابتداء العادات، فمعناه أنه سيرفع سيئ وجاهلي العادات، فلا يبقى إلا العادات الحسنة، أو المحتملة في الشريعة، فيأتي دليل أو قاعدة: (العادة محكمة) باعتبار أن تحكيم العادة هنا هو من أدلة وقوع الأحكام وليس من أدلة تشريع الأحكام؛ ولهذا فإن الفقهاء إذا تكلموا في الشرط والعرف، يقولون: المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، هذا تحكيم للعرف في العقود، لكن العرف أو العادة ليست محكمة بمعنى: يحصل بها التشريع، فالتشريع لا يحصل إلا بمفهوم الدليل السمعي الواسع الذي كان يفقهه الصحابة وأئمة الفقهاء، وليس الدليل السمعي بالحد الذي عرفه به بعض المتكلمين والنظار.

    وقد قالوا: إنه لا بد من استعمال الدليل العقلي، وذكروا رتبة دليل العقل الذي يدخل مع الدليل السمعي فهذا الفرض كاختلاف بين الدليلين ليس محققاً على كل تقدير؛ لأن من الدليل السمعي ما تكون مقدماته مخاطبةً للعقل البشري أياً كان صاحب هذا العقل، سواءً كان مسلماً أو ليس بمسلم.

    فهذه إشارة مهمة وهي أن طالب العلم ينبغي أن يفرق بين أدلة تشريع الأحكام وأدلة وقوع الأحكام، كالعادة والعرف وما في هذه الدائرة، سواءً عبر عنها في كلام الأصوليين أو في كلام علماء القواعد بأنها من أدلة وقوع الأحكام، وليست من أدلة تشريع الأحكام أم لم يعبروا بهذا الضابط والقيد؛ ولهذا لو أن أحداً اعتبر أمراً اعتباراً شرعياً أو حكم العادات في تشريع أمر من الأمور، وجعله مقصوداً في الشريعة أو مما يندب إليه أو يثاب عليه، لقيل: هذا ليس كذلك، الشريعة لم تأت برفع العادات، للآتي:

    أولاً: لأن العادات ليست كلها سيئة فمنها ما ليس سيئاً ومنها السيئ ومنها المحتمل في الشريعة، ثانياً: أنه يمتنع أن يوجد الناس بلا عادات، فالعادة جزء من وجود البشر ومن وجود الناس، فلا بد أنها تكون موجودةً معهم مقارنةً لأحوالهم، فجاء التعبير: (العادة محكمة) من هذا الوجه، فهي محكمة في التقاضي، وفي الاختلاف، أي: في وقوع الحكم، وليست محكمة بمعنى أنها مشرعة، وإنما المعنى أن العادة معتبرة، ولهذا فإن القاضي يعتبر العرف إذا أراد أن يقضي بين المتخاصمين، أو يعتبر مجرى العادة إذا أراد أن يقضي بين المتخاصمين، وهلم جرا.

    اعتبار المصلحة المرسلة

    المصلحة المرسلة: هي موجودة وثابتة في حكم الشريعة وإنما الأصوليون والنظار يقدمون بمقدمة في سببية وجود المصلحة المرسلة أو في بيان ماهيتها، فيدور كلام كثير منهم على أنها ما لم يشهد لها نص معين بالاعتبار ولا بالإلغاء، وهي ملائمة لتصرفات الشارع.

