إسلام ويب

شرح العقيدة الواسطية [22]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من معتقد أهل السنة تولي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بأنهن أمهات المؤمنين، وأزواج نبي رب العالمين في الدنيا والآخرة. كما أن من معتقدهم الإيمان والتصديق بكرامات الأولياء، وهم في ذلك يخالفون المعتزلة ومتكلمة الصفاتية الذين ينكرون الكرامات المتحققة في حق الأولياء.

    1.   

    موقف أهل السنة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم

    قال رحمه الله: [ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة] .

    بين أهل العلم خلاف: هل أزواجه من آل بيته، أم لا؟ هذه مسألة انضبطت أو لم تنضبط الأمر فما يتعلق بها هو أكبر من كونهن من آل البيت، وهو أنهن مؤمنات سابقات جعلهن الله أزواجاً لرسوله عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك.

    المفاضلة بين خديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن

    [خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ] .

    هذا الحديث ليس صريحاً في أن عائشة هي أفضل نساء المؤمنين، وإذا قيل: إنه ليس صريحاً فليس معناه: أنه لا دلالة فيه، ومن استدل به على فضل عائشة قيل له: فيه دلالة، لكنها دلالة محتملة ليست دلالة صريحة، لأنك إن قلت: إنه نص صريح، أصبحت المسألة تميل إلى الجزم واللزوم والقطع، فهذا نص محتمل، وإن كان الرسول قال فيه: (فضل عائشة على النساء) فقد يكون الفضل الذي كان يتكلم عنه عليه الصلاة والسلام ليس هو فضل الدين المطلق، بل الفضل المتعلق بعشرة النساء وصلتهن بالأزواج وبرهن مع الأزواج، فهذه أمور محتملة في الحديث.

    فيما يتعلق بأفضل أصحاب رسول الله: من المعروف أن أفضلهم أبو بكر .. إلى آخره، أما ما يتعلق بنساء هذه الأمة فاتفق السلف أو أهل السنة على أن أفضل النساء فاطمة وخديجة وعائشة ، هذا متفق عليه أن هؤلاء الثلاث هن الأفضل، ثم تنازع أهل العلم أيتها أفضل، فقوم قالوا: عائشة ، ويستدلون بمثل هذا الحديث، وهو فيه نوع من الدلالة وليس صريحاً، والأظهر أنه لا دلالة فيه، ويفضل قوم خديجة ، ويفضل قوم فاطمة .

    فقد جاءت نصوص في هؤلاء الثلاث، فقال النبي لـفاطمة : (ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟) كما في الحديث الثابت في الصحيح، فهذا أقوى في الدلالة من حديث فضل عائشة على النساء، يعني: إذا كان حديث فضل عائشة على النساء يدل على أنها هي الأفضل مطلقاً فقول النبي لـفاطمة : (أما ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة، أو سيدة نساء العالمين؟) أصرح في الدلالة، لا سيما أنها كانت على وجه البشارة الأخروية؛ لأنه سارَّها بذلك، ولم يكن هذا مما يقصد ذكره بين الناس، كان هذا من باب المسارَّة؛ لأنه سارَّها كلمة فبكت، ثم سارها الثانية فضحكت، ولم تكشف سره عليه الصلاة والسلام إلا بعد وفاته.

    فالمقصود: أن هؤلاء الثلاث القول فيهن ممكن، والجمهور من السلف فيما يظهر والله أعلم ما كانوا يشتغلون بهذا التفضيل والجزم كاشتغالهم بتفضيل أبي بكر وأمثال ذلك، ولذلك الأولى والأقطع للنزاع ولكيلا تكون هذه المسائل موجبة لكثرة الخلافات التي لا طائل تحتها، أن يقال: أفضل نساء هذه الأمة فاطمة وخديجة وعائشة ، أما أيتهن أفضل؟ فهذا أمر الله أعلم بتمامه، ولكن إذا اعتبرت الأمور بالأقرب فـخديجة أو فاطمة أفضل من عائشة فيما يظهر والله أعلم.

    ولكن أنا أميل إلى عدم العناية بمسألة الترجيح في المسألة، فكثرة النظر فيها والترجيح ليس مقصوداً، ذلك أنه لا فائدة فيه، لأنه ليس من باب التراتيب الإيمانية المنضبطة على أخبار منضبطة، أما تفضيل أبي بكر فمقصود؛ لأنه من التراتيب الإيمانية، هذا دين وعقيدة أن نؤمن أن أبا بكر هو أفضل الصحابة؛ لأننا بذلك نحقق النصوص الصريحة، أما التفضيل بين خديجة وعائشة وفاطمة فهذا ليس فيه نصوص صريحة.

    1.   

    براءة أهل السنة من الروافض والنواصب

    قال المصنف رحمه الله: [ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل] .

