إسلام ويب

شرح القواعد السبع من التدمرية [2]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • توحيد الله سبحانه وتعالى هو اعتقاد وحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة عن توحيد الصفات، وتوحيد الشرع والقدر، وذكر الأسباب الداعية إلى الكلام عن هذين الأصلين.

    1.   

    الكلام على التوحيد وتقسيمه

    قال المصنف رحمه الله: [ أما بعد: فقد سألني من تعيَّنتْ إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات، وفي الشرع والقدر ].

    قوله رحمه الله: (من الكلام في التوحيد والصفات):

    توحيد الله سبحانه وتعالى هو اعتقاد وحدانيته سبحانه وتعالى من جهة ربوبيته، ومن جهة ألوهيته وعبوديته.

    ومن المعلوم أن المتقدمين من الأئمة -وأخصهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم- لم يستعملوا التقاسيم في زمنهم، وإنما ظهرت كثير من التقاسيم والتراتيب فيما بعد، وقد ظهر ترتيبان في تقسيم التوحيد:

    فمنهم من يقول: إن التوحيد يتنوع إلى ثلاثة مقامات، ومنهم من يقول: ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

    والحقيقة: أن الأولى أن لا يعبر بلفظ (الانقسام)؛ لأن التوحيد واحد، بمعنى: أن من حقق توحيد الألوهية لزم أن يكون محققاً لتوحيد الربوبية، وكذلك من حقق توحيد الربوبية فإن تحقيقه إياه يستلزم أن يكون منقاداً للإيمان والإقرار بتوحيد الألوهية.

    فإن قال قائل: المشركون الذين بُعِث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قد ذكر الله في كتابه كثيراً في مثل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [العنكبوت:61] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف:87] فتجد أن الجواب أنهم يقولون: (الله)، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وذكر الإمام ابن تيمية أن إنكار الربوبية مطلقاً لم تذهب إليه أمة من الأمم.

    هذا هو الذي يرد في كلام أهل العلم، وقبل ذلك هذا هو ظاهر كتاب الله سبحانه وتعالى في ذكر المشركين وما يقرون به من مسألة خلق السماوات والأرض، وخلق أنفسهم ولكن هل يلزم من ذلك أن هؤلاء المشركين كانوا محققين لتوحيد الربوبية؟

    الجواب: لا؛ بل هناك فرق بين أن يقال: إن مشركي العرب وغيرهم كانوا مقرين ببعض أصول الربوبية، وبين أن يقال: إنهم كانوا مقرين بالربوبية في الجملة.

    إذاً: مشركو العرب وغيرهم من المشركين كانوا غير محققين للإيمان الصحيح بتوحيد الربوبية؛ فإن من المعلوم أن المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام وغيرها من المعبودات كانوا يسألونها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ولا شك أن تعلق العبد بغير الله في مسألة قضاء الحاجات وتفريج الكربات هو جمع بين شركين:

    الأول: الشرك في الربوبية.

    والثاني: الشرك في الألوهية.

    أما الشرك في الألوهية فلأنه دعا غير الله، وصرف عبادة الدعاء لغير الله.

    وأما الشرك في الربوبية فلأنه اعتقد أن هذا المعبود من الصنم أو غيره قادر على قضاء الحاجات، وكشف الضر، وتفريج الكربات؛ ومعلوم أن هذا هو مقام رب العالمين، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام في براءته من عبودية المعبودات: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77]

    أيضاً: استقسامهم بالأزلام، فإنهم كانوا يستقسمون بالأزلام ويمضون على إمضائها ويردون على ردها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت: فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (قاتلهم الله! أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط) رواه البخاري عن ابن عباس . فالاستقسام بالأزلام على معنى الإمضاء والرد هو وجه من الشرك في ربوبية الله تعالى.

    فالمقصود: أن ما ذكره الله في كتابه عن مشركي العرب أنهم يقرون بأن الله هو الخالق؛ هذا صحيح؛ لكن هذا الإقرار ليس على التحقيق التام والإيمان الصحيح بربوبية الباري جل وعلا، وإلا فإن من آمن على التحقيق بربوبية الباري سبحانه وتعالى انقاد لعبوديته وحده لا شريك له.

    ومعلوم أن مشركي العرب كان يعرض لهم في بعض الصور أنهم يقرون بتوحيد الألوهية، فهل يصح أن نقول: إنهم مقرون بتوحيد الألوهية؟

    الجواب: لا؛ فقد ذكر الله عنهم هذا الإقرار في مثل قوله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] فهذه حالة عارضة، ولكن الأصل في شأنهم هو أنهم مشركون.

    إذاً: لا شك أن ثمة فرقاً في حال مشركي العرب وغيرهم بين مقام الربوبية، ومقام الألوهية، فإنهم ينكرون مقام الألوهية ويعجبون من شأنه أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [ص:5] وأما مقام الربوبية فإن الأصل أنهم يقرون به في الجملة.

    وهناك فرق بين قولنا: إنهم يقرون به في الجملة، وبين قولنا: إنهم محققون له، ومؤمنون به إيماناً شرعياً صحيحاً؛ فإن هذا لا يقع لمشرك، وإنما يقع للمسلمين من أتباع المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

    إذاً: التوحيد شيء واحد، وعندما يذكر أهل العلم أن التوحيد ينقسم إلى: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات؛ فإن هذا من باب التراتيب العلمية، وليس من باب البدع.

    ومن أهل العلم من قال: إن التوحيد ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: التوحيد العلمي: ويقصد به توحيد الربوبية والأسماء والصفات.

    القسم الثاني: التوحيد الطلبي: ويقصد به توحيد الألوهية.

    وهذا الاصطلاح يستعمله ابن تيمية وجماعة من أهل العلم.

    فهذا الترتيب من باب التراتيب العلمية، وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يفقهها، حتى لا يُخْلَط عليه ما كان من البدعة وما كان من باب التراتيب العلمية.

    فإذا قلنا: إنه ترتيب علمي، فمعنى ذلك: أن من تكلم به من أهل العلم قصدوا به الإيضاح والبيان، ولا يلزم أن يكون هذا الاصطلاح لازماً لكل أحد، وإنما الذي يلزم سائر المكلفين هو العلم بحقيقة هذا التوحيد، سواء علمها على أن التوحيد يتنوع إلى: علمي، وإرادي، أو علمها على أن التوحيد: ألوهية، وربوبية، وأسماء وصفات، أو علمها على أن التوحيد هو: وحدانية الله سبحانه وتعالى رباً، ومعبوداً، ومعظَّماً، ومنزَّهاً، ومفرَداً بالعبادة.. إلى غير ذلك من سلسلة المعاني الشرعية.

    فالذي يلزم سائر المكلفين أن يعلموه ويعملوا به: أن يتبعوا المعنى الشرعي، سواء عُبر عنه بهذا الاصطلاح أو بغيره، ولذلك ينبغي أن يكون طالب العلم على فقه في هذا المقام، فلا يتعصب لتقسيم أو اصطلاح معين من اصطلاحات أهل العلم، وينفي غيره من الاصطلاحات الصحيحة، ولا يطعن في هذا الاصطلاح بدعوى البدعة وما إلى ذلك، فإن هذا ليس من باب البدع؛ بل هو من باب التراتيب العلمية والإيضاح والبيان، وقد كثرت هذه التراتيب في العصور العلمية المتأخرة، وإلا فإننا إذا نظرنا إلى عصر الصحابة لا نجد أن عندهم حاجة إلى هذه التراتيب.

    ولو قال قائل: لِمَ لَمْ يستعمل الصحابة هذه التراتيب؟

    فالجواب: لقوة فقههم، وشرف علمهم، وسلامة فطرتهم، وقلة الشُّبَهِ في زمنهم، لم تظهر مثل هذه التقاسيم والتراتيب التي تبين الحقائق وتفصل الأمور، حتى لا يقع ضعف، أو اختلاط، أو تقصير في تحقيق المعاني الشرعية.

    توحيد الصفات

    وقوله رحمه الله: (والصفات)، أي: صفات الله تعالى، وصفات الله تعالى من توحيده؛ حتى قال بعض أهل العلم: إن توحيد الربوبية هو توحيد الأسماء والصفات، ومن المعلوم أن أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته هي من مقام ربوبيته، وإنما ذكرها من ذكرها من أهل العلم على سبيل الاختصاص لأن قوماً ممن ينتسبون إلى الديانة والإسلام والقبلة حصل عندهم أغلاط وأخطاء في مقام صفات الله سبحانه وتعالى؛ إما بتعطيلها، أو تشبيهها بصفات المخلوقين، فلما ظهر هذا الغلط في تاريخ المسلمين بعد عصر الصحابة عني أئمة السنة وأئمة المسلمين من الفقهاء والمحدثين بذكر مسألة الصفات وتخصيصها؛ لما وقع فيها من الغلط بسبب تلك البدع التي ظهرت على يد المتكلمين والمتفلسفة.

    توحيد الشرع والقدر

    وقوله: (وفي الشرع والقدر):

    المقصود بالشرع: الأمر والنهي.

    وأخص الأمر: هو أمره سبحانه وتعالى لعباده بأن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا شك أن هذا متضمنٌ لمقام ربوبيته سبحانه وتعالى.

    وأخص النهي: هو النهي عن الشرك به، عن أن يكفروا أو يشركوا بربهم سبحانه وتعالى.

    والقدر: هو قدر الله في خلقه.

    وقولنا: (في خلقه) الخلق اسم عام، وليس خاصاً بالعباد من بني آدم؛ بل هو قدره سبحانه المطرد، فإن الله هو الخالق وما سواه مخلوق، والله سبحانه وتعالى هو الباري وما سواه عالم مخلوق، وهو رب العالمين أجمعين من بني آدم، ومن الملائكة، والجن، والأحياء والأموات والجماد، وما إلى ذلك.

    فقدره سبحانه وتعالى مطرد في سائر خلقه، وهذا القدر له أصول ومعانٍ سيأتي -إن شاء الله تعالى- التعليق عليها فيما بعد.

    وقد ذكر المصنف هذه المسألة لأن مقاماً في هذا الأصل -وهو القدر- حصل فيه غلط عند قوم من أهل القبلة، وهو ما يتعلق بأفعال العباد، وصلتها بقدر الله سبحانه وتعالى.

    والقدر: هو قضاء الرب سبحانه وتعالى على خلقه فيما يتعلق بحركاتهم وسكناتهم وأفعالهم ومآلهم.. وما إلى ذلك.

    1.   

    معنى قول المصنف: (أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة)

    قال المصنف رحمه الله: [ لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما، فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما، ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعبادة لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال ].

    المقصود بأهل النظر

    قوله: (ومع أن أهل النظر).

    المقصود بأهل النظر: هم أصحاب النظر العقلي، وهذا هو الغالب على مصطلح النُّظَّار إذا ذكر، فإنه مصطلح متأخر، والغالب على هؤلاء الذين اختصوا بمسألة النظر أنهم من علماء الكلام، ولا يلزم من مصطلح النظر أن يكون نظراً عقلياً على طريقة المتكلمين؛ بل يمكن أن يكون نظراً شرعياً صحيحاً على طريقة المرسلين، فإن النظر العقلي ليس هو النظر بعلم الكلام، ومعلوم أن دليل العقل ليس هو دليل علم الكلام فقط، فإن الله تعالى أمر عباده بالنظر، كما في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]

    ولكن هل أمر الله سبحانه وتعالى سائر المكلفين بالنظر من جهة معرفة وجوده ومعرفة ربوبيته؟

    الجواب: لم يأمر الله سبحانه وتعالى سائر العباد أن ينظروا إلى معرفة وجوده؛ لأن وجوده سبحانه وتعالى وربوبيته فطرة فطر الله سبحانه الخلق عليها، ولكن من اختلطت فطرته بشيء من الضلال والشك فإن هذا يكون النظر في حقه مشروعاً؛ لدرء هذا الإشكال، وهذه الشبهة والظلمة التي طرأت عليه.

    وأما إذا قصد بالنظر: التفكر في خلق السماوات والأرض على جهة التحقيق والتأمل والتدبر، فإن هذا لا شك أنه مشروع لسائر المكلفين، يقول الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] ولذلك فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "إن الله لم يأمر سائر المكلفين بالنظر"، ومقصوده بهذا النظر أي: من جهة معرفة الرب رباً موجوداً، فإن هذا فطرة في قلوب بني آدم، ولهذا لم يأمر به الباري سائر المكلفين.

    المقصود بأهل العلم

    وأما (أهل العلم) فإن هذا الاسم إذا ذكر يراد به أهل علم الشريعة، وقد عُنِي طائفة من أهل العلم بتمييز هذا عن هذا؛ لأن علم الكلام الذي يستعمله جمهور النظار علم مبتدَع، وقد ظهر بعد عصر الصحابة.

    تعريف علم الكلام وذم الأئمة له

    لقد تكلم جماعة في تعريف علم الكلام وحدِّه، ومِن أخصِّ مَن تكلم في ذلك وشاع كلامه عند المعاصرين ابن خلدون صاحب المقدمة، فضلاً عن علماء الكلام أنفسهم؛ فإنهم يعرفون في مقدمة كتبهم هذا العلم، ويقولون: "هو معرفة العقائد الإيمانية بالحجج العقلية". هذا هو التعريف الشائع في كلام النظار وبعض الأصوليين وغيرهم، وهذا التعريف غير صحيح؛ لأن هذا العلم لو كان من هذا الوجه فلا يمكن أن يكون معارضاً للشرع ومذموماً هذا الذم الذي ذُكِرَ في كلام الأئمة المتقدمين الذين أدركوه، فإنه قد تواتر عن أئمة السنة والجماعة كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم من الفقهاء والمحدثين -تواتر عنهم أنهم ذموا علم الكلام وذموا أصحابه.