    وفيما يظهر أن هذه المقدمة لبيان الماهية، أو لبيان سببية اعتبار المصلحة المرسلة للشريعة ليست ضرورية؛ لأن التحقيق بالجزم أن ثمة ما يكون ملائماً لتصرفات الشارع ولم يشهد به نص معين، هذا يرد عليه كثير من التأخر؛ لأنه قال: (وكان ملائماً لتصرفات الشارع)، فالعلم بملاءمته لتصرفات الشارع هو نوع من الشهادة، ومراد المحققين في هذا المقام أن الفعل المعين من أجزاء المصلحة المرسلة لم يشهد به نص معين، أما باعتبار سببية وجود الحكم كوجود عام أو كاعتبار عام، فإن ما كان ملائماً لتصرفات الشارع، فالعلم بالملائمة لتصرفات الشارع هي الشهادة العامة، سواء كانت من نص معين أو كانت من استقراء، أما آحاد المصلحة المرسلة، فهذه لا يلزم عليها النص المعين، بل لا يمكن فيها النص المعين، وإلا إذا وجد فيها النص المعين خرجت عن اصطلاح المصلحة المرسلة، ولم يعد هناك حاجة إلى مصطلح المصلحة المرسلة كاصطلاح معين.

    الاستدلال المرسل وشهادة الأصل الكلي له

    قال المصنف رحمه الله: [ ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك و الشافعي ، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعياً قد يساوي الأصل المعين, وقد يربو عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه ] .

    فقوله: (بحسب قوة الأصل المعين وضعفه)، وبحسب الاتصال، وهذه جهة في العلاقة بين الدليل والحكم؛ لأن ثمة مقدمات أربعاً: الدليل، والدلالة، والحكم والاتصال بين الدليل وبين الدلالة وبين الحكم. وهو النظر الذي يستعمله المجتهد أو الناظر، ويقع عليه كثير من الإشكال وبحسب الأصول، فإذا كان الأصل الكلي أقوى دلالةً من الأصل المعين على العموم، فإنه قد يربو عليه؛ لأنه قد يكون ظنياً حتى من جهة الثبوت.

    (كما أنه قد يكون مرجوحاً في بعض المسائل, حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، كما هو مذكور في موضعه).

    وهذا كله استتباع للمعنى الكلي الذي ذكره الشاطبي رحمه الله، وما ترك هنا هو من باب التمثيل لبعض الأصول أو لبعض المقدمات، وأمرها يسير.

    1.   

    المسائل التي لا ينبني عليها فروع فقهية وآداب شرعية في أصول الفقه

    قال المصنف رحمه الله: [ كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية ] .

    هذه المقدمة كالمتعارضة مع المقدمة الأولى؛ لأنه لما ذكر أبو إسحاق رحمه الله أن أصول الفقه قطعية، فكأنه ليس مضطراً لهذه القاعدة؛ لأنه إذا كان يعتبر أن هذا العلم هو القطعي، فلا شك أن هذه الرتب التي ذكرها في المقدمة الرابعة من باب أولى أن لا تكون داخلةً، فإذا كانت الظنيات لا تدخل، فمن باب أولى هذه الأمور التي هي من الفروع والنتائج، أو أنها لا تكون عوناً أو ما إلى ذلك من الصفات التي ذكرها.

    فهذا من التأكيد حقيقةً، أما من حيث البناء العلمي فإنه يعلم أنها غير داخلة في اصطلاح الشاطبي ؛ لأن ما هو أولى منها بالدخول لم يعتبره داخلاً؛ لأنه يقول: إن أصول الفقه قطعية، فمعلوم أن ما ذكره في المقدمة الرابعة ليس قطعياً، لكن هذا كترتيب عام، ولا يعني هذا الترتيب أن هذه المقدمة لا شأن لها، بل ذكره لها مناسب من جهة أخرى:

    بمعنى: أن أبا إسحاق ذكر رأيه في المقدمة الأولى، وذكر من خالفه وناقش المخالفين كـالجويني وطريقة القاضي، ولكنه هنا يتكلم عن معنى آخر وهو دخول مسائل لا فائدة منها في علم الأصول، وكأنه من المناسب حتى على اختلاف المناهج باعتبار القطعي والظني في أصول الفقه، فهو يرى أن هذا العلم كتنظيم واصطلاح دخل فيه كثير مما لا معنى له من جهة نسبته لعلم أصول الفقه، ولهذا قال: (كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية، أو آداب شرعية، أو لا تكون عوناً في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية).

