إسلام ويب

فضل قيام الليل [3]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد كان الصحابة والتابعون رحمهم الله تعالى من أعظم الناس تقرباً إلى الله تعالى وطاعة له، ومن ذلك محافظتهم على تلك العبادة العظيمة ذات الأجور الكثيرة، وهي قيام الليل والتهجد لله تعالى فيه، فينبغي الاقتداء بهم في ذلك، وعلى المسلم أن يبذل كل الأسباب التي تعينه حتى يحوز على ذلك الأجر العظيم المترتب على هذه العبادة العظيمة.

    1.   

    هدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم في قيام الليل

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد:

    الجانب الثالث وهو عمل السلف الصالح رضي الله عنهم في قيام الليل، سأبتدئ بذكر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفذون ما يغرس نبينا صلى الله عليه وسلم في قلوبهم من التوجيه نحو القيام، لنرى كيف كانوا، ثم آخذ نماذج أيضاً ممن جاء بعدهم، ثم ننتقل بعد ذلك إلى المبحث الرابع إن شاء الله.

    ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا حبل ممدود بين ساريتين -بين عمودين من أعمدة المسجد- فقال: ما هذا؟ فقيل: هذا حبل لـزينب رضي الله عنها تصلي فإذا فترت تعلقت به ) أي: لتطرد عن نفسها النعاس، وليكون معها جد ونشاط، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد )، فإذا فتر فلينم، ليصل أحدكم نشاطه، وهذا هو المطلوب منا، فلا ينبغي أن نفعل العبادة بحالة نصل بها إلى السآمة، فإن لنفسك عليك حقاً فنم ما تيسر، إنما كان هذا شأنهم في بداية الأمر عندما وجههم نبينا صلى الله عليه وسلم للقيام، يربطون الحبل بين الساريتين ثم بعد ذلك يتأرجحون إذا اعتراهم الملل؛ ليطردوا عن أنفسهم النعاس.

    وهكذا كان السلف يوصي بعضهم بعضاً بهذا الأمر، ففي سنن أبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن أبي قيس رضي الله عنه قال: دخلت على أمنا عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن أبي قيس من أئمة التابعين الكبار، فقالت له أمنا عائشة : ( يا عبد الله ! لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى وهو قاعد )، أي: إذا اعتراه تعب أو مرض لا يترك قيام الليل عليه صلوات الله وسلامه، بل يصلي وهو قاعد، فأنت لا تدع قيام الليل يا عبد الله بن أبي قيس ! وعبد الله بن أبي قيس هو الذي سأل أمنا عائشة رضي الله عنها عن كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل: هل كان يجهر أو يسر؟ كما ثبت ذلك في المستدرك بسند صحيح، قالت: ( كل ذلك كان يفعل، فيجهر أحياناً ليوقظ من حوله، ويسر أحياناً ليكون أخشع له، فقال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة ).

    وثبت في المستدرك بسند صحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يتهجد ويخفض صوته بالقراءة، ومر بـعمر رضي الله عنه وهو يجهر بصوته ويرفعه بقوة، ثم سأل أبا بكر عن هذا، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! لقد أسمعت من ناجيت )، أناجي الله وهو يسمعني، وقال لـعمر : لم ترفع صوتك بقوة؟ قال: لأطرد الشيطان، وليستيقظ الوسنان -النائم- فقال لـأبي بكر : ارفع قليلاً، وقال لـعمر : اخفض قليلاً، ليكون ذلك في حد التوسط، فإذا كان الصوت خافتاً لا يسمعه المجاورون، والمقصود منهم أن يستيقظوا إذا دخلوا في الثلث الأخير، فاجهر بالقراءة ليستيقظ من حولك من زوجتك وأولادك وجيرانك، وإذا كنت قبل ذلك فأسر، كل هذا مطلوب. فلا تدع -أخي المسلم- قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى وهو قاعد عليه صلوات الله وسلامه.

    وهكذا كان الصحابة الكرام قاطبة، فهذا عمر كما في موطأ مالك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كان عمر رضي الله عنه يصلي في الليل حتى إذا كان من آخر الليل ودخل الثلث الأخير أيقظ أهله، وتلا قول الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، قال الإمام ابن كثير في كتاب البداية والنهاية في ترجمة عمر رضي الله عنه: وثبت أنه كان في خلافته إذا صلى العشاء يأتي إلى بيته فيلقي نفسه في مسجده ويتهجد حتى يطلع الفجر، وما كان ينام رضي الله عنه إلا ساعة يسيرة عند الضحى، ثم يتفرغ بعد ذلك للرعية، وكان يقول: إذا نمت في الليل ضيعت نفسي، وإذا نمت في النهار ضيعت رعيتي. رضي الله عنه وأرضاه، يقوم في الليل ويتهجد حتى إذا دخل الثلث الأخير أيقظ أهله، وتلا قول الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