    النواصب ليسوا هم أهل السنة كما زعمت الشيعة، وليس النواصب هم بني أمية، إنما النواصب هم من ناصب أهل البيت العداء أو قصد الطعن عليهم، فهذا يسمى ناصبياً، سواء كان من بني أمية أو كان من السنة غيرهم فكل من ناصب آل البيت العداء، أو طعن فيهم فهو يسمى ناصبياً أياً كان اتجاهه، أما تصنيف سائر بني أمية أنهم نواصب؛ فهذا غير صحيح، وهو من تصانيف الشيعة.

    الإمساك عما شجر بين الصحابة

    [ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه] .

    الإمساك عما شجر بين الصحابة سنة من سنن السلف، لكن هذا لا يمنع ذكر الحقائق الكلية المنضبطة.

    من الحقائق الكلية التي أريد أن أشير إليها تمثيلاً لا استقصاءً: أن علياً أولى بالحق من معاوية .. هذه حقيقة كلية منضبطة لا تنافي الإمساك، وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أن عماراً تقتله الفئة الباغية)، لا ينافي لزوم الإمساك، فمثل هذه الحقائق لا بد من ضبطها في فقه الشجار والنزاع الذي حصل بين الصحابة.

    أما إذا فُسِّر الإمساك بأنه السكوت وعدم قول أي كلمة، فهذا غلط مخالف للنص والإجماع، فإن النص قال: (تقتل عماراً الفئة الباغية) وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مروق الخوارج فقال: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) ، فظهر منه أن علياً أولى بالحق.

    إذاً الحقائق الكلية المنضبطة عند السلف لا تنافي الإمساك.

    [والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم] .

    وهذا المعنى: أن كل من كان محققاً للإيمان يغفر له ما لا يغفر لغيره حصله المصنف من قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].

    [لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟!

    ثم إن القدر الذي يذكر من فعل بعضهم قليل، نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم: من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله] .

    لا نزيد عليه رحمه الله في هذا التقرير منه لدرجة الصحابة ومنزلتهم، وما قد وقع من بعضهم أو ما نقل عن بعضهم من بعض التقصير أو ما إلى ذلك، فإن هذا قد زيد فيه ونقص، وما ثبت منه قد يكون من باب الاجتهاد، وإذا بلغ المنتهى وكان من باب المعصية، فإن لهم من الحسنات والتوبة والجهاد وما إلى ذلك ما يوجب التكفير، ولما حصل لهم من الاصطفاء الإلهي في رضا الله سبحانه وتعالى عنهم.

    1.   

    كرامات الأولياء

    ختم المصنف كتابه هذا الذي ذكر فيه جمل الأصول عند أهل السنة والجماعة في أبواب العقائد وأصول الدين، بقوله: [ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء] .

    وهذا الأصل إنما كان من موارد الإجماع عند السلف؛ لأن النصوص عليه في الكتاب والسنة صريحة، فإن الله ذكر في القرآن قصة أصحاب الكهف، وذكر في القرآن ما كان يحصل لـمريم عليها السلام من أنواع الكرامة كمجيء رزقها وهي في المحراب حتى قال لها زكريا: أَنَّى لَكِ هَذَا [آل عمران:37] وكان متعجباً من هذا الرزق الذي يأتيها قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] فمثل هذه الكرامات التي حصلت لأهل الكهف في نومهم وحفظ الله لهم مع نومهم في أبدانهم، ثم ما حصل لـمريم عليها الصلاة والسلام، وكذلك ما جاء في السنة الصحيحة من إثبات ذلك.

    فصار قوم من أهل البدع ينكرون الكرامات، وأخص من أشهر الإنكار لهذه المسألة هم المعتزلة، وشاركهم فيها بعض متكلمة الصفاتية، فصاروا ينكرون كرامات الأولياء.

    والكرامة هي أمر خارق للعادة يجريه الله سبحانه وتعالى على يد ولي إما معونةً في أمر ديني وإما معونة في أمر دنيوي، ولا يلزم أن يكون في الأمور الدينية فقط، بل قد يكون في الأمور الدينية وقد يكون في الأمور الدنيوية، وهو في الجملة خارق للعادة الحسية وليس خارقاً للعادة العقلية؛ لأنه لا شيء يخرق العادة العقلية، إنما الخوارق للعادات الحسية فقط، وإن كان هذا الحس قد يحكم الناس عليه بأنه حكم عقلي، والصحيح أنه حكم حسي.

    إنكار المعتزلة للكرامات وشبهتهم في ذلك

    الكرامات التي يجريها الله سبحانه وتعالى على يد من شاء من عباده، أنكرتها المعتزلة لموجب عندهم مركب من مقدمتين كلاهما فاسدة.

    المقدمة الأولى: قالوا: إن النبوة لا تثبت إلا بمعجزة، والمعجزة عندهم هي الخارق للعادة.

    المقدمة الثانية: قالوا: فإذا حصلت الكرامة لولي حصل التباس بين النبوة والولاية، أو بين النبي والولي، ومن هنا أنكروا هذه الخوارق.

    الرد على شبهة المعتزلة في إنكار الكرامات

    هاتان المقدمتان كلاهما مما ينازع فيه، فإن النبوة وإن كانت تثبت بالمعجزة والآية، وهذا اسمها الشرعي: أنها آيات الأنبياء، فإن النبوة لا يقتصر ثبوتها على المعجزات، فهي تثبت بالمعجزات وتثبت بغيرها، فمن المعلوم أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا دين الإسلام ممن لقيه أو حتى ممن بلغه دين الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً منهم يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويسلمون بذلك لما يسمعون في دينه من التوحيد أو من الأمر بمكارم الأخلاق، أو ما إلى ذلك، وإن كانوا حال إيمانهم ودخولهم في دين الإسلام لا يلزم بالضرورة أنه بلغتهم عنه صلى الله عليه وسلم معجزة من خوارق العادات، وإنما قد يبلغهم ذلك فيما بعد، أو ربما أنه بلغهم، ولكن يكون سبب إيمانهم هو الأول.

    إذاً الصواب الذي عليه جمهور المسلمين وهو إجماع عند السلف أن النبوة تثبت بالمعجزة وبغيرها من الدلائل الموجبة للتصديق، ومن الدلائل الموجبة لتصديق النبي والرسول أنه يدعو إلى توحيد الله، ويدعو إلى الأخذ بشريعة الله سبحانه وتعالى.

    إذاً: المقدمة الأولى عند المعتزلة ليست صواباً، لأنه لو كانت النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة للزم من ذلك أن يكون الإيمان بالنبي معلقاً على العلم بالمعجزة، ولو كانت النبوة لا تعرف إلا من جهتها، للزم أن يكون إيمان الذي يسلم أو يدخل هذا الدين بالنبي مستلزماً للعلم بدليل النبوة وهو المعجزة، والأمر ليس كذلك. فإن قيل: فمن يسلم أيقال إنه أسلم دون أن يعلم دليل النبوة؟ قيل: لا، كل من يسلم فقد علم ما هو من دليل النبوة، فمن أسلم لكونه رأى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى إفراد الله في العبادة، فهذا أسلم على دليل من دلائل النبوة، وهو أن من دلائل صدق النبي أنه يدعو إلى التوحيد، كما أن من دلائل صدقه ما يجريه الله على يديه من المعجزات، فهذا دليل، وهذا دليل ..

    إذاً: هذا هو الرد على المقدمة الأولى.

    المقدمة الثانية: لو فرض جدلاً أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة فإن هذا لا يوجب أن تكون الكرامة منفية حتى لا تلتبس بالمعجزة، فإن الفرق بين الكرامة والمعجزة هو متحصل من جهة الفرق بين النبي وبين الولي، وهذا الفرق الأضبط الذي يمكن أن يكون مدركاً حتى للعامة من المسلمين، إذا قيل: ما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق المنضبط أن هذه المعجزة تحصل لنبي، وهذه تحصل لولي، ويمتنع أن الولي يدعي بها النبوة، فإنه لو فرض أنه ادعى بها النبوة لما أمكن في نفس الأمر أن يكون ولياً، بل هذا يكون كذاباً دجالاً.

    فإذا قيل: إن هذا قد يخشى منه دعوى النبوة، قلنا: هذا يمكن فرضه في الخوارق التي تحصل من الكهان؛ لأنهم قد يعملون الأعمال الخارقة التي يستعملون فيها الشياطين، فيدعون بها شيئاً من الغيب أو شيئاً من النبوة أو شيئاً من مقامات الربوبية أحياناً، أما الولي فإن ذلك ممتنع في حقه؛ لأن ولايته تمنع أن يكون مدَّعياً بها، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام من دلائل نبوته أنه يدعو إلى التوحيد، وقد سأل هرقل أبا سفيان : (بم يأمركم؟ قال: يأمرنا بالصلاة والصدقة والصلة والعفاف). فكانت هذه من موجبات كونه نبياً صادقاً.

    إذاً هذا الالتباس الذي فرضه المعتزلة ممتنع: ممتنع من جهة المقدمات النظرية، وأما من جهة الوجود الحسي فهو كذلك؛ لأن الموجب الذي طرأ عند المعتزلة لمنعها يلزم اطراده في الخوارق التي تحصل عند السحرة والكهان وأمثالهم من الكذابين، ومعلوم عند سائر الخاصة والعامة بل حتى عند غير المسلمين أن الكهