إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [15]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • القاعدة الثانية التي ذكرها شيخ الإسلام في إثبات صفات الله تعالى والرد على نفاتها: أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، فيجب الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله ونحوها من خبر أو أمر أو نهي، وكذلك يجب الإيمان بكل ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، وما تنازع فيه المتأخرون ففيه تفصيل في قبوله أو رده.

    1.   

    القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به وإن لم يفهم معناه

    قال المصنف رحمه الله : [القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف؛ لأنه الصادق المصدوق، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به وإن لم يفهم معناه].

    هذا السياق من كلام المصنف لو أراد بعض المتكلفين في الفهم وغير المنصفين في وزن أقوال أهل العلم، لربما تكلف حمقاً فقال: إن المصنف نزع في هذه الجملة إلى مسلك التفويض. وهذا إنما أشير إليه ليس من باب الدفاع عن المصنف، وأنه لا يذهب مذهب التفويض؛ لأن المصنف أكبر شأناً من أن يتوهم في شأنه هذا الأمر، ولكن لعل هذا السياق من كلامه يكون مناسبةً لتقرير مقام العدل في وزن أقوال الرجال ولا سيما أهل العلم، وأنه لا يحل لأحد ولا يجوز له شرعاً أن يأخذ المجمل من الأقوال، فيجعل هذا المجمل المشترك المحتمل لأكثر من معنى -يجعله على سيئ المعاني، حتى ولو كان اللفظ أو السياق يمكن أن يفسر بهذا، فإنه لو جوز أحد لنفسه أن يستعمل مثل هذا المنهج؛ لوقع في كلام كثير من أهل العلم من أهل السنة بعض الجمل المجملة التي يمكن أن تفسر إما بنوع من التفويض، أو بنوع من التأويل، أو بنوع من الغلو، أو بنوع من التفريط، أو ما إلى ذلك من أوجه المخالفة والنقص.

    وقد كان أهل العلم رحمهم الله لا يرون الزيادة في تفسير المعاني حتى على مخالفيهم, إلا من باب تقرير لوازم أقوالهم، ليعلم أن أقوالهم خطأ، وأما أن ينسب لمعين أنه يقول كذا وكذا من جهة التحقيق والمطابقة لأقواله بلازم من لوازمه، أو بمجمل كلامه، أو ما إلى ذلك، فإن هذا ليس عدلاً.

    وعليه: فإنه يجب إذا فسر كلام أحد من الأعيان أن يُعتبر حال هذا المعين، فإن كان هذا المعين معروفاً بالسنة والجماعة، وإثبات الصفات مثلاً، لكن جاء في جملة من كلامه سياق فيه اشتراك، بمعنى: أن هذا السياق استعمله المفوضة، فإنه لا يحل لأحد أن يقول: إن هذا المصنف قد غلط وفوض، ونحو ذلك. ولكن لا بأس أن يقال: لو أن المصنف عبر بغير هذا السياق لكان أحسن وأجود، فإن هذا من باب الضبط والتحقيق، وبيان أن الألفاظ المشتركة مع المخالفين لا ينبغي أن يعبر بها، لكن أن يلزم المصنف بحقيقة هذا اللفظ المشترك على معنى من المعاني المخالفة، فإن هذا لا يقع فيه إلا من كان عنده إما نقص من جهة العلم, أو نقص من جهة العدل، فإن الله يقول: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فمن دخلت عليه مادة من الجهل، أو مادة من الظلم؛ ركب هذا المرتقى الصعب، وعد ذلك من باب الانتصار، أو من باب التحقيق، أو من باب تمييز الحق، أو ما إلى ذلك.