    ومعلوم أن الدليل العقلي لم يشتهر في كلام الأئمة ذمه، وكذا نجد أن الله تعالى في كتابه ذم مسألة العقل؛ بل ذكر في كتابه أن العقل موجب ومحرك للهداية في مثل قول الله سبحانه وتعالى عن المشركين: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ [الملك:10] فدل على أن العقل لو حققوه لاستجابوا للحق، وفي مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179]

    فالعقل ليس مذموماً في القرآن، وإنما يذم العقل إذا استعمل على غير وجهه، ووضع في غير موضعه، أو عورضت به الشريعة، أو ما إلى ذلك؛ فإن هذا هو الذي يذم.

    أما علم الكلام فإنه قد تواتر عن الأئمة ذمه، واقرأ كتاب أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي فقد حكى روايات متواترة عن الأئمة في ذمه.

    أما سبب ذم الأئمة لعلم الكلام: فهو فساد معانيه، وقد قال بعض المتأخرين كـأبي حامد الغزالي : "إن الأئمة كـالشافعي وغيره ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة". أي: التي لم يوجد ذكرها في القرآن والسنة، مع أن أبا حامد الغزالي وغيره يستعملون علم الكلام، وقد دافع الغزالي رحمه الله عن استعماله، فقال: "ولما كان في زمننا هذا احتجنا لاستعماله؛ لدفع صول الفلاسفة وغيرهم على الإسلام"، ومثل لذلك بقوله: "مثل لبس ثياب الكفار؛ فإنها لا تجوز، ولكن إذا قصد من لبسها المصلحة والنكاية وما إلى ذلك بالكفار كان ذلك جائزاً وليس من باب التشبه".

    وهذا المثل الذي ذكره أبو حامد ليس هذا مورده ولا موضعه؛ بل الصواب أن علم الكلام مذموم، وذلك لسببين:

    السبب الأول: لما فيه من الألفاظ المحدثة؛ فإن العقائد الإسلامية ينبغي أن يعبر عنها بحروف وكلمات الكتاب، وكلمات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يصح أن يلقن المسلمون ويعلموا العقائد بألفاظ كان يتكلم بها المتفلسفة، أو ولدت من الفلسفة، أو ما إلى ذلك؛ بل لا بد أن يتكلم بكلام الله وكلام رسوله، وما نطق به الصحابة، وما يقارب ذلك، أما أن تُهجر هذه الكلمات الشرعية ويؤخذ بكلمات مخترعة محدثة في الإسلام فهذا ليس منهجاً عدلاً ولا صواباً.

    السبب الثاني: أن هذا العلم تضمن معاني فاسدة، قال ابن تيمية رحمه الله في غير موضع في درء التعارض وغيره: "وذم الأئمة لعلم الكلام من جهة فساد معناه أعظم من جهة ذمه لحدوث ألفاظه".

    وقد تولد عن هذا العلم بدعة المعتزلة بتعطيل صفات الله سبحانه وتعالى، وما إلى ذلك من البدع المعروفة في تاريخ المسلمين التي انحرف من انحرف بها من أهل القبلة.

    التعريف الصحيح لعلم الكلام

    إذاً: الصحيح في تعريف علم الكلام أن يقال: هو علم حادث بعد عصر الصحابة، أحدثه قوم من النظار المائلين عن طريقة الأئمة من الفقهاء والمحدثين. وهو مركب من ثلاث مواد:

    الأولى: مادة فلسفية مفصلة.

    الثاني: مادة من الكليات العقلية العامة.

    الثالثة: مادة من الجمل الشرعية العامة.

    وهذا من باب الضبط والعدل؛ لأن الحقائق العلمية لا بد أن يتكلم فيها بعلم وعدل؛ حتى مقام الرد على المخالف لا يجوز أن تبغي عليه بحكم، ولا يجوز أن تزيد على مقالته بغير ما قاله.

    ومن الملاحظ أن المقام العقلي فيه مقام كلي، وأن المقام الشرعي فيه مقام مجمل، أي أن عندهم بعض الجمل الشرعية، ومن الجمل الشرعية التي يراعيها هذا العلم: قاعدة: (أن الله مستحق للكمال، منزه عن النقصان)، فهم يرون أنها قاعدة شرعية، والصحيح أنها شرعية وعقلية أيضاً؛ فإن تنزيه الله عن النقص معلوم بالعقل، وليس كما يقول البعض: إنه معلوم بالشرع وحده.

    إذاً: هم قصدوا إلى جمل شرعية، وإلى كليات عقلية، ولكن جوهر هذا العلم الذي ينبني عليه ويقوم عليه من جهة التفصيل هي مقدمات لخصت من الفلسفة.

    كيف دخلت الفلسفة على أهل الكلام؟

    لقد كانت البلاد التي فتحت زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما بعده -ولا سيما أعالي العراق- كانت بلاداً مليئةً بالثقافات الفلسفية، وقد بدأت الترجمة منذ زمن متقدم في دولة بني أمية، فلما ظهرت الترجمة لهذه العلوم دخلت هذه المولَّدات الفلسفية على المسلمين بما يسمى بـ(علم الكلام)؛ ولذلك تكلم أصحابه بالجوهر، والعَرَض، ومسائل معروفة هي مركبة في الجملة من كلام أرسطو طاليس وأمثاله من فلاسفة اليونان.

    هذه المادة الفلسفية التي لخصت وأضيفت إليها كليات عقلية، وجمل شرعية، هي ما يسمى في الحقيقة بعلم الكلام؛ ولذلك فليس هذا العلم مجرد استدلال بالأدلة العقلية على العقائد الإيمانية؛ فإنه لما كان هذا العلم مبنياً على هذه المواد الثلاث، ولا سيما المادة الفلسفية المأخوذة عن قوم من الفلاسفة الذين لم يكونوا على دين سماوي صحيح، فقد كان أرسطو طاليس قبل المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة سنة، وكان رجلاً ليس على ديانة شرعية، وإنما كان على فلسفة وإلحاد في تعطيل الباري عز وجل عن أسمائه وصفاته وغير ذلك؛ فلأجل هذا السبب نجد أن من انتحل هذا العلم -علم الكلام- قد عطلوا صفات الله سبحانه وتعالى عن معانيها الشرعية، أو عطلوا ما هو منها، وهذا بحسب استعمال أصحاب هذا العلم له.

    المقصود بأهل الإرادة والعبادة

    قوله: (والإرادة والعبادة):

    أهل الإرادة في الغالب إشارة إلى العُبَّاد والمتصوفة.

    والإرادة مسألة نفسية قلبية، فإذا ذكر أهل الإرادات فهو اصطلاح يقصد به النُّسَّاك والمتصوفة، وهناك اصطلاحات في كلام شيخ الإسلام بنحوها، فأحياناً يقول: "أهل الأحوال، المتفقِّرة، المتصوفة"، وهذه المصطلحات تأتي على هذا المعنى، أي: المائلون عن طرق أهل النظر والعقل إلى الطرق الإرادية النفسية السلوكية.

    1.   

    الأصول التي يعرف بها الحق من الباطل

    قال المصنف رحمه الله: [ لا سيما مع كثرة مَن خاض في ذلك بالحق تارةً وبالباطل تارات، وما يعتري القلوب في ذلك من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات ].

    لقد خاضت طوائف أهل القبلة في هذين الأصلين، وقد خلط كثير من هؤلاء -بل أكثرهم- خلطوا الحق بالباطل في هذين الأصلين.

    والصواب في هذا: هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نطق به القرآن، وما جاءت به السنة؛ فإن هذه الأصول الثلاثة وهي: إجماع الصحابة، وما دل عليه الكتاب والسنة، هي الأصول التي يوزن ويُعْرَف بها الحق؛ فإن الحق لا يُعْرَف بفلان، وهذه من قواعد الإسلام وشريعة الديانة: أن الحق لا يعرف بفلان وفلان من الأئمة، فإن هذه لم تكن من طرق أئمة السنة والجماعة؛ أنهم يعرفون الحق بفلان أو فلان من الآحاد، وإنما الحق يُعْرَف من جهة كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإذا عُرِف الحق بالكتاب أو بالسنة أو بالإجماع؛ فإن هذا يكون من الحق اللازم من جهة الاتباع.

    وأما إذا لم يكن هناك دليل صريح من الكتاب أو السنة، أو إجماع في المسألة، فإن النظر في هذه المسألة التي بهذه الصورة يكون من باب المحتمل، ومن باب الاجتهاد الذي يسع فيه الخلاف.

    وأما إذا انضبط الدليل من النص والإجماع، فإن هذا يكون ديناً لازماً لا تجوز مخالفته؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756317175