إسلام ويب

شرح العبودية [8]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العبودية معنى عظيم، وكلمة كبيرة، ومصطلح رفيع المستوى، وشرف عظيم، وقد هدى الله أهل السنة فسلكوا فيها المسلك الرباني على ضوء الكتاب والسنة، وضلت فيها طائفة الصوفية، فأدخلوا فيها ما ليس منها، وأخرجوا منها ما هو منها، فضلوا عن صراط الله المستقيم.

    1.   

    تقسيم العبودية إلى اختيارية واضطرارية وما يرادف هذين القسمين

    سبق أن تكلمنا عن أقسام العبودية، وقلنا: إنها تنقسم إلى قسمين: قسم اضطراري، وقسم آخر اختياري، وهناك استخدامات أخرى مقاربة لمعنى هذين القسمين، فالعبودية الاضطرارية قد يعبّر عنها بتوحيد الربوبية، وقد يعبّر عنها بالإرادة القدرية الكونية.

    والعبودية الاختيارية قد يعبّر عنها بتوحيد الإلهية، وقد يعبّر عنها بالإرادة الشرعية الدينية، فهذه التعبيرات متقاربة في المعنى.

    فإذا جئنا إلى العبودية الاضطرارية نجد أنها هي نفسها معنى إثبات أن الله عز وجل هو الخالق وحده، والرازق وحده، والمحيي وحده، وجميع المخلوقات مذعنة لله عز وجل وذليلة له، وهذه هي إرادته العامة الشاملة، وهي ترادف معنى الخلق والإيجاد والرزق والتدبير.

    وإذا جئنا إلى العبودية الاختيارية نجد أن معناها هو أن يذل الإنسان ويخضع لله عز وجل عن اختيار ورغبة، وهذا هو توحيد الإلهية، فتوحيد الإلهية هو توحيد الله عز وجل بأفعال العباد، وهو معنى الإرادة الدينية الشرعية، فإن الإرادة الدينية الشرعية هي ما أمر الله سبحانه وتعالى به من الأوامر، وما نهى عنه من المنهيات، فهذه هي الإرادة الدينية الشرعية.

    ويمكن أن نذكر بعض الفروق بين الإرادتين، وبين التوحيدين، وبين العبوديتين، وهذه الفروق متشابهة، سواء أكانت بين توحيد الربوبية والإلهية، أم بين العبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية، أم بين الإرادة الكونية والشرعية.

    وقد يقول قائل: إذا كانت هذه الكلمات الثلاث الأولى بمعنى متقارب، والكلمات الثلاث الثانية بمعنى متقارب، فلماذا أطلقت بهذه الطريقة؟!

    والجواب: أن الذين قالوا: العبودية اضطرارية واختيارية نظروا إلى العبد نفسه، فوجدوا أن حالات التعبد التي تحصل للعبد على نوعين:

    حالة اضطرارية تحصل للمسلم والكافر، والبر والفاجر.

    وحالة اختيارية: وهي أن يختار الإنسان أن يذل لله عز وجل رغبة منه بدون أن يكون هناك إلزام قهري خارج عن إرادته.

    وهذه من ناحية العبودية وتقسيمها، فإذا نظروا إلى الموضوع من ناحية التوحيد وجدوا أن العبد إما أن يوحد الله عز وجل في خلقه له، وهذا أمر يشعر به، أو يوحده في عبادته له، وهذا ما يختاره من التعبد.

    وإذا نظروا إلى الموضوع من جهة الله عز وجل وجدوا أن الله سبحانه وتعالى مريد، فنظروا في إرادته فوجدوا أن إرادته على نوعين:

    إرادة عامة لا يمكن أبداً أن يحصل خلافها، وسموا هذه الإرادة الإرادة الكونية القدرية، وهي التي لا يمكن أن يخرج عن مراد الله عز وجل فيها شيء.

    وإرادة أخرى هي عبارة عن أوامر ونواه، فيحب الله عز وجل من العباد أن يفعلوا الأوامر ويحب أن يتركوا النواهي، لكن لم يلزمهم فيها.

    الفروق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية

    والفروق بين الإرادتين: هو أن الإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى وقد لا يحبها، لأن مخلوقات الله عز وجل التي خلقها ليست نوعاً واحداً، فمنها مخلوقات يحبها الله عز وجل، مثل الصالحين، والرسل، والإيمان، والتقوى، وبر الوالدين، ونحو ذلك من الأعمال الطيبة الصالحة، وهناك أنواع أخرى خلقها الله عز وجل وأرادها في الكون وهو لا يحبها سبحانه وتعالى، مثل خلق إبليس، ومثل خلق الفساد والكفر والانحراف بكل صوره وألوانه.

    فالإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها.

    أما الإرادة الشرعية فهو تعالى يحبها، ويرضاها؛ لأنها هي أوامره ونواهيه، فهو يحب من ائتمر بها، ويحب ذلك الذي يترك المنهيات، هذا الفرق الأول.

    الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلق الله عز وجل مخلوقات كثيرة منها ما هو مقصود لذاته مثل الإيمان، والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصالحين ونحو ذلك، ومنها أمور خلقها الله عز وجل ابتلاء للخلق، مثل إبليس، ومثل الكفار والمشركين ونحو ذلك، وهذه المرادات التي أرادها الله سبحانه وتعالى ليست شراً محضاً من كل الوجوه، وإنما هي مقصودة لغيرها، فإن إبليس خلقه الله عز وجل لتظهر عبودية العابدين، وصبر الصابرين، وابتعاد الناس عنه، ونحو ذلك من العبوديات التي تحصل من أهل الإيمان والصلاح، وهكذا الكفار عندما خلقهم الله عز وجل خلقهم من أجل أن يظهر جهاد المؤمنين، ويظهر صلاحهم وتقواهم وصبرهم على كف أذاهم عن الناس ونحو ذلك، فهي مقصودة لغيرها.

    أما الإرادة الشرعية فإنها مقصودة لذاتها، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة -مثلاً- فهو يقصد ويحب من العبد أن يأتي بالصلاة، وإذا أمر بالزكاة فهي مثلها، وكذلك الحج، وكذلك الصيام، وكذلك الجهاد في سبيل الله، وكذلك سائر المأمورات الشرعية.

