إسلام ويب

شرح الورقات [17] - شروط المفتي- المستفتيللشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينقسم الناس إلى قسمين: مفتي ومقلد، فالمفتي هو من ينقل الحكم الشرعي أو يجتهد في استنباطه، ولكن بعد حيازته شروط الاجتهاد، وهو إن أصاب كان له أجران وإن أخطأ كان له أجر واحد.

    1.   

    شروط المفتي

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن شرط المفتي: أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً، خلافاً ومذهباً, وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام, من النحو، واللغة، ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها].

    قوله رحمه الله: (أن يكون عالماً بالفقه أصلاً) أي: بأصول الفقه, (وفرعاً) أي: برءوس المسائل وفروعها الفقهية, وأن يعرف الخلاف والمذهب, المذهب الذي نسج على أصوله.

    قوله: (ومذهباً) أي: أن يكون عارفاً بفروع المذهب، وعارفاً بالخلاف.

    ثم ذكر في صفته أيضاً: (أن يكون كامل الآلة في الاجتهاد، عارفاً بما يحتاج إليه في استنباط الأحكام, من النحو، واللغة، ومعرفة الرجال، وتفسير الآيات الواردة في الأحكام، والأخبار الواردة فيها) هذه الأوصاف التي ذكرها أبو المعالي رحمه الله في شرط المفتي, أي: المجتهد، أما المفتي بمعنى الناقل للفتوى، والمقرب للفتوى، فلا يلزم فيه هذه الشروط، وإلا لانغلق باب الفتوى, وإغلاق باب الفتوى أكثر إشكالاً من إغلاق باب الاجتهاد؛ لأن طائفة قالت بإغلاق باب الاجتهاد, ولأنك إذا أغلقت باب الفتوى كيف يفتى الناس؟ ولعل المخرج في هذا هو التفسير العلمي لما يرد في كلام علماء الأصول ككلام الإمام أبي المعالي رحمه الله هنا، ويذكره غيره من الأصوليين، أن نقول: فرق بين مقامين: بين مقام الفتوى أو المفتي الذي هو على صفة الاجتهاد في الفتوى؛ فهذا هو المجتهد، وإذا كان المجتهد فله شروط الاجتهاد, ولا يكون غريباً أن يكون عالماً بالفقه أصلاً وفرعاً ومذهباً، وأن يكون عارفاً باللغة إلى آخره؛ لأن المفتي هنا هو بمعنى المجتهد, وأبو المعالي أراد ذلك, وأنت ترى أنه في الجمل قال: (وأن يكون كامل الآلة في الاجتهاد) إذاً: هو أراد بالمفتي هنا المجتهد, ولا شك أن هذا هو المفتي الأعلى رتبة, لكن هل تصح الفتوى بمن دونه؟

    نقول: نعم يوجد من دونه ممن لا يكون مقلداً, لأنهم يجعلون على التقابل المفتي والمستفتي, والمجتهد والمقلد هو دون درجة المفتي على معنى المجتهد هنا من يكون ناقلاً للفتوى.

    وهذا النقل على أوجه: فقد يكون نقلاً مجرداً، كمن يكون على مذهب إمام كـ مالك رحمه الله، متقناً لفروعه، لكنه ليس عالماً بآلة الاستنباط وأوجه الاجتهاد والإحاطة أو الجمع للغة، وما إلى ذلك مما ذكر هنا.

    أو يذكر غيره ما هو أكثر منه أيضاً, لكن يكون عارفاً، وبعض المفتين من النوع الثاني يكون عارفاً بفروع مالك، ومسائله، وما انتهى إليه المذهب عنده أو عند أبي حنيفة أو عند أحمد أو عند الشافعي ، فهو من أهل العلم لكنه ما بلغ رتبة الاجتهاد, فإذا سأله العامة والمستفتون عن المسائل وهو في بلد شافعي كأن يسألوه مثلاً: متى يكون سجود السهو؟ قال لهم: يكون قبل السلام. لأنه إنما يفتيهم بمذهب الإمام الشافعي، وذاك الحنفي يقول له: سجود السهو بعد السلام. وهذا الحنبلي يقول له: الأصل فيه أنه قبل السلام إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد السلام, والمالكي يقول: عندنا ما كان زيادة فبعد، وما كان نقصاً فقبل, وقد يحسن الاستدلال على وجه من ذلك، ويكون حقيقة الاستدلال ليس تأسيساً وإنما هو نقل للاستدلال, فكما نقل القول عن مالك

    , نقل الاستدلال, فيرى أن مالكاً استدل لهذه المسألة أو لتلك بدليل، أو أن أصحابه استدلوا بمذهبه, فيحدث المستفتي بقول مالك أو الشافعي أو نحو هؤلاء وبدليله.

    فهذا في حقيقته عنده قدر من الاجتهاد من جهة المعنى المجرد للاجتهاد، وإن كان لا يتفق مع المعنى الخاص الذي يقصد به علماء الأصول في تسميتهم المجتهد المطلق، فلا ينطبق عليه بهذا التقدير, ولكنه أيضاً ليس من العامة, وهذه حال كثير من الناظرين في العلم, فعندهم مادة من الاجتهاد يعرفون بها تمييز المسائل، ورد المسائل إلى منازعها، وضبط مذاهب أئمتهم، أو مذاهب المجتهدين، والنقل عنهم، ونقل الاستدلال نقلاً محكماً، وتمييز الأوجه, كل هذا لم يصلوا به على ترتيب النظار من الأصوليين أو غير النظار أيضاً إلى رتبة المجتهد المطلق.

    تجزؤ الاجتهاد

    لكن أيضاً لا شك أنهم تجاوزوا به رتبة العامة ومقام من رتبة التقليد, فصار لهم تقليد من وجه, وصار لهم اجتهاد من وجه, وإذا اعتبرنا ما يذكره بعض علماء الأصول -وهو قول فيه وجاهة-: أن الاجتهاد يتجزأ, وهذا هو الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنهم أن الاجتهاد يتجزأ، والدليل على ذلك: توقف كبار مجتهديهم في بعض المسائل, فدل على أن الاجتهاد يتجزأ؛ لأنه ليس هو نبوة لا بد أن يكون هناك الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم، فالمجتهد يصيب ويخطئ.

    المقصود أن ما ذكره هنا في شرط المفتي هو بمعنى المجتهد, وتقع الفتوى ممن دونه، وهو النوع الثاني من الفتوى الذي قلنا: إنه يصح حتى لا تتعطل الفتوى. فلو قيل: إنه لا يفتي إلا من هو من أهل الاجتهاد المطلق الذي هو في رتبة الإمام مالك أو الإمام أحمد لتعطلت كثير من الفتوى للمسلمين, والله جل وعلا قال: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ[النحل:43]، ولكن مع قولنا: إن الوجه الثاني سائغ، إلا أن من استعمله، وصار من أهل الفتوى على الرتبة الثانية، يجب أن يكون مدركاً أنه مقلد من وجه، وإن كان عنده مادة اجتهاد, ولزوم هذا المعنى في نفسه أن طريقته فيها مادة من التقليد لا ينفك عنها هي التي تلجم النفس التي يكون فيها قدر من سعة الحركة في المسائل، فلا يتوهم هذا الناظر على هذه الرتبة أنه صار من أهل الاجتهاد المطلق؛ ولهذا فإن كبار المحققين الذين ربما يقال: إنهم من أهل الاجتهاد المطلق, لكنهم من وجه آخر التزموا بأصول مذهب معين.

    الاجتهاد المطلق

    وهذا يرد عليه سؤال: هل من التزم من العلماء بأصول مذهب من المذاهب الأربعة فقد تجرد عن رتبة المجتهد المطلق؟ التنظير المشهور يقول ذلك, ولكن هذا فيه نظر, فلا يكون سلوك رتبة الاجتهاد المطلق متوقفاً على ترك التمذهب, هذا ليس كذلك, فمثال ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله له صفة الاجتهاد في بعض المسائل من الشريعة التي أشبه ما تكون بالنوازل التي وقعت، فصار له فيها قول وتحقيق, لكنه فيما جرى عليه وهي الأغلب من المسائل, أنه إنما يفرع عن مذاهب الفقهاء، فيعرض له مقام من الاجتهاد المطلق، وإن كان الأصل أنه نقل عن غيره من أهل العلم, لكن هل نقله كان مجرداً أم أنه نقل مجتهد، وفيه مادة اجتهاد في الترجيح ونظر الأدلة والدلالات؟ فهذه مادة من الاجتهاد، ولا ينضبط لك المعنى على التحقيق والتطبيق إلا بتقدير إمكان الجمع بين مادة من التقليد ومادة من الاجتهاد في نظر المجتهد واجتهاده وعقله, فهو مركب من الاجتهاد، ومركب من مادة من التقليد, أما أن يتوهم أن الاجتهاد والتقليد بينهما تمانع بحيث أن المجتهد ينفك عن التقليد من كل وجه, أو أن المقلد ينفك عن الاجتهاد من كل وجه؛ فهذا فرض من فروض العقل ليس إلا, لكن إذا جئنا إلى التطبيق فما من إمام إلا وله سلف, وقد قال الإمام أحمد وهو من أئمة الاجتهاد: لا تقل في مسألة إلا ولك فيها إمام. فهذه من المسائل التي لا تطرد على مطلق التقدير.

    فالمقصود أن النوع الثاني من الفتوى يجب أن يكون محاطاً بهذا القدر من الحال (حال النفس)، حتى لا يتقحم المسائل تقحم المجتهدين، ولا يتوهم أيضاً أن من أراد الدخول في الاجتهاد المطلق لا بد أن يتجرد من مذهب معين, فهذا التجرد لا يفيده شيئاً في العلم؛ ولذلك ما ذكروا أنه من شرط المجتهد المطلق وصفته ألا يكون عارفاً بمذهب إمام أو بنى على أصوله أو نحو ذلك فيه نظر, بل الأصل أنه لا يترقى إلى ذلك إلا إذا اعتبر بهذه المقدمات من قبل, فهي رتبة لا ينزع إليها نزعاً، وإنما يترقى إليها ترقياً, فالاجتهاد ليس طفرة كطفرة النظّام؛ لأن النظّام كان يقول بالطفرة -كما عيب عليه في علم النظر- وهو أنه قد ينتقل من رقم واحد إلى رقم ثلاثة دون أن يمر برقم اثنين, هذه مسألة بعيدة عنا, لكن القصد أن في الاجتهاد لا توجد طفرة أن الإنسان فجأة يتحول إلى مجتهد، بحجة أنه لا ينتسب لمذهب من المذاهب الأربعة، وغيره أعلم منه، لكنه لانتسابه لمذهب سمي مقلداً, العلم لا يؤتى هكذا.

    1.   

    شروط المستفتي

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومن شروط المستفتي أن يكون من أهل التقليد وليس للعالم أن يقلد ].

    قوله: (ومن شروط المستفتي أن يكون من أهل التقليد) وهذا خرج به أن المجتهد لا يقلد مجتهداً, وهذا فيه خلاف, أما من ليس مجتهداً فلا شك أنه يقلد, لكن هل يسوغ للمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر؟

    الجمهور على المنع, قالوا: إلا إن تضايق الوقت وما أمكنه الاجتهاد.

    قوله: (وليس للعالم أن يقلد) هذه جملة مجملة في كلام أبي المعالي رحمه الله, فما المقصود بالعالم؟ هل العالم بمعنى الناقل والمحرر الذي لم يصل رتبة الاجتهاد المطلق؟ لأن من يضاف إلى هذا الاسم في العادة قد يكون ناقلاً وعنده مقام من التحرير, وقد يكون ناقلاً وعنده مقام أبلغ من التحرير, وقد يكون ناقلاً وعنده مقام من الاجتهاد, وهذه درجات ما وصل إليها رتبة المجتهد المطلق.

    تعريف التقليد وبيان مراتبه

    قال المصنف رحمه الله: [والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة].

    هذا ليس بلازم؛ لأن اسم التقليد ليس من الأسماء التي وضع لها حد في ابتداء الشريعة, ولا سيما أنهم قابلوا بين الاجتهاد والتقليد, فإذا قبل القول بحجة فهل يسمى مجتهداً؟ لا يسمونه مجتهداً, فدل على أن اسم التقليد أوسع من ذلك, وأصحاب مالك في الجملة وأصحاب أبي حنيفة وأحمد يجعلونهم من المقلدة لـأبي حنيفة أو لـمالك أو لـأحمد إلى آخره, وهم يعرفون أقوال أئمتهم بحجة؛ ولذلك يرجحون ما خالف المذهب في بعض المسائل، أو يرجحون بين المسائل المختلف فيها في المذهب.

    فقوله رحمه الله: (والتقليد: قبول قول القائل بلا حجة) فإذا كان بحجة فماذا يسمى؟ إن سمي اجتهاداً رجع الاجتهاد إلى أنه تقليد ولكن بحجة, وهذا ما لا يقول به أبو المعالي رحمه الله, وهو يقول: إن المجتهد -كما سيأتي في صفته- له شروط مطولة، إلا أن يعتبر المصطلح الذي توسط به بعض علماء الأصول والقواعد، وهو أنهم سموا بين المجتهد المطلق وبين المقلد من يسمونه المجتهد في المذهب، أو المجتهد للمذهب, فهو مجتهد إضافي، وليس مجتهداً مطلقاً, فيسمون القاضي أبا يعلى الحنبلي مثلاً مجتهداً للمذهب؛ لأنه يستدل, ويسمون من دون القاضي من الحنابلة مجتهداً في المذهب؛ لأنه يحرر في آراء الإمام وإن كان لا يستدل؛ فهذه رتب سماها بعضهم اجتهاداً, وهذا لا مشاحة فيه؛ لأنه عند التحقيق هي مادة من الاجتهاد ومادة من التقليد، وليس هذا الاسم يستلزم الممانعة لهذا من كل وجه, وكما نقول: المجتهد المطلق. يصح أن نقول: المقلد المطلق وهو العامي, لكن إذا ترقى عن ذلك ككثير من الفقهاء أو الباحثين الذين لا يصلون إلى درجة المجتهد المطلق فماذا نسميه؟ هو ترقى من المقلد المطلق إلى مقلد مقيد، أو نزل عن المجتهد المطلق إلى مجتهد مقيد، وفي حقيقته العلمية أنه عنده مادة من الاجتهاد وعنده مادة من التقليد.

    إذا نظرنا مثلاً في أبي عمر ابن عبد البر من أصحاب مالك فإنه لا أحد يقول: إن أبا عمر ابن عبد البر هو مقلد محض، ويصدق عليه الحد الذي قيل في التقليد: قبول قول القائل بلا حجة, وهو يقول في مسائل: ولا أعلم لـمالك حجة في هذه المسألة, فهذا ما صار مقلداً يقبل القول بلا حجة، ومثله كثير من أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة وأصحاب أحمد، فلا يتأتى أن تسمي مثلاً أبا الوفاء ابن عقيل على سعة ذكائه وعلمه أنه مقلد محض، حقيقته أنه يقبل قول القائل بلا حجة, ولانقول: إن أبا المعالي رحمه الله يريد ذلك, ليس المقصود إلزامه بهذا، إنما المقصود أن تتضح معاني الاجتهاد والتقليد، وأن بين أعلى رتبة في الاجتهاد وأدنى رتبة في التقليد بينهما -إن صحت العبارة- مفازة, لأن بين المجتهد المطلق كمالك أو أحمد أو أبي حنيفة ، وبين المقلد العامي بينهما مفازة، هذه المفازة ماذا نسميها؟ هو تحول من كونه عامياً محضاً وترقى في العلم درجات لكنه ما بلغ رتبة الاجتهاد؛ فهذا على كل تقدير لا بد أن يلاحظ حتى لا يتوهم إغلاق العلم بمسألة التقليد أو إغلاق الاجتهاد.

    تسمية اتباع النبي عليه الصلاة والسلام تقليداً

    قال المصنف رحمه الله: [ فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليداً ].

    هذا ليس بلازم، وإن كان اسم التقليد من الأسماء التي فيها محايدة، لكن أشرف من اسم التقليد أن يقال: يسمى قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً واقتداءً وأسوة واهتداءً، ونحو ذلك من الأسماء، فهذه أسماء شرعية أولى من اسم التقليد.

    وكيف يقال: هو متمانع؟ فترى في المنطق أنه يقول: (فعلى هذا قبول قول النبي صلى الله عليه وسلم يسمى تقليداً)؛ لأن التقليد عنده قبول قول القائل بدون حجة، وإنما قلده؛ لأنه يعلم أنه نبي من عند الله ورسول من عند الله، فقوله: حجة، ما صدق عليه اسم التقليد، لكن نقول: كلمة التقليد في أصلها كلمة محايدة، ليست من الكلمات التي تدل على الذم المطلق، ولا على المدح المطلق, بخلاف الاقتداء فهو اسم شرعي: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].

    استعمال النبي عليه الصلاة والسلام للقياس

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ومنهم من قال: التقليد: قبول قول القائل وأنت لا تدري مَن أين قاله ].

    هذا وجه من التقليد، ولكن ليس هو مادة التقليد مطلقاً.

    قال المصنف رحمه تعالى: [ فإن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بالقياس، فيجوز أن يسمى قبول قوله تقليداً ].

    هذا على التقدير الثاني، وهذا أيضاً لا يصح من جهة التراتيب كما سبق؛ لأنه يقول: (التقليد قبول قول القائل بلا حجة) أو (..لا تدري من أين قاله), وكلا القولين لا يصدق على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لا تقول: (لا تدري من أين قاله). فنحن ندري من أين قاله وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    تقحم بعض النظار الأصوليين رحمهم الله وفرضوا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل القياس, وهذه مسألة خلافية في كتب الأصول, هل النبي صلى الله عليه وسلم استعمل القياس؟

    هذا توهم, القياس هو من صنعة المجتهدين بعده, ولهذا هو دليل ظني, أما النبي عليه الصلاة والسلام فلا يسمى عمله من باب القياس، بل هذه سنته, فإذا رد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كتاب الله لا نقول: إنه رد قياساً، وإنما نقول: إنه رد بياناً، فهو يبين مجمل القرآن، وما تضمنه القرآن من الأحكام، أما القياس بمعناه الأصولي: إلحاق فرع بأصل لعلة جامعة بينهما. فما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى منه رتبة، وهو أنه يسمى سنة، ولا يسمى قياساً؛ ولذلك يكون حجة ولا بد، ويكون صواباً ولا بد، بخلاف قياس المجتهد فيقع فيه الصواب والخطأ.

    1.   

    باب الاجتهاد

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما الاجتهاد: فهو بذل الوسع في بلوغ الغرض ].

    هذا تعريف الاجتهاد في اللغة، والاجتهاد من الأسماء الشرعية، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ), فالاجتهاد من الأسماء الشرعية.

    تصويب المجتهد وتخطئته

    قال المصنف رحمه الله: [ فالمجتهد إن كان كامل الآلة في الاجتهاد، فإن اجتهد في الفروع فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فيها وأخطأ فله أجر واحد].

    (أجران) أجر الإصابة وأجر الاجتهاد, (وإن أخطأ فله أجر واحد) وهو أجر الاجتهاد, ولكن أبا المعالي رحمه الله قال: (إن كان كامل الآلة) بمعنى أنه إنما دخل وهو أهل لهذا الدخول, أما إذا تقحم ما ليس له به علم فهو مذموم, فمن قال في الشريعة بغير علم فهو مذموم ولو أصاب، فلو أن أناساً مسافرين سألوا شخصاً وهو لا يعرف, وسألوه عن حكم من الأحكام فأفتاهم، ثم لما رجعوا إلى بلدهم سألوا عالماً، فقال لهم: فعلكم صحيح. لكن ذاك الذي أخبرهم قاله عن غير اجتهاد وأهلية في الاجتهاد فنقول: إنه مذموم ولو أصاب؛ لأن الشريعة لا يقال فيها إلا بعلم وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36].

    قال المصنف رحمه الله: [ومنهم من قال: كل مجتهد في الفروع مصيب].

    هذه مسألة الأصول والفروع، ولكن لها بحوث مطولة.

    قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز أن يقال: كل مجتهد في الأصول الكلامية مصيب؛ لأن ذلك يؤدي إلى تصويب أهل الضلالة من النصارى والمجوس والكفار والملحدين].

    الصواب أن كل مجتهد اجتهد في مسائل الأصول فإن الصواب فيها واحد, وأن من اجتهد في مسائل الفروع فكذلك الصواب فيها واحد؛ لأن حكم الله سبحانه وتعالى - وهو دينه وشرعه - درجات، وهو داخل في اسم الإيمان والدين، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما: ( الإيمان بضع وسبعون شعبة )، جاء في رواية الإمام مسلم ( فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ), فالدين واحد سواء كان أصلاً أو فرعاً، لكن الأصول لما كان دليلها متواتراً مستفيضاً ما احتملت الخلاف، فصار المخالف مذموماً فيها، ولما كان كثير من الفروع هو من الأدلة المستنبطة أحكامها، اتسع فيها الخلاف، وجاء فيها أنه إن اجتهد فأخطأ فله أجر؛ لأنه يعرض فيها بعض التردد من جهة الأدلة المستنبطة التي يمكن إجمالها بأنه إما ظني في الدلالة أو ظني في الثبوت.

    إنما فالراجح أنه ليس كل مجتهد في الفروع مصيب, بل إن الاجتهاد المصيب في الدين واحد، سواء كان أصلاً أو فرعاً، لكن في الفرع لا يعلم ولا يقطع من المصيب؛ لأن الدليل يحتمل, وعن هذا قال الإمام الشافعي : قولي صواب يحتمل الخطأ. هذا الاحتمال وارد على كل أقوال الفقهاء في الجملة، إلا في مسائل نزر استفاضت فيها السنة فخفيت على فقيه؛ فهذه ليست هي الغالب على المسائل, وإنما هذه جملة قليلة من المسائل, لكن أغلب مسائل الفروع المختلف فيها، الراجح فيها يسمى راجحاً، ولا يقال صواباً, وإن سمي صواباً فهو تجوز, وإلا فهو راجح، ويحتمل أن يكون الصواب في القول الآخر أو في القول الراجح, يحتمل في هذا ويحتمل في هذا, وأما في مسائل أصول الدين فإنها كذلك من باب أولى المصيب فيها واحد, لكن ذم المخالف فيها لاستفاضة الأدلة, فالمخالف يقع في مادة من التقصير في الجملة, ولا سيما إذا انتظم ذلك؛ ولذلك انتقى أبو المعالي رحمه الله مسائل الأصول التي عبر عنها بقوله: (الأصول الكلامية) يريد المنسوبة إلى علم الكلام.

    دليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً وكيفية الاستدلال به

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ودليل من قال: ليس كل مجتهد في الفروع مصيباً قوله صلى الله عليه وسلم: ( من اجتهد وأصاب فله أجران, ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) , ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ المجتهد تارة، وصوبه أخرى ].

    ذكر المصنف رحمه الله الاستدلال بحديث عمرو بن العاص ( إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر ), قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر خطأً وصواباً، فدل على أن المصيب ليس واحداً وهذا في الفروع؛ لأنه مدح الثاني وهو مخطئ بكونه له أجر الاجتهاد، ولم يمدح خطؤه, ونجد أن أبا المعالي لما ذكر هذا ووجه الدليل وما استدرك عليه مع أن المشهور عند كثير من أصحابه هو الأول، وهذا من أدبه رحمه الله، فإنه ابتدأ بالقول الذي هو مشهور عند أصحابه، ولكن كأن في نفسه من هذا الرأي الذي يقول: إن كل مجتهد في الفروع مصيب, كأن في نفسه منه شيء فتعقبه، ولما تعقبه ذكر الحجة في التعقب، وذكر الدليل، وهذا من لطف الفقهاء رحمهم الله وحسن أدبهم مع أصحابهم, فإن العاقل العارف العالم أو من دون ذلك ولكنه ذو صفاء في الإدراك يفهم أن القول الأول عليه بعض التأخر من جهة هذا الذي يعارضه, وما لزمه أن ينتصب لتخطئة أصحابه تخطئة صريحة، ولكنه أشار إشارة لطيفة، وهذا من الأدب الذي يحسن لطالب العلم أن يقتفي طريقتهم فيه، فيما لا يكون فيه لبس للحق بالباطل, وإلا فقد تقتضي المسألة البيان الأوضح، والتصريح الأوضح, لكن هذا بحسب قدر المسألة، وبحسب طريقة التنبيه, وربما قيل: لو أن أبا المعالي قال: إن هذا القول فيه نظر أو إنه مرجوح أو خلاف الصواب، لما أتى بإفادة علمية بقدر إفادته التي ذكرها بالطريقة الثانية، فإن البرهان في الطريقة الثانية التي كتبها هنا أبلغ من البرهان لو قال: إن هذا قول مرجوح أو لا يصح, بل قد يقال: هذا لا برهان فيه، وإنما هو حكم لم يذكر دليله.

    نصيحة لطالب العلم في كيفية التعامل مع المخطئ

    مما يحسن التنبيه له، وهو من الأدب لطالب العلم أنه إذا استدرك على غيره من أهل العلم, ومثله بين طلبة العلم والدعاة إذا استدرك بعضهم على بعض فليتلطف ولا يكن متعالياً, أو مبالغاً في الكلمات كأنها تشهير بالمخطئ, وقد يكون هو لم يفهم هذا، أو قد يكون هذا الموضوع لا يحتاج إلى هذا, إنما هي نزعة العلو، فيجب على طالب العلم أن يتجرد عنها ويكف شأنها؛ لأن العلو في الأرض ليس من صفات المؤمنين, إنما من صفات المؤمنين العلو الإيماني وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139], العلو بإيمانهم, ومن الإيمان حسن الأدب في العلم, وحسن التأتي في العلم, أما العلو في الأرض، وهو أن ينتصر ويظهر ويتميز, فليس من الشأن؛ ولذلك لم يذكر الله العلو في الأرض مدحاً إنما يذكر العلو الإيماني باسمه المعرف وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139], إنما أضيف العلو في الأرض إلى فرعون إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ [القصص:4].

    نسال الله سبحانه وتعالى لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح والهداية والسداد, وبهذا نختم هذه الدروس, جعلها الله سبحانه وتعالى خالصة لوجهه الكريم وحده لا شريك له، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وأصحابه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755951271