إسلام ويب

طاغوت العرفللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من أعظم منن الله تعالى على عباده أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليبين لهم الخير من الشر، والخطأ من الصواب، وقد عارض أقوام هذه المنن، وحاولوا إيجاد شريعة حاكمة تتسم بالعرف والعادة، فحكموها واستساغوها ورفضوا دعوة الأنبياء والرسل بحجة (إنا وجدنا آباءنا)، وكانت هذه الشريعة الطاغوتية سبباً في دخولهم النار والخلود فيها، وهي ليست شريعة قاصرة على مجال معين بل في كل المجالات منها: مجال علاقة الرجل بالمرأة في النكاح واللباس والاجتماع وغيرها. وهي لا شك باطلة مهلكة موجبة النار.

    1.   

    أعظم نعم الله على العباد إرسال الرسل

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! إن نعم الله جل وعلا مهما كثرت وتعددت وتنوعت لا تخرج عن نوعين اثنين: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد.

    وإن أعظم نعم الله علينا هي نعمة الهداية والإرشاد، بأن أرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب ليخرجونا من الظلمات إلى النور، ولولا أن الله منّ على هذه الأمة ببعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لكانوا أحط دركة من الأنعام، فهذه النعمة -أعني نعمة الهداية والإرشاد، نعمة إرسال الرسل إلى العباد- هي أعظم منن الله ونعمه على عباده، وهذه النعمة من انتفع بها واسترشد بها وأقبل عليها في هذه الحياة حفظ من الضلالة في الدنيا، وحفظ من الشقاء والضياع والهلاك في الآخرة، كما قال الله جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].

    ثبت في تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، والأثر إسناده صحيح، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، وسعيد بن منصور في سننه، والحاكم في مستدركه، وإسناده -كما قلت- صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أجار الله قارئ القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة، ثم تلا قول الله جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ [طه:123] -أي: في هذه الحياة- فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، أي: لا يهلك ويعذب بعد الممات.

    وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من قرأ القرآن وعمل بما فيه فلا يضل في الدنيا، ويقيه الله سوء الحساب يوم القيامة، ثم تلا قول الله جل وعلا: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].

    فهذه النعمة العظيمة الجسيمة، وهي إرسال الرسل عليهم صلوات الله وسلامه إلى العباد؛ ليخرجوهم من الظلمات إلى النور، هي أعظم منن ونعم الله على عباده، وهذه النعمة من عكف عليها وأقبل عليها وانتفع بها ذاق لهذه النعمة حلاوة عظيمة، تتضاءل بجانبها جميع اللذائذ والحلاوات، كما ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، والحديث عن العباس بن عبد المطلب عم نبينا عليه الصلاة والسلام ورضي الله عن العباس وعن سائر الصحابة الكرام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا )، فإذا أقبل على هذه النعمة سيذوق لها حلاوة وبهجة، فسيطمئن قلبه وينشرح صدره وتسكن نفسه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    وهذه النعمة نعمة عظيمة جليلة، هي أعظم نعم الله على عباده، من انتفع بها سعد في هذه الحياة، وسعد بعد الممات.

    1.   

    أصناف المعارضين لدعوة الأنبياء والرسل

    وقد عارضها أربعة أصناف من الخلق حالوا بينها بين وصولها إلى المخلوقين، من العلماء الفاجرين، والحكام الظالمين الجائرين، والعباد الجاهلين، والمتفلسفة المخرفين، وقد بينت سابقاً وجه معارضة كل من هؤلاء لهذه النعمة، وكيف وقف كل واحد من هؤلاء حجر عثرة في طريق هذه النعمة، ووصولها إلى العباد الذين أرسل الله إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليهتدوا بهذه النعمة، فوقف هؤلاء الأصناف أمام هذه النعمة، وحالوا بينهم وبين هذه النعمة الجليلة الكريمة.

    1.   

    نشوء العرف

    نتج عن هؤلاء الأصناف الأربعة بعد ذلك شريعة بين الناس تسمى بالعرف والعادة، فعكف الناس عليها من دون شريعة رب العالمين، واحتكموا إليها في جميع شئون حياتهم.

    شريعة العرف والعادة: أن يسيروا على ما سلكه آباؤهم وأجدادهم وما عليه أعراف قومهم، نتج عن هؤلاء الأصناف الأربعة هذا العرف العام، وهذه العادة التي يسير الناس عليها.

    والعرف يصيغه ويصنعه ويحدده ويوجده علية القوم وخاصتهم، وهم هؤلاء الأصناف الأربعة، ففي كل يوم يحدث الناس شيئاً من الأهواء والعادات والضلالات والبدع، فيأخذ الناس بها ويهملون شيئاً من الهدى والسنن.

    ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله موثقون -كما قال الإمام الهيثمي في المجمع- عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما أتى على الناس عام إلا وأحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن. فنور الله جل وعلا يصبح غير ظاهر بين الناس، والبدع هي الشريعة التي يحتكم إليها الناس، حتى تحيا البدع وتموت السنن، وهذه البدع يعكف الناس عليها على أنها أعراف عامة، وتقاليد لازمة لا يجوز الخروج عنها، فإذا تعارف الناس على هذه البدع وتتابعوا عليها لا ينكر بعضهم على بعض إذا فعلوا شيئاً منكراً خلاف شريعة الله المطهرة.

    روى الإمام أحمد في المسند، وابن ماجه في السنن، وأبو يعلى في مسنده، عن أنس رضي الله عنه: أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أي: في أي حالة من الانحطاط نصل إليها، فإذا وصلنا إليها فإننا قد تركنا قطب الإسلام، وأعظم دعامة فيه، ألا وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم، إذا كان العلم في رذالتكم -في الفساق- والملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم )، أي: إذا وجد هذا فيكم فإنكم تتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

    والحديث صحيح، ورواه الطبراني أيضاً في الأوسط من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين.

    فنتج عن الأصناف الأربعة عرف جاهلي احتكم الناس إليه دون شرع الله المحكم، دون شرع الله العلي، فاحتكموا إلى هذا العرف، فإذا تعارفوا على المنكرات لن ينكر بعضهم على بعض، ورحمة الله على شيخ الإسلام الشيخ: مصطفى صبري عندما كان يقول ويسرد وينشد قول الشاعر:

    وتعارف القوم الذين عرفتهم بالمنكرات فعطل الإنكار

    أي: عطل الإنكار على من يفعلون المنكر؛ لتعارف الناس على فعل المنكر، فصار المنكر معروفاً، ولو أدرك الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله زماننا لقال:

    وتعارف القوم الذين عرفتهم بالمنكرات فأنكر الإنكار

    ليس عطل، إنما إذا أنكرت في زماننا هذا على من يفعل المنكر فإنه ينكر عليك، كأن المنكر صار شريعة محكمة يتعامل الناس على حسبها فلا يجوز الإنكار عليها.

    إخوتي الكرام! إن هذا العرف الجاهلي الذي وجد هو من أثر هؤلاء الأصناف الأربعة، هذا العرف الجاهلي هو أول طاغوت عودي به رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهو أعظم شيء يرد به هدى الله ويدفع به نوره، هذا هو طاغوت العرف والعادة، وهذا الطاغوت هو العصا الذي كان يلوح بها الجاهليون في وجوه رسل الحي القيوم عليهم صلوات الله وسلامه، ويلوح بها كل جاهلي في كل عصر في دفع نور الله وهداه.

    وكانت حجة فرعون -وهي الحجة الفرعونية- وهي قوله: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، والحجة القرشية هي قولهم: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7].

    1.   

    العرف والعادة سبب إعراض المشركين

    إن طاغوت العرف والعادة ضل الضآلون بسببه، وقد أخبرنا الله جل وعلا عن ضلال الأمم وضلال المشركين في كل وقت بتقليدهم لآبائهم واتباعهم لأعراف قومهم، يقول الله جل وعلا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، سبحان الله! فهذا رب، وهذه عادات وأعراف وتقاليد، اتبعوا ما أنزل الله ربكم وسيدكم ومولاكم فإنه يعلم ما ينفعكم مما يضركم، وهداكم للتي هي أقوم؛ لتسعدوا في هذه الحياة وبعد الممات: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ [البقرة:170]، فما لهم حجة في دفع هذا الهدى، إلا أن قالوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:170-171]، أي: حالنا مع الكفار عندما ندعوهم إلى دين العزيز الغفار سبحانه وتعالى كحال من يدعو بهيمة ويناديها، فالبهيمة لا تسمع من ندائه إلا أصواتاً وصياحاً، لكن لا تفقه ما يريد بتلك الأصوات، وماذا يعني بها: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [البقرة:171]، أي: يصيح ويصرخ: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، فلو صحت ببهيمة أو ناديت حيواناً ممن يمشي على أربع فماذا يسمع منك؟ يسمع الصراخ والصياح وهكذا حالهم، لا يسمعون من نوره وهداه عندما يعرض عليهم إلا ألفاظاً لا تؤثر معانيها في قلوبهم.

    إذاً: هذه حجة المشركين: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170].

