إسلام ويب

سلسلة كن صحابياً الصحابة والإخلاصللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو أساس قبول الأعمال عند الله عز وجل، فمن أخلص فقد نجا، ومن أشرك فقد هوى، وقد وردت نصوص كثيرة ترغب فيه وتحذر من الشرك، وهو معنى من المعاني العظيمة التي قام بها الصحابة في حياتهم، لأنهم علموا أنه الطريق الموصل إلى الله عز وجل.

    1.   

    أول الطريق الإخلاص

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فهذه هي الحلقة الرابعة من مجموعة: كن صحابياً، وقد تحدثنا في الدروس الثلاثة السابقة عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فتحدثنا في الدرس الأول عن صفة هذا الجيل العظيم، حيث أنه خير الناس وخير القرون، وتحدثنا أيضاً عن هذا الجيل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعاش معه وتحدث إليه وتعلم منه مباشرة، ثم نقل الرسالة بأمانة إلى من بعده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زلنا إلى اليوم ننعم بنقل الصحابة لهذا الدين إلينا.

    كما تحدثنا في الدرس الثاني عن موضوع بعنوان: (القابضون على الجمر)، فتحدثنا فيه عن إمكانية تقليد جيل الصحابة، لأن بعض الناس تُحبط من تقليد جيل الصحابة؛ لأنه جيل عال جداً! ونحن نقول: إن هذا الجيل جيل قدوة، فنستطيع أن نقلده، نعم الذي يقلده ويعمل بسيرته فكأنه قابض على الجمر، لكنه في المقابل كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ مثل أجر خمسين من صحابته صلى الله عليه وسلم.

    وفي الدرس الثالث تحدثنا عن صناعة الإنسان في الإسلام، وكيف كان الصحابي يتحول من إنسان ليس له أي طموح في الدنيا غير الملذات الشخصية وغير حياته الخاصة إلى إنسان يحمل هم هذا الدين على عاتقه، ويحمل هذه الدعوة إلى ربوع الأرض، وتحدثنا أيضاً عن أمثلة للصحابة الكرام وكيف أسلموا، وكيف انتقلوا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، وذكرنا أن بدايات الصحابة كانت صعبة، بل هي أصعب من بداياتنا ولا شك، لأن الصحابة كانوا يعبدون إلهاً غير الله عز وجل، ونحن بحمد الله ولدنا مسلمين، فالأب والأم عند الصحابة كانوا من الكفار، ونحن والحمد لله الآباء والأمهات من المسلمين المؤمنين، وانتقال الصحابة من الكفر إلى الإيمان اختبار صعب جداً، ونحن والحمد لله لم نتعرض إلى هذا الاختبار الصعب، فانتقالنا من عدم الالتزام بهذا الدين إلى الالتزام به لا شك أنه أسهل من انتقال الصحابة مما كانوا عليه إلى ما وصلوا إليه.

    ونحن في هذه المجموعة من المحاضرات ومنها هذه المحاضرة إن شاء الله سوف نأخذ في كل محاضرة بصفة من صفات الصحابة، أو معنى من المعاني التي مارسها الصحابة في حياتهم، وننظر كيف كانوا يفهمونه؟ وكيف تحركوا بهذا المعنى في حياتهم؟ وهو هذا الطريق الذي مشى فيه الصحابة ووصلوا فيه إلى ما وصلوا إليه من نعيم الله عز وجل في الآخرة كما قال الله عز وجل: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].

    إذاً لا بد أن نكون في هذه الدروس عمليين، فنريد أن نعرف كيف من الممكن أن نقلد جيل الصحابة، وكيف من الممكن أن نمشي في نفس الطريق الذي مشوا فيه؟

    وفي هذه المحاضرة سنحاول أن نضع أيدينا على أول الطريق الذي سار فيه الصحابة، وسنتحدث عن أهم صفة من صفات الصحابة، وهو شيء مهم جداً كان يميز جيل الصحابة، وأنا أعتبر هذا الشيء هو أهم شيء في حياة الصحابة مطلقاً، إذ لا يمكن أن يكون هناك مؤمن بغير هذا الشيء وبغير هذه الصفة، بل ولا يمكن أن يُقبل عمل بغير هذه الصفة، إذ أن هذه الصفة صفة خطيرة، هذه الصفة هي: صفة الإخلاص لله عز وجل، وأنا أعرف أن كل واحد منا سوف يقول: أنا مخلص، أو يعتقد اعتقاداً جازماً أنه مخلص تمام الإخلاص، لكن كيف كان مفهوم الصحابة عن الإخلاص؟ وكيف استوعب الصحابة هذه الصفة؟ وكيف مارسوا هذه الصفة في حياتهم؟

    وقبل أن أبدأ في وصف فهم الصحابة لصفة الإخلاص، أحب أن أذكر أن هذا الدرس من أهم الدروس وأخطرها في حياة المسلم، ولهذا نريد أن نركز ونفهم كل كلمة في الدرس؛ لأن الذي سيسقط في امتحان الإخلاص سوف يسقط في النار، والذي سينجح فيه سيدخل الجنة إن شاء تعالى.

    1.   

    بعض النصوص المحذرة من الشرك

    تأمل في قول الله تبارك وتعالى وهو يتحدث عن قضية الإخلاص فيقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزمر:65]، يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65] أي: بقية الأنبياء، لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الزمر:65] أي: في حالة عدم وجود الإخلاص، لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] فالقضية خطيرة جداً، ولذلك وجِّه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومستحيل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيشرك بالله عز وجل، لكن هذا لتعظيم الجرم، ولتقبيح الفعل، والشرك هو عكس الإخلاص، والذي يُشرك بالله عز وجل ما أخلص لله عز وجل، والإخلاص أن يكون العمل خالصاً من كل شائبة، والشوائب: هي الشركاء، فلو أنك أشركت مع الله عز وجل آخر بنسبة (25%) مثلاً، فهل تظن أنك ستأخذ (75%) من الأجر ويذهب عنك (25%)، أم أنه سيُحبط العمل جميعه بسبب نسبة بسيطة من الإشراك؟ هنا يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، وننتقل إلى الحديث الذي يفسّر هذا الموضوع، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) أي: أنه يذهب العمل كله.

    وحديث آخر يوضح هذا المعنى بصورة أكبر: فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم) أي: من أجل الغنيمة، (والرجل يُقاتل للذكر) أي: ليشتهر أمره بين الناس، (والرجل يُقاتل ليُرى مكانه)، أي: ليقال أنه شجاع، (فمن قاتل في سبيل الله؟) أي: أن الأعرابي يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن هؤلاء الثلاثة، هل هم من المقاتلين في سبيل الله أم لا؟ فأعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عن جميع هؤلاء الثلاثة، حتى أنه لم يناقش هذه القضية، ثم قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) سواء هؤلاء الثلاثة السابقين أو غيرهم، فكل هذا ليس في ميزان الله عز وجل وليس في سبيله، وكل هذا إشراك وليس من الإخلاص لله عز وجل، وشيء واحد فقط هو الذي يجعله في سبيل الله، ألا وهو: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، والمغنم ليس حراماً، بل إن الله عز وجل شرع في كتابه أن الغنيمة توزع أربعة أخماسها على الجيش، والذكر للخير ليس حراماً، وصفة الشجاعة ليست حراماً، لكن هذا للعبد وهذا للنفس، هذا حظ النفس وليس لله عز وجل، أي: أنك تُقاتل من أجل هذه الأشياء لنفسك وستأخذها في الدنيا، فلا يُحسب عند الله عز وجل، لكن الذي يُقاتل ليرفع كلمة الله عز وجل في الأرض فهو المقاتل في سبيل الله.

    وهناك حديث آخر وهو أخطر من الحديث السابق، يوضح المعنى بشكل أوضح وأكبر: روى النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر) فهو خرج في سبيل الله عز وجل يريد الأجر منه، لكن إلى جانب هذا الخروج هو يلتمس الذكر أيضاً، أي: لأجل أن يذكروه ويقولوا: فلان قد قاتل وحارب وانتصر وما إلى ذلك من صفات المجاهدين، فهو يريد شيئين: يريد الأجر، ويريد الذكر، ثم قال: (ما له؟) أي: أن الرجل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عما لهذا الرجل من الأجر، أي: ما مقدار أجره عند الله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم كلمة في منتهى الخطورة: (لا شيء)، أي: أنه ليس له من الأجر شيء، فأعادها الرجل مستغرباً على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً: (ما له يا رسول الله؟ ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه في كل مرة: لا شيء، لا شيء) ثم قال صلى الله عليه وسلم ليوضح له الصورة: (إن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه).

    كذلك حديث آخر من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه معنى عميق جداً، وأعتقد أننا قد ذكرنا هذا الحديث وتحدثنا عنه في موضوع: (كيفية حفظ القرآن الكريم)، لكن: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فلا بأس بأن نعيده مرة أخرى.

    روى مسلم والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد) أي: أول رجل يحكم الله عليه يوم القيامة: رجل استشهد (فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها) أي: أنه يقول له: أعطيتك كذا وكذا من النعم العظيمة والكثيرة التي لا تُحصى، ثم يقول الله عز وجل له: (ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت) أي: أن أرفع الأعمال عند الله عز وجل وذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، (قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل) فهذا الرجل كان يُقاتل للذكر، وكان يقاتل من أجل أن يشتهر بين الناس بأنه مقاتل جريء وشجاع، وقوله: (فقد قيل)، أي: أن الناس قد قالت الذي أردت، (ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار) فهذا أولهم.

    الرجل الثاني الذي يُقضى عليه يوم القيامة: (ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت القرآن فيك، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل)، أي: أنك لم تكن تعمل لله سبحانه وتعالى، بل كنت تعمل للناس حتى تقول عنك أنك عالم وقارئ، وقد قالت الناس عنك هذا، (ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار).

    والرجل الثالث: (ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأُتي به فعرّفه نعمه فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تُحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك، فقال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقي في النار).

    ولذا لا بد أن نقف وقفة مع هذا الحديث الخطير، لأنه كان من الممكن أن الله سبحانه وتعالى يسعّر جهنم أول ما تُسعّر بزان أو قاتل أو مرتكب لكبيرة من الكبائر، أو لمعصية عظيمة من المعاصي! لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يسعّرها أولاً بهؤلاء، لإثبات أن عملهم الذي أشركوا فيه غير الله عز وجل قد أُحبط تماماً، وكأنهم لم يعملوا، وكل هذا من أجل تعظيم قدر الإخلاص لله عز وجل، ولذلك فإن الصحابة قد فهموا هذه النقطة جيداً؛ ولهذا عاشوا حياتهم كلها لله عز وجل، وعاشوا حياتهم بكاملها مخلصين لله عز وجل.

    وعليه فعندما نعرف هذه الآيات والأحاديث، ونعرف فهم الصحابة لهذه الآيات والأحاديث نستطيع أن نفهم مواقف غريبة جداً في حياة الصحابة.

    1.   

    مواقف من الإخلاص في حياة الصحابة

    الموقف الأول

    الموقف الأول: روى النسائي عن شداد بن الهاد رضي الله عنه أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه)، وهو رجل من الأعراب، (ثم قال: أُهاجر معك)، وهنا نتعلم الإخلاص من هذا الأعرابي البسيط الذي أسلم قريباً، من هذا الرجل الذي أصبح صحابياً وحقق شروط الصحابي كما ذكرناها، وقد قلنا: إن الصحابي هو الرجل الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ورآه أو اجتمع به ومات على هذا الإيمان، وهذا الصحابي رضي الله عنه عند إسلامه أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه ليعلموه الدين فعلّموه، ثم جاءت غزوة مباشرة بعد هذا التعليم البسيط لأمور الدين، وغنم النبي صلى الله عليه وسلم سبياً -هو النساء- فقسمه بين أصحابه، وجعل لهذا الصحابي قسماً، وقال لأصحابه: عندما يأتي هذا الرجل أعطوا له قسمه، ثم جاء الرجل فدفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يقسم، أي: أن هذا حلال خالص، وأيضاً هناك ميل فطري لهذا السبي، ومع ذلك لنتأمل ما كان رد هذا الصحابي الأعرابي البسيط الذي أسلم منذ أيام قليلة؟ فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا؟)، قد يظن من يقرأ هذا الحديث أنه مستقل لهذا العطاء، (قال الرسول صلى الله عليه وسلم: قسمته لك، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا)، وأشار إلى مكان في الحلق، وهو مكان مميت لو ضُرب فيه بسهم لقُتل لا محالة، (ولكني اتبعتك على أن أُرمى إلى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة)، وهنا نقف وقفة مع فعل هذا الصحابي الذي قد يستغربه البعض، بل وقد يعتقدون أن هذه مبالغة، وهي فعلاً مبالغة لكنها مبالغة في الخير، فالصحابي هذا مع أن عمره في الإسلام قليل جداً، لكن كان فهمه عميقاً جداً، ورؤيته واضحة جداً، والجنة قد كبرت في عينيه، والجهاد عنده يساوي الدنيا كلها، فهو يخاف أن يأخذ شيئاً يشغله عن الجهاد، ومن ناحية أخرى هو يخاف أن تتغير نيته، وعند ذلك سوف يبتدئ عملاً جديداً بنية خالصة لله عز وجل، وبعد أن يكثر المال أو يجد منفعته من هذا العمل تتغير نيته، كالذي ينشئ مدرسة -مثلاً- بنية أن هذا مشروع تربوي إسلامي، وسيفيد به الأمة الإسلامية جميعها، وبعد أن يبدأ المال بالكثرة يغير في نيته، ويبدأ يجعل الدنيا هي همه، ويرفع من أسعار المدرسة، ويعمل رحلات بأسعار عالية ليكسب من ورائها، ويغيّر لبس المدرسة كل سنة ليضطر أولياء الأمور لأن يشتروا الزي المدرسي كل سنة، ويكثِّر عدد الطلبة في كل فصل، أي: فبعد أن كان الفصل فيه عشرين أو خمسة وعشرين طالباً لدوافع تربوية، صار في الفصل خمسون طالباً وأكثر من أجل تكثير المال؛ لأنه يعرف أن الأبعاد التربوية التي كان يرجوها لا يستطيع أن يعملها في ظل هذا العدد الكبير من الطلاب، إذاً تغيرت النية هنا.

    فالصحابي الأعرابي البسيط لم يكن يريد أن يدخل في هذه التجربة، لأنه يريد أن يعيش حياة مخلصة لله عز وجل وإن قصرت، ولهذا رفض المغنم الحلال، وقرر أن يعمل لله عز وجل بدون أجر، هذا وإن لم يكن فرضاً فهو من فضائل الأعمال، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يُنكر عليه ذلك، ولم يقل: إن هذا تشدد منك، بل قال: (إن تصدق الله يصدقك) أي: لو أنت صادق في نيتك فإن الله سيحقق لك كل الذي تريده، ولهذا يجب على كل واحد منا أن يكون له أعمالُ خيرٍ كثيرة لا يأخذ عليها أجراً من أحد، وذلك ليثبت إخلاص نيته لله عز وجل، كالمدرس يمكن أن يُدرس من غير فلوس للناس المحتاجين، وكذلك الطبيب يمكن أن يعالج من غير فلوس للناس المحتاجين، وأيضاً المحامي يمكن أن يترافع عن مظلوم محتاج من غير فلوس؛ لأنه محامي يعمل لله عز وجل، وهذا ليس فرضاً ولكنها وسيلة لإثبات الإخلاص لله عز وجل.

    هنا قد يأتي سائل ويسأل فيقول: ما هي الوسيلة التي من الممكن أن تعرف أنك مخلص تماماً لله عز وجل في عملك؟ كلنا نقول: إننا مخلصون، لكن أحياناً قد يكون هناك أجر على العمل، فيا ترى إذا كل واحد منا أخذ أجراً على العمل ليس مخلصاً؟ لا، فالصحابة كانوا يأخذون أجراً على عملهم، فقد أخذوا في هذه الغزوة السبي، وهو من الأجر على عملهم، ومع ذلك فإخلاصهم عالي جداً، والمقياس الحقيقي لتعرف إخلاصك من عدمه هو: أنك تعمل العمل بغض النظر أخذت أو لم تأخذ، أما إذا ربطت عملك بالأجر فهذا يدل على ضعف الإخلاص أو غيابه أصلاً.

    نرجع مرة أخرى لقصة الصحابي الأعرابي، قال الصحابي: أنا لا أريد أن آخذ من السبي شيئاً، فأنا لم أدخل في الإسلام إلا لأُقتل في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، قال راوي الحديث شداد بن الهاد رضي الله عنه وأرضاه: (فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم يُحمل) أي: أتوا به شهيداً رضي الله عنه، (قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أهو هو؟)، فاستغرب النبي صلى الله عليه وسلم من أن السهم أتى له في نفس المكان الذي أشار إليه، (قالوا: نعم، قال: صدق الله فصدقه)، هذا هو الإخلاص، (ثم كفّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبّته، ثم قدّمه فصلى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقُتل شهيداً، وأنا شهيد على ذلك)، فيا ترى هل هناك مكافأة أفضل من هذا؟ ثم ما أدراك لعلك تعمل عملاً خالصاً لله عز وجل وتكون النهاية في هذا العمل، فتموت على هذا الإخلاص، فيكون هذا العمل هو سبب سعادتك في الدنيا والآخرة.

    الموقف الثاني

    الموقف الثاني: لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يعتق العبيد في بداية الدعوة، فقد كان يشتري العبيد بكثرة ويدفع أموالاً كبيرة لذلك، وكان رضي الله عنه يشتري العبيد الضعفاء والفقراء، من الرجال ومن النساء على السواء، فقال له أبوه أبو قحافة وكان لا يزال مشركاً: يا بني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك أعتقت رجالاً أشداء يمنعونك، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: يا أبت إنما أبتغي وجه الله عز وجل، أي: أنا لا أريد غير رضا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإخلاص، فأنزل الله عز وجل قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى [الليل:17]، وهذه من أعظم مناقب الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأن الله عز وجل يشهد له بأنه الأتقى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى [الليل:18-20] أي: لا يريد غير رضا الله سبحانه وتعالى فقط، وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21] وهذه هي نتيجة الإخلاص أن يرضى الله عنه.

    1.   

    كيفية الإخلاص

    وهنا من الممكن أن يقول أحدهم: والله إن هذا الكلام سهل، لكن التطبيق صعب بل عسير، فأقول له: صدقت، فهو شيء صعب فعلاً، وأحد التابعين كان يقول: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي. أي: أكثر شيء صعب عليَّ النية والإخلاص، لكن لا بد أن تكون هناك طريقة لزرع الإخلاص، فالله سبحانه وتعالى لم يطلب منا شيئاً إلا وهو يعلم أنا نقدر على فعله، فمن الممكن أن يقول شخص: قل لي طريقة عملية إذا فعلتها زرعت الإخلاص في قلبي، سأقول له: أعط لله قدره تخلص له، فأبرز هذه العبارة واجعلها دائماً صورة في خيالك، لأننا إذا عرفنا قدر الله عز وجل فليس من الممكن أن نشتغل بغيره، يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] فهذا المرض: أن الناس لم يعطوا لله عز وجل قدره، وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وهذه بعض علامات قدرة الله عز وجل، وهذا الذي يمكن أن نفعله: تعظيم وتقدير وإجلال لله عز وجل، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] فالذين لم يعطوا لله عز وجل قدره فقد أشركوا معه، لأن الشرك لا يأتي إلا عندما لا يعطي العبد لله عز وجل قدره، لكن عندما عرف الصحابة هذا القدر لله عز وجل أخلصوا في أعمالهم، ولذلك علموا أن مَنْ يعطي لله قدره ويعمل لإرضاء غيره أنه نوع من السفه والحماقة.

    1.   

    كيفية إعطاء الله عز وجل قدره

    هنا سؤال: كيف يمكن أن نعطي لله عز وجل قدره؟

    الجواب: أكثر من النظر والتدبر في كتاب الله عز وجل المقروء والمنظور.

    النظر في الكتاب المقروء

    الكتاب المقروء هو القرآن الكريم، واقرأ أي سورة أو أي آية لا بد أنك ستعطي لله قدره، لكن مع التدبر والتأمل في كل آية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يقوم الليل كله بآية واحدة، فقد قام ليلة كاملة بقوله سبحانه وتعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فلو فكرت في هذه الآية فليس من الممكن أن تعمل لغير الله سبحانه وتعالى، لأن كل شيء بيده، فكيف ستعمل لغيره؟ الرزق بيده سبحانه وتعالى، وقلوب العباد بيده سبحانه وتعالى، والمقادير كلها بيده سبحانه وتعالى، والحياة بيده، والموت بيده، والجنة بيده، والنار بيده، ولن تجد أحداً سوف يحاسبك يوم القيامة غير الله، فكيف تعمل لغيره سبحانه وتعالى؟! فهو الأول وهو الآخر، وهو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو المبدئ وهو المعيد، وهو الملك الذي يملك كل شيء، وأي ملك من ملوك الأرض فملكه نسبي غير مطلق، وإن كان يطلق عليه لقب: (ملك) لكن نهاية المطاف الآخر هو ملك نسبي، فقد يملك أشياء ولا يملك أشياء أخرى، وقد يعتريه الفقر والمرض والضعف والحزن، وسيعتريه الموت لا محالة، فلا يستطيع أن يملك سعادة الناس ولا حب الناس ولا أعمار الناس ولا أرزاق الناس، فهو ملك بسيط حقير تافه، ولا بد أن يترك ملكه أو أن ملكه سيتركه، لكن الله سبحانه وتعالى ملكه مطلق، فكيف تعمل لغيره؟! واقرأ مثلاً في كتاب الله عز وجل: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:13-14] هذا هو الإخلاص، وتسألني أأتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى؟ كيف؟ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] هذا هو سبب الإخلاص، فأي شيء غيره يُطعِم ولا يُطعَم، سواء رئيس المصلحة أو مدير المدرسة أو الملك أو السلطان أو الشرطي أو غير ذلك، فلا أحد يُطعِم ولا يُطعَم غير الله عز وجل، ثم قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14] فالذي يشرك بالله عز وجل هو الذي يتخذ ولياً غير الله عز وجل، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] وهذا سبب ثاني للإخلاص، وكل الناس تملك أشياء بسيطة في الدنيا، لكن لا تملك شيئاً مطلقاً في الآخرة، فالله عز وجل يملك الآخرة بكاملها، ثم اسمع لكلام ربنا وهو يقول: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:16-17] وهذا سبب ثالث للإخلاص، فلن ينفعك أحدٌ غيره، وما دام أنه يُطعِم ولا يُطعَم إذاً فالرزق كله أتى من عنده، وهو يملك يوم القيامة ولا أحد من البشر أو الخلق يملك هذا اليوم إلا هو سبحانه، ورابعاً أنه هو الذي ينفع ويضر سبحانه وتعالى، وخامساً: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، حتى وإن لم يكن بإرادتك فسوف يكون غصباً عنك، فهو القاهر فوق عباده، وأنت تريد أن تُخلص أو لا تُخلص فالذي يريده سبحانه وتعالى سوف يكون، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، ثم كيف من الممكن أن تقرأ مثل هذا الكلام في كتاب ربنا سبحانه وتعالى ولا تُخلص لله عز وجل؟! واقرأ أيضاً: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:26-27] فلو تقف لحظة وتتخيل جميع أشجار الأرض، بغاباتها وجبالها وسهولها التي سمعت عنها في أمريكا وفي أوروبا وفي مصر وفي غيرها من البقاع، ثم تخيل أن كل هذه الأشجار أقلام وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27] أي: أن البحر عبارة عن مداد ليكتب آيات الله عز وجل، فالشجر أقلام والبحر مداد، ومع ذلك: مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27]، أي: ما نفدت آيات الله عز وجل في الأرض، ثم يقول الله عز وجل: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28]، فليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه وتعالى، فخلق البشر جميعاً كخلق إنسان واحد، وليس هناك شيء سهل أو صعب عند الله عز وجل، وكل قوله إنما هو: كن، فيكون، ثم قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان:29] وهذه آية تراها كل يوم، ولأنك تراها كل يوم فالكون كله يمشي بنظام معين، ولو الأرض غيّرت من سرعتها بدرجة بسيطة جداً، أو الشمس غيّرت من سرعتها بدرجة بسيطة جداً، لن ترى الليل في وقته ولن ترى النهار في وقته، لكن هذا لن يحصل، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان:29-30].

    فاقرأ القرآن بتدبر، وقف عند كل كلمة وكل آية، واقرأ كلام ربنا سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سبأ:22] يخاطب أولئك الذين لا يعملون لله عز وجل، أولئك الذين يقولون: أنا عبد الرئيس أو المدير، فيمارسون المنكر والظلم والخطأ؛ لأن هناك من البشر من أمرهم بذلك، وبعد ذلك بدأ سبحانه يعدد أموراً تدل على ضعف هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله عز وجل، فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:22]، هذا أول شيء، وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ [سبأ:22] يعني: لا يُشركون في حكم أي جزء في السماوات ولا في الأرض، وهذا ثاني شيء، ثم قال سبحانه: وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] أي: ليس هناك مساعد ولا معين يساعد ربنا سبحانه وتعالى في حكمه للسماوات والأرض، وهذا ثالث شيء، وأما الشيء الرابع فهو قوله تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23] أي: حتى وإن كانوا لا يحكمون ولا يملكون ولا يساعدون في الحكم فكذلك لا يستطيعون الشفاعة يوم القيامة، فهم لا يملكون شيئاً في المقدمة ولا في المؤخرة، ولا يملكون شيئاً في الدنيا، ولا في الآخرة، إذاً فلماذا يُعمل لهم؟! وبعد ذلك تمر الآيات وراء الآيات ويأتي في الأخير فيقول: قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سبأ:27].

    ثم اقرأ مثلاً قول الله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] ولك أن تتخيل الكرسي الذي وسع السماوات والأرض، فقد روى البيهقي وابن كثير وقالا: صحيح، عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده)، وتأمل في كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، (ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة)، أي: هذه السماوات السبع -كل الكون الذي نراه لم يصل إلى السماء الدنيا- والأرضون السبع بالنسبة للكرسي كحلقة حديد ملقاة في صحراء واسعة، فكيف بعرش الرحمن سبحانه وتعالى! ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة) أي: أن العرش بالنسبة للكرسي كالصحراء بالنسبة للحلقة الصغيرة الملقاة، فكل السماوات وكل الأرض لا تساوي شيئاً بالنسبة لكرسي الله عز وجل، إذاً فكيف من الممكن بعد أن تعرف كل هذا لا تبقى مخلصاً لله سبحانه وتعالى؟ وكيف يمكن أن تطلب من غيره ولا تطلب منه؟ وكيف يمكن أن تخاف من غيره ولا تخاف منه؟ وكيف يمكن أن تتوكل على غيره ولا تتوكل عليه؟ وكيف يمكن أن تلجأ إلى غيره ولا تلجأ إليه؟

    الخلاصة: أنه إلى الآن قد ذكرنا سبع أو ثمان آيات، وتأمل وتخيل كم سنبقى مخلصين لله عز وجل لو قرأنا كتاب الله كله بتدبر وبفهم وبوعي؟ ويكفي أن تفكر فقط في أن هذا الكلام هو كلام الله عز وجل، وهو رسالة من الله عز وجل إليك، واهتمامك بقراءة الرسالة بتدبر وتفهم يعني: تعظيمٌ وتقديرٌ للذي أرسل إليك هذه الرسالة، وبالتالي لنبحثَ عن الإخلاص لا بد أن نقرأ الرسالة التي تأتينا من ربنا سبحانه وتعالى بتأمل وتدبر وتفكر، وهذا هو الكتاب الأول، أعني: الكتاب المقروء.

    النظر في الكتاب المنظور

    الكتاب الثاني هو كتاب الله المنظور، أي: الكون والخلق، فتفكر في خلق السماوات والأرض، وتأمل قول الله عز وجل: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] فهذا الكون فسيح جداً لدرجة يتوه العقل فيه تماماً، وليس من الممكن أن تتخيله، فلو أن هناك طائرة خيالية تسير بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة!! فكم من الوقت تحتاج للسير في أرجاء الكون؟ قد تحتاج إلى ألف مليون سنة، وفي الأخير أيضاً لا تستطيع، لماذا؟ لأن الكون يتمدد ويتوسع كما قال الله عز وجل: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، ولو تأملنا في بعد الشمس عن الأرض، فإن البُعد بينهما يساوي مائة وخمسين مليون كيلو متر، والأرض تدور في محورها بسرعة ألف وستمائة كيلو متر في الساعة، والدائرة التي تدور فيها الأرض قطرها ثلاثمائة مليون كيلو متر، فتخيل الرقم ثلاثمائة مليون كيلو متر وتكمل الدورة في سنة كاملة، وكذلك إذا كانت الأرض مع ثمانية كواكب أخرى مع الشمس في المجموعة الشمسية، أي: أن المجموعة الشمسية كما تعلمون تسعة كواكب، وأبعدها هو كوكب بلوتو، فإنه يدور في دائرة قطرها اثنا عشر ألف مليون كيلو متر وكل هذه المجموعة الشمسية فقط، والشمس نفسها ليست ثابتة، فهي تدور في فلك ومعها كل الكواكب التي حولها ومن ضمنها الأرض، وسرعة دوران الشمس تسعمائة وستون ألف كيلو متر في الساعة، والشمس هذه هي أحد الشموس في مجرة هائلة اسمها مجرة درب التبانة، وهناك شموس أخرى تحيط بها كواكب، وحجمها كالأرض وأكبر وأصغر، وعدد الشموس في مجرة درب التبانة أربعمائة ألف مليون شمس كشمسنا في مجرة درب التبانة، والكون كله ليس مجرة درب التبانة فقط! فهذه المجرة هي إحدى المجرات الهائلة في الكون، والمجرات في الكون تبلغ مائتين ألف مليون مجرة كمجرة درب التبانة، وارجع وراجع هذه المعلومات، وانظر إلى هذه الأرقام، فإنها جزء من ملكوت ربنا سبحانه وتعالى، فهذا هو جزء الكون الذي نحن رأيناه بالتليسكوبات، وكلما نخترع تليسكوباً أكبر كلما نرى أكثر، وكل هذه المليارات من النجوم والكواكب تدور في الكون دون تصادم، والعجيب أن بعض المجرات تدخل في مجرات أخرى بكاملها دون أن تصطدم، فانظر إلى عظمة هذا الكون، صنع من هذا إنه صنع الله عز وجل، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [لقمان:11]، إذاً: فكيف يعرف الواحد منا جميع هذه المعلومات والحقائق ولا يعبد ربه سبحانه وتعالى حق العبادة؟ وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ولا يعمل لله عز وجل! وكيف من الممكن أن يعرف كل هذا ويعمل لغيره، أو يشرك به أحداً أو شيئاً؟! مستحيل ذلك.

    هذه كانت أكبر شيء في الكون: السماوات، ولنأت لنتدبر أشياء صغيرة جداً في الكون وهي الذرة، هذا الشيء الصغير الذي لا نستطيع بالمناظير الكبيرة جداً التي تكبر ملايين المرات أن نراه، هذه الذرة العجيبة تحتوي على نفس نظام الكواكب السيارة المحيطة بالشمس، ونفس نظام النجوم الدائرة في المجرة، وهذا يثبت أن خالق هذا الكون هو خالق واحد، لأن كل الكون فيه أشياء متشابهة جداً، وهذه الذرة الدقيقة جداً تحتوي على إلكترونات تدور حول البروتونات، كما تدور الأرض والكواكب حول الشمس، فيا ترى ما هو حجم الإلكترون في الذرة؟ وما هي نسبة حجم الإلكترون إلى حجم الذرة؟ الإلكترون واحد على ألف مليون من حجم الذرة، والإلكترون يدور حول البروتون بلايين المرات في الثانية الواحدة، والإلكترون أكثر من الذرة بكثير جداً، ولهذا نستطيع أن نفهم كلام ربنا سبحانه وتعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3]، والعلماء السابقون كانوا يعتقدون أن هذه صيغة مبالغة، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ [سبأ:3]، لأنه في اعتقادهم أنه لا يوجد شيء أصغر من الذرة، لكن هذا العلم الذي منَّ الله به علينا أثبت أن الإلكترون أصغر من الذرة بألف مليون مرة، ولا نعرف ما الذي سيأتي غداً، وأنا متأكد أنا سنجد بعد هذا أن الإلكترون هذا الجسيم الصغير جداً أمام الذرة، داخله عالم كبير من الأحداث نحن لا نزال لم نعرفها، وغداً سنعرفها.

    ولو أتينا للتفكر في أنفسنا وفي أجسامنا لرأينا العجب، قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فالإنسان قد ينبهر بنظام الاتصالات في العصر الحديث، من تليفونات ونت وأقمار صناعية وأشياء كثيرة غيرها، لكن لو نظرت إلى داخلك وإلى نظامك العصبي -نظام الاتصالات بداخلك- لوجدت أن النظام العصبي في الإنسان يضم ألف مليون خلية عصبية، وهذا في الطفل والشاب والشيخ الكبير، فهذا هو نظام الاتصالات الرهيب الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بداخلك، ومن كل خلية تخرج أسلاك تنتشر في أنحاء الجسم المختلفة، لتتحكم في كل وظائف الجسم، فهناك خلايا تذهب إلى الرئة، وخلايا تذهب إلى العين، والقلب وهكذا، فتذهب لكل عضو في الجسم، والأخبار تمشي في هذه الأسلاك بسرعة أكبر من مائة كيلو متر في الساعة، وعندما تريد التذوق عندك عشرة آلاف شعيرة في لسانك لتتذوق، وعندما تريد السمع عندك في كل أذن عشرة آلاف خلية سمعية، وعندما تريد النظر عندك في كل عين مائة وثلاثون مليون خلية ملتقطة للضوء لترى جيداً، ولو كنت لديك حرارة فعندك ثلاثة مليون غدة عرقية تفرز لك عرقاً بارداً لتلطيف حرارة الجسم، وإذا كنت تشعر ببرودة فعندك ربع مليون خلية تلتقط الأشياء الباردة فتبعثها للمخ فيبعث أوامره بتوسيع الشرايين ليكثر الدم والحرارة في الجسم، وهذا جزء من الجهاز العصبي، وهناك الجهاز الهضمي والبولي والتنفسي والدوري وغيرها من الأجهزة، عالم ليس له نهاية، وكل هذا داخل جسمك، وصدق الله إذ يقول: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53] فهذا هو ربنا، وهذا هو الإله الذي نعبده، وهذا هو الإله الذي يجب أن نُخلص له، كيف نطلب رضا غيره بسخطه؟ وكيف نخشى غيره؟ إن هؤلاء المتكبرين المتجبرين الظالمين ما هم إلا أجسام بسيطة جداً لا تُرى على وجه الأرض فقط، فكيف إذا تخيلت الكون الفسيح؟! وكيف يخشى المؤمن رجلاً يعلم أنه خُلق لفترة مؤقتة ثم حتماً سيموت؟ وكيف لا يخشى المؤمن الله الحي الذي لا يموت؟ وكيف يحب المؤمن أحداً ينهاه أن يسير في طريق هذا الإله العظيم الجليل القدير سبحانه وتعالى؟ هذا هو ربنا الذي من المفروض أن نخلص له في أعمالنا كلها، وهذا هو ربنا الذي من المفروض أن نعبده، وما أسهل أن يفني الله الخلق أجمعين، فهناك أناس كثيرون مغرورون يعتقدون أنهم ملكوا شيئاً، فإذا بهم يناطحون الله عز وجل في ملكه ويحاربونه في شرعه، ويعذّبون أولياءه، ويتقربون إلى أعدائه، فإليهم أهدي قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:19-20].

    يا أهل الأرض أجمعين، والله لو زادت الكرة الأرضية من سرعتها قليلاً لقُذف الخلق كلهم أجمعون من فوق سطحها، ولقُذفت معهم أبنيتهم وأدواتهم وأسلحتهم وكل ما يملكون، ولكنه سبحانه وتعالى يؤخرهم إلى أجل مسمى، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].

    الصحابة رضوان الله عليهم عرفوا قدر الله عز وجل، عرفوا قدر الله بمعطيات أقل بكثير من المعطيات التي معنا، فلم يكن معهم كل هذه العلوم التي تُعطي كل هذه التفاصيل، لكن أي تفكّر -ولو كان بسيطاً- في خلق الله عز وجل فإنه يقود إلى الإيمان به والإخلاص له، واستمع إلى كلام الله عز وجل في كتابه: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] فانظر إلى الشكل الخارجي للإبل من غير أن تعرف التفاصيل الداخلية من الجهاز التنفسي والدوري والهضمي والبولي وغيرها من التفاصيل التي قلناها، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:18] بدون الدخول في تفاصيل الأرض وحجمها، والسماوات وحجمها، والشمس وحجمها، والمجرات وحجمها، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:19-20] فهذه آيات معجزة، لكن نحن قد تعودنا على هذه الآيات، وهذا التعود لا يمنع هذا الإعجاز الرهيب في هذه الأشياء إن تدبرت فيها على ضحالة العلوم، فإنك لا شك ستُعظّم الله عز وجل الذي خلق هذه الأشياء، فما بالك لو تبحّر الناس في علومهم؟ لذا كان التفكر في غاية الأهمية لتثبيت الإخلاص في نفس المؤمن، ولذلك لما سألوا أم الدرداء رضي الله عنها وأرضاها فقالوا لها: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء ؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر، ثم قيل لـأبي الدرداء : أفترى التفكر عملاً من الأعمال؟ قال: نعم، هو اليقين بالله عز وجل، فإذا تفكرت في خلق الله عز وجل لا شك أنك ستخلص له، ولذلك كان الحسن البصري رحمه الله يقول: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقد رأيتم الأعرابي الذي عرف وجود ربنا سبحانه وتعالى بمعلومات بسيطة جداً ألا وهي قوله: البعرة تدل على البعير، أي: أنك لو رأيت روث بعير تأكد لديك أن هناك بعيراً قد مر من هنا، والأثر يدل على المسير، أي: أثر الأقدام يدل على أنه قد مشى أحد من هنا، فسماء ذات أفلاك، وأرض ذات فجاج، أفلا تدلان على العليم الخبير؟ فانظروا إلى هذا الأعرابي كيف استطاع بمعلومات بسيطة جداً أن يعرف ربه سبحانه وتعالى، فما بالك بالذي يعرف كل هذه المعلومات التي ذكرنا منها طرفاً قليلاً!!

    إن الصحابة عندما فقهوا قدر الله عز وجل عن طريق القراءة في كتابي الله عز وجل المقروء والمنظور استصغروا كل ما هو دون الله عز وجل، فعملوا لله عز وجل ولم يعملوا لغيره، وخافوا منه ولم يخافوا من غيره، واعتصموا به ولم يعتصموا بغيره، والكلام هذا يفسّر لنا مواقف كثيرة جداً في حياة الصحابة تتعجب لها كثيراً.

    ولننظر مثلاً في موقف عبد الله بن حذافة رضي الله عنه أمام هرقل ، وذلك عندما وقع أسيراً في يد الروم سنة تسع عشرة للهجرة، وهرقل هذا كان قد سمع كثيراً جداً عن ثبات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع عن عزوفهم عن الدنيا، وسمع عن استهانتهم بكل قوى الأرض، سواء الفرس أو الرومان أو غيرهم، فأراد أن يختبر هذا الأمر بنفسه وأن يعرف طبيعة هؤلاء الناس الذين هزموا جميع جيوش الأرض بهذه الصورة الغريبة جداً، فبدأ يسأل عبد الله بن حذافة بعض الأسئلة، فقال له: إني أعرض عليك أمراً، فقال عبد الله : وما هو؟ فقال هرقل : أعرض عليك أن تتنصر، والثمن أن أخلي سبيلك وأكرم مثواك، فقال عبد الله -وانظر إلى الثبات والإخلاص لله سبحانه وتعالى-: هيهات! إن الموت لأحب إليّ ألف مرة مما تدعوني إليه، فلم ييأس هرقل وقال له: إني لأراك رجلاً شهماً، فإن أجبتني إلى ما أعرضه عليك -أي: النصرانية- أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني، أي: سأعطيك نصف الإمبراطورية الرومانية، وانظروا إلى هذا العرض الرهيب جداً، وتأملوا في الذين يبيعون دينهم بأشياء تافهة حقيرة لا تساوي واحداً على ألف مليون من الذي عُرض على عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فرد عليه وهو يبتسم ساخراً منه: والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت، أي: ولو حتى لحظة بسيطة، ثم بعدها أرجع إلى الإسلام مرة أخرى، ثم بدأ هرقل باستخدام السلاح الأخير عنده وقال: إذاً أقتلك، فقال عبد الله بمنتهى البساطة: أنت وما تريد، فأمر به هرقل فصُلب، ثم أمر الرامي أن يرمي جوار يديه ورجليه حتى لا يقتلوه، وهذا نوع من الإرهاب، فهو لا يريد له الموت، بل يريد أن يكسر إرادته وأن يكسر إخلاصه لله عز وجل، وكل ذلك وهو يعرض عليه النصرانية وهو يرفض ويقول لهم: أنتم وما تريدون، فلا يمكن أن أرجع عن دين الإسلام، ثم انتقل هرقل إلى خطة إرهابية أعظم من هذا أيضاً، فطلب قدراً كبيراً ثم صب فيها الزيت ورُفعت على النار حتى أخذ الزيت في الغليان وأتى باثنين من أسارى المسلمين أمام عبد الله بن حذافة ورمى أحدهما في الزيت المغلي، وعبد الله بن حذافة رضي الله عنه يرى هذه الأحداث، يقول: فإذا بعظامه عارية وقد تساقط لحم جسمه، ثم عرض هرقل على عبد الله بن حذافة النصرانية من جديد، وعبد الله رضي الله عنه أشد لها رفضاً، وعندما يأس هرقل من عبد الله بن حذافة أمر رجاله أن يلقوه في القدر المملوء بالزيت المغلي، فلما ذهبوا بـعبد الله بن حذافة دمعت عيناه، ففرح رجال هرقل وقالوا: إنه قد بكى، أي: أنه قد بدأ يتأثر، فظن هرقل أنه قد جزع من الموت، فقال هرقل : ردوه إليّ، فلما جاءه عرض عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، فقال هرقل : ويحك فما الذي أبكاك إذاً؟ فقال عبد الله : أبكاني أني قلت في نفسي -واستمع إلى كلام عبد الله بن حذافة وهو يتكلم مع هرقل ملك الروم- تلقى الآن في هذه القدر فتذهب نفسك، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس، فتُلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله، أي: أنه يريد أن يموت أكثر من مرة في سبيل الله عز وجل، فانظروا إلى هذا الإخلاص في سبيل الله سبحانه وتعالى، فهو رضي الله عنه لا يرى هرقل أبداً، لكنه يرى عمله لربنا سبحانه وتعالى، فأُحبط هرقل تماماً، ثم عرض على عبد الله بن حذافة عرضاً جديداً، وهذا العرض يبين مدى الإحباط الذي عند هرقل ملك الروم، قال: هل لك أن تُقبّل رأسي وأخلي عنك؟ فقال عبد الله بن حذافة : وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً؟ أي: أنه سوف يقبّل رأسه بشرط أن يفك عن جميع أسرى المسلمين، فقال هرقل : وعن جميع أسارى المسلمين أيضاً، فقال عبد الله في نفسه: عدو من أعداء الله أقبّل رأسه فيخلي عني وعن أسارى المسلمين جميعاً لا ضير في ذلك عليّ، فقمت فقبّلت رأسه، فأطلق هرقل عبد الله بن حذافة وأطلق معه جميع أسارى المسلمين، وعندما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذه القصة سُر أعظم السرور وقال: حق على كل مسلم أن يقبِّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ بذلك، وقام أمير المؤمنين بنفسه يقبّل رأس عبد الله بن حذافة .

    ففي هذا الموقف رأينا أن عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فقه قدر الله عز وجل وجلاله، فلم ير هرقل إلى جوار الله عز وجل، ولم يهتم بجيوش هرقل ، ولا قناصة هرقل ، ولا وزراء هرقل ، ولا أمراء هرقل ، ولا سهام هرقل ، ولا الزيت المغلي عند هرقل ، وكل هذه الأشياء لم ينظر إليها، وبيت القصيد أن تعرف لله قدره، فإن عرفت ذلك لن تشرك بالله شيئاً، وهكذا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفوا قدر الله عز وجل فأخلصوا له ولم يطلبوا إلا منه، ولم يرجوا إلا إياه، ولم يعتمدوا إلا عليه، ولم يلجئوا إلا إليه، وهكذا وحدوا الله عز وجل التوحيد الكامل، وأخلصوا له الإخلاص الصادق، فوصلوا إلى الإخلاص الذي هو طريق مهم جداً من طرق الوصول إلى الله عز وجل.

    نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بمعالم الطريق المستقيم، وأن يطهّر نوايانا من أي شائبة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يعظّم قدره في قلوبنا، حتى لا نرى أحداً سواه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991333