    وهو في الحقيقة إذا استقرئت كتب أصول الفقه التي كتبها النظار من شتى المدارس، فسيوجد فيها قدر من هذه المسائل التي أشار إليها أبو إسحاق ، فتكون بالفعل مما وضعه في هذا العلم عارية ينبغي الاستغناء عنه، لأنه سيكون من التطويل الذي لا يحصل به نتيجة، وهذا موجود كقدر كلي مشترك بين كثير من هذه المصنفات، أو في داخل هذا العلم كعلم نظم واصطلح عليه.

    أسباب إدراج مسائل لا فائدة منها في علم أصول الفقه

    وأسباب ذلك: إما أنها تعود إلى كثرة الاشتغال بعلم النظر والكلام. أو تكون بعض هذه المقدمات إنما ذكرت هنا باعتبار الاطراد لقولهم في مسائل أصول الدين. أو لسبب آخر، ولكنها موجودة ولها أمثلة في كتب أصول الفقه، مثل بعض القضايا النظرية المحضة التي يتعذر العلم فيها، ولا يكون تحتها حقيقة عملية، فهذه ليس بالضروري أنها تكون داخلةً في هذا.

    ولكن كمنهج لطالب العلم، وخاصةً مع التقرير المأثور عن السلف رحمهم الله، وهو الذي تجيء به النصوص: أن المقصود من العلم العمل، وتجد أن أبا حامد الغزالي في كلام له عن العلوم، يقول: إن العلوم منها العقلي المحض، ويذكر لها مثالاً بعلم الحساب ونحوها، ثم يقول أبو حامد : إن مثل هذه العلوم لم يندب إليها الشارع ولم يستحسنها ولم يردها؛ لأنها لا تنفع في الآخرة، وإنما تنفع في المفاخر الدنيوية إلخ.

    ومقتضى الشريعة وأصولها العامة أن العلم من حيث هو علم يعتبر كمعنى كلي له فضيلة، لكن يبقى أن كل علم من العلوم أو كل ما يسمى علماً ينظر فيه من جهتين:

    الجهة الأولى: جهة تحقق أنه علم وليس مفيداً لضد العلم وخلافه.

    الجهة الثانية: أن يكون على وفق ميزان الشارع العام؛ لأن بعض الجمل التي رويت عن بعض المتقدمين، هي جمل صحيحة ولكن ينبغي أن تفهم على وجهها، فقولهم: إن المقصود من العلم العمل، ليس العلم نفسه إنما يعتبر العلم مقاماً من مقامات العمل. فيقال لهم: إن توحيد الله سبحانه وتعالى ليس مقصوراً على مسائل التعبد، بل إن مسائل المعرفة داخلة فيه، ومسائل المعرفة أصل في التوحيد، كما أن العمل أصل في التوحيد.

    فاختصار العلم على أنه وسيلة إلى العمل ليس مناسباً، فالعلم غاية بذاته، والعلم المحقق بذاته يكون موجباً للعمل في علم الشريعة بالدرجة الأولى، وحتى في سائر العلوم، ولهذا تجدون حتى العلوم البشرية المحضة توجب عملاً، فعلم الطب إذا تحقق صار له نتيجة في الحقيقة والتطبيق ينتفع بها الناس ومثله بقية العلوم.

    المقصود من استبعاد المسائل النظرية من علم أصول الفقه

    فما يذكره أبو إسحاق في مسألة تبرئة أصول الفقه من المسائل التي لا فائدة منها مقصد شريف بالفعل؛ لأن هناك مسائل من النظريات المتكلفة، والفرضيات الذهنية، أو بعض الوهميات التي دخلت على كثير من النظار، وأدخلت على كتب أصول الفقه. ولكن لا ينبغي لطالب العلم، أو يليق بحكمته العلمية أن يوسع مسألة الاختصار للعلوم، ولهذا فقول بعضهم: إن أكثر ما في كتب أصول الفقه من التكلفات ولا معنى لها، ويمكن أن تفهم الشريعة بدون هذا التكلف فهذا الكلام ليس صحيحاً وليس كل ما في أصول الفقه كذلك على كل حال.