    ولا شك أن من قواعد الحق وأصوله: العدل بين الخلق، فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ، فلابد أن يكون العدل منهجاً لطالب العلم، فإن أولى الناس بالعدل هم أهل العلم؛ لأن العدل حقيقته: هو العمل بقضاء الله سبحانه وتعالى، وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: هذه الجملة من كلام المصنف تفسر على أحد وجهين:

    الوجه الأول: أن يقال: إن المصنف قصد بقوله: (أن ما أخبر به الرسول عن ربه عز وجل فإنه يجب الإيمان به، سواء عرفنا معناه أو لم نعرف)، قصد به أن الأصل في قواعد الشريعة أن كل ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه حق يجب الإيمان به، وليس الإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم فرعاً عن المعرفة بمفصل المعنى؛ بل إن مجرد كونه خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون هذا موجباً للإيمان والتصديق، بخلاف بعض المعاني التي لا تكون من صاحب النبوة، فإنها لا تصدق إلا إذا بان صدقها من جهة الإدراك لمعناها الصادق.

    أما إذا كان المعنى مجملاً أو منغلقاً، فإن الإنسان ليس مكلفاً بتصديقها, لكنها لما جاءت من صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام، فإن الأصل أنه يؤمن بما أخبر به وإن لم يعرف معناه.

    وعلى هذا التفسير فلا يلزم أن يكون المصنف قصد أن هناك جملة من خبر الرسول عن ربه لا يعرف معناه، بل هو يقول: إن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث أنه خبر من صاحب النبوة، حتى لو فرض جدلاً أن المعنى هنا ليس معلوماً، فإن عدم العلم بالمعنى لا يوجب التأويل أو الرد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وهذا من التعبير الذي يستعمله أهل العربية في كلامهم، فيكون هذا من باب اللزوم الذاتي، أنه يلزم الإيمان بما أخبر به النبي من حيث هو، وليس الذي أوجب الإيمان بالذي أخبر به النبي هو العلم بمفصل المعاني؛ بل إن مجرد كونه خبراً يجب الإيمان به, ولذلك لو سمع أعجمي كلاماً من كلام صاحب النبوة، فقيل له: إن هذا كلام نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ لوجب عليه أن يصدق هذا الكلام، وإن لم يكن في قلبه تصديق بهذه الكلمات، وإيمان بها، وتعظيم لها، وقبول لها، وإن كان ليس فقيهاً لسائرها.

    فهذا من باب أن العلم بما أخبر به الرسول عن ربه هو علم إيماني؛ لأن هذا هو من تحقيق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ومن تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله.

    الوجه الثاني: أن يقال: ربما قصد المصنف بالمعنى هنا: التمام من المعنى، وهو ما يتعلق بإدراك المعنى إدراكاً تاماً، بحيث يكون هذا من باب العلم بالكيفيات، فكأنه قصد أن ما أخبر به النبي عن ربه فإنه يجب الإيمان به، وإن لم نعرف تمام المعنى الذي هو الإحاطة بماهية المعنى، والإحاطة بماهية المعنى قد تفسر بمعنى الكيفية.

    وقد نقل عن الإمام أحمد أنه قال: "نؤمن بها لا كيف ولا معنى"، وهذا الذي روي عن الإمام أحمد -إذا ما صح عنه- فإنه يفسر بأن المعنى الذي نفاه الإمام أحمد ليس هو المعنى الذي كانت تنفيه المعتزلة وغيرهم من الطوائف، ولكن إما أنه ينفي المعنى الفاسد، وإما أنه ينفي العلم بالكيفيات.

    وقد يقول قائل: إن هناك فرقاً في لسان العرب بين كلمة (المعنى) وبين كلمة (الكيفية)، وهذا يقود إلى أن هذه التعبيرات قد لا تكون هي المناسبة على كل تقدير، لكنها إذا وردت من أحد من المعروفين بالسنة والجماعة لزم أن تفسر على هذا الوجه.

    فالمقصود: أن هذا الكلام من كلام المصنف يخرج على أحد هذين الوجهين، وكأن التخريج الأول أصح، بمعنى: أنه يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه فإنه يجب الإيمان به من حيث هو خبر صاحب النبوة، وإن كان من موجبات الإيمان به ما تضمنه من المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى، فيصير الإيمان به متحركاً في نفوس الخلق من جهتين:

    من جهة أنه كلام صاحب النبوة، ومن جهة أنه تضمن معنى من الكمال اللائق بالله سبحانه وتعالى.

    1.   

    ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها يجب الإيمان به

    قال المصنف رحمه الله: [وكـذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة متفقاً عليه بين سلف الأمة].

    قوله: (وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها): أي: أن ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فإنه يجب الإيمان به، والاتفاق -الذي هو الإجماع- لابد أن يكون مبنياً على نص، والمقصود بالنص: الدليل الشرعي، سواء كان هذا من باب النص المعروف في مصطلح الأصوليين، وهو الجملة الصريحة في الدلالة، أو كان من باب الحكم على خبر معين، فربما كان الإجماع مبنياً على مثل هذا, وربما كان الإجماع مبنياً على جملة من الدلائل، بمعنى: أن العلماء أجمعوا في مسألة من المسائل، وتجد أن دليل الإجماع هو جملة من الأدلة، وقد يكون بعض هذه الأدلة نصياً، وبعضها من باب الظاهر.

    وقوله: (مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصاً في الكتاب والسنة، متفقاً عليه بين سلف الأمة):

    أي: باب أصول الديانة، وباب صفات الله سبحانه وتعالى الذي ذكر المصنف تقريره، فباب الصفات ليس مما يثبت بالكتاب وحده، أو بالسنة وحدها، أو بالإجماع وحده؛ بل عامة هذا الباب نجد أن الأدلة متواترة في شأنه، وهكذا هو شأن قواعد هذا الباب، فإن قواعد باب الأسماء والصفات -أي: القواعد الكلية في هذا الباب- لا شك أنها ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.

    وكذلك جمهور التفصيل في هذا الباب ثابت أيضاً بالكتاب والسنة والإجماع، وربما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه صفة لم يذكرها القرآن، لكن نجد أن نوعها مذكور في متواتر القرآن، كالنزول مثلاً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يذكر في كتابه أنه ينزل إلى السماء الدنيا، لكن نجد أن نوع هذه الصفات قد جاء ذكره في القرآن في ذكر مجيء الله، وإتيانه، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك.

    إذاً: هذه هي الأصول الثلاثة في تقرير الاعتقاد، وهي: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة.

    1.   

    الألفاظ التي لم يرد بها دليل شرعي

    قال المصنف رحمه الله: [وما تنازع فيه المتأخرون نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظه أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قبل، وإن أراد باطلاً رد].

    مقصود المصنف بالمتأخرين هنا: الذين جاءوا بعد ظهور البدع في مسائل الصفات، فهؤلاء المتأخرون الذين انحرفوا عن هدي السلف، وخرجوا بشيء من الأقوال المحدثة، ولم يقتدوا بكلمات القرآن وكلمات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستعملوا ألفاظاً مجملة، فصارت القاعدة هنا: (أن كل لفظٍ مجملٍ حادث فيما يتعلق بأسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله، فإنه لا يجوز أن يطلق إثباتاً ولا نفياً)، فلابد أن يجتمع فيه الأمران: الأول: أنه مجمل، أي: أنه يحتمل أكثر من معنى، والثاني: أنه حادث، أي: مبتدع لم يذكر في الكتاب والسنة, ولا في إجماع كلمات الأئمة، وهذه الألفاظ المجملة الحادثة قال المصنف: ليس على أحد بل ولا له أن يطلق إثباتها أو أن يطلق نفيها.

    وقولنا: (كل لفظ مجمل)، المقصود بالإجمال هنا: الإجمال بوضع اللغة، وباستعمال المستعملين من النظار، فاللفظ قد يكون مجملاً من حيث اللغة، وقد يكون مجملاً باستعمال المستعملين له, فإن هناك بعض الألفاظ هي من حيث اللغة ليست مجملة، بمعنى: أنه إذا عبر بها بان المقصود بالتعبير بها، لكن باستعمال المستعملين من النظار ونحوهم صار هذا اللفظ مجملاً، ومن المعلوم أن باب الأخبار باب واسع، لكن لما دخلها الإجمال من حيث الاستعمال، أغلق شأنها، فقد يكون اللفظ من الألفاظ السائغة، لكن لما طرأ الاستعمال وتعدد وجه تفسيره، صار مجملاً من جهة الاستعمال, ولهذا أصبح إطلاقه إثباتاً ونفياً لا يكون حسناً؛ بل لا بد من التفصيل:

    فينظر في المعنى المراد، فإن كان المعنى المراد حقاً قبل المعنى، وإن كان المعنى المراد باطلاً رد المعنى, وإذا قبل المعنى أو فسر المعين كلامه بمعنىً صحيح، فهل من لازم قبول المعنى قبول اللفظ؟ الجواب: لا. بل يقبل المعنى ويعبر عنه بالكلمات الشرعية.

    والله سبحانه وتعالى لم يضيق أمر المكلفين في عقيدتهم وفي دينهم، فإن الله تعالى قد ذكر من الكلمات التي لا يأتيها الباطل، وهي كلمات القرآن، وقد قال الله عنه: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42] وكذلك كلمات صاحب النبوة، وهي الكلمات الجامعة المانعة، وقد أوتي جوامع الكلم، كما أخبر عليه الصلاة والسلام. فهذه الكلمات الشرعية لا شك أنها أفصح وأصدق وأضبط في تعيين الحق، فلا يكون المعنى الحق موجباً للتكلم بلفظ مجمل؛ بل المعنى الحق يعبر عنه بالكلمات المفصلة، وهي الكلمات الشرعية، أو ما جاز من الكلمات، وهي الكلمات التي ليس فيها إجمال ولا ابتداع.

    قال المصنف رحمه الله: [وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقاً، ولم يرد جميع معناه؛ بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى، كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك]

    هذا التفصيل من المصنف في قوله: (قبل.. رد، لم يقبل مطلقاً, ولم يرد..) هذا كله في المعنى، وأما في اللفظ فإنه لا يجوز استعماله في هذا المقام، لكن ربما ساغ استعماله أثناء المناظرة، فيكون من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، فهذا الاستعمال مقيد بحال المناظرة التي يقصد بها الدعوة إلى حق أو الدفع لباطل.

    ولذلك فإن ابن تيمية لما تكلم عن لفظ الجهة ونحوه قال: "إن مثل هذه الكلمات لا بأس أن تستعمل إذا قامت المصلحة الراجحة حال المناظرة"، وهذا من باب مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم، أما أن تكون هذه الكلمة مما يعرض في مقام التقرير لعقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة وسلف الأمة، فهذا لا يصح.

    وقوله: (كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك):

    هذا مثال للكلمات المجملة التي قصدها المصنف في قوله: (وما تنازع فيه المتأخرون)، أي: ما تنازع فيه المتكلمون وبعض المنتسبين للسنة والجماعة من الكلمات.

    لفظ (الجهة)

    قال المصنف رحمه الله: [فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله، فيكون مخلوقاً، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السماوات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم].

    هذان معنيان للفظ الجهة: فإما أن يراد بالجهة شيء موجود، أي: شيء مخلوق؛ لأن الشيء إذا كان موجوداً لزم أن يكون مخلوقاً؛ لأنه ليس ثمة إلا الخالق سبحانه وتعالى والمخلوق، فإذا قيل: جهة موجودة؛ لزم أن تكون مخلوقة.

    فإن أريد بالجهة الشيء المخلوق؛ كالسماوات السبع، أو السماء السابعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في شيء من مخلوقاته.

    وإن أريد بالجهة ما ليس مخلوقاً مما باين العالم، وما فوق العالم، وما فوق السماوات؛ فإن هذا لا يسمى جهة، ولكنه يسمى فوقاً وعلواً، وما إلى ذلك من كلمات القرآن.

    قال رحمه الله: [ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه، كما فيه إثبات العلو، والاستواء، والفوقية، والعروج إليه، ونحو ذلك. وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.

    فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات، أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟ فلا ريب أن الله تعالى فوق العالم بائن من المخلوقات].

    إذا تضمن لفظ الجهة أكثر من معنى، كما عبر المصنف في بعض كتبه كدرء التعارض عن ذلك بقوله: فيقال لمن تكلم بلفظ الجهة ماذا يريد بالجهة؟ الجهة الوجودية، أو الجهة العدمية، فإن أريد الجهة الوجودية -أي: الشيء الموجود- فإن الله منزه عن أن يكون في شيء موجود؛ لأن هذا الشيء الموجود مخلوق، وإن أريد الجهة العدمية، وهي ما فوق العالم -أي: ما ليس مخلوقاً مما باين العالم- فإن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه. وهذا التعبير إنما يستعمله المصنف في مقام المناظرات، أما في مقام تقرير المعتقد الحق، ومعتقد المسلمين للعامة، أو الدعوة إلى ذلك، فلا ينبغي أن يعبر بلفظ الجهة ثم يفسر فيقال: الجهة الوجودية، أو الجهة العدمية، ونحو ذلك, وإنما يعبر بالكلمات التي نطق بها القرآن؛ كالاستواء على العرش، والعلو، والفوقية، ونحو ذلك.

    قال المصنف رحمه الله: [وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل].

    قوله: (فإن أردت الأول):

    وهو أن الله فوق العالم، فهذا صحيح، ولكن لا يعبر عنه بلفظ الجهة؛ بل يعبر عنه بكلمات القرآن، وهو المذكور في قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] وغير ذلك من الآيات.

    لفظ (المتحيز)

    قال المصنف رحمه الله: [وكذلك لفظ المتحيز، إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات، فالله أعظم وأكبر؛ بل قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وقد قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] وقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟!) ، وفي حديث آخر: (وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة) ، وفي حديث ابن عباس : (وما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم) ].

    الحديث الأول في الصحيحين، ومصطلح (الصحاح) هو ما التزم مصنفه أن ما يخرجه في كتابه يكون صحيحاً, سواء صُدق في هذا، أي: اطرد التصديق له، كما في صحيح البخاري مثلاً، فإن من بعده شهد له بذلك، واستقر الأمر في الجملة على أن كل ما في صحيح البخاري فهو صحيح, وإن كان هناك بعض الأحاديث التي تلكم فيها بعض الأئمة المتقدمين، وكان لهم فيها نظر آخر.

    وكذلك ما في صحيح مسلم ، ومن المعلوم أن الأئمة المتقدمين ومن بعدهم قد تكلموا في بعض الأحاديث التي رواها مسلم ، لكن في الجملة أن هذا وهذا قد شاء القول بالصحيح. وقد تسمى بعض الكتب بالصحاح وإن كان النظر فيها من جهة عدم الموافقة كثيراً، كما في صحيح ابن خزيمة , أو صحيح الحاكم ، إذا سمي صحيحاً، وهو مستدرك على الصحيحين، فصحيح الحاكم أو صحيح ابن خزيمة ليس الأمر فيها كما في البخاري ومسلم .

    فالمقصود: أن مصطلح الصحاح على هذا الوجه، أي: ما قصد المؤلف منه أن يذكر الصحيح من الحديث فقط.

    والحديث الثاني والثالث رواهما ابن جرير وغيره في تفسير قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67] .

    قال رحمه الله: [وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي: مباين لها، أي: منفصل عنها، ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة: فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه].

    وهذا المعنى -أي: المعنى الثاني- صحيح، وهو أنه منحاز عن المخلوقات، مباين لها، منفصل عنها، لكن التعبير بلفظ (التحيز) تعبير ليس صحيحاً؛ لأنه ليس شرعياً، ثم إنه لفظ مجمل، أراد به المتكلمون ما كان حقاً من المعاني، وربما أرادوا به ما كان حقاً وما كان باطلاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756004548