    هدي الصحابة في تقسيم الليل أثلاثاً

    وهكذا كل الصحابة الكرام كانوا على هذا المسلك، ففي صحيح البخاري ومسند الإمام أحمد ، وكتاب الزهد للإمام أحمد عن أبي عثمان النهدي رضي الله عنه، قال: تضيفت أبا هريرة ، أي: نزلت عليه ضيفاً سبعة أيام، فكان هو وزوجته وخادمته -أي: أمته- يقتسمون الليل أثلاثاً، تصلي الزوجة ثلثاً، وتصلي الأمة ثلثاً، ويصلي أبو هريرة ثلثاً، ولا يخلو البيت من قائم لله جل وعلا، والحديث في صحيح البخاري إخوتي الكرام! وقوله: خادمه، أي: أمته، وهذا كان موجوداً في العصور الأولى عندما كانت الدولة الإسلامية قائمة، ويحكم الإسلام بين الدولة الإسلامية وبين الكافرين، فإذا أراد الإمام أن يسترق الذرية وأن يسترق أيضاً الرجال المأسورين فله ذلك، فإذا استرقهم صاروا عبيداً، والنساء تصبح إماء، وهذه الإماء يحق للمجاهد عندما تعطى له وتوزع عليه أن يعاملها معاملة زوجته، وله أن يبيعها ليشتريها إنسان كأنها زوجة له، بدون عقد وبدون شهود، هذا ملك باليمين، وهو جائز، وهو شرع الله جل وعلا.

    وقد استنكرت القوانين الشيطانية الغوية الإنسانية في هذا الوقت هذا الأمر، وقالت: إنه جريمة ما بعدها جريمة، ونقول ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل)، كفروا بالله فأمكننا الله من رقابهم، فخير من ضرب رقابهم وتخليدهم في السجن أن نجعلهم يخدمون من يعبد الله ليوحدوا الله ويدخلوا الجنة بعد ذلك، هذا شرع الله ومن اعترض عليه فهو كافر، إنما أريد أن أقول لهؤلاء الزنادقة في هذا الوقت الذين يعترضون على حكم الله جل وعلا، ويقولون: إن هذا امتهان للإنسان، إذا قلنا لكم: عاشروا هذه المرأة على أنها أمة ولها حكم الزوجة، وإذا حملت منك فلا يصح بيعها صارت أم ولد، بمجرد موتك تصبح حرة، هذا الحكم تستنكرونه وهو في منتهى الرحمة، وبدأتم تستسيغون -يا إخوان الشياطين- الشغالات والخدامات التي ملأتم بها البيوت، عدد الشغالات الآن في هذه البلاد ثلاثمائة ألف شغالة، تستسهلون هذا الأمر وتستمرءونه، وتعاشرها بعد ذلك عشرة المحارم، أو عشرة الزوجات، وهذا عندكم لا غضاضة فيه! وإذا قلنا: هذه أمة حكمها حكم الزوجة تعاشرها فيأتيك أولاد منها عن طريق الحلال، وإذا حملت صارت أم ولد بمجرد موتك تصبح حرة لا تباع، هذا تستنكرونه وتستهلون ما يوحيه إليكم ساداتكم من الغرب! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

    إذا دخلت الشغالات للبيوت، هذا رقي والناس يفتخرون، وإذا كانت أمة فهذا امتهان للإنسان! لم هذا امتهان وهذا إكرام؟! الشغالة إكرام وذاك امتهان! لم؟ تمتهنها امتهاناً إذا كانت شغالة ليس بعده امتهان، ولكن هذا عندهم هو الإكرام.

    فهنا كان أبو هريرة هو وزوجه وخادمته، أي: أمته، يقتسمون الليل أثلاثاً، هذه أمة ليست شغالة ولا خادمة، وما كانت في بيوت أحد من سلفنا شيء من ذلك.

    إخوتي الكرام! واقتسام الليل أثلاثاً كان فاشياً في زمن السلف الصالح، فليتنا نحيي هذه السنة في هذه الأيام، يقتسم الإنسان مع زوجه أو مع زوجتيه أو مع أولاده الليل، بحيث لا يخلو البيت من قائم من أول الليل إلى آخره، هذا كان فاشياً عن عدة من السلف الصالح.

    هذا سليمان التيمي المتوفى سنة 196 للهجرة، وهو من رجال الكتب الستة، وأطلق عليه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ لقب: شيخ الإسلام، وكنت قرأت الكتاب بأجزائه الأربعة، وترجم فيه ألفاً ومائة رجل وستاً وسبعين، فما وصف أحداً بشيخ الإسلام إلا قرابة مائة فقط من الأئمة الذين هم حفاظ.

    يقول في ترجمة سليمان التيمي : إنه شيخ الإسلام، من رجال الكتب الستة، كان عنده زوجتان رضي الله عنه وعن زوجتيه، فكانوا يقتسمون الليل أثلاثاً، ولا يخلو بيتهم من قائم، ولما احتضر بدأ يبكي عليه رحمة الله، فقالوا له: ما الذي يبكيك؟ قال: مررت على مبتدع فسلمت عليه، فأخشى أن يجعلني الله معه. يخاف بسبب تسليمه على مبتدع أن يكون مثله! هذا شأنه وهذا صلاحه رضي الله عنه وأرضاه، كان يقتسم الليل مع زوجتيه أثلاثاً.

    وهكذا كان الحسن بن صالح بن حي ، وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة، كان أيضاً يقتسم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، فماتت أمه فاقتسم الليل هو وأخوه علي بن صالح بن حي ، فمات أخوه فقام الليل كله.

    ومن طريف ما يروى: أنه كان عنده جارية (أمة) فباعها عندما احتاج لشيء من المال، فأيقظت هذه الجارية أهل البيت الذين صارت إليهم في وسط الليل لقيام الليل، فقالوا لها: أسحرنا؟ هل دخل الفجر؟ قالت: لا، قوموا لتتهجدوا ولتعبدوا الله، قالوا: لا نستيقظ إلا إذا أذن الفجر، فلما كان اليوم الثاني ذهبت إلى الحسن بن صالح بن حي ، وقالت: يا سيدي! بعتني إلى أناس لا يصلون إلا الفرائض، فاتق الله فيّ وردني إليك، فذهب إليهم وقال: ردوا عليّ الجارية، قالوا: نعم، فأعطاهم فلوسهم وأعاد الجارية إليه، سبحان الله العظيم! كان سلفنا على هذا المسلك العظيم.

    إذاً: كان أبو هريرة وأهله يقتسمون الليل أثلاثاً، سليمان التيمي ، الحسن بن صالح يقتسمون الليل أثلاثاً، ومثل هؤلاء كثير وكثير.

    سابقة الصحابة رضي الله عنهم في العبادة والطاعة ومنها قيام الليل

    إن من نظر في حال الصحابة رضي الله عنهم بعلم أن المجتهد فينا كاللاعب فيهم، وهذا قاله الإمام مجاهد رضي الله عنه بعد أن نقل عن ابن عمر كلاماً في منتهى السداد، قال: لم يزل الناس في نقص في عقولهم وفي أعمارهم وأبدانهم، كلما امتدت الحياة ينقصون، ولا يكون حال المتأخرين كحال السابقين، فكان مجاهد بعد ذلك يقول: والله ما المجتهد فيكم -يقصد التابعين- إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم، وهذا هو وصف الصحابة كما قال علي رضي الله عنه، ففي الحلية وصفة الصفوة: أن علياً رضي الله عنه صلى في آخر أيامه صلاة الفجر، ثم بعد أن انصرف الناس من الصلاة بقي في مصلاه يذكر الله حتى طلعت الشمس، وظهر نورها على الجدران، فأخذ بلحيته رضي الله عنه وبدأ يبكي، ثم قال: والله! لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً صفراً غبراً بين أعينهم كأمثال ركب المعزى من البكاء، قد باتوا لله سجداً وقياماً يراوحون بين أقدامهم وجباههم، فإذا طلع الفجر ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم بالبكاء، والله لكأن القوم كانوا غافلين. أي: يبكون على أنفسهم، وكأنهم كانوا في ذنوب وفي عيوب، ما رأيت شيئاً يشبههم، ثم قام رضي الله عنه وهو حزين، فما دخلت عليه الجمعة إلا وطعنه ابن ملجم لعنة الله على الطاعن ورضي الله عن المطعون.

    قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويحك للإسلام أركانا

    قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلاماً وإيمانا

    1.   

    هدي التابعين وأتباعهم في قيام الليل

    هذا كان حالهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولو استقرأنا بعد ذلك أحوال من بعدهم لرأيناهم على هذه الشاكلة.

    هذا محمد بن واسع عليه رحمة الله، من رجال مسلم وسنن أبي داود والترمذي ، قال عنه الحافظ: ثقة عابد كثير المناقب، وهو من التابعين، أدرك أنس بن مالك رضي الله عنه في البصرة وروى عنه، كان إذا جن عليه الليل يقوم ويتهجد، يقول أهله: والله إن حاله كحال من قتل أهل الدنيا، فهو يلجأ إلى الله جل وعلا، ويعود إليه من ذنوبه. هذا محمد بن واسع عليه رحمة الله.

    ويروى أنه لما داهم الكفار بلاد الكوفة وكان فيها إذ ذاك، تفقد أمير الكوفة قتيبة بن سعيد الناس وقال: من في المسجد؟ فقالوا: لا يوجد إلا محمد بن واسع رافعاً أصبعه إلى السماء، فقال: والله إن تلك الأصبع أحب إليّ من ثلاثين ألف فارس، أصبع محمد بن واسع بدعائه ينصرنا الله ويفرج كروبنا، رضي الله عنه وأرضاه، هذا كان حاله.

    وهكذا الإمام أبو سليمان الداراني المتوفى سنة 207 للهجرة، كان يقول: والله! لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ووالله! إن أهل الليل في ليلهم مع الله ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طرباً بذكر الله فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه من النعيم إنهم لفي نعيم عظيم. وكان يستغفر في الليل كثيراً مع أنه كان يقومه، وما ذلك إلا لأن سنة الوصال سنة، كما أن سنة الهجر سنة، لكن سنة الوصال بمقدار لمحة بصر، بمقدار ما يغفل الإنسان، فكان يستغفر الليل الذي نراه طويلاً إذا أردنا أن نتهجد فيه، كان يرى سنة الوصال حيناً يسيراً، كما أن سنة البعد والجفاء بمقدار سنة على المحب، وكان يقول عليه رحمة الله: من صفى صفي له، ومن كدر كدر عليه، وإنما عصى الله من عصاه لهوانه على الله، ولو كرموا عليه لحال بينهم وبين معصيته. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وكان يقول: الأخ من يعظك بحاله قبل أن يعظك بمقاله.