    لكن من المهم لطالب العلم أن يعود نفسه على التوسط في الاعتبار. فـأبو حامد رحمه الله وهو يقول هذا الكلام دخل في جملة من العلوم ونظر لها حتى في أصول الفقه مثل ما كتب في المستصفى أو في غيره من الكتب، فقد دخل في مسائل من الماورائيات، يعني: في مسائل بعض الأمور الكونية العلوية ومسائل الأفلاك وترتيب الأفلاك، كلام ما يستطيع أن يحصل بالعلم المجرد عن خطاب الشارع الصريح، ولا يكتسب بالنظر أو حتى بالاستقراء من الظنيات أو ما إلى ذلك، فهذا منهج يعرض ثم يذهب.

    ولهذا فإن أبا حامد الغزالي مثلاً، إنما يذكر مثل هذا الكلام في أواخر أمره؛ لأنه يقول: إني شغلت في عنفوان شبابي بالكتابة في هذه العلوم النظرية، وفي آخر الأمر وحالنا اليوم وقد أقبلنا على طريق الآخرة، فأراد التصفية على طريقة التصوف، وأنه يرى أن كثيراً من هذا الذي كتبه في عنفوان الشباب لم يندبه إليه الشارع، ولهذا أحياناً يعتذر عن نفسه بكثير مما كتبه في أمور النظر وعلم الكلام أنه من باب دفع صول الصائلين عن الإسلام، ومن يقرأ لـأبي حامد يجد أن له كتباً مختلفة المنازع العلمية، وليس هذا من التعارض عند أبي حامد .

    1.   

    طرق العلم ومعيار قبوله

    يقول أبو حامد في كلام له عن طرق العلم: والتحقيق أن المذاهب ثلاثة:

    مذهب اليقين، وهذا سر بين العبد وبين ربه، وهي طريقة أصحاب التصوف الخاصة التي انتهى إليها أبو حامد في كتبه المتأخرة.

    والطريقة الثانية: وهي طريقة العوام، وتكون بالزواجر والدواعي مثل كثير من كلامه في إحياء علوم الدين، هذه تكون للعوام بالدواعي إلى الخير والزواجر عن الشر.

    والطريقة الثالثة: وهي الطريقة التي نستعملها في باب الجدل، وهذه ليست مقصودةً لذاتها، وإنما هي من باب دفع صول الصائلين عن الإسلام، ويضرب لها أمثلة من كتبه مثل كتاب التهافت، وفي بعض كتبه النظرية المحضة، يرى أنها ليست مقصودة عنده.

    فهذا العلم دخله ما ليس منه لا أصلاً ولا فرعاً، ولكن العلم بذاته فضيلة، صحيح أن ثمة ما يسمى علماً نهى الشارع عنه، وثمة مقامات من مقامات المعارف نهى الشارع أن يستعملها الناس، أو نهى قوماً من المكلفين عنها، هذا موجود، ولهذا لا يجوز مثلاً للمكلفين أن يقولوا: ندرس علم السحر؛ لأنه ليس من العلم أصلاً الذي يكتسب فضيلةً؛ لأن العلم في الأصل: هو ما يكسب فضيلةً، فهو من تعلم الجهل وليس من تعلم العلم.

    لكن يبقى أن الاصطلاح لا يمكن ضبطه؛ لأنه لا مشاحة فيه.

    معيار قبول العلوم

    كل علم يجب أن يوزن بميزان الشريعة، فقد ينهى الشارع بعض المكلفين عن بعض دوائر العلم التي لا يستطيعون الوصول إليها، أو يكون التعرف عليها مما يقود إلى الجهل والضرر ولا يقود إلى العلم، كعلم السحر ونحوه، وهذا أمر معروف.

    فالعلم المكسب لمنفعة فضيلة في ذاته، وليس وسيلةً للمنفعة، بل هو بذاته فضيلة، ويستلزم المنفعة ضرورةً، ولكن المنافع تتفاوت، فالأنسب لطالب العلم وهو يقرأ في كتب علماء الإسلام من الفقهاء والأصوليين وأهل الحديث ونحوهم التي قصدوا منها التعريف بدلالة الشريعة على أحكامها الفرعية وما إلى ذلك.

    فالمنهج الأنسب هو البدء بالأهم فالأهم، هذا هو منهج الاختيار الذي يغلب الحاجة إليه، أما أنه يوجد علم ينزع نزعاً كلياً هذا لا يوجد، إنما توجد معارف، كما توجد أقاويل ليست من العلم المحمود، لكنها لا ينبغي أن تسمى من العلم المقصود في الابتداء، ولهذا فطريقة أبي حامد رحمه الله عرضت له في بعض المقام؛ لأنه رأى أنه اشتغل بهذه النظريات زمناً، فأراد أن يرجع عنها، فأكثر من الذم لمثل هذا التطويل في الاعتبار.

    فمن أسباب دخول مسائل نظرية في علم أصول الفقه عدم تجريد هذا العلم؛ لأن علم المقاصد وعلم أصول الفقه يتعلقان بفقه دلالة الألفاظ من جهة لسان العرب، وبفقه مقاصد الشريعة.

    فالعلم بأصول الفقه وقواعده وبعموم ماهية هذا العلم مهمة جداً لطالب العلم، والكتب التي كتبت فيه، لا ينبغي لطالب علم أن يأخذها على أنها توجد الملكة العلمية في المقاصد أو في فقه الشريعة، أو أنها توجب صناعة الاجتهاد بذاتها، ولهذا فإن بعض من يحرص على حفظ القواعد وتجريدها يظن أنها توجب صناعة الاجتهاد على هذا التقدير، ولهذا فالتوسع في بعض التراتيب العلمية يأخذه طالب العلم من باب التدريب، فإذا قرأ في كتب أصول الفقه، فمنها ما يكون دخوله في الأصول تكلفاً، بل ربما يكون من الغلط المحض، مثل بعض الدعاوى أن الدليل السمعي لا يكون قطعياً بحال من حيث الدلالة، أو حتى من حيث الثبوت في السنة، هذه لا شك أنها باطلة.

    فقراءة طالب العلم في كتب أصول الفقه يعتبر من باب استصحاب الملكة العلمية ومن باب صناعة الملكة العلمية، وليس معنى هذا أن القارئ في هذا العلم، لو أكب عليه أو تخصص فيه يصبح فقيهاً في باب المقاصد، بل تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى جملة من المقدمات منها: الاستقراء لنصوص الكتاب والسنة، والاستقراء في لسان العرب ... إلخ.

    زد على ذلك وجود الملكة الخلقية التي خلق الله الإنسان عليها ( وكل ميسر لما خلق له )، فبعض الناس ما خلقه الله جل وعلا على هذا المقام، ولهذا بين الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي موسى قال: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً ) .. إلخ، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يجعل هذه الأرض التي أصابها الغيث واحدة، فقد ذكر أن الأراضي متنوعة، منها ما يكون أجادب، ومنها ما يكون خصباً، ومنها ما يكون قيعاناً .. إلخ. كذلك: ( رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) ، فبعض الناس عقله محدود من جهة النظر، لكنه قد آتاه الله الحفظ مثلاً.

    ولهذا فطالب العلم إن كان يرى من نفسه الملكة العقلية الواسعة، فليقبل على كتب أصول الفقه ويتدرب عليها، لتبعث الملكة الكامنة عنده، لما فيها من التنظيم والترتيب، ومن آتاه الله حفظاً، فليقبل على الحفظ في كتب السنة، ومختصرات الفقه أو اللغة أو ما إلى ذلك.

    فينبغي للإنسان أن يختار؛ لأن الله جل وعلا يقول: لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48]، فهذه الكتب ليست تحصل بالضرورة الفقه في المقاصد أو في الأصول، إنما هي تنظم هذا العلم، وتنظم هذه المعارف، وهذا التنظيم كثير منه اجتهادي.

    1.   

    ضابط الفائدة في المسائل الفقهية

    قال المصنف رحمه الله: [والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له، ومحققاً للاجتهاد فيه، فإذا لم يفد ذلك فليس بأصلٍ له].

    هذه المقدمات مشتركة، فقد ذكر أبو إسحاق أولاً: أن الدليل السمعي لا يكون قطعياً؛ لأنه يحتاج إلى البراءة من الموانع ومنها: الاشتراك؛ لأنه يتحصل هنا امتناع القطعي فيما هو محل للاشتراك؛ لأن المشترك يكون متنازعاً فيه على أكثر من مراد. وهنا يقول رحمه الله: (أو لا تكون عوناً في ذلك)، كثير من الناظرين في كتب أصول الفقه ينتفعون بالتراتيب العلمية حتى التي قد لا يكون لها نتيجة لازمة، أو ممكن الاقتصار على غيرها، فهذا الترتيب فيه من التدريب للذهن ما يحصل به سعة الذهن، وسعة العلم بطرق المناقشة والمراجعة للأدلة وما إلى ذلك.

    ولما يقول: (إلا لكونه مفيداً له)، المقصود بالإفادة من الأمور التي يتعذر تعيينها، يتعذر أن تقول: هذه المسألة مفيدة أو ليست مفيدة؛ لأنها قد تكون مفيدةً لأحد وليست مفيدةً للآخر، إنما المقياس أنه بحث المسائل التي فيها انغلاق وتكلف لا معنى له، ويكثر عليها الجدل الذي لا يحصل إلا جملة من المفاسد، فهذا لا شك أن إبعاده عن هذا العلم صحيح.

    ولهذا لو قيده أبو إسحاق رحمه الله: بأنه ما أفضى إلى مفسدة في التصور، فإنه يكون مما يمنع عن هذا العلم، لكان صحيحاً؛ لأن الشارع جاء بالعلم الذي يدفع مفاسد الشك والجهل والظن.

    وقال الشاطبي رحمه الله: (ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه).

    يعني: هناك مسائل مثل بها، وهي من باب الضبط لما ينفع ولما لا ينفع، فحينما تقول: ما لا ينفع في الآخرة ينبغي تركه، وما لا ينفع في العلم ينبغي تركه، هذا كلام مجمل، لكن فسر المقصود في ماهية علمك بالذي ينفع والذي لا ينفع.

    مسألة القول بأن الإباحة تكليف

    وهنا ذكر أبو إسحاق رحمه الله أمثلة فقال: [ وعلى هذا: يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها ]، أي: في مسائل أصول الفقه [ كمسألة ابتداء الوضع ومسألة الإباحة، هل هي تكليف أم لا؟ ].

    المباح: تكلم عليه الأصوليون في الأحكام التكليفية الخمسة، وعدوه منها. والمباح: هو ما استوى فيه الطرفان، أو: لم يأمر الشارع بفعله ولم ينه عنه، إلى آخره من التعبيرات، فصار عندهم إشكال: أن المباح لا تكليف فيه، وهم يسمون الأحكام الخمسة: التكليفية، فهل يخرج المباح عن الأحكام التكليفية، يقول أبو حامد : كلامهم في المباح، هو هل فيه تكليف أو ليس فيه تكليف؟

    لكن لو كانت الأمور بمثل هذا التحرير، لكان تسمية الأحكام التكليفية هو الذي يخرج عن أصول الفقه، ويكون بدلاً عنها الأحكام التشريعية الخمسة، أما أن المباح ليس من التشريع فهذا غير صحيح، وليس البحث فيه من التكلف؛ لأن الإباحة حكم من أحكام الله، كما أن التحريم حكم من أحكام الله، وأنتم ترون هذا صريحاً في القرآن، قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النحل:116] ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1] ، أضيف الفعل هنا إلى من؟ إلى الله جل ذكره، (لِمَ تُحَرِّمُ) ما قيل: ما هو حلال، بل قيل: (لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)، فالإباحة حكم شرعي.