    وهكذا ذكر الله هذا المعنى في سورة لقمان رضي الله عنه وعن سائر الصديقين الكرام، يقول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:20-21]، مثل قوله تعالى: أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [البقرة:170]، أي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال تعالى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21]، أي: يسلكون هذا المسلك، ويقلدون الآباء، ويسيرون على الأعراف والتقاليد، ولو كان ذلك سيجرهم إلى عذاب السعير؛ بسبب وسوسة الشيطان الحقير: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21]، إذاً: هذه آفة شنيعة ضل بها كثير من الضالين في العصور المتقدمة.

    ويقرر الله هذا المعنى في سورة الزخرف فيقول جل وعلا: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:19-24].

    وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، (عباد) جمع عبد، وكل من في السماوات والأرض عبد للرب جل وعلا، وقرأ المدنيان: نافع وأبو جعفر، والمكي ابن كثير، والشامي عبد الله بن عامر، وأحد البصريين يعقوب قرءوا جميعاً: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، كما قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف:206]، فالقراءتان هما: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، وقوله: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَنِ إِنَاثًا)، فهم في الملأ الأعلى بحضرة الرب جل وعلا، جعلوهم إناثاً: حكموا بأن فيهم صفة الأنوثة، والملائكة لا يتصفون بذكورة ولا بأنوثة، ثم بعد ذلك ازدادوا شططاً: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، قالوا: هؤلاء الملائكة هم بنات الله، فنسبوا لله ولداً، ثم ازدادوا في الشطط فجعلوا له أنزل الولدين، وأنقص الولدين منزلة عندما قالوا: له خصوص الإناث دون الذكور، إذاً: جعلوا الملائكة إناثاً ولله ولداً، وله خصوص الإناث من الأولاد: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات:158]، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21-22].

    وهذا القول كان بعض قبائل العرب يقول به كقبيلة خزاعة، فكانوا يقولون: إن الله صاهر الجن -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فولد له الملائكة، فهم بناته من الجن: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:158-160]، فجعلوا الملائكة إناثاً، وجعلوا لله ولداً وجعلوا له أنقص الولدين وأنزلهما شأناً وهو الأنثى دون الذكر، وهم لا يريدون أن يرزقوا بإناث: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21-22]، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19]، هل رأوا خلق الله للملائكة وأنهم بهذه الصورة؟ الواقع لا: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:19-21]، حجة متلوة بواسطة الرسل الكرام منزلة عليهم -عليهم الصلاة والسلام- بأن الملائكة إناث وهم بنات الرحمن: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف:21]، الواقع لا: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، (على أمة) أي: على ملة.

    قال أئمتنا المفسرون: لفظ الأمة جاء في القرآن بخمسة معانٍ:

    أولها: بمعنى الملة: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، أي: على ملة واحدة وهي التوحيد الخالص، تأتي الأمة بمعنى الملة وهو المراد هنا، ومنه: على ملة عبد المطلب -كما يأتينا في قول أبي طالب -، أي: على دينه.

    ثانيها: ويأتي لفظ الأمة بمعنى الجماعة، ومنه: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23]، جماعة.

    ثالثها: ويأتي بمعنى القائد المتبع في الخير، الذي يعدل أمة بنفسه كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120].

    رابعها: ويأتي لفظ الأمة بمعنى الحين والزمن والدهر والوقت، ومنه: قول الله تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [هود:8]، وقول الله جل وعلا: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف:45]، أي: بعد حين وبرهة ووقت، فهذا المعنى الذي يأتي إليه لفظ الأمة، وهو المعنى الرابع.

    خامسها: وهو قول الله جل وعلا: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، جمع أمة، فالأمة هنا بمعنى الصنف: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، أي: أصناف أمثالكم، فهذه المخلوقات أصناف أمثالكم تتوالد وتعرف بعضها وتتخاطب فيما بينها، وكل منها يعرف فاطرها وخالقها ويسبح بحمده سبحانه وتعالى.

    وهنا لفظ الأمة بمعنى الملة والدين: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، أي: على ديانة متبعة، على نحلة، على ملة، على شريعة: وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22].

    إذاً: طاغوت العرف والعادة من عكف عليه فهو مقطوع، وعن كل خير ممنوع؛ لذلك لا يوجد حجة في دفع نور الله وهداه والإعراض عن رسل الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه إلا هذا الأمر، ألا وهو اتباع العادات وتقليد الآباء والالتزام بالعرف الضال، وهذا له أثر خبيث، فكثيرٌ من الناس شقوا وضلوا وهلكوا بسبب العرف، وهو أعظم طاغوت عودي به رسل الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه.

    1.   

    أثر العرف والعادة في موت أبي طالب على الكفر

    لقد بذل أبو طالب عم النبي عليه الصلاة والسلام، ما في وسعه في نصرة ابن أخيه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فعرض نفسه للهلاك وماله للضياع، وبذل ما في وسعه، ولم يألُ جهداً في نصرة النبي عليه الصلاة والسلام، فآزره ونصره، لكن لم يتبع النور الذي أنزل معه، لم؟ إنما ذلك تقليداً للعرف والعادة، ولما احتضر أبو طالب جاءه نبينا عليه الصلاة والسلام كما في المسند والصحيحين من رواية سعيد بن المسيب عن والده المسيب بن حزن ، وليس للمسيب رواية في الصحيحين إلا هذه، جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمه أبي طالب عندما حضرته الوفاة، أي: بدايتها، ومرض مرض الوفاة، ولم يصل إلى درجة الغرغرة والاحتضار، فعندئذ لا يقبل الإيمان ولا تنفع التوبة، عندما جاءته مبادئ الموت وهو في مرض الموت جاءه نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال: ( يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله، قل: أشهد أن لا إله إلا الله؛ أشهد لك بها عند الله )، فقال أبو طالب : لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك، وكان أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة حاضرين عنده، فقالا: يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فكان آخر شيء قاله عم نبينا عليه الصلاة والسلام أبو طالب : هو على ملة عبد المطلب . هذا آخر شيء، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقول: ( والله لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك )، وهذا من باب رد الإحسان بالإحسان، فإذا نصر أبو طالب الإسلام، فينبغي أن يقابل بالاستغفار، إلا إذا نهينا من قبل ربنا جل وعلا: ( لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك )، فأنزل الله جل وعلا: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، وأنزل في أبي طالب : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، سبحانه وتعالى.

    انظر طاغوت العرف والعادة بحضور هذين الضالين المضلين أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة حين قالا: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال: هو على ملة عبد المطلب ، فمات على ذلك.

    ونبينا عليه الصلاة والسلام عندما بعث كان له أربعة أعمام: آمن به اثنان، وكفر به اثنان: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149]، آمن به حمزة والعباس رضي الله عنهما، وكفر به أبو لهب وآذاه وعاداه، وكفر به أبو طالب ونصره وأعانه، لكن كل منهما كافر، وحتماً لن يكون عذاب أبي طالب كعذاب أبي لهب وسائر الكفار، والله لا يضيع مثقال ذرة، وليس معنى هذا أنه سيدخل الجنة لا، ثم لا، إنما يخفف عنه العذاب في النار، فهو أهون أهل النار عذاباً، لكننا نجزم بأنه مات على الشرك، وأنه مخلد في نار جهنم، ولا ينفعه ما بذله نحو الإسلام ونصرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لعدم إيمانه بذي الجلال والإكرام.

    وقد ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي ، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي أيضاً، وابن أبي شيبة في المصنف، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وابن خزيمة في صحيحه، والحديث صحيح عن علي رضي الله عنه أنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعد موت والده أبي طالب ، فقال علي لنبينا عليه الصلاة والسلام: ( يا رسول الله! إن عمك ذلك الشيخ الضال قد مات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب فواري أباك -أي: ادفنه وغيبه تحت الأرض- ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني. يقول علي رضي الله عنه: فذهبت فواريته -وإذا مات للمسلم قريب كافر فإنه يلفه في خرقة كما يلف الشيء النجس، ثم يلقيه بعد ذلك في حفرة ويهل عليه التراب، ولا يكون له ما يكون للمسلمين من كفن حسن وغسل وصلاة وغير ذلك- فقال علي رضي الله عنه الله عنه: ثم جئته فأخبرته أنني واريته، فدعا لي وأمرني بأن أغتسل ).

    حكم الاغتسال من تغسيل الميت

    والاغتسال من تغسيل الميت ومن دفنه على المعتمد المقرر عند أئمتنا الكرام أنه مستحب وليس بواجب، وأذكر دليل الاستحباب في أدلة غير هذه، وأبين تعليل الأمر بالاغتسال من تغسيل الميت، والوضوء من حمله أيضاً إن شاء الله.

    ثبت في سنن أبي داود والترمذي والحديث بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من غسل ميتاً فليغتسل )، وفي رواية الترمذي : ( من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء )، أي: من غسل الميت فعليه الاغتسال، ومن حمله فعليه الوضوء، وهذا الحديث مع الحديث المتقدم، قال أئمتنا: يفيد أن الإنسان إذا غسل ميتاً يستحب له أن يغتسل، وإذا حمله يستحب له أن يتوضأ.

    أما استحباب الغسل؛ فلأن الإنسان إذا غسل الميت قد يصيب بدنه -عندما يغسله- شيء من النجاسة التي على بدن الميت، قد يخرج شيء من جوفه وأنت تصب عليه الماء فيتطاير عليك شيء من النجاسة، وهذا يقع سواء كان الميت مؤمناً أو كافراً، قد يخرج منه شيء من النجاسة من دم إذا كان جريحاً، أو من شيء يخرج بعد ذلك من قبله أو من دبره، ويصب عليه الماء فيأتي على المغسل شيء من النجاسة، فيستحب له أن يغتسل لا عن طريق الوجوب؛ لأن النجاسة ليست متحققة متيقنة، ولو تيقنت أنه على بدنك نجاسة لوجب عليك أن تغسلها، لكن بما أن هناك مجالاً للاحتمال فاقطع الشك بأن تغتسل، وتكون بذلك على أكمل الأحوال.

    وأما الوضوء عند حمل الميت إذا حملناه فلنتوضأ؛ وذلك لنزداد طاعة إلى طاعة، فحمل الميت طاعة، فيشرع لنا أن نضم إلى هذه الطاعة طاعة أخرى؛ لتكتمل عندنا الخيرات، لا من أجل احتمال نزول نجاسة ووقوع حدث علينا، هذا هو المعتمد، وهذا هو المقرر عند المذاهب الأربعة.

    وللإمام أحمد رواية فقط ليس عليها المذهب الحنبلي: أن من غسل كافراً وجب عليه أن يغتسل، من باب الوجوب لا من باب الاستحباب؛ لهذا النص المتقدم: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر علياً أن يغتسل، لكن عندنا ما هو أعم من ذلك، وهي رواية أبي داود والترمذي : ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ )، توضيح الرواية: (من غسله فعليه الغسل، ومن حمله فعليه الوضوء)، فهذا يدل على أن الأمر عام، سواء كان الميت مسلماً أو كافراً، وأنه للاستحباب، وهو المقرر عند أئمتنا الأتقياء رضوان الله عليهم أجمعين.

    وقد نقل عن جمع غفير من الصحابة تغسيل الموتى، وحملهم دون أن يغتسلوا أو يتوضئوا، روى الإمام البخاري في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم، والأثر وصله الإمام مالك في موطئه بإسناد صحيح، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما غسل ابناً لـسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل -وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحنطه- ثم دخل المسجد وصلى ولم يغتسل ولم يتوضأ، وهذا صحابي جليل يفعل هذا، مما يدل على أن ذلك الأمر للاستحباب.

    وثبت في الموطأ بإسناد صحيح كالشمس أيضاً: عن أسماء بنت عميس -وهي زوجة صديق هذه الأمة أبي بكر رضي الله عنه وعنها وعن سائر الصحابة الطيبين- أنه عندما مات أبو بكر رضي الله عنه غسلته زوجه أسماء بنت عميس ، فلما فرغت من غسله خرجت إلى الباب فقابلها المهاجرون الكرام رضوان الله عليهم، فقالت لهم: إني صائمة واليوم يوم دارج كما ترون في شدة البرد -والبرد إذا وقع في المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- يكون في الاغتسال شدة وصعوبة، لاسيما في تلك الأيام، عند عدم وجود حمامات يستحم فيها الإنسان- قالت: إني صائمة واليوم بارد فهل علي غسل؟ فأفتاها المهاجرون قاطبة بأنه ليس عليها غسل، ولا يجب عليها أن تغتسل، مما يبين أن الأمر الصادر من نبينا عليه الصلاة والسلام -بأن من غسل ميتاً فليغتسل- أنه للاستحباب لا للإيجاب، والعلم عند الله جل وعلا.

    تخفيف العذاب على أبي طالب بسبب شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام

    إخوتي الكرام! إن الله لا يضيع مثقال ذرة، وقد أخبرنا ربنا على لسان نبينا عليه الصلاة والسلام أنه سيخفف عن أبي طالب العذاب، وهو أهون أهل النار عذاباً، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من رواية العباس بن عبد المطلب وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ( يا رسول الله! عمك أبو طالب كان ينصرك ويحوطك ويمنعك فهل نفعه ذلك؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في غمرات من النار )، والضحضاح: هو الماء الرقيق القليل إذا خط فيه لا يجاوز كعبيك، هذا يقال له: ضحضاح، أي: نار تصل إلى كعبيه فقط لا ترتفع إلى الساقين، ومن باب أولى إلى الركبتين والفخذين وإلى وإلى.. وقوله: (ولولا أنا)، أي: لولا شفاعتي، وأن الله شفعني فيه لما بذله في نصرتي.

    وقوله: (لكان في غمرات)، أي: كانت النار تحيط به من جميع الجهات كما تحيط بالكافرين والكافرات، هو في ضحضاح من النار لا تصل إلى الكعبين ولا بمقدار شعرة.

    وثبت في الصحيحين أيضاً: أنه كان في الغمرات ثم أخرج منها برحمة الله وتشفيعه لنبينا عليه الصلاة والسلام فيه، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( وجدته في غمرات من النار فأخذته إلى ضحضاح من النار، ووضع في أخمصه -وهو المكان المنخفض في الرِجْل أسفل القدم، هذا المكان المنحني المجوف- جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً )، نسأل الله العافية والسلامة.

    وورد في بعض الروايات -وكلها في الصحيح- فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من النار، ويجعل له نعلين من نار، ويجعل له شراكان -أيضاً- من نار، لا يجاوزان الكعبين يغلي منهما دماغه ) نسأل الله العافية والسلامة.

    الشاهد إخوتي الكرام! أن أبا طالب ما منعه من اتباع النبي عليه الصلاة والسلام إلا طاغوت العرف والعادة، هذا الداء هو سبب هلاك كثير من الأشقياء.

    1.   

    العرف والعادة سبب في دخول النار

    وقد أخبرنا الله جل وعلا أن أهل النار عندما يدخلونها أنهم يدخلونها بسبب هذا الداء وهذا البلاء، انظر قول الله جل وعلا في سورة الصافات بعد أن حكى نعيم المؤمنين في الجنة: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:62-68]، ما سبب هذا؟ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ * وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ [الصافات:69-71]، أي: بهذا الداء وبهذا البلاء، بطاغوت العرف والعادة، بالتقليد الأعمى، وما تركهم الله بل أرسل إليهم الرسل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:72-74].

    إذاً: ضل أكثر الأولين باتباع الآباء، واتباع الأعراف والتقاليد الضالة الباطلة، والله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليحتكم الناس إلى رسل الله وإلى شريعة الله.

    1.   

    انحراف الأمم السابقة لتمسكها بما عليه الآباء والأجداد

    كانت الأمم السابقة تستنكر على رسلها، وتنكر عليهم أن يأمرهم رسلهم بخلاف ما عليه آباؤهم، فانظر مثلاً: قول قوم شعيب لنبي الله شعيب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كما حكى الله هذا عنهم في سورة هود، عندما أمرهم أن يتقوا الله في مكاييلهم وموازينهم، وألا يبخسوا الناس أشياءهم: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، أصلاتك تأمرك؟ دينك وصلاتك التي تنهاك عن الفحشاء والمنكر تأمرنا أن نترك ما عليه الآباء؟ أصلاتك تأمرك بهذا؟ دينك يقبل أن نخالف آباءنا وأجدادنا وأعرافنا وتقاليدنا؟ ما هذا الدين الذي يخرج على الأعراف والتقاليد؟ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]، هذه حرية شخصية، كوننا نتعامل بالغش، بالاحتكار، بتطفيف الكيل والميزان، بالربا بغير ذلك، ما دخل الشريعة في هذا؟ وما دخل الديانة بهذا؟ كما هو حال الأعراف الضالة في هذه الأيام، عندما تقول لإنسان: الربا حرام، القمار حرام، يقول: ما دخل الدين بهذا، أصلاتك تأمرك أن تتدخل في شئوننا الخاصة، وفي حرياتنا الشخصية، ما لك ولهذا: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87] من تطفيف وبخس واحتكار وقرض للدراهم والدنانير، أي: كسر لها بحيث تكون قيمتها ناقصة، فبدل أن يكون وزن المثقال من الدينار أربعة غرامات -مثلاً- ونصف من الذهب، يجعلونها ثلاثة ونصف، يتلاعبون فيها: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ [هود:87]، هذه حرية، وهذه شطارة في البيع والشراء وفي أمور الحياة، ما دخلك أنت في هذه الأمور؟

    ثم قال: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]. قال أئمتنا الكرام: الذي صدر منهم على الحقيقة: إنك لأنت السفيه الجاهل، لكن الله كنى عن قولهم بضده؛ لشناعة ما قالوه، فما حكى قولهم السفيه: إنك لأنت بدل الحليم السفيه وبدل الرشيد الجاهل، يعني: أنت سفيه جاهل، عندما تأمرنا بترك ما عليه آباؤنا، وبالتدخل في حريتنا الشخصية وفي أموالنا وغير ذلك، إنك لأنت السفيه الجاهل، وهذا أحد أقوال أربعة قيلت في بيان هذه الجملة المباركة، ومعناها أنهم قالوا ضدها لكن الله كنى عنها لشناعتها: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87]، وهم لم يقولوا هذا، بل قالوا: إنما أنت سفيه جاهل عندما تأمرنا بمخالفة آبائنا وتتدخل في شؤوننا وأحوالنا.

    وقيل: إنهم قالوا هذا: على حسب زعمك، أي: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87] فيما تزعم أنت أنك حليم رزين عاقل رشيد فطن، فكيف تنهانا عن تقليد الآباء؟ وعن أن نفعل في أموالنا ما نشاء، كيف هذا؟ أو أنهم قالوا ذلك استخفافاً به وازدراء واستنكاراً، يعني: أنت حليم رشيد عندما تأمرنا بذلك، أو أنهم حقيقة كانوا يعتقدون فيه الحلم والرشد، أي: ونحن نعتقد فيك العقل والرزانة والحصافة، لكن كيف يصدر منك تدخل في شئوننا وترك تقليد آبائنا؟ أليس هذا حال الحلماء وحال الراشدين؟ ليس هذا حالهم.

    معاني كلها معتبرة، وذكرها أئمتنا المفسرون، الشاهد: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود:87].

    1.   

    إسبال الثياب وعلاقته بالعرف والعادة

    طاغوت العرف والعادة وقف أمام هذه المنة التي منّ الله بها على عباده: إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهذا كما قلت: كلام عام في طاغوت العرف والعادة، فلنضع الأصبع على بعض أمثلة نعيشها في هذه الحياة أختم بها هذه الموعظة إن شاء الله.

    مثال أول: -كثر السؤال عنه- قال السائل: أريد أن تنبه على هذه القضية، قلت: لعله تأتي لها مناسبة إن شاء الله ضمن مباحث النبوة وأدرجها فيها إن شاء الله، وهذا وقتها، موضوع تطويل الثياب، وأن يجر الإنسان ثوبه بحيث ينزل عن كعبيه، صار عرفاً جاهلياً بين كثير من الناس؛ بناءً على فعل علية القوم من علماء سوء وغيرهم في جر ثيابهم، وأن الجر صار كأنه محمدةٌ حسنة، وأن الإنسان إذا قصر ثوبه كأنه صار ممتهناً، إما بخيلاً لا يريد أن يزيد شبراً من القماش في ثوبه، وإما أنه متنطع، رجعي ومتحجر يشوه خلقته، وبعضهم يقول: يمشي كما تمشي الدجاجة، إذا كان ثوبه إلى منتصف ساقيه، هذا عرف جاهلي انتشر في كثير من الأوساط، وصار جر الثياب هو العادة الحسنة المتبعة، وإنما هي أعراف جاهلية وهو من الأعراف المنكرة الذي يعرض عما ورد في شريعة الله المطهرة، فلننظر لما ورد في شريعة الله، ولنضرب بعد ذلك بكل عرف عرض الحائط.

    ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! إني ضعيف، وإن إزاري يسترخي )، أي: ضعيف البنية والبدن رضي الله عنه وأرضاه، فليس له بطن بارزة ولا مستوية إنما غائرة داخلة من ضعفه رضي الله عنه، فإزاره الذي يعقده على بطنه، والإزار عندما يعقد إذا لم يكن هناك بطن إما مستوية أو بارزة فالإزار ينزل ما بين الحين والحين، قال: ( إني ضعيف وإن إزاري يسترخي إلا أني أتعاهده )، يعني: إذا نزل عن الكعبين وشعرت مباشرة أرفعه وأشد الإزار؛ ليرتفع الإزار عن الكعبين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لست ممن يفعله خيلاء يا أبا بكر )، رضي الله عنه وأرضاه.

    الحد الأقصى في إسبال المرأة ثوبها

    ثبت في سنن أبي داود، والترمذي بإسناد صحيح عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه، فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله! فكيف يفعل النساء بذيولهن )، فهمت من كلامه العموم، فدخل فيها الذكور والإناث، فإذا كان يحرم جر الثياب فكيف تفعل النساء؟ يعني: ألا تجر المرأة ثوبها ولا تنزله عن كعبيها؟ قال: ( يرخينه شبراً )، أي: تجعل الإزار ينزل عن القدمين بمقدار شبر، ( قالت: إذاً: تنكشف أقدامهن )، يعني: لو كان شبراً فقط، والنساء لا يلبسن الجوارب في العصر الأول، والمرأة عندما تمد رجلها وتمشي يبدو القدم؛ لأن الذي يجر بمقدار شبر، فعند التحرك قد يظهر شيء من القدم من أصابع الرجل، ( إذاً: تبدوا أقدامهن ) يعني: الشبر لا يكفي في الجر، قال: (فليرخينه -يعني الثياب- ذراعاً )، والذراع من بداية الأصبع إلى نهاية المرفق، وهذه هي الذراع الشرعية: ( فليرخينه ذراعاً ولا يزدن )، يعني: ما زاد على الذراع يعتبر خيلاء في النساء، فلتجر ثوبها على الأرض بمقدار الذراع؛ لئلا يبدو شيء من قدميها عندما تتحرك وتمشي.

    وهذا -كما قلت- إخوتي الكرام إذا لم تلبس المرأة الجوارب، وإذا لبست المرأة الجوارب ونزلت الثياب بحيث تلتصق بالأرض وتغطي القدمين فلا يلزمها أن تجر شبراً ولا ذراعاً؛ لأنها لو قدر أنها حركت رجلها ومشت لا يبدو شيء من الأصابع ولا من القدمين؛ لوجود الساتر عليهما، لكن إذا لم يكن هناك ساتر فالمرأة ينبغي أن ترخيه شبراً -على أقل تقدير- أو ذراعاً؛ لئلا يبدو شيء عندما تتحرك وتمشي، ولا يجوز أن يبدو شيء من أعضاء المرأة -إذا خرجت- من رأسها إلى رجليها فكلها عورة.

    إذاً: ( كيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: يرخينه شبراً، قالت: إذاً: تنكشف أقدامهن. قال: يرخينه ذراعاً ولا يزدن ).

    صلاة المسبل ثوبه

    وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن من صلى وهو مسبل إزاراه لا يقبل الله صلاته، وهذا مما يدل على أن الإسبال كبيرة، وأنه معصية فظيعة، ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود قال الإمام النووي عليه رحمة الله في رياض الصالحين: إسناده صحيح على شرط الإمام مسلم ، ولفظ الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بينما رجل يصلي وهو مسبل إزاره أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب فليتوضأ، فذهب وتوضأ ثم جاء وهو مسبل إزاره، فأمره أن يتوضأ فذهب ثم جاء، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الحاضرين لم يعلم اسمه: يا رسول الله! أمرته بالوضوء ثم سكت عنه، قال: كان يصلي وهو مسبل إزاره، ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل ).

    قال أئمتنا: عندما كان يصلي وهو مسبل أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب ويتوضأ ويأتي، أي: بدون إسبال وينبغي أن ينتبه، فجاء مع إسبال، فقال: اذهب وتوضأ مرة أخرى فانتبه لأمره، فذهب وتوضأ ولم يأتِ بإسبال، قصر الثوب ورفعه، فما أمره بأن يتوضأ بعد ذلك.

    فإن قيل: لماذا يتوضأ؟ وهل إسبال الثوب من مبطلات الوضوء؟ لا، ثم لا، لكن نقول: الصلاة المقبولة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإذا صلى وهو مسبل دل على أن صلاته لم تنهه عن الفحشاء والمنكر وبالتالي لم تقبل، فإذا لم تقبل الصلاة دل على أن الوضوء الذي حصلت فيه هذه الصلاة فيه أيضاً تقصير، فهو ينبغي أن يعيد الوضوء مع الصلاة ليحتاط لنفسه، وهذا الذي أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام، هذه علة وهذه حكمة من الأمر له بالوضوء؛ لأن الصلاة عندما لم تنهه عن الفحشاء والمنكر فينبغي أن يعيدها من أولها من وضوئها إلى صلاتها.

    وهناك معنىً آخر للأمر له بالوضوء وهو: أن من يسبل إزاره الأصل في ذلك أنه يفعله خيلاءً وكبراً سواء قصد أو لم يقصد، لكن هذا من علامة الكبر والأشر والبطر، والكبر هذا من صفات الشيطان وهو أول المتكبرين، والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء، وعليه فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لهذا الصحابي: إذا أسبلت ففيك خصلة من خصال الشيطان، والشيطان جمرة تتوقد لا بد لها من أن تطفأ بالماء، فأعد وضوءك ليذهب عنك غرور الشيطان وكبره ورجسه ووسوسته فتقصر بعد ذلك ثوبك، ولذلك لما توضأ المرة الأولى وأعاد وما حصل الأثر، قال له مرة ثانية، فانتبه الصحابي لنفسه ولانت نفسه فقصر ثوبه وجاء فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الحاضرين: أمرته بالوضوء ثم سكت عنه لماذا؟ قال: كان يصلي وهو مسبل، وزالت العلة الآن فالثوب قد قصر: ( ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل )، والحديث -كما قلت- في سنن أبي داود وإسناده صحيح.

    الحد الأدنى والأقصى في حد اللباس للرجال

    وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن المؤمن ينبغي أن تكون ثيابه إلى منتصف ساقيه، وهذا هو السنة ولا حرج عليه ولا جناح إذا زاد إلى الكعبين، فما نزل عن ذلك إن كان بطراً وخيلاء فلا ينظر الله إليه، وإن لم يكن بطراً وخيلاء فهو أيضاً عاص لله، ما نزل عن ذلك ففي النار قصد الخيلاء أو لم يقصد، ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إزرة، وأُزرة المسلم إلى أنصاف ساقيه -إلى نصف الساق- ولا حرج أو لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين )، يعني إن مد الثوب إلى الكعبين -وهما: عظمان ناتئان- فلا حرج عليه، ( وما كان أسفل من الكعبين ففي النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه ).

    وعليه يتلخص معنا أحكام الإزار: لبسه وجره، السنة أن يكون إلى منتصف الساق، ويباح للإنسان أن يمده وأن يطوله إلى الكعبين بحيث لا يُستران أي: الكعبان، فليس لهما حظ من إزار المسلم وثوبه وقميصه، فإذا استرخى الإزار من غير قصد منك ولا علم فلا حرج عليك، فثيابك لو قدر أن هذه الحاشية فتقت وأنت تصلي أو في السوق فلما فتقت طال الثوب، الأصل أنه كان إلى حدود الكعبين فلما فتقت وهي بحدود أربعة أصابع نزل الثوب، وهذا يقع مع كثير منا، فأحياناً يفتق حاشية الثوب المطوية وتنقطع خيوطها، فعندئذ يطول الثوب ويصبح نازلاً عن الكعبين، فهذا من غير قصد منك ولا إرادة، فلا حرج عليك ولا جناح إن لم تقصد بما حصل عرضاً الخيلاء، هذا حصل من غير قصد منك فحالك إن شاء الله كحال أبي بكر : ( لست ممن يفعله خيلاء ) إذا حصل ذلك دون قصد ثم تذهب إلى بيتك تخيطه وتتعاهده، وإذا جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه، وإذا جر إزاره لا خيلاء ولا كبراً فما نزل عن ذلك ففي النار قصد الخيلاء أو لم يقصد، هذه أحكام خمسة للإزار.

    هذه الأحكام لهذا الإزار، وأن السنة ينبغي أن يكون الإزار إلى منتصف الساق ولا حرج إلى الكعبين، لكن جرت كثير -كما قلت- من الأعراف في كثير من البلدان على خلاف هذا، سواء لبس الثياب والقميص أو الإزار أو البنطلون، حتى تراه يلبس بنطلوناً أيضاً، وعدا عن كونه ليس بلباس الأخيار لكن مع ذلك يسبل فينزل عن الكعبين وفوق الحذاء بحيث يصل إلى الأرض لم؟ من جميع الجهات حزمت نفسك وضيقت إلا فقط من الأسفل تريد أن تطول؟ سبحان ربي العظيم! عادة جاهلية، وتأتي بعد ذلك لمن يلبس الثوب أو الإزار وهو يجره وتسأله: لم تجر؟ أتتشبه بالمرأة؟ ما رخص للإنسان أن يجر ثوبه إلا إذا كان امرأة شبراً أو ذراعاً فأنت لم تجره؟ الجر حرام حرام.

    ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد عندما طعن وهو في مرض الموت على فراش الموت، ودخل الصحابة عليه يسلمون عليه ويثنون عليه، ودخل شاب من الأنصار، فأثنى على عمر فلما ولى رضي الله عنهم أجمعين وجده يجر إزاره فناداه، وقال له: ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وفي رواية: أبقى لثوبك وأتقى لربك. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما في تاريخ المدينة المشرفة لـعمر بن شبة : رحم الله عمر لم يمنعه من قول الحق ما كان فيه، يعني: بطنه مفتوحة والدماء تسيل منه وهو على فراش الموت وما هي إلا لحظات حتى يفارق الدنيا، ومع ذلك ما منعه من قول الحق هذه الحالة التي هو فيها، مع ذلك أمر بمعروف ونهي عن منكر: ارفع ثوبك، فالرفع أنقى لثوبك من الأوساخ، أبقى لثوبك؛ لأنه إذا اتسخ وغسلته يتلف ويتمزق، فيبقى فترة أطول، أبقى وأنقى، ثم أتقى لربك جل وعلا، هذا هو الحكم الشرعي.

    فما يسير عليه بعد ذلك بعض الناس على حسب أعرافهم عرف جاهلي، كل عرف ينبغي أن يطرح إذا خالف ما جاء في شريعة الله المطهرة.

    وتقدم معنا: عرف معتبر وعرف منكر، فكل عرف عارض نصاً شرعياً فهو عرف منكر ينبغي أن يلغى وألا يعتبر، وإذا أراد الإنسان أن يسير على عرف قومه وعادة آبائه وأجداده فلا داعي إذاً لإرسال رسل ولا لإنزال كتب، كل أمة ما تقول ما قاله الضالون قبل هذه الأمة: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، هذا لا يصلح ولا يصح، فلا بد من تحكيم شريعة النبي عليه الصلاة والسلام في جميع شئون الحياة: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].

    خذ مثالاً آخر: هذا اللباس الظاهري، يعني: جرى حوله عرف رديء، جر الثياب لباس داخلي معنوي وهو ما أشار إليه ربنا: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، انظر إلى عادات الجاهلية نحو ذلك اللباس الثاني الذي وجد في هذا العصر، وهي موجودة في كل عصر.

    1.   

    أعراف جاهلية في النكاح

    وقد وجدت عادات جاهلية وأعراف رديئة نحو المرأة في كثير من أحوالها وأمورها، وفي صلة الرجل بها، منها: موضوع التزاوج بين الذكور والإناث، والدافع لهذا التزاوج ما هو؟ الدين في المرأة والدين في الرجل، وهو الذي اشترطه الإسلام، وكما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والحديث في الكتب الستة أيضاً باستثناء سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ).

    وهكذا الرجل الشرط الأساسي فيه: الدين، والصلاح، والاستقامة، كما في سنن الترمذي وابن ماجه، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، والخطيب في تاريخ بغداد، وإسناده حسن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الترمذي، والبيهقي في السنن من رواية أبي حاتم المزني عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، -وفي رواية: وفساد عريض- قالوا: يا رسول الله! وإن كان فيه -أي: شيء مما لا يُرغَب فيه من قلة مال أو دمامة في خلق أو نزول في نسب- قال: إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ثلاثاً )، على نبينا صلوات الله وسلامه يكرر هذا ثلاث مرات، هذا الذي اشترطه الإسلام، إذا جاءك صالح فليزوج، وأنت تطلب المرأة الصالحة دون اعتبار جاهلي بعد ذلك، فماذا حصل بعد ذلك في هذه العصور؟ حصلت أعراف جاهلية ضآلة.

    عدم تزويج المتزوج الكفء

    يحكي لي بعض الإخوة -وأنا على اطلاع تام على هذه القصة- عرض بعض أهل الخير من الدعاة -هذا فضلاً عن الغواة، لكن الدعاة في هذه الأيام إذا صاروا بغاة فإلى الله المشتكى من الدعاة- عرض ابنته على بعض طلبة العلم، وذاك الطالب في الأصل متزوج، وهنا قال: نريد أن نتحفك بها بزوجة ثانية، فقال: ليس عندي مانع ولا حرج، والله أحل لنا مثنى وثلاث ورباع، وبعد حصول الرؤية ودفع المهر واتفاق على كل شيء، وتحديد موعد للعقد مع محكمة شرعية في ذلك المكان، ودعوة الناس إلى الوليمة، وإذ بالانتكاس فجأة، لِمَ؟ قال: نتوقف فترة، ما السبب؟ يعني: بدا لكم شيء في ديني أو في خلقي؟ قال: لا، قال: فماذا تريدون؟ يقول: ما دعونا أحداً إلى الوليمة إلا عيرنا، ما عندكم طعام تطعمون به ابنتكم حتى تزوجوها لمتزوج؟ ويقول: قال له بعض الضعاف الذين هم على شاكلتهم: إذا لم يكن عندك طعام أنا مستعد أرسل لك كل يوم طعامها إلى بيتك، وفعلاً قبلوا، وبعد أن رتب كل شيء أعادوا بعد فترة المهر لهذا الإنسان، وقالوا: لن نزوجك، قال: ما هو السبب؟ السبب هو بعض العرف الجاهلي.

    كيف نزوج متزوجاً؟ هذه جريمة، وهذا لو فعله الجهلة لكان نقصاً وعيباً، فكيف لو فعله من يعتبر من الدعاة ممن يسلكون مسلك السلف الصالح على تعبيرهم؟ إلى الله المشتكى، إلى الله المشتكى، فاتصل ولدان من أولاده بوالدهم ليقنعانه، يا والدي! أنت كنت تقول لنا: إذا سلك الناس هكذا فأنا أسير هكذا؛ لأن الناس يسيرون على ضلال، وإذاً: فالاتجاه المعاكس هو الهدى، قال: ما بالك يا أبي! صرت تركض وراءهم؟ يعني: أنت كنت تقول لنا: أنت على خلاف الناس فلم تغير كلامك؟ قال: لا أستطيع، لا أستطيع؛ كل من نعزمه يعيرنا، يقولون: لمن تزوج ابنتك؟ يقول: لفلان، يقولون: لفلان المتزوج؟ وزيادة أنت أيضاً عرضت عليه، ألأنك ما تطعمها؟ ما تتقي الله في ابنتك؟ يقول له ولده: يا أبي! اتق الله زوجت أختنا التي هي أكبر منها لإنسان مهندس ليس عنده زوجة، ما كانت تحفظه من القرآن عندك نسيته عند زوجها، اتق الله في أختنا، يقول: ما أستطيع؛ الأعراف، أنا أحرج أمام الناس ماذا أعمل؟ وفعلاً ألغي النكاح وانتهى الأمر؛ كل ذلك بسبب عرف جاهلي.

    التساهل في كفاءة الدين دون النسب

    ويخبرني بعض الإخوة، يقول لي: يا شيخ! كل عمل جاهلي عمل في العرس، ويقول لي هذا الأخ وهو خطيب مسجد: أخذت زوجتي إلى العرس، يقول: عاداتنا فيما بيننا أننا إذا نزلت المرأة لتدخل العرس تترك حتى العباءة في البيت، لأن بيت العرس لا يدخله أحد فهو خاص بالنساء، يقول: هذه عادتنا في بعض الأماكن، يقول: فزوجتي تركت عباءتها لما نزلت من الباب -وحتماً هو خطأ، لكنه هكذا يقول- ودخلت إلى هذا البيت الذي هو خاص بالنساء، يقول: وما فوجئ النساء بعد ذلك إلا بدخول الزوج ودخول بعد ذلك أقربائه من الذكور وآلات تصوير وفيديو، يصورون الحاضرات، فزوجتي تختبئ وراء كرسي ووراء طاولة، ونحن أنكرنا بعد ذلك وما أحد وافقنا على هذا، وتم العرس بسلام، بعد شهور صارت خصومة بين إخوة والد الزوجة ووالد الزوجة لِمَ؟ قال: تبين لنا أن الزوج الذي تزوج بنت أخينا، وهم أعمامها لا يكافئنا في النسب، يعني: هو دوننا في النسب، ويقول لي هذا الأخ: لا يصلي ولا يصوم ويشرب الخمر ويفعل كل رذيلة، وفعل كل هذا في العرس، كل هذا لا قيمة له، إنما بعد فترة تبين أنه في النسب دونهم، فقاموا يصولون ويجولون ويهددون أخاهم بالقتل إن لم يأخذ ابنته، بنت أخيهم من هذا الزوج؛ لئلا يعيروا أمام الناس كيف ابنتهم عند إنسان دونهم في النسب؟ وأما كونه دونهم في الدين فهذا لا قيمة له، أعراف جاهلية نسير عليها في هذه الأيام.

    عدم التزويج من غير القبيلة

    وقال لي بعض إخواننا الكرام وهو من أسرة طيبة كريمة، لما كنت في بعض البلاد، يقول: كنت مع قومي -وذكر موضوع النكاح- وقلت: ينبغي للإنسان أن يزوج الرجل الصالح، قال: أنت تزوج؟ يعني: لو جاءك رجل صالح من غير قبيلتك؟ قلت: نعم، يقول: فقال لي بعض الحاضرين: والله لو جاءني محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام -وفداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا- لما زوجته. أعوذ بالله من هذا الكفر، أعوذ بالله من هذا الضلال، وهو مسلم يصلي الصلوات الخمس في المسجد: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8]، ليتنا كنا إماءً يخدمن النبي عليه الصلاة والسلام، ومن يحظى بذلك؟ وأنت يا صعلوك! لو جاءك الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس من قبيلتك ولا نسبك لا تزوجه ابنتك، والله لا تسوى بولة حمار، يا من تقول هذا الكلام، لكن ماذا يقول الإنسان؟ هذا يقوله من يدعون اتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم اهتدوا بهداه واستناروا بنور الوحي، هذه مفاهيم جاهلية، أعراف وتقاليد، ما الفارق بين هذا القول وبين أبي طالب : هو على ملة عبد المطلب ؟

    ولذلك كثير من العبادات الآن تفعل لا على أنها عبادة، بل على أنها عادة، يعني: المرأة اعتادت أن تتحجب، فإذا ذهبت إلى بلد آخر فيه نساء سافرات أسفرت معهن، ورجل اعتاد أن يطلق لحيته، فإذا ذهب إلى مكان يحلقون فيه لحاهم حلق لحيته، وإذا أقام بين قوم يصلون فإنه يصلي، وإذا أقام بين قوم لا يصلون فإنه لا يصلي، هذا ليس بدين، الدين أن تعرض أحوالك كلها على شريعة رب العالمين فيما أحببت وفيما كرهت، ولا يتحقق الإيمان بدون هذا.

    1.   

    علاقة الاختلاط بالأعراف الجاهلية

    أمر الاختلاط إخوتي الكرام! هو من أعراف الجاهلية، فهدي الإسلام قائم بين الصنفين: بيننا وبين هذا اللباس المعنوي لنا، إن المرأة ينبغي أن تفصل عن كل أجنبي عنها، والأجنبي: هو كل من يحل له أن يتزوج المرأة فهو أجنبي عنها، فخرج أهل المحارم الذين تحرم عليهم المرأة حرمة مؤبدة، فأخو الزوج أجنبي، ابن العم أجنبي، ابن العمة أجنبي، ابن الخال والخالة أجنبي، الذي من القبيلة أجنبي، هذا ينبغي أن تنفصل عنه، فلا يجوز أن تختلط معه، ولا يجوز أن تكشف عن وجهها أمامه، ولا يجوز الاختلاط، يعني: حضور الذكور والإناث في مكان واحد، لا يجوز إلا في الأماكن العامة لضرورة، في المسجد هن في جهة ونحن في جهة، ومن شارع عام، أما أجلس في بيت ومعي زوجة أخي، أو بنت عمي متحجبة أو سافرة كل هذا حرام، بحضور زوجها وبعدم حضورهم هذا اختلاط، ولا يجوز الاختلاط بين الذكور والإناث إلا في الأحوال العامة لضرورة، ما عدا هذا لا يجوز.

    انظر لأعراف المسلمين نحو هذا الأمر -الاختلاط- كأنه صار سنة ماضية، يعني: تأخذ زوجة أخيك وتجلس تأكل معها، حتى من الإناء الذي يأكل هو منه، وقد تلمس يده يدها، ولِمَ؟ يقول: هذه زوجة أخي، وقد يأتي بعد ذلك ضال باسم الشارع يقول: متحجبة حجاباً شرعياً، يعني: سترت نفسها إلا وجهها وكفيها، حجاب غوي ليس بحجاب شرعي، من الذي أباح الاختلاط؟ سواء كانت متحجبة أو لا؟ وخلطة النساء بالرجال في شرعنا من أقبح الخصال، وسمة الفساق والجهال في كل وقت وبكل حال، ومن أجل موجبات الطرد.

    الاختلاط من أشنع ما حصل في الأمة الإسلامية في هذه العصور الردية، طاغوت العرف والعادة، ولو أن إنساناً تزوج الآن من أسرة مسلمة وأراد أن يحجب زوجته عن إخوته لقامت الدنيا وما قعدت، أعظم ممن زنى، ستفرق الأسرة، أنت تهدمها، إخوتك سيُخونون، يا عباد الله! ليس الموضوع اتهام لا لزوجتي ولا لإخوتي، هذا حكم الله، لا يجوز أن تظهر هذه المرأة أمامهم، ولا أن تختلط بهم: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، ولو أن الأخ جاء إلى البيت وما فتحت له زوجة الأخ الباب أيضاً قامت الدنيا، كيف أخوك يطرد؟! لكن هي بمفردها، كيف يدخل عليها هذا الأجنبي؟ إما أن ينصرف، وإما أن ينتظر عند الباب حتى يأتي هذا الأخ، وإذا كانت هناك حجرة منفصلة يدخل إليها بغير استئذان فليدخل، وأما منزل لا يدخل إليه إلا باستئذان فلا يجوز أن يدخل هذا الأجنبي، ولا يوجد هناك زوج، كلها أعراف ضالة جاهلية وجدت في هذه الأوقات، ما أنزل الله بها من سلطان، والذي يخرج عنها يرى عنتاً ومشقةً وحرجاً.

    قصة في غيرة بعض السلف على نسائهم

    انظروا -إخوتي الكرام- لقصة جرت في العصر الأول. محمد بن إسحاق من رجال أهل السنن الأربعة، وروى له مسلم مقرونا، وهو صاحب المغازي، الإمام العلم وهو من التابعين رأى أنس بن مالك وتوفي قيل: سنة مائة وخمسين للهجرة، في السنة التي توفي فيها عالم الأمة أبو حنيفة عليهم رحمة الله، وقيل: واحدة وخمسين، وقيل: اثنتين وخمسين، وهذا أقصى ما قيل في وفاته.

    محمد بن إسحاق عليه رحمة الله روى حديثاً عن فاطمة بنت المنذر وهي زوجة هشام بن عروة ، يقول يحيى بن سعيد : فلما بلغ هشام رحمه الله ورضي الله عنه، وبلغه هذا الخبر اغتاظ وتضايق، وقال: يزعم محمد بن إسحاق أن زوجتي حدثته، والله إن رآها قط -يعني: ما رآها قط- من أين يروي عنها؟ وبدأ يتهمه بالكذب، ويقول: محمد بن إسحاق كذاب، وهو من الأئمة الثقات -كما قلت- حديثه في صحيح مسلم مقرونا، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن بحال رحمه الله ورضي الله عنه، يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء معلقاً على هذه القصة، يقول: ما زعم محمد بن إسحاق أنه رآها، ولا يلزم من روايته عن فاطمة بنت المنذر أن يراها. فما قال: رأيت زوجتك حتى غضبت، قلت: من أين اختلط بها وأخذ الرواية عنها؟ ما قال هذا.

    يقول: وقد سمعنا من نساء كثيرات والله ما رأيت واحدة منهن، هذا كلام الذهبي ، وقد كان التابعيون يسألون أمنا عائشة رضي الله عنها ولا يرون لها صورة قط، فهل يلزم من سماع الحديث رؤية واختلاط؟ لا يلزم، فاطمة بنت المنذر فقيهة محدثة روت حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام فلعلها روته في المسجد ومحمد بن إسحاق كان حاضراً فسمعها فنقل عنها، يقول: حدثتني أو سمعت فاطمة بنت المنذر تروي ثم ساق الحديث، لكن ذاك الرجل ما تحمل، كيف هذا يروي عن زوجتي؟ أين رآها؟ وهذه حمية إسلامية، لكن حقيقة إذا زادت عن الحد ففي غير محلها.

    وأذكر ونحن صغار عندما يسألنا المدرس ونحن في المرحلة الابتدائية: ما اسم أمك؟ نقول: عيب يا أستاذ! عيب، أمي ما ذكرك منها؟ كيف أقول اسم أمي؟ وما أحد منا يبوح باسم أمه لو ضربت رقبته، اسم الأم عيب، مع أنه لا حرج فيه.

    إذاً: اتهمه بالكذب من أجل الرواية عنها، قال الذهبي: ما زعم أنه رآها، ولا يلزم من الرواية أن يراها، وقد روينا عن نساء صالحات ما رأيت واحدة منهن.

    فلا يلزم -إخوتي الكرم- هذا الأمر؛ كون الإنسان يتلقى العلم عن امرأة ويسمع صوتها فيقال: هذا ليس بعورة، فتنة إذا أُمنت فلا حرج، والمرأة تتلقى العلم عن الرجل فلا حرج، لكن بالضوابط الشرعية من عدم الاختلاط، ويوجد حاجز بين الصنفين وهو يتكلم وهي تسمع، أو هي تتكلم وهو يسمع، فلا يراها وهي لا تراه، أي حرج في ذلك؟ لا حرج في ذلك، وهذا الذي كان يفعله سلفنا مع أمنا عائشة رضي الله عنها، ومع النساء الصالحات اللاتي يحدثن بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، من وراء حجاب، وإذا اضطر الرجل إلى تعليم النساء، الأصل أن يعلم النساء امرأة وأن يعلم الرجال رجل، إذا اضطر فالمسائلة لها حل شرعي ولا حرج.

    الاختلاط في المجال التعليمي

    ليس من الحكمة أن يبقى النساء جاهلات، وليس من الأدب والشرع أن نخلط بين الأستاذ والطالبات، إذاً: ماذا نفعل؟ كان شيخنا الإمام الصالح الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمة الله يدرس البنات عندنا في الثانوية الشرعية التي يدرس فيها بنين وبنات، بنين في قسم وبنات في قسم، ففي المواد الشرعية لا يوجد نساء مؤهلات لتدريس المواد الشرعية، فإذاً: ضرورة، يقول لي: والله يا ولدي! ما وقعت عيناي على صورة بنت في المدرسة، قلت: سبحان الله! كيف تدخل إذاً؟ قال: يا ولدي يخلا لي الطريق عندما أريد أن أدخل إلى الفصل، سنة ثالثة ثانوية، رقمها مثلاً حجرة عشرة، يخلا لي الطريق إليها بواسطة حارس زوجته تحرس في مدرسة البنات، فتخلى له الطريق، يدخل لها الحارس إلى فصل ثالث ثانوي عرفته، فإذا أردت أن أدخل وقت المحاضرة خلي لي الطريق، وإذا خلي تكون البنات في الفصل جالسات، فإذا دخلت للفصل أغض طرفي ثم أوليهن ظهري، ويستقبل الجدار ويشرح حتى تنتهي المحاضرة، فإذا انتهت طوى كتابه وخرج، وعند المدرسة إعلام عام أنه لا أحد يخرج؛ لأنه يوجد رجل في هذه المحاضرة، فالفصول كلها مضبوطة لا تفتح باباً، فيخرج الشيخ من طريقه ويغادر، ماذا جرى؟ ولا حرج، فهذه صفة شرعية، أما أن يأتي رجل يقابل نساء، أو امرأة تقابل الرجال، والأشنع من ذلك والأنجس أن نأتي بالرجل ليدرس النساء، والمرأة لتدرس الرجال، ولا يوجد ضرورة على الإطلاق، ولو وجدت ضرورة ودخل الرجل بالصفات الشرعية لقد ربما يحتاط وهو صالح ويوجد ضوابط شرعية، ويستقبلهن كما قلت: بظهره، ويوليهن ظهره، أما أنه يوجد مادة واحدة لها مدرس ومدرسة، فنرسل المدرس إلى البنات، والمدرسة إلى البنين، ثم يقول بعد ذلك: المسئول اللعين عندما يتكلم معه، يقول: أريد منكم أن تتعلموا الاتصال بالنساء، وألا يبقى بينكم وبين النساء حواجز؛ تدخل عليكم امرأة فتتهذب بأخلاقكم، ما في داعي لهذه الفجوة فماذا تريد؟ أتريد أن يفسد الطلاب.

    ولما عرض الأمر علي في بعض الأماكن قلت للطلاب: الحكم الشرعي: لا يجوز أن تدرسكم امرأة بحال من الأحوال إلا لضرورة، لكن أرى بعد أن تكلموا المسئولين فإذا ما حصل نتيجة فأقل الأمور حتى أن هذه المدرسة تخرج ولوها ظهوركم، وإذا تكلمت ما أحد يجيب، وإذا جاء أحد من المسئولين، قولوا: ماذا تريدون منا؟ مدرسة في عمرنا، وتريد أن نجلس وكل واحد يفكر في الشهوة، ويتحرك منه وينتشر تريدون هذا؟ أو تريد أحداً منا يعتدي على هذه المرأة في وسط الفصل؟ ماذا تريدون؟ هذا تعليم أو تدمير؟

    هذا -إخوتي الكرام- لا بد منه، ولا نريد بعد ذلك عفة مصطنعة، ولا نزاهة مزورة، الذي يقول: نخلط بين الصنفين، بين المدرس والطالبات، بين المدرسة والطلاب، بين الطلاب والطالبات، الذي يخلط بين هؤلاء الأصناف ثم يقول: لا نقر الزنا فهو كذاب كذاب، متى ما حصل الاختلاط حصل الزنا شاء الناس أم أبوا، نحن عندما يمنع الاختلاط حتى في الشارع، لا يجوز للرجل أن يختلط بالمرأة، وأن يسير بجنبها في شارع، لا أن يجلس بجوارها في فصل خمس ساعات، قد لا تجلس هذه المدة هي مع زوجها.

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم للنساء بحافة الطريق تجنباً للاختلاط

    وانظر لهذه الصورة في أطهر العصور وفي أفضلها؛ عصر النبي عليه الصلاة والسلام مع الصحابة والصحابيات، ثبت في سنن أبي داود، وكتاب شعب الإيمان للبيهقي ، وإسناد الحديث حسن عن أبي أسيد الأنصاري ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد وقد اختلط النساء بالرجال -في الشارع العام صحابيون وصحابيات وبينهم خير خلق الله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- سمعته يقول: ( يا معشر النساء! استأخرن ليس لكن أن تحققن الطريق )، أي: أن تسرن في حُقه وفي وسطه، ( عليكن بحافة الطريق )، خرجتن من المسجد لا داعي للوسط، فهذا يسير فيه رجال، أما رجال مع نساء في الطريق فصار هذا اختلاطاً، فهذا الاختلاط ممنوع حتى في هذا المكان، عليكن بحافة الطريق، يقول أبو أسيد : ( فلقد رأيت المرأة تلتصق بالجدار عندما تمشي حتى يكاد ثيابها أن تعلق بالجدار من لصوقها به )، صحابيات مع صحابيين قلوب طاهرة في زمن نزول الوحي حصل اختلاط صاح النبي عليه الصلاة والسلام بأعلى صوته: ( يا معشر النساء! استأخرن ليس لكن أن تحققن الطريق )، أي: أن تسرن في حقه وفي وسطه على حافته.

    وثبت في صحيح ابن حبان ، والحديث رواه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس للنساء وسط الطريق )، لا يحل لامرأة أن تمشي في وسط الطريق، على جانبه الأيمن أو الأيسر، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسلاً من رواية أبي عمرو بن شماس ، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ليس للنساء وسط الطريق )، أي: وسط الطريق لا يسرن فيه.

    يقول الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن عند تفسير قول الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، يقول: لقد دخلت أكثر من ألف قرية، فما رأيت نساءً أصون ولا أستر من نساء نابلس، في البلاد المقدسة في بلاد فلسطين، يقول: فأقمت في تلك البلاد أشهراً، فما وقعت عيناي على امرأة قط في شارع ولا في سوق إلا في يوم الجمعة فقط، يخرج النساء وهن متسترات حتى كدن أن يلتصقن بالجدر، أي: عندما يمشين إلى المسجد ليشهدن موعظة، ثم يعدن فلا يرين بعد ذلك إلى الأسبوع الآتي، نساء في الشوارع لا يوجد.

    وحقيقة: هذه هي الحمية الإسلامية، وهذه هي الصفات الشرعية لهذين الصنفين، لا اختلاط بين الذكور والإناث إلا في الحياة العامة بمقدار الضرورة بهذه الصفات، وأما -كما قلت- رخصة مصطنعة والقلوب طاهرة، وبعد ذلك نزاهة مزورة، دعونا من هذا.

    أثر الاختلاط في المسجد

    وإذا أردت أن تتحقق أثر الاختلاط بين النساء والرجال فانظر للحديث التالي الذي رواه مسلم في صحيحه، وأهل السنن الأربعة لترى أثر الاختلاط، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، لكن لِمَ؟ لما صلت في أول الصفوف صار بينها وبين الرجال قرب؛ لأن النساء كن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام يصلين وراء الرجال، فالتي تصلي في أول الصفوف يكون بينها وبين الرجال مسافة قريبة، فترى حركاتهم وتسمع أصواتهم، إذاً: هذه صلاتها أنقص أجراً، والمراد من الخيرية كثرة الأجر، ومن الشرية: قلة الأجر، فإن قيل: أجر يعبر عنه بالشر والنقص، نقول: نعم؛ لأن من قدر على الكمال فتركه وأخذ ما دونه يعتبر ناقصاً:

    ولم أر في عيوب الناس شيئاً كنقص القادرين على التمام

    إذا أردت أن تصل إلى التمام ثم نقصت عنه فهذا شر بالنسبة لهذا النقص، وإن كان خيراً من ناحية وقعه العام، وحقيقته هو خير، وجميع صفوف الصلاة خير، لكن ليس حال من أمكنه أن يصلي في الصف الأول وتأخر كحال من أمكنه أن يصلي في الصف الأول وصلى في الصف الأول، هذا الخير فيه أكثر وذاك أقل، فذاك عندما فوت على نفسه الخير الأكثر كأنه صار شراً ونقصاً في حقه، قال أئمتنا: وهذا إذا صلى الرجال والنساء، والنساء وراء الرجال، أما إذا صلى النساء لأنفسهن فيما بينهن فخير صفوفهن أولها وشر صفوفهن آخرها.

    إذاً: هذا أثر الاختلاط في بيت الله في حال مناجاة الله، المرأة إذا ابتعدت عن مخالطة الرجال كان أفضل وأتقى لها، هم الذين منعوا من تلك الأمور، وأما هؤلاء فقد أبيح لهم ما حرم على سلفهم، نعوذ بالله من هذا الفهم وهذا الحكم.

    حجاب المرأة وما يراد له

    إخوتي الكرام! موضوع المرأة هو أعظم حاجز بين الحياة الإسلامية والغربية، فعندنا المرأة عرض يصان، وعندهم سلعة مبتذلة، وسيلة للشهوة والتلهية فانتبهوا لهذا، والأعراف الضالة نحو المرأة كثيرة كثيرة، لا أريد أن أسترسل فيها إنما أريد أن أقول: ما يشاع من أنه ينبغي على المرأة أن تكشف وجهها إظهاراً لإنسانيتها، وأن سترها لوجهها امتهان لشخصيتها، وكذا ضياع لهويتها، أقول: إن الدعاية إلى ذلك لا تصدر إلا من خبيث، وهو من أكبر أعوان إبليس، فأعظم ما يميز حياء المرأة ويبين طهارتها سترها لوجهها.

    وأختم الكلام على ذلك بكلام ذكره شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه رحمة الله، وهو آخر شيوخ الإسلام للدولة الإسلامية العثمانية، وتوفي سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وسبعين للهجرة، منذ واحد وأربعين سنة عليه رحمة الله، يقول في كتابه (قولي في المرأة)، وتضمن مقالتين اثنتين لا ثالث لهما بحدود سبعمائة صفحة، السفور والاحتجاب، يقول: ولا خلاف أيضاً في أن السفور حالة بداوة وبداية في الإنسان، ويراد من السفور كشف الوجه كما سيأتينا، والاحتجاب طرأ عليه بعد تكاملها بوازع ديني أو خلقي نزعه عن الفوضى في المناسبات الجنسية الطبيعية ويسد ذرائعها، ويكون حاجزاً يبن الذكور والإناث.

    انتبه! وقد خص الاحتجاب بالمرأة دون الرجل، أي حجاب؟ الوجه، وآية الحجاب التي في سورة الأحزاب ما زالت أصالة لستر الوجه ليس إلا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59]، آية الحجاب نزلت لستر ما كان يكشف، وما كان يكشف في أول الأمر إلا الوجه والكفين، فكل ما يقوله عن آية الحجاب، إذاً: ينبغي أن نقول: بوجوب ستر الوجه، يقول هنا: وقد خص الاحتجاب بالمرأة دون الرجل لاشتغاله في خارج البيت، فلو حجبته لتأخر عن عمله وشق عليه أن يزاول الأعمال والمهن؛ ولأن موقفه في المناسبات الجنسية، أي: عندما يريد الاتصال بالمرأة موقف الطالب، هو طالب وهي مطلوبة، فهي تتحجب وهو يطلب، وموقف المرأة موقف المطلوب، فيكون منه الطلب والإيجاب من القبول أو الإباء، واحتجابها -يعني: ستر وجهها- وسام إبائها، وهي متحلية به أمام الرجل؛ كي لا تحتاج إلى الإباء والرفض باللسان أو باليد.

    عندما سترت المرأة وجهها كأنها تقول للرجال: لا مطمع في، هذا حتى لا تحتاج إذا ما كشفت هذه الأمانة على الرغبة فيتعرض لها الإنسان: تريديني بعهر أو بطهر؟ بحلال أو بحرام؟ فحتى لا تمتهن المرأة تقول: لا، لا، لا، تكثر من لا، سواء في زواج أو في حرام، يغنيها عن هذا ستر الوجه، فإذا كان الوجه مستوراً فهي لا تستطيع أن تقترب ولا أن تتعرض ولا أن تصرح.

    لا إله إلا الله، واحتجابها وسام إبائها، وهي متحلية به أمام الرجل؛ كي لا تحتاج إلى الإباء والرفض باللسان أو باليد، ففيه صونها عن أن تكون عرضة للرجال، فإذا تصدى لها الرجل وراودها بلحاظه، وأرادت هي قبول مراودته تسفر له، فهو يدل على قبولها الطلب، وسفورها لرجل معين من غير سبق طلب منه، إذا كشفت المرأة وجهها أمام رجل من غير طلب، فإذا طلب وكشفت يدل على أنها راضية به، قيل لها: فلان يخطبك يا بنتي! فقابليه، فسفرت عن وجهها وجاءت فهذا دليل على الرغبة، وإن قالت: والله ما أقابله ولا أكشف وجهي أمامه ولو قطعتموني، دل على أنها رافضة، سفورها أمام رجل من غير طلب، على أي شيء يدل؟

    انظر لكلام شيخ الإسلام: وسفورها لرجل معين من غير سبق طلب منه شعار قبول متقدم على الطلب، وإغراء له بالطلب، كأنها تقول: أنا راغبة راغبة، وأنت ما تفهم علي، كشفت الوجه، وهذا له دلالة عندنا نحن معشر النساء، أنا أغريك، أريد منك أن تتعرض، أريد أن تطلب، بزواج أو بغيره هذا على حسب وضعها ووضعه، وسفورها العام شعار القبول والإغراء العامين، إذا سفرت عن وجهها على كل أحد وبرزت إلى الشارع، دل على أنها راغبة في كل أحد، كأنها تقول: معشر الرجال! إلي إلي، ما أحد يفهم عني ولا أحد يتدبر حالي، سفوري العام دليل على الرغبة العامة، هذا هو الحال في المرأة شاء الناس بعد ذلك أم أبوا، ومهما أرادوا أن يستروا هذا الحال بعبارات معسولة، وأن هذا لا يعني رغبة، ولا يعني تطلعاً، ولا ولا.. كله باطل باطل..

    إذاً: موضوع حجاب الوجه -كما قلت- لن أتكلم عليه وأفصل الكلام، وكنت تعرضت له في حجاب المرأة المسلمة فإذا أمكنكم أن تسمعوا تلك المحاضرة لعل الله ينفعنا بما نسمع بفضله ورحمته.

    هاتان صورتان ذكرتهما مما يتعلق باللباس الظاهري ثم باللباس المعنوي.

    أسأل الله برحمته أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل أعمالنا صالحة ولوجهه خالصة إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، واغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا ولمن أحسن إلينا ولجيراننا ولأزواجنا وأولادنا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756159855