    وهكذا كان أئمتنا وسلفنا ما بين رجال ونساء، فهذا رياح بن عمرو القيسي ، وهو من العباد في زمن التابعين، تزوج امرأة اسمها ذؤابة ، وكانت من الصالحات أيضاً، فلما جاء النهار أراد أن يختبرها، فقامت لتعجن عجينها، فقال: أحضر لك أمة؟ قالت: أنا تزوجت رياحاً ، وما تزوجت جباراً عنيداً، لا داعي لأمة، هذا شأن الملوك والأمراء والجبابرة، فعجنت، فلما جاء الليل تناوم رياح ليرى على أي شاكلة هي، يا عبد الله! إن الجنس يألفه الجنس، وإذا كنت طيباً فلن يكرمك الله إلا بالطيب فاطمئن، فتناوم فقامت ربع الليل، ثم نادته يا رياح قم، فقال: أقوم، فبقي نائماً، فمضى ربع الليل الثاني، فقالت: يا رياح قم، فقال: أقوم، فمضى الربع الثالث، فقالت: يا رياح قم، فقال: أقوم، ودخل الربع الثالث فقالت: يا رياح ! قد عسكر المعسكرون، وفاز المحسنون، يا ليت شعري من غرني بك! ليت نساءنا يسلكن هذا المسلك فيقلن للرجال: يا ليت شعرنا من غرنا بك عندما اتقيت الله في بيتنا، وجعلت بيتنا قطعة من النار، من غرنا بك؟ من غرنا بك يا رياح ، وكانت بعد ذلك إذا دخل الليل تكون في أجمل هيئة، فإن كان له بها حاجة أصابا حاجتهما ثم تفرغا لعبادة الله، وإلا شرع كل واحد منهما في مناجاة الله، هذه ذؤابة مع زوجها المبارك رياح .

    الفضيل بن عياض وقيامه الليل

    وهكذا كان سلفنا، هذا الفضيل بن عياض إمام المسلمين في زمنه، وأطلق عليه الذهبي في تذكرة الحفاظ أيضاً لقب شيخ الإسلام، وهو إمام المسلمين بلا نزاع، ورحمة الله على هارون الرشيد عندما يقول: ما رأيت أهيب من مالك ، ولا أورع من الفضيل . حج هارون الرشيد مرة من المرات فوجد في قلبه قسوة، واحتاج إلى من يعظه ويرققه فقال للفضل بن الربيع حاجبه: خذني إلى بعض العلماء في مكة، فأخذه إلى عدد وهو يقول: ما أشفيت قلبي، ثم جاءا إلى بيت الفضيل بن عياض فأنصتا عند الباب وإذا بالرجل يصلي، ويقرأ قول الله ويكرره ويبكي: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28]، الآيات في سورة الطور التي يقول الله فيها: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الطور:17-25]، هذا وصف أهل الجنة فليفتش كل واحد منا في نفسه عن هذا الوصف، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:25-26]، في أهلنا لا في مسجدنا، يعني: إذا جن علينا الليل ودخل كنا مشفقين خائفين وجلين تتقطع قلوبنا، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28].

    فانتظر الخليفة وحاجبه على باب الفضيل حتى انتهى من الركعتين، فطرقا الباب، فقال: من؟ قال: هارون ، قال: ما لي ولـهارون ، فقال له حاجب هارون : أوليس له في عنقك بيعة، وله عليك حق الطاعة؟ افتح الباب، ففال: نعم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يذل المرء نفسه، والحديث وارد في سنن الترمذي وغيره: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يذل المرء نفسه ) فلينصرف، قال: عليك عزيمة أمير المؤمنين أن تفتح، ففتح، فلما دخل هارون ووضع يده بيد الفضيل صاح الفضيل وقال: أوه، يد ناعمة لو نجت من النار، فبعد أن وعظه قال: هل عليك ديون يا فضيل ؟ قال: نعم، قال: علي ديون لربي، الويل لي إن لم يعف عني ولم يسامحني، قال: ما أسألك عن هذا، قال: عن أي شيء تسألني؟ قال: عن ديون العباد، قال: ما أمرنا الله بهذا، لقد تكفل الله لنا بذلك، أمرنا أن نعبده ووعدنا أن يرزقنا، الرزق ليس منك، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

    ولذلك كان بعض الصالحين يقول: والله! لو أن أهل مصر كلهم عيالي لما خشيت الفقر، علينا أن نعبده كما أمر، وعليه أن يرزقنا كما وعد، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].

    هذا هو الفضيل بن عياض ، بلغ من مكانته أن أمير المؤمنين في الحديث في زمانه سفيان بن عيينة كان إذا التقى به قبل يده، كما روى هذا الذهبي في تذكرة الحفاظ، ومن كلامه الطيب: من جلس مع صاحب بدعة منع من الحكمة.

    وهذا الوصف كان لجميع التابعين رضي الله عنهم أجمعين، ولمن جاء بعدهم، كلهم كانوا على هذا المسلك، فهذا الإمام أبو إسحاق الشيرازي حبر المسلمين في زمانه المتوفى سنة 476 للهجرة، الذي غسله إمام الحنابلة ابن عقيل عليه رحمة الله وعليهم جميعاً رحمة الله، كان إذا جاء الليل يقوم وينادي رب العالمين جل وعلا بالصلاة والقرآن والذكر، وبأبيات رقيقة من نظمه، فيقول:

    لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد

    وقلت يا عدتي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد

    أشكو إليك أموراً أنت تعلمها ما لي على حملها صبر ولا جلد

    وقد مددت يدي بالذل معترفاً إليك يا خير من مدت إليه يد

    فلا تردنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل من يرد

    يردد هذا ويبكي عليه رحمة الله.

    بيوت التابعين في ظلام الليل قراءة وقيام

    وكان وصف التابعين على هذه الشاكلة، فهذا أبو الأحوص الهذلي ، وهو عوف بن مالك ، ثقة من التابعين روى له البخاري تعليقاً، وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة، كان يقول: إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقاً، والطروق: هو المجيء في الليل، أن يأتي الرجل إلى الفسطاط، أي: إلى المخيم، وإلى محل المسلمين في الليل، إن كان الرجل ليطرق الفسطاط طروقاً، فيسمع لهم دوياً كدوي النحل بالقرآن، فما بال هؤلاء يأمنون ما كان أولئك يخافون؟! إذا جاء الرجل إلى محلة من المسلمين في زمن التابعين يسمع لتلك المحلة في الليل دوياً بالقرآن كدوي النحل، من كل بيت يوجد صوت خافت تتجمع هذه الأصوات ويكون لها دوي، هنيئاً لمن اكتحلت عيناه برؤية تلك الحياة، فمر في أحياء المسلمين في الليل ولها دوي بالقرآن كدوي النحل! ماذا نسمع في محلاتنا، وفي بيوتنا وفي عماراتنا في هذه الأيام؟! بارزنا الله جل وعلا بالغناء وقلة الحياء الذي حرم قبل تحريم الخمر، سبحان الله العظيم! إن كفر الهوى أعظم من كفر الشراب، أعظم بكثير، ولذلك أكثر الناس سكارى من غير شراب، ويعبدون أهواءهم، وهم يظنون أنهم يعبدون ربهم.

    إخوتي الكرام! والله الذي لا إله إلا هو! إن من استحل الغناء سيمسخه الله في قبره قرداً أو خنزيراً، ولعله سيمسخ فينا عدد من الناس على قيد الحياة ونراهم بأعيننا ليثبت لنا عن طريق العيان صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، ويتحقق ما أشار إليه، ولعل الله يمد في الأجل بالكلام على هذه المفسدة التي عمت البيوت في هذا الوقت، الغناء وقلة الحياء، الذي يلعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله، والذي يلعب بالنرد ثم يقوم ويصلي كمن يغمس يده في دم خنزير، ثم يقوم ويصلي كما في المسند، فلا تقبل صلاته، والله إن شناعة الغناء أعظم من شناعة النرد بكثير، فإذا سمع الغناء والمسلسلات التي لو سمعها الزهاد العباد لانحرفوا، ثم بعد ذلك أراد أن يصلي، ليصلي بجسم حاضر وقلب في كل واد يهيم من أودية الشيطان.

    إخوتي الكرام! لا تظنوا الأمر يسيراً، هذا المنهال بن عمرو من رجال البخاري والسنن الأربعة، من تلاميذه شعبة بن الحجاج ، جاء يوماً إلى بيته ليسمع الحديث منه، فسمع في بيته صوت طنبور، شيء من الآلات يضرب به، نعوذ بالله مما ندرك في هذه الأوقات، سمع صوت طنبور، وهو من هو من الأئمة المحدثين، فانحرف شعبة عنه، وقال فيه كل سوء، وعلماء الحديث ما خطئوا شعبة ، قالوا: أنت لو أثبت أن الطنبور جرى من بيته وبعلمه فهو فاسق ترد شهادته، ولا يجوز حمل الحديث عنه، وترد روايته، ولكن يا عبد الله! لعل صوت الطنبور كان من بيت جاره، هل تحققت يا شعبة ؟! قال: لا، إذاً: كيف نقذف هذا الرجل بأمر لم نتحقق منه، إنما قال علماؤنا: لو سمع صوت الطنبور من بيته لكان هذا فسقاً، هذا في المنهال بن عمرو من شيوخ البخاري والسنن الأربعة، سمع من بيته هذا الصوت، فقدح فيه وقال كل سوء، وعلماؤنا أقروه، وقالوا: يحتاج فقط لإثبات، هل هذا الطنبور من بيته أو من بيت جيرانه واشتبه عليك الصوت؟

    لقد بدأنا نستحل هذا الأمر، قال عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح البخاري وغيره: ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرو والحرير والخمر والمعازف )، قال الحافظ ابن حجر : المعازف هي آلات اللهو بأسرها، قال: (ولينزلن أقوام إلى جنب علم لهم تروح عليهم سادحة لهم، فيأتيهم الفقير لحاجته، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)، وثبوت المسخ في هذه الأمة تواترت به الأحاديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وما ندري في أي وقت سيقع؟ ولعله عما قريب يستيقظ بعضنا في يوم من الأيام ويتحدثون بأنه مسخ اليوم بأسرة فلان، ولا تستعظموا هذا، والأمر كما قال الله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7].

    يقول الإمام ابن القيم : ومن لم يمسخ منهم في حياته مسخ في قبره. سبحان الله! البيوت كانت تتنور وتعج بقراءة القرآن وذكر الرحمن، ولها دوي كدوي النحل، واليوم أصبح فيها ما يصك الآذان! عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم، فمن سلم من هذه المفسدة في هذا الوقت فليحمد الله، واتقوا الله في أنفسكم، وأحيوا قيام الليل فيكم وفي أهلكم وفي أولادكم وفي جيرانكم، وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فوالله ما تحفظ الأمة في هذا الوقت إلا بواسطة ثلة قليلة من المتهجدين لله في الليل، ولولا أهل الطاعة لهلك أهل المعصية.

    يقول سليمان الأخناصي من التابعين عليه رحمة الله: رأيت علياً في النوم فأنشد لي بيتين، فقال:

    لولا الذين لهم ورد يقومون وآخرون لهم فرد يصومون

    لدكدكت أرضكم من تحتكم سحراً لأنكم قوم سوء لا تطيعون

    لولا هؤلاء لدمر الله الأرض ومن عليها، ولكن يحفظ الله جل وعلا العباد بواسطة هؤلاء، ولولا شيوخ ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع، لصب عليكم البلاء صباً.

    هذا فيما يتعلق بمسلك سلفنا، وما أحرانا أن نسير على شاكلتهم، فهم أسوتنا وقدوتنا، وهم سلفنا الصالح.

    1.   

    أسباب سمو منزلة قيام الليل

    الأمر الرابع: لماذا كان لليل تلك المكانة؟ وما هي فوائده العظيمة التي يحصلها الإنسان؟

    أتكلم على هذا وعلى ما بعده بإيجاز لأنهي الموضوع على وجه التمام في هذا الوقت إن يسر ربنا الرحمن:

    إن الأمور التي كان من أجلها لقيام الليل تلك المنزلة العالية أمور عظيمة كثيرة، أبرزها تدور حول خمسة أمور:

    الأمر الأول: أن الإنسان عندما يقوم في الليل ويتهجد يكون هذا أخلص لربه جل وعلا؛ لأنه يكون في وقت سر لا يطلع عليه أحد، وعبادة السر تفضل عبادة العلانية كما ثبت هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي معجم الطبراني الكبير وكتاب الزهد لـعبد الله بن المبارك بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية)، وصدقة السر تزيد على صدقة العلانية بسبعين ضعفاً، وهكذا صلاة الليل، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، كما ثبت في معجم الطبراني بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر )، فصلاة الليل أخلص لله لأنه يكون في وقت سر لا يطلع عليه أحد.

    الأمر الثاني: أنه أشق على النفس، والمجاهدة في ذلك أكثر، ولذلك يكون للإنسان أجر أكثر مما لو قام بهذه العبادة في النهار، والأمر كما قال الله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل:6]، وناشئة الليل لا تكون إلا بقيام بعد نوم، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6]، أي: أثقل على النفس وأصعب وأعظم، ولذلك يكون الأجر أكثر.

    الأمر الثالث: في الليل يحصل مزيد تدبر وتفهم، فالشواغل يبتعد عنها الإنسان، ويكون قد استراح منها عن طريق النوم، وليست أنوار تبهر بصره وتخسفه هنا وهناك، فيتواطأ القلب واللسان على التفهم والتدبر، وقد قرأ أبو عمرو إمام البصرة، وابن عامر إمام الشام قول الله: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6]، قرءا: (إن ناشئة الليل هي أشد وطائاً وأقوم قيلاً)، أي: مواطأة للقلب مع اللسان، فيتفق القلب مع اللسان لعدم الشواغل، والقراءتان ثابتتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والإنسان بعد ذلك لا يوجد هناك ما يخطف بصره، ولا ما يلفت ذهنه هنا وهناك.

    الأمر الرابع: أن الليل موسم لتنزل الرحمات، ولنزول رب الأرض والسماوات، فعظمت العبادة فيه، وكان لها ذلك الأثر الكبير؛ لأن الوقت وقت مبارك، والزمن زمن فاضل.

    الأمر الخامس: إن قيام الليل والتهجد لله في الليل عبادة جامعة لطهارة القلب وبنائه، فالقلب يطهر عن الرذائل، وبعد ذلك يتحلى بالفضائل، ولذلك لا يقوم الليل منافق، وإذا اشتغل الإنسان بالذنوب لا يتيسر له قيام الليل كما سيأتينا، فهذا يطهره، ثم بعد ذلك يحليه بالفضائل والأنوار التي تنزل عليه في ذلك الوقت، ولذلك ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة والمستدرك بسند صحيح على شرط البخاري وأقره عليه الذهبي ، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لربكم، وفيه تكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم )، ثبت في سنن الترمذي والطبراني عن سلمان زيادة: ( ومطردة للداء عن الجسد )، أي: يصح الجسد وينشطه ويقويه، فكان لقيام الليل تلك المنزلة لهذه الاعتبارات العظيمة.

    1.   

    فوائد قيام الليل

    وأما الفوائد التي يجنيها الإنسان من قيام الليل فهي جميلة تدور حول خمسة أيضاً:

    الأولى: أن الإنسان إذا قام في الليل متهجداً لله جل وعلا، يسهل عليه القيام يوم يقوم الناس لرب العالمين، والجزاء من جنس العمل، فمن استراح هنا وقضى أيامه في البطالة فإنه يتعب هناك، ومن تعب هنا وفي هذا التعب راحته وسعادته، ولذته وبهجته، فإنه يستريح هناك، والجزاء من جنس العمل.

    الأمر الثاني كما قال سلفنا: إن من يكثر القيام في الليل إذا كان من الرجال يعوضه الله يوم القيامة ويثيبه كثرة الأزواج من الحور العين، والسبب في هذا: أنه عندما ابتعد عن أهله في ذلك الوقت عوضه الله جل وعلا في يوم القيامة أضعاف ما فاته، وهذا أيضاً لأن الجزاء من جنس العمل.

    الأمر الثالث: في ذلك صحة جسم وبهاء وجه، ولذلك لما قيل للحسن البصري عليه رحمة الله: لم كان المتهجدون أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بربهم فأعطاهم من نوره، فإذا قام الإنسان في الليل يكسي الله وجهه نوراً ونضرة، فهذا أيضاً من الفوائد التي يحصلها الإنسان.

    الأمر الرابع: أن الفتوحات والتوفيق وإرشاد الناس لخير الأمور وأسدها وأفضلها، هذا يتم إذا كان الإنسان قائماً، فالله يهديه لسبل الخير من حيث لا يحتسب، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، ولذلك كان سري السقطي يقول: الفوائد ترد في ظلم الليل، أي: التحف والطرائف والاستنباطات، وإذا خفي على الإنسان شيء إذا قام في ظلام الليل يفتح الله جل وعلا عليه فيدركه، ويهتدي إلى الأمر، ويعلمه من حيث لا يحتسب، فإن الفوائد ترد في ظلم الليل.

    الأمر الخامس وهو أعظم الفوائد: أن الذين يقومون في الليل ويتهجدون يمتعهم الله جل وعلا يوم القيامة برؤية وجهه الكريم، كما خلوا به كل ليلة ولم يروه، يكشف الحجاب بينهم وبينه في ذلك اليوم العظيم ليروه، ولذلك قال الحسن البصري عليه رحمة الله: والله لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم يوم القيامة لذابوا، فهؤلاء يمتعون بأعظم النعيم بالنظر إلى وجه الله الكريم.

    1.   

    الأسباب المعينة على قيام الليل

    إخوتي الكرام! إن سأل الإنسان عن الأسباب التي يتيسر للإنسان بها القيام، وهي آخر المباحث عندنا، فأقول: إن الأسباب التي تيسر عليك كذلك كثيرة أبرزها خمسة أيضاً:

    تحري أكل الحلال والابتعاد عن الحرام

    السبب الأول وهو أعظمها: أن يأكل الإنسان الحلال، وأن يبتعد عن الحرام، مثل أكل الربا والغش والاحتيال الذي فشا فينا، ولعل عدد المرابين في هذا الوقت من كل مائة سبعين، وربما يزيدون، ينتسبون إلى الإسلام اسماً ولا يصلي ويرابي، وأما إن كان من المصلين فصلاة الفريضة يضرب الله بها وجهه، فهل يوفق لقيام الليل؟ هيهات هيهات أن يوفق لمجالسة الله ومناجاته في ذلك الوقت العظيم! وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله طيب لا يقبل طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ).

    وفي معجم الطبراني الأوسط بسند فيه رواة قال الحافظ الهيثمي : لا أعرفهم، فالحديث ضعيف، وما قبله وغيره يشهد له، أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! ادع لي أن أكون مستجاب الدعوة، قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك، ثم قال: يا سعد ! إن العبد ليقذف اللقمة من الحرام في جوفه فلا يقبل الله له أربعين يوماً صلاة )، فإذا أردت أن توفق للقيام فاحرص على أكل الحلال: ( فكل لحم نبت من حرام فالنار أولى به )، كما ثبت هذا في سنن الترمذي وغيره عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال سهل التستري عليه رحمة الله: من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى، ومن أكل الحرام عصى الله شاء أم أبى، فإذا وضعت في السيارة وقوداً سليماً فإن السيارة تمشي، وإذا وضعت فيها تراباً أو غير ذلك فلا تتحرك، وهكذا البدن، إذا أدخلت فيه حلالاً يوفقك الله جل وعلا لمناجاته، وقد كان سلفنا يحذرون من مجالسة ثلاثة من العلماء: الأول: المبتدع، فعلى لسانه شيطان يتكلم، والثاني: الذي لا يبالي ما يدخل في جوفه من حلال أو حرام، فإنه ينطق عن الهوى، والثالث: الذي لا عقل له، فما يفسده أكثر مما يصلحه، أحمق مهووس، هؤلاء الثلاثة ينبغي الحذر منهم.

    ترك الذنوب

    الأمر الثاني: ترك الذنوب على سبيل العموم والكل، فمن لوث نفسه وقلبه بشيء من الذنوب بالنهار لا يوفق للقيام في الليل، فمن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ولذلك لما قيل لـابن مسعود رضي الله عنه: لا نستطيع قيام الليل؟ فقال: أبعدتكم ذنوبكم، وقيل للحسن البصري : إنه لا يتيسر لنا قيام الليل، فقال: قيدتكم خطاياكم، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل، وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله الذي تقدم معنا ذكره يقول: لا تفوت أحداً صلاة الجماعة إلا بذنب يذنبه.

    إن اللئيم عن المكارم يشغل

    فإذا منع من صلاة الجماعة لذنب فمن باب أولى سيمنع من القيام بسبب الذنوب والعيوب.

    وقد قال بعض السجانين في زمن التابعين: كنت سجاناً ثلاثين سنة، فكل من يؤتى به إلى السجن في الليل أسأله: هل شهدت العشاء في جماعة؟ فيقول: لا، فأقول: هذا من شؤم إعراضه عن الله وقع فيما وقع فيه، ولو صلى العشاء في جماعة والفجر في جماعة لكان في حفظ الله وذمته، ووفق لقيام الليل، ونحي عن تلك الأماكن، ثلاثين سنة يشرف على السجن، يقول: ما دخل أحد السجن وقد صلى العشاء في جماعة، فهذا الأمر ينبغي للإنسان أن يحرص عليه وهو أن يبتعد عن الذنوب.

    الابتعاد عن الفضول وما لا فائدة منه في كل شيء

    الأمر الثالث: أن يبتعد عن الفضول، أو كل ما لا فائدة منه من كلام فليترك الثرثرة، ومن نظر، ومن أمور لا يحتاج إليها، من فراش وثير وما شاكل هذا، فليقتنع وليقتصد، وليقنع بما يوصله إلى غايته، وليترك الفضول من كل شيء؛ فضول النظر والكلام والسماع وغير ذلك، كل هذا ليبتعد عنه؛ لئلا يشغله ذلك عن قيام الليل، وهذا يدخل فيما رواه الترمذي وغيره بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وفي الصحيحين وغيرهما عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، وقد تقدم معنا في بيان هدي الإسلام في النوم الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنه: ( أن فراش النبي صلى الله وسلم كان من أدم -من جلد- حشوه ليف ).

    وفي شمائل الترمذي عن أمنا حفصة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان فراشه في بيتها مسحا )، أي: كساء خشن غليظ، ( مسحاً نثنيه ثنيتين فينام عليه، فقلت -أي: حفصة رضي الله عنها- لو ثنيته أربع ثنيات لكان أوطأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فثنيته أربع ثنيات فقام النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن استيقظ وقال: هل غيرتم فراشي؟ قلنا: لا، إلا أننا كنا نثنيه ثنيتين فثنيناه أربع ثنيات، فقال: إنه منعني عن قيام الليل هذه الليلة، أعيدوه كما كان ).

    عباد الله! تفقدوا فرشكم، إن الناس في هذا الوقت -وخاصة عند بداية العرس- يريدون أن يؤثثوا بيتاً كبيت فرعون وقارون ، سرير وثير إذا نام عليه الإنسان لا يستيقظ إلى الظهر، والأسرة التي بدأت تباع الآن من أسرة إيطالية أو أميركية، يا عبد الله! هذه ليست للمسلمين، هذه للملاعين، للإيطاليين والأمريكيين، دعك منها يا عبد الله، وعلى الجانب الأيمن موسيقى شرقية، وعلى الجانب الأيسر موسيقى غربية! وإذا نام الزوجان تضرب الموسيقى حتى يناما، ولا يستيقظا بعد ذلك إلا إلى جهنم وبئس المصير! هكذا تؤثث بيوتنا في هذا الوقت، كان فراش خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه يثنى أربع ثنيات ويمنعه عن قيام الليل، فماذا سيكون حال غيره؟! تعهدوا أنفسكم واتركوا الفضول، فإن الفضول سيقودنا للعمل المرذول، وسيحول بيننا وبين مناجاة الله جل وعلا في السحر.

    نوم القيلولة

    الأمر الرابع: ينبغي للإنسان أن يأخذ بحظه من القيلولة في النهار، وهي النوم الذي يكون بعد تناول طعام الغداء، من الظهر إلى العصر، ينام ولو دقائق، فهذه النومة اليسيرة تعينه على قيام الليل، ورد في سنن ابن ماجه بسند فيه ضعف لوجود زمعة بن صالح فيه وهو ضعيف، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، واستعينوا بالقيلولة على قيام الليل )، وكان الحسن البصري رضي الله عنه عندما يمر على أهل السوق يقول: أظن ليل هؤلاء ليل سوء؛ لأنهم لا يقيلون، أي: إذا كانوا لا يقيلون فلن يستيقظوا لمناجاة الله سبحانه وتعالى فيكون ليلهم ليل سوء، فليأخذ الإنسان بحظه من القيلولة وإن كان وقتاً يسيراً.

    تذكر الموت والدار الآخرة عند النوم

    الأمر الخامس: إذا أردت أن تنام يا عبد الله! فتذكر الموت، وأنك ستنام بعد ذلك نومة تقول فيها: رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت، وأنك ستنام نومة يقول فيما بعد تلك النومة كل واحد من بر وفاجر: واحسرتاه! وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، تذكر هذا يا عبد الله! فإذا مت فأعظم ما تسأله من ربك الرجعة إلى الدنيا، فافرض أنك مت وقد أرجعك الله فخذ استعدادك، وخذ أهبتك يا عبد الله قبل أن تتمنى فيقال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]، وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ [ص:3].

    ولذلك قالت رابعة لـسفيان : يا سفيان ! إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، وإذا ذهب بعضك فيوشك أن يذهب كلك. فانتبه لنفسك يا عبد الله! تأمل هذا يا عبد الله! تأمل إلى أي شيء ستصير بعد النومة الحقيقية عندما تلقى في القبر، إذا استحضرت هذا عند نومك ستوفق لمناجاة ربك، تأمل حال القبور، فحالها كما قال القائل:

    أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر

    وأين المدل بسلطانه وأين المزكى إذا ما افتخر

    والجواب يا عبد الله!

    تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر

    تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور

    فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما ترى معتبر

    أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعلنا ممن يقومون الليل، وممن يتقبل ذلك منهم إنه على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفنا غير مفتونين بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعلنا من المحبوبين عندك، واجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يا رب العالمين.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002411