    وجاء هذا السؤال لما سموا الأحكام الخمسة بالأحكام التكليفية، مع أنها لم تسم في الشريعة بالأحكام التكليفية، إنما الذي في القرآن إشارة إلى بعض صور التكليف على أن فيها مشقة أو كرهاً: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُم [البقرة:216]، انظروا في بلاغة القرآن وتمامه! ليس التشريع كرهاً، إنما قيل عن القتال فقط: وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة:216]، وهذا باعتبار طبيعة النفس البشرية، وإلا كل ما شرعه الله ورسوله لا بد أن تكون مصلحته راجحة، حتى ولو مالت النفس إلى غيره؛ لأن النفس تميل للخير كما أنها تميل للشر، أو تميل إلى الشر كما أنها تميل إلى الخير.

    ومثله قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، هل هذا من باب الاستثناء المتصل أو من باب الاستثناء المنقطع .. إلخ؟ قال بعض المحققين منهم الإمام ابن تيمية ، لم تسم الأحكام الخمسة في الشريعة تكليفاً في سائر مواردها. والتكليف في وضع اللغة: هو ما فيه مشقة، إما من جهة طلبه بالعزم عليه، أو من جهة فعله، والمستحب: ليس فيه طلب، وليس فيه مشقة من جهة العزم عليه، إذا سمي العزم مشقةً، وأن العزم قد لا يطلق عليه أنه مشقة، بل لا يطلق أنه مشقة قطعاً.

    وكثير من المستحبات لا مشقة بفعلها، فمثل هذا المثال ليس مناسباً لمراده رحمه الله، والقاعدة التي ذكرها صحيحة في الجملة: أن المتكلفات والفرضيات لا يطول العلم بها هذا صحيح، ولكن يبقى الضبط لما ينفع وما لا ينفع، وهذا من حكمة الله جل وعلا أنه لا يمكن ضبطه بقدر معين، لأن أحوال المكلفين وأحوال الناظرين في هذا العلم ليست حالاً واحدة، وقد جرب بعض العلماء علم الحديث، فما أفلح فيه بكثير، فلما انصرف إلى علم الفقه صار من كبار أئمة الفقه والعكس كذلك.

    والقارئ في كتب الرجال ومن يطلع على السير يعرف أن ثمة رجالاً في التاريخ هم كبار في باب من الأبواب، وليسوا في الباب الآخر من عداد أئمته وإن كان لهم حظ فيه، فتجد منهم من يكون إماماً عظيماً في الفقه، والناس يرجعون إليه في كثير من مسائله، وهو ليس من كبار الأئمة في باب الحديث أو في باب الرجال أو ما إلى ذلك، فهذا شأن لا أظنه يخفى على أحد.

    1.   

    المسائل التي لا علاقة لها بأصول الفقه

    المسائل التي لا ينبني عليها فقه

    قال المصنف رحمه الله: [ فصل: وكل مسألة في أصول الفقه ينبني عليها فقه، إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه، فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضاً، كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير والمحرم المخير، فإن كل فرقة موافقة للأخرى في نفس العمل ] .

    يقول: إن المسائل التي محلها أصول الدين، وليس فروع فقه الشريعة، لا ينبغي أن تدخل في علم أصول الفقه؛ لأن علم أصول الفقه يقصد به ما يتعلق بفقه الشريعة كفروع، لكن في الغالب أن من يذكر هذا يرون أن هذا من باب اللزوم في المعاني ولا يستطيعون الانفكاك عنها.

    المسائل التي لا ينبني عليها عمل

    قال المصنف رحمه الله: [ كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي ].

    هذه من المسائل التي نبه عليها الإمام ابن تيمية رحمه الله أن بعض العلماء والنظار غلا في باب العلم والعلميات إلى درجة الفروض التي ليست تفيد العمل، ولهذا الله جل وعلا لم يسم المعارف التي كان الجاهليون يعملونها في القرآن علماً، إنما يذكر الله في كتابه العلم ويحث عليه باعتباره فضيلةً تقود إلى العمل، ولهذا أمر به الأنبياء، وما كان عليه الكهان الجاهليون من تعلقهم بالأصنام أو ببعض أحوال الجاهلية، فهذه باعتبار الدليل أنواع من الإدراك، لكن لا تسمى في القرآن علماً بل تسمى جهلاً.

    ولكن هذا الحكم الذي في كتاب الله نزل من عند الله الذي يعلم أحوال العباد ومصالحهم، فترتيب هذا العلم يحتاج إلى نوع من التأكد، هل هذا العلم ينفع أو لا ينفع، وإلا لو فتح هذا التسلسل في سائر الموارد، لكان هذا مشكلاً؛ لأن هذه العلوم لم ينظمها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كتنظيم علم أصول الفقه، فلا بد أن تكون الأمور مبنية على قواعد من العلم والحكمة؛ ليعرف المناسب في الترك والمناسب في الاعتبار والأخذ.

    فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن من أهل العلم أو من النظار من غلا في باب النظريات والعلميات، ومن أصحاب العمل والتعبد من كان عنده غلو في باب اعتبار العمل والتأخير لرتبة العلم، حتى قالوا عن كثير من العلميات: إنها ليست محمودةً في الشريعة باعتبار أنها لا تفيد عملاً، والصحيح أن العلم غاية بذاته، كما أن العمل غاية بذاته، ولكن العلم المحمود يوجب عملاً، كما أن العمل المحمود يجب أن يكون مبنياً على علم، أما تأخير رتبة العلم باعتباره من الوسائل التي يختصر شأنها أحياناً، فهذا ليس كذلك، هذا من جهة.

    أما من جهة ثانية: فالمقصود بالعمل أعمال الجوارح، وأعمال القلوب.

    العمل المطلوب شرعاً

    قال المصنف رحمه الله: [ وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعاً ] .

    وهذا من حسن التفصيل في كلام الشاطبي رحمه الله: أنه فسر المقصود بالعمل باعتبار عمل القلب من جهة، واعتبار عمل الجوارح من جهة أخرى، وأما التعيين لما يكون مناسباً لعمل الجوارح، فهذا غريب! وأما التعيين لما يكون مناسباً لأعمال القلوب وأحوال القلوب، فهذا في الغالب من الأمور التي يكثر فيها الاختصاص، ويتفاضل فيها الناس كثيراً، لهذا تجدون الأعمال التطبيقية كأعمال الجوارح معينة في الشريعة، كالصلوات الخمس وكالحج وكالصيام ونحو ذلك، ولكن الأعمال القلبية معينة من حيث الطلب، ولكن من حيث تطابق أحوال المكلفين فيها، يجري فيها كثير من الاختلاف.

    قال: [ والدليل على ذلك استقراء الشريعة، فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به، ففي القرآن الكريم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189] ، فوقع الجواب بما يتعلق به العمل، إعراضاً عما قصده السائل من السؤال عن الهلال: لم يبدو في أول الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ ] .

    هذا مثال يناسب المعنى الذي ذكره، ولكن يبقى أن هذا المثال عين في القرآن، فليس كل ما عين بعد القرآن يلزم أن يكون كذلك، بل قد يكون المعين على وفق هذه القاعدة، وقد يكون المعين مما حصل فيه اجتهاد من بعض أصحاب العلم، المغلبين لطريقة العلم في اعتبارها، أو من المغلبين لطريقة العمل، والمنهج الذي كان عليه السالفون من الصحابة ومن بعدهم من التابعين لهم، أنهم يعتبرون العلم والعمل، والعلم المحمود يكون موجباً للعمل كما سلف، كما أن العمل المحمود هو الذي يكون مبنياً على العلم، وهذه الطريقة هي التي كان عليها الأنبياء والرسل وأتباعهم.

    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755945779