    الفرق الثالث: أن الإرادة الكونية التي أرادها الله عز وجل لا بد من حصولها ولا بد من وقوعها، لأنها هي معنى أن الله عز وجل يخلق الخلق، فإذا خلق الله شيئاً فلا يرده أحد، ولا بد من أن يقع ولا بد من أن يكون، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فلا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ولا دافع لمشيئته سبحانه وتعالى.

    أما الإرادة الشرعية فإن العباد قد لا ينفذونها، مثل الأمر بالإسلام، فتجد أن الكفار لا ينفذونه، ومثل الأمر بعبادة الله عز وجل، فنجد أن المنافقين لا يعترفون به، وهكذا.

    فهذه الفروق الثلاثة هي التي تجمع الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، والذي يفهم هذا الفرق تنجلي عنه كثير من الإشكالات التي وقع فيها أهل البدع في قضايا القدر؛ فإن المعتزلة الذين نفوا قدر الله سبحانه وتعالى، وأنه كتب الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة غلّبوا الإرادة الشرعية، فلما غلّبوا الإرادة الشرعية كفروا بالإرادة الكونية، ولهذا رتبوا على هذا أن العبد هو الذي ينشئ فعل نفسه، وهو الذي يخلقه، وهو الذي يحدثه لنفسه، والله عز وجل لا يتصرف في أفعال العباد ولا في أعمالهم!

    فجاء الجبرية وعكسوا الأمر، فآمنوا بالإرادة الكونية، وأن الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، ومن مخلوقاته أفعال العباد، ولهذا عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية، فقالوا بالجبر، وقالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على أفعال معينة وعلى أقوال، وإن الله قسم الخلق إلى مسلمين وكفار، ولا يمكن للمسلم أن يصير كافراً، ولا للكافر أن يصير مسلماً، وأما أهل السنة فهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهم أهل الحق، وهم أسعد الناس بالحق، حيث آمنوا بالإرادتين جميعاً، ولم يتصوروا وجود تعارض بين الإرادتين، فهم يقولون: إن الله عز وجل خالق الخلق، وهو سبحانه وتعالى مقدر كل شيء وقد قدر الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا يمكن لأحد أن يعمل عملاً لم يرده الله عز وجل إرادة كونية ولم يخلقه سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت يقولون: إن الله أمر بأوامر، وهذه الأوامر التي أمر بها للعبد فيها إرادة، فيستطيع أن يعملها وأن يقوم بها، وحينئذ جمعوا بين الإرادتين جميعاً، وكانوا أهل الحق وأسعد الناس به، وسيأتي شيء من التعليق على موضوع القدر في أكثر من مكان بإذن الله تعالى.

    1.   

    بيان معنى شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية

    سبق أن قلنا: إن الشيخ في هذا الكتاب بعد أن قسم العبودية إلى قسمين: العبودية الاضطرارية، والعبودية الاختيارية؛ بيّن ضلالات فرقة من أشهر الفرق في هذا الموضوع، وهم الصوفية، فقال: وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية.

    وسبق أن عرّفنا بالصوفية، وأهم العقائد التي عند الصوفية، ونقدنا أهم هذه العقائد.

    ومعنى شهود الحقيقة الكونية في اصطلاح الصوفية: رؤية الحق بالحق وصورة الشهود عندهم هو أن الإنسان يتعمّق في أمر من الأمور حتى ينكشف له ويصبح مثل رؤية العين، فهم يعظّمون الحقيقة الكونية، ويعظّمون توحيد الربوبية إلى درجة أن كان هاجسهم وأساس الدين عندهم، فهم يريدون أن يشهدوا كيفية خلق الله تعالى المخلوقات، وتقديره المقادير، وكيف أن الله سبحانه وتعالى رزق العباد، وأنه هو النافع وحده، وهو الضار وحده، وهو المدبر لشئون الخلق جميعاً وحده، ويشتغلون بهذا الأمر ويقفون عنده.

    وسبق أن قلنا: إن هذا الشهود لا يكفي في ثبوت الإسلام، فإن كفار قريش كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، وكل أمم الأرض يعرفون أن الله عز وجل خالق، وهذا لا يكفي في النجاة من النار، ولا يكفي في ثبوت الإسلام للإنسان حتى يضاف إلى ذلك أن يشهد أن لا إله إلا الله ويقر بتوحيد الله عز وجل في أفعاله التي يقوم بها، ولهذا علّق الشيخ على فعل هؤلاء الصوفية فقال: [وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، وإبليس معترف بهذه الحقيقة] وهي أن الله خالق وأنه رازق سبحانه وتعالى[وأهل النار]، ثم أثبت ذلك بقوله: [قال إبليس: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] ] إلى آخر كلامه عن هذا الموضوع، ثم قال: [فمن وقف عند هذه الحقيقة] وهذا هو حال الصوفية [وعند شهودها] يعني رؤيتها [ولم يقم بما أمر به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بإلهيته] يعني: لم يقم بتوحيد الإلهية [وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار] فأهل النار جميعاً يشهدون الحقيقة الكونية، ويعرفون أن الله هو الخالق الرازق، وكذلك إبليس يعرف ذلك، وحينئذ لا فائدة من شهود الصوفية لهذه الحقيقة.

    ثم بيّن ما يترتب على شهود الحقيقة الكونية عند الصوفية، وهو سقوط التكاليف، فإن لشهود الصوفية الحقيقة الكونية عندهم مبدأ ومنتهى، فالمبدأ عن طريق الخلوة والأوراد، والمنتهى هو الكشف وسقوط التكاليف، ولهذا يقول الشيخ هنا: [ومن ظن أن الخضر وغيره سقط عنه الأمر لمشاهدة الإرادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر أقوال الكافرين بالله ورسوله] ثم بعد ذلك شرع في قضية أخرى مهمة، فبيّن أهمية إدراك الفرق بين العبودية الاضطرارية والعبودية الاختيارية، وهذا الفرق سبق أن أشار إليه، لكن جمعه في هذه الفقرة، وهي أن الإنسان إذا أفنى عمره ونفسه في إدراك العبودية الاضطرارية؛ فإن هذا لا ينفعه حتى يضاف إليه الإقرار والالتزام بالعبودية الاختيارية وهي مقتضى توحيد الإلهية، يقول: [وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه وأمره الشرعي حتى يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام أو حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية].

    إذاً: الحقائق الدينية هي الأساس، وهي -كما قلت- توحيد الإلهية؛ وسبق أن أشرنا إلى أن توحيد الإلهية هو الحكمة من خلق الجن والإنس، وهو دين الرسل الذي بعثوا به، وهو منهاج دعوتهم، وهو الذي لا يقبل الله عز وجل ديناً سواه، وهو معنى الإسلام ومعنى الإيمان، فإن الإسلام معناه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك، والاستسلام هو توحيد الإلهية، وكذلك الإيمان فإنه قول وعمل، وهو توحيد الإلهية، كما سبق أن أشرنا إلى هذا الموضوع في تعريف توحيد العبادة.

    جبرية الصوفية

    ثم بيّن ما ترتب على مشاهدة الحقيقة الكونية، وهو القول بسقوط التكاليف، والقول بالجبر، وأن العباد مجبورون على أفعالهم لا اختيار لهم، فعندهم أن أحسن عمل يقوم به الكافر هو الكفر؛ لأن هذا مقتضى خلق الله له، فالله خلقه ليقوم بهذا العمل، وأفضل عمل يقوم به النصراني هو نصرانيته، وأفضل عمل يقوم به اليهودي هو يهودتيته، وهكذا المسلم والدرزي والنصيري، وكل شخص أفضل عمل يقوم به هو ما يقوم به في حياته، وهؤلاء هم جبرية الصوفية؛ إذ الجبرية طائفتان: جبرية الصوفية، وجبرية المتكلمين.

    وجبرية الصوفية هم الذين أشار إليهم الشيخ هنا؛ لأنهم أتعبوا أنفسهم في إثبات أن الله هو الرازق المحيي المميت، وظنوا أن هذا هو أعلى غايات التعبد، فقالوا: إن ثمرة هذه الشهود هو مقتضى خلق الله عز وجل، فإذا خلق الله يهودياً فأحسن عمل يقوم به هو اليهودية؛ لأن هذا تنفيذ لخلق الله! هكذا يتصورون.

    ولهذا تجتمع عقيدة الجبرية مع عقيدة أهل الاتحاد والحلول ووحدة الوجود، وقد سبق أن نقلنا عن ابن عربي وغيره أنه يقول: إن الدين -سواء أكان في كنيسة أم في معبد وثني هندوسي أم في كعبة مصل- يدين به كله؛ لأنه يرى أن هذه الأعمال على تناقضها واختلافها أعمال مقدسة وجليلة وكريمة؛ لأنها تنفيذ لخلق الله عز وجل، وخلق الله عز وجل شهوده والاهتمام به هو الأساس، فإذا شاهد خلق الله عز وجل وعظّمه ظن أن كل ثمرة تنتج عن هذه الخلق فهي محبوبة لله، فهو يعظّم إبليس مثلاً، ويرى أن إبليس من كرام الخلق، ويعظّم جميع القاذورات والأوساخ التي في عقائد الناس، ويعظّم ديانة الهنود الذين يعبدون البقر، وهكذا، والسبب في هذا هو أنه ظن أن التعبد الذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله هو تعظيم خلق الله عز وجل الموجود، فخلق الله الموجود فيه أشياء متناقضة، فيه شيء يحبه الله وفيه شيء يبغضه الله.

    فهم عظّموا الإرادة الكونية، فلما عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية قالوا: كل مخلوقات الله محبوبة له؛ إذ كيف يخلق شيئاً لا يحبه؟! ولو كان يكرهه لما خلقه! هكذا يتصورون، وما عرفوا أن الله عز وجل خلق مخلوقات يكرهها سبحانه وتعالى وأراد أن يبتلي بها العباد لينظر كيف يعملون وكيف يصنعون، وهذه الحكمة لم تتنبه لها كلتا الطائفتين الضالتين في هذه المسألة، فلم يتنبه لها الجبرية الذين عظّموا الإرادة الكونية، ولم يتنبه لها -أيضاً- القدرية الذين ألغوا خلق الله عز وجل، فلما وجد مثل هؤلاء الصوفية الذين عظّموا الخلق وجدت المعتزلة العقلانية التي ألغت الخلق كله، وقالت: هذا كله من تصرفات العباد، وما هو من خلق الله عز وجل! فانظر إلى الخصومة التي وقعت بين هاتين الطائفتين، وكلتاهما ضالتان وأهل الحق هم أهل السنة الذين أثبتوا خلق الله عز وجل، وأن الله خلق أشياء يحبها، وخلق أشياء لا يحبها لحكمة وهو الحكيم سبحانه وتعالى، وهناك أوامر أَمَرَ الله عز وجل بها وجعل من خلقه ما يصرف عن هذه الأوامر -مثل إبليس والنفس الأمارة بالسوء- حتى يبتلي العباد، وهذه المسألة لم تفهمها تلك الطوائف جميعاً.

    1.   

    الشيخ عبد القادر الجيلاني وعبارته في القدر

    يقول رحمه الله تعالى: [وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون، وكثر فيه الاشتباه على السالكين، حتى زل فيه من أكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان من لا يحصيهم إلا الله الذي يعلم السر والإعلان] وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذُكر عنه، فقد قال: إن كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا إلا أنا، فإني انفتحت لي فيه روزنة -والروزنة هي الكوة أو النافذة- فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والرجل من يكون منازعاً للقدر لا من يكون موافقاً للقدر.اهـ. ثم شرح الشيخ كلامه بعد ذلك.

    وهنا أحب أن أشير إلى أمرين:

    الأمر الأول: الكلام على الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، فإن الكلام فيه كثر عند كثير من الناس بحق وبباطل، والناس فيه على طرفين ووسط، فمنهم من عظّمه ونسب إليه كثيراً من العقائد الباطلة والفاسدة، ومنهم من تكلم عليه وشتمه بغير حق، والحق وسط بين هذين الرأيين، وستأتي الإشارة إليه بإذن الله.

    الأمر الثاني: هو شرح عبارة الشيخ عبد القادر بيان معناها، فإن بعض الناس قد لا يفهم معنى عبارة الشيخ رحمه الله.

    التعريف بالشيخ عبد القادر الجيلاني

    أما الشيخ عبد القادر فهو أبو محمد عبد القادر الجيلاني ، ولد في جيلان أو في كيلان، ولهذا ينسب تارة فيقال عنه: عبد القادر الجيلاني ، وتارة يقال عنه عبد القادر الكيلاني ، وتارة يقال عنه عبد القادر الجيلي .

    وقد ولد في القرن الخامس في سنة أربعمائة وإحدى وسبعين، وتوفي في سنة خمسمائة وستين، وعبد القادر الجيلاني حنبلي المذهب، تلقى العلم على أبي الخطاب الكلوذاني صاحب (التمهيد في أصول الفقه) وصاحب (رءوس المسائل في الفقه) وهو حنبلي مشهور، وكذلك أخذ الفقه أيضاً عن أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي المشهور صاحب كتاب (الكنوز) وهو كتاب كبير في الفقه كما هو معلوم، وصاحب (الواضح في أصول الفقه) وهو مخطوط، ويحقق الآن في جامعة أم القرى، وكذلك تلقى طريقته في العبادة وفي أعمال القلوب عن شيخ له اسمه حمّاد بن مسلم الدبّاس ، وستأتي الإشارة إلى حمّاد في وقت آخر، وعبد القادر الجيلاني صنف كتاباً مطبوعاً اسمه (الغنية لطالبي الحق عز وجل) وله كتاب أيضاً اسمه (مفاتيح الغيب) أو (فتوح الغيب)، هذه الكتب التي صنفها بيده رحمه الله، وأما بقية الكتب التي تنسب إليه فهي عبارة عن كتب يصنفها الصوفية وينسبونها إلى الشيخ.

    عقيدة الشيخ عبد القادر السلفية وما أخذ عليه في منهج التصوف

    وعقيدة الشيخ عبد القادر في الأسماء والصفات، وفي الإيمان، وفي القدر، وفي اليوم الآخر، وفي النبوات ونحو ذلك هي عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهو موافق لعقيدة السلف في هذا الأمر، والذي يطلع على كتابه (الغنية) يعرف هذا؛ فإن من يقرأ في الغنية يجد أنه يذم علم الكلام ويثبت الصفات، ويذم تأويل المتكلمين للاستواء ولغير ذلك من الصفات الإلهية، ونجد -أيضاً- أنه دائماً ينص على وجوب الاعتماد على الكتاب والسنة، وكتاب (الغنية) فيه قسم خاص بالكلام على العقائد، وقد وضح فيه عقيدته في أهم هذه المسائل جميعاً، فهو يقول: إن الإيمان قول وعمل، وقول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ونحو ذلك من مقالاته، وهو في التوحيد وأقسامه الثلاثة موافق للسنة، ولم يكن على رأي أهل الكلام في أي عقيدة من هذه العقائد، لكن الذي وقع فيه الشيخ عبد القادر هو أنه خالف السنة في بعض الأمور العملية في التعبد، فهو أول من جاء بفكرة الطرق الصوفية، وهو أن يجعل له تلاميذ معينين يقومون بالدراسة عليه، ويأخذون طريقته في التعبد، ويلتزمون طريقته في التعبد ويتواطئون عليها، فيعلم السابق منهم اللاحق، وهو -كذلك- كان -كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء- يقوم بما تسميه الصوفية: (الخلوة) حيث كان يختلي بنفسه كثيراً، وكان ربما ذهب إلى الصحراء وبقي في المكان الخالي وقتاً كثيراً، وهذه الخلوة بهذه الطريقة لا شك في أنها مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجتمع بالناس ويجاهد معهم، ويعيش معهم ويختلط بهم، ولا يختلي للتعبد إلا في حالات، مثل الاعتكاف، والاعتكاف ليس ميدانه الصحراء أو الكهوف والمغارات أو الأماكن البعيدة، وإنما مكانه المساجد كما هو معلوم، فحصل عنده شيء من الأخطاء في موضوع السلوك وفي موضوع التعبد.

    وفي هذا يمكن أن نشير إلى تنبيه مهم جداً، وهو أن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم منهج كامل، فهو منهج في الاعتقاد، وفي نفس الوقت منهج في طريقة التعبد والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك منهج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو منهج في الحرب والسياسة، وهو منهج في التغيير وإنكار المنكر، ونحو ذلك، وهو منهج في طلب العلم وكيفية التعلم، وهو منهج في الاستدلال بالنصوص، وهو منهج في التفقه، ولهذا ينبغي أن يدرس منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم بهذه الشمولية؛ لأن بعض الناس يتصور أن منهج السلف ومنهج أهل السنة والجماعة خاص بمسائل العقائد المشهورة مثل الصفات، أو قضايا الإيمان، أو اليوم الآخر والغيبيات ونحو ذلك، وهذا غير صحيح، فمنهج السلف منهج كامل في ميادين متعددة، وقد يكون الإنسان في بعض الأحيان موافقاً للسنة في مجال العقائد النظرية، لكنه قد يكون مخالفاً للسنة في أبواب أخرى وهذه قضية لا بد من أن يهتم بها الإنسان، فقد يكون الإنسان في بعض الأحيان موافقاً للسلف في العقائد، فهو يثبت الصفات، وعقيدته في القدر مثل عقيدة السلف، وفي بقية المسائل الاعتقادية مثل عقيدة السلف، لكنه يخلط في الدعوة إلى الله عز وجل، فتجد أنه قد يوالي الظالمين مثلاً، أو يداهن الطواغيت، أو يتنازل عن كثير من قضايا دعوته الأساسية، وربما يصل إلى حد أنه يغير بعض المفاهيم الشرعية بسبب طلبه لمكانة عند أحد ونحو ذلك، فهذا المنهج مخالف لمنهج السلف رضوان الله عليهم حتى لو كان الرجل نفسه موافقاً لعقيدة السلف في موضوع الأسماء والصفات وفي موضوع العقائد النظرية المعروفة.

    فالشيخ عبد القادر وقع في بعض الأخطاء، وهذه الأخطاء التي وقع فيها لا شك في أنها لا تبعده عن السنة، لكنه مخطئ في ذلك.

    وأما ما ينسبه إليه الصوفية من كثير من العقائد الفاسدة والباطلة فلا شك في أنه ليس عليه في ذلك شيء، وليس عليه وزر، فإن النصارى نسبوا إلى عيسى عليه السلام أموراً كثيرة جداً وهو منها براء، وكذلك اليهود نسبوا إلى إبراهيم، وكذلك الباطنية نسبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الدين أموراً كثيرة وهي باطلة، فليس كل أمر ينسب إلى عالم من العلماء يكون عليه وزره فيما نسب إليه من هؤلاء الضالين، وإنما الضالون يتحملون وزر ذلك يوم القيامة.

    والشيخ عبد القادر الجيلاني له تلاميذ كثر، منهم أبو محمد أحمد بن عبد الله بن قدامة المقدسي صاحب المغني، ومنهم أيضاً أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي صاحب (عمدة الأحكام) الكتاب الذي يدرس، وهو حنبلي مشهور على طريقة الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

    خلوة الجيلاني وتقريرها عند الصوفية

    إذا جئنا إلى الخلوة نجد أن الصوفية يستدلون بقول الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51]، فقالوا: إن الله عز وجل جعل موسى يخلو معه أربعين يوماً، وبناء على هذا فنحن نطالب الناس بأن يخلوا مع الله عز وجل أربعين يوماً، وهذا أتم أنواع الخلوة.

    ويستدلون -أيضاً- بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة يخلو ويتحنث في غار حراء الأيام ذوات العدد كما قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري .

    لكن هذه الاستدلالات استدلالات باطلة، وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة له ضمن مجموع الرسائل والمسائل، وهذا كتاب مهم جداً، أعني الرسائل والمسائل، فله رسالة اسمها العبادات الشرعية والفرق بينها وبين العبادات البدعية، يقول فيها رحمه الله: [وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي، وهذا خطأ؛ فإن ما فعله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه، وإلا فلا]، فما فعله الرسول قبل النبوة لا نحتج به؛ لأنه بعد النبوة إن أمرنا به اتبعناه فيه وإن لم يأمرنا به دل هذا على أن ما فعله قبل النبوة هو باجتهاد منه وليس بوحي جاءه من السماء.

    قال: [وهو من حين نبأه الله تعالى لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون، وقد أقام صلوات الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة، ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح فأقام بها قريباً من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال، وغار حراء قريب منه، ولم يقصده، وذلك أن هذا كانوا يأتونه في الجاهلية، ويقال: إن عبد المطلب سن لهم إتيانه؛ لأنه لم تكن لهم هذه العبادات الشرعية التي جاء بها بعد النبوة صلوات الله عليه، كالصلاة والاعتكاف في المساجد، فهذه تغني عن إتيان حراء، بخلاف ما كانوا عليه قبل نزول الوحي، فإنه لم يكن يقرأ، بل قال له الملك عليه السلام اقرأ، قال صلوات الله عليه وسلامه: فقلت: لست بقارئ، ولا كانوا يعرفون هذه الصلاة، ولهذا لما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عنها من نهاه من المشركين، كـأبي جهل ، قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:9-14] إلى آخر السورة].

    هذا يدل على أن استدلالهم بتحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء ليس استدلالاً مستقيماً، وأما استدلالهم بكون موسى عليه السلام واعده الله عز وجل أربعين يوماً فهو استدلال باطل، وهنا أشير إلى بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية الذين يرون أن طريق الدعوة أول ما يتم يتم بهذه الخلوة أو الخروج، أو نحو ذلك من الأعمال التي يقومون بها، وقد يحددون لها كيفية معينة خاصة، فإما أن تكون ثلاثة أيام، أو تكون أسبوعاً، أو تكون أربعين يوماً، وقد يحتجون عليها بهذه الآية، واحتجاجهم باطل، وطريقتهم ليست طريقة سنية.

    يقول شيخ الإسلام رحمه الله: [وطائفة] يعني من هذه الصوفية [يجعلون الخلوة أربعين يوماً، ويعظّمون أمر الأربعينية، ويحتجون فيها بأن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة وأتمها بعشر، وقد روي أن موسى عليه السلام صامها، وصام المسيح -أيضاً- أربعين لله تعالى، وخوطب بعدها، فيقولون: يحصل بعدها الخطاب والتزيل] أي: يتصورون أنه إذا جلس أحدهم هذه الأربعين يوماً يحصل له كشوفات، أو يحصل له بركات أو المنتسبون إلى الدعوة اليوم يقولون: إنه في الغالب يلتزم، وهذا -أيضاً- غلط فإن هذا ليس من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل شرعة لموسى عليه السلام، كما شرع له السبت، والمسلمون لا يسبتون، وإنما عيدهم يوم الجمعة، وقد حرّم في شرعه أشياء لم تحرم في شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا تمسك بشرع منسوخ، وذاك تمسك بما كان قبل النبوة، وقد جرب أن من سلك هذه العبادات البدعية أتته الشياطين، وحصل له تنزّل شيطاني وخطاب شيطاني، وبعضهم يطير به شيطانه، وأعرف من هؤلاء عدداً طلبوا أن يحصل لهم من جنس ما حصل للأنبياء من التنزل حتى أن أحد الصوفية يقال له: ابن سبعين جلس في غار حراء شهراً ينتظر جبريل حتى يأتي بالنبوة، هكذا يتصورون، وهذا من الجهل ومن سوء الفهم لأحكام الله عز وجل، وقد يكون من سوء العقيدة في كثير من الأحيان.

    وهناك بدعة عند الطريقة القادرية يسمونها الركعات القادرية، وهذه الركعات القادرية عندهم هي عبارة عن ست ركعات يصلونها بعد صلاة المغرب، ويقولون: إنها تعدل عبادة اثنتي عشرة سنة. ويستدلون عليها بحديث، وهو قوله: (من صلى ست ركعات بعد المغرب لم يتكلم بينهن عدلن عبادة اثنتي عشرة سنة) وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ، لكنه حديث ضعيف، ضعفه السيوطي في الجامع الصغير، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع، وبناء على هذا بنوا هذه العقيدة وأوجبوها على أتباعهم، حتى إن أحد أتباع الطريقة القادرية سئل عن هذه الركعات التي بعد المغرب، فقال: هي فرض على أصحاب الطريقة، ويجب عليهم أن يقضوها إذا لم يحصل لهم صلاتها، وهناك كتاب جمعه أحد أتباع الطريقة القادرية وسماه (الأوراد القادرية) ونسبه إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني ، وهي نسبة باطلة لا تصح.

    معنى عبارة الشيخ الجيلاني في القدر

    أما عن معنى كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني، فإنه يقول: (إن الكثير من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، فإنه انفتحت لي فيه روزنة). يعني: فتح الله عز وجل لي فيه طريقاً في العلم، فما هو هذا الطريق في العلم؟

    يقول: (فنازعت أقدار الحق) يعني الله (بالحق) يعني بالدين (للحق) يعني: للعقيدة الصحيحة.

    أي: نازعت أقدار الله عز وجل التي قدرها، أي: تعاطيتها أو تعاملت معها، كما قال الله عز وجل: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23] وليس المعنى أنهم يتخاصمون، فهم في الجنة.

    يقول: (فنازعت أقدار الحق) يعني: تعاطيت أقدار الله عز وجل، وفهمتها فهماً صحيحاً (فنازعت أقدار الحق بالحق للحق) وحينئذ يكون معنى كلامه أن الله عز وجل قدر مقادير كثيرة في الكون منها الخير ومنها الشر، ومنها الصحيح ومنها الفاسد، ومنها الإيمان ومنها الكفر، ومنها الطيب ومنها الخبيث، ومنها الحق ومنها الباطل، فيقول: أنا أخذت بالقدر، وهو الحق والإيمان، والصدق والإسلام، فنازعت الأقدار مثل الكفر والضلال والانحراف بالحق، وهو الإسلام والإيمان ونحو ذلك، وكلها قدر، فالإسلام قدر الله عز وجل وخلقه، وكذلك الكفر قدر، وكذلك الحق قدر، والباطل قدر، فيقول: أنا أخذت إرشاد الله عز وجل، فأخذت الإيمان -وهو من قدر الله- فنازعت به قدر الله عز وجل، وهذا ما أراده الله عز وجل، فالله عز وجل خلق هذه المخلوقات حتى يرى من يختار الخير عن طواعية ورغبة ويجتهد فيه وينازع القدر الباطل الذي خلقه الله عز وجل للابتلاء كما هو معلوم.

    يقول: [والرجل] يعني: الرجل الحقيقي [من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر] فقوله: [من يكون منازعاً للقدر] يعني القدر الباطل، مثل الشر بأنواعه وصوره، ومثل الباطل، ومثل الانحراف، ومثل أي أمر من الأمور السيئة. والمشكلة هي أن كثيراً من الجبرية في حقيقة حياتهم العملية ينازعون القدر بالقدر، فإذا جاء البرد -وهو من قدر الله- فإن الإنسان يستخدم قدر الله وهو -الدف- لرد قدر الله عز وجل، وهو البرد، وحين تكون حروب وفتن في البلدان يخرج منها أناس يبحثون عن الأمن، والحرب قدر؛ لأنهم يبحثون عن الأمور التي توافقهم، ولهذا تجد أن الإنسان مفطور على أخذ بعض أقدار الله عز وجل لينازع بها بعض أقدار الله المؤلمة، فهناك أقدار مؤلمة، مثل الحرب، ومثل المرض، ومثل الأذى بكل أنواعه، ونحو ذلك، وهذه لا يصح للإنسان أن يرضى بها، فإذا مرض لا يصح له أن يرضى، وإنما يداوي مرضه بالعلاج، وإذا جاءه الشيطان فإنه يعالجه بالقرآن فيدفعه عن نفسه.

    إذاً: نحن نأخذ من قدر الله عز وجل ما نرد به قدر الله سبحانه وتعالى، نأخذ الإرادة الشرعية فنرد بها بعض الإرادة الكونية.

    والله عز وجل خلق الخلق السيء للابتلاء، لكن الصوفية الذين تعلقوا بالإرادة الكونية وقالوا: إن العبرة هي بالإرادة الكونية حتى في الأقدار الطبيعية لا يردون تلك الأقدار، فتجد أحدهم يصبر على البرد، فعندما يأتيه برد لا يتغطى منه، وإذا جاءته الشمس يصبر عليها ويظن أن هذا تعبد؛ لأنه يقول هذا خلق الله، وعندما يأتيه حجر ساقط من سقف فإنه يصبر حتى يقع على رأسه، فتسيل دماؤه ويفرح بهذا، ويظن أنه بهذا قد حقق جهة من العبودية؛ لأن التعبد عنده هو شهود الخلق، وثمرة شهود الخلق هي التعامل مع المخلوقات بهذه الطريقة، وهي الصبر عليها وعدم مدافعتها.

    وهذا لا شك في أنه اعتقاد فاسد وباطل، وتكفي هذه الإشارة لشرح كلام الشيخ عبد القادر .

    نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح.

    1.   

    الأسئلة

    الخلوة في منهج بعض الجماعات العصرية وأصل مأخذها

    السؤال: بعض الجماعات تطالب أتباعها بالخلوة لمدة ثلاثة أيام أو أربعين يوماً، فهل هذا من الأعمال الصوفية؟

    الجواب: نعم، فقد أخذوا هذه الطرق من الصوفية، لكن بعضهم قد يدخل على ذلك تحسينات وتعديلات، لكن أصلها مأخوذ من هذه الطرق الصوفية.

    أنواع الجبرية

    السؤال: كم أنواع الجبرية، وما معنى شهودهم؟

    الجواب: سيأتي الكلام على أنواع الجبرية وعلى عقيدة الجبرية مفصلاً إن شاء الله تعالى.

    شرط استحقاق وصف السلفي

    السؤال: هل من يخالف السلف في منهج واحد يطلق عليه سلفي أم لا، كمن يخالف السلف في منهج الدعوة أو السلوك؟

    الجواب: الذي يخالف منهج السلف إما أن تكون مخالفته مخالفة جزئية، وإما أن تكون مخالفته مخالفة كلية، فإذا خالف السلف مخالفة كلية في باب من الأبواب فلا يكون سلفياً، ولا يكون صاحب سنة في هذا الباب، وإن كان صاحب سنة في أبواب أخرى، ولهذا يوالى على ما عنده من الاعتقاد ويعادى على ما عنده من الانحراف.

    أما إذا كانت هناك أخطاء جزئية فلا يقال إنه خرج من السلفية بمجرد أنه أخطأ بعض الأخطاء، فكلنا ذو خطأ، ولا يعصم الإنسان من الخطأ، وهذه الأخطاء تحصل من الناس، ولا ينبغي على الإنسان أن يعادي أشخاصاً بسبب خطأ واحد، وإلا لم يبق لنا أحد حتى نحن سنتفرق وسنكون على طريقة الخوارج، فأنت فيك خطأ، وهذا فيه خطأ، وقد يبتدع الإنسان بدعة في بعض الأحيان، والثلاثة الذين جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلبوا الرهبانية هل عاملهم النبي صلى الله عليه وسلم معاملة المبتدعة؟! لا، بل وجههم ونصحهم، لكن مخالفة السلف في قواعد أساسية لا شك في أنها تنتهي إلى آراء وتصبح لها فرقة، وحينئذ يجب أن ينكر على فاعل ذلك ويجب أن ينصح بقدر المستطاع.

    بيان المقصود عند نقد العلماء

    السؤال: ذكرت في حلقة ماضية عن الشيخ أبي حامد الغزالي أنه صوفي، مع أنه علّامة في الأصول وفقيه ومجتهد، فلو بيّنت هذا الأمر حتى لا يساء به الظن بالكلية؟

    الجواب: إن من نذكره في هذه الدروس لا ينبغي أن يساء به الظن، فقد يكون الإنسان عالماً في مجال ومخطئاً في مجال آخر، وينبغي أن يكون عندنا توازن في الفهم، فإذا ذكرنا شخصاً ونقدنا ما عنده من الخطأ فإنه لا يعني هذا أن هذا الإنسان لا يوجد عنده جوانب من الخير، وجوانب من الصلاح، وجوانب من الإيمان والتقوى، فقد يوجد عنده جوانب من الإيمان، لكننا ننقده من هذه الزاوية لبيان خطأ هذه الزاوية، حتى لا يضل الإنسان، لكن لا يعني هذا أننا نحكم عليه بأنه لا يستفاد منه، أو بأنه يرمى هو وكتبه في البحر! فهذا غير صحيح.

    فنحن إذا نقدنا أحداً فإن الهدف هو توضيح الخطأ حتى لا يقع الإنسان فيه، وليس الهدف هو إسقاط العلماء أو الكلام عليهم؛ فإن لحوم العلماء مسمومة كما نعلم، وإن كان من تمسك ببدعة فإنه يرد عليه ولا ينسب إلى أهل العلم.

    فلا بد من فهم الهدف من إيرادنا لبعض الأسماء ونقدها، وهو أن يبتعد الإنسان عن الخطأ الذي وقعوا فيه والانحراف الذي انحرفوا فيه.

    معنى قول الجيلاني: (... لا من يكون موافقاً للقدر)

    السؤال: ما معنى قول الشيخ عبد القادر (والرجل من يكون منازعاً للقدر، لا من يكون موافقاً للقدر)؟

    الجواب: يعني: لا يكون موافقاً للقدر السيئ، فالله عز وجل خلق الكفر، فلو أن إنساناً قال أنا أريد أن أوافق هذا القدر فإنا نقول له: أخطأت في فهم موافقة القدر.

    حقيقة الروحانية عند الصوفية

    السؤال: أفضتم في الكلام على الصوفية ولكنكم -أيضاً- في بحر مهاجمتكم لها لم تتطرقوا إلى ما فيها من جوانب روحانية، ومن الإنصاف عند ذكر شيء أن تذكروا ما له وما عليه؟

    الجواب: سبق أن أشرت إلى أن الصوفية منهج فاسد دخل على الإسلام من أديان الهند، والصوفية عندهم عقائد ضالة ومنحرفة وخطيرة على الإسلام والمسلمين، وأما الجوانب الروحانية فنحن لا نأخذها من الصوفية، وإنما نأخذها من القرآن والسنة، فإن القرآن والسنة مليئان بأعمال القلوب، وبالتقوى وبالإنابة، والخشية، والخوف، والمحبة، والرجاء، ونحو ذلك من الأعمال القلبية، وهنا أحب أن أشير إلى مسألة مهمة جداً، وهي أن بعض الناس يتصور أن طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم هي طريقة في المسائل النظرية فقط، ونحن نقول: لا، بل السلف الصالح رضوان الله عليهم أخبارهم مليئة بالخشية والخوف من الله عز وجل والتوكل على الله والإنابة والبكاء من خشية الله، وقد وصلوا إلى الدرجات العلى في الأنس بالله عز وجل، لكن بمنهج مستقيم، وهو منهج النصوص الشرعية، فروحانية الصوفية لا تنفع، لأنها روحانية نتجت عن أعمال بدعية، وخلوات بدعية، وأذكار بدعية، فهي روحانية فاسدة؛ إذ المبني على الفاسد فاسد، لكن هناك روحانية أخرى عند السلف الصالح رضوان الله عليهم تنشأ عن أعمال موافقة للأدلة الشرعية، وموافقة لطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الذكر، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم في التعبد ونحو ذلك، فهذه الروحانية هي النافعة، والروحانية التي نطالب بها هي التي كانت عند السلف رضوان الله عليهم المأخوذة من النصوص الشرعية، فأنت إذا قرأت القرآن تجد أنه مليء بالحث على الإيمان وعلى الخشية ووصف المؤمنين بالخشية، بل إن ما يذكر من أخبار أهل الجنة وأخبار أهل النار المقصود به توريث الخشية في النفس، ولهذا كانت قراءة القرآن من أعظم الطرق التي تلد الروحانية، لكن بشرط أن تكون قراءة تدبر وتأمل أما الخلوات الصوفية فهي -وإن ولدت روحانية- لا تنفع؛ لأنها مبنية على فاسد.

    بيان من يدخل في مسمى أهل السنة والجماعة

    السؤال: هل مسمى أهل السنة والجماعة يدخل فيه بعض من الطوائف الضالة كالأشعرية والماتريدية ونحوها؟ وهل من الممكن استبدال هذا المسمى بمسمى السلفية؟

    الجواب: السلفية، وأهل السنة والجماعة، والإسلام، والإيمان، والتقوى جميعاً بمعنى واحد، والعبرة في هذه الأسماء هي موافقة القرآن وموافقة السنة وموافقة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الميزان، فإذا انتسبت طائفة من الطوائف أو شخص من الأشخاص أو ملة من الملل انتسبت انتساباً إلى السلفية، أو إلى أهل السنة، أو إلى الإيمان، أو إلى الإسلام، أو إلى التقوى، وهي مخالفة لنصوص القرآن، ومخالفة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه النسبة لا تنفع؛ لأن العبرة الحقيقية ليست بالانتساب، وإنما هي بالعمل والموافقة الحقيقية للشرع.

    أما الأشعرية والماتريدية فالأصل أنهم لا يدخلون في أهل السنة والجماعة؛ لمخالفتهم للسنة والجماعة في أبواب كثيرة في العقيدة، حتى لو قالوا: نحن من أهل السنة لكن بعض الإخوان يقول: نلغي اسم أهل السنة والجماعة ونستخدم (السلفية) حتى لا نتورط في دخول الأشعرية في اسم أهل السنة وأقول: هناك طائفة من طوائف الشيعة اسمها السلفية، فهل نلغي اسم السلفية مثلاً؟! والباطنية يقولون: نحن مسلمون، فهل نلغي اسم الإسلام مثلاً؟ وهناك طوائف ضالة منحرفة كثيرة تنتسب إلى الإيمان، وتنتسب إلى التقوى، وتنتسب إلى الإسلام، فهل نلغي هذه الأسماء لوجود طوائف تنتسب إليها؟!

    والجواب: لا، ولكن نميز عندما نأتي باسم من الأسماء، فنقول: أهل السنة والجماعة هم الموافقون للقرآن، وهو موجود، والموافقون لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وهي موجودة، والموافقون لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو موجود، فنعرض كل طائفة أو فكرة أو قول أو عقيدة على ما عندنا من القرآن ومن أحاديث الرسول ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كانت موافقة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم وللآيات القرآنية فهي من السنة، وإن كانت مخالفة فهي مردودة، هذا هو القول العدل في هذه المسألة.

    الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن

    السؤال: هل هناك ضرر في القول بخلق القرآن، أم أن القول بأن القرآن مخلوق هو خلاف عقيدة السلف فقط، وليس هناك إلزامات يلتزمها من قال بخلق القرآن؟

    الجواب: هناك التزامات كثيرة يلتزمها من قال بخلق القرآن، فالقرآن كلام الله، فإذا قالوا: إن القرآن مخلوق فمعنى هذا أن كلام الله مخلوق، فإذا كان كلام الله مخلوقاً فكيف يكون الله عز وجل إله العالمين ورب الناس أجمعين؟! بل يكون مخلوقاً تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فالموضوع متعلق بالله عز وجل، وليس مقتصراً على مخالفة لفظية لعقيدة السلف، بل هي مخالفة حقيقية والقرآن مليء بالآيات التي تبين أن القرآن كلام الله، فهل هذه الآيات حق أم باطل؟! فالذي يقول: إن القرآن مخلوق يخالف هذه الآيات، ومخالفة هذه الآيات ليست بالهينة، فالله عز وجل حين يأمر الله الإنسان بالصلاة فيخالفها، هل تعد المخالفة يسيرة؟! وكذلك مخالفة الزكاة، وكل أمر من أوامر الشرع مخالفته ليست يسيرة، ومخالفة النصوص الشرعية ليست يسيرة، فالله عز وجل أخبر أن القرآن كلامه سبحانه وتعالى، كما في قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، فالقرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى، فيأتي هذا ويقول: إنه مخلوق! فإذا قال: كلام الله مخلوق وقع في الشرك؛ لأن كلام الله عز وجل صفة من صفاته، فلا يصح أن يقول: إنه مخلوق.

    وأقول: إن الذي يقول: إن القرآن مخلوق مخالف لكثير من الآيات القرآنية، ومخالف لصفات رب العالمين، وأعظم ما ينبغي أن يعظّمه الإنسان هو رب العالمين، فليس المخالفة فقط كائنة للسلف، والسلف ما اعتقدوا هذه العقائد إلا بناء على وجود أدلة عليها في القرآن والسنة، وهذه الأدلة إذا خالفها الإنسان وقع في الضلال، وما المشكلة بيننا وبين الكفار؟! هل هي أننا مسلمون وهم كفار فقط؟! لا، بل المشكلة أنهم خالفوا كلام الله عز وجل الذي خلق الناس وخلقهم، ومخالفة كلام الله ليست يسيرة، فقد أوصلتهم إلى الخلود في جهنم.

    إذاً: ينبغي أن يفهم وجه محاربتنا مثل هذه الطوائف الضالة المنحرفة، وأنه ليس المقصود أن نتعصب لطائفة معينة، ولكون هؤلاء خالفوهم نغضب عليهم ونتكلم عليهم! لا، بل لأنه يترتب على ذلك مصائب عملية، فكل فرقة عندها آراء وعندها ضلالات يترتب عليها مصائب كثيرة جداً في المجتمع، منها مصائب عملية في الواقع، ومنها مصائب علمية في العقائد.

    ولك أن تتصور التمييز بين البشر في العقيدة، فالمسلم والكافر في الشكل العام سواء، لكن أين هذا وأين ذاك؟ هذا في أعلى عليين في الجنة، وذاك في أسفل سافلين في قعر جهنم، مع أن الأشكال واحدة، فما تغيرت إلا العقيدة التي في النفوس، وهكذا موضوع خلق القرآن وغيره من الموضوعات الأخرى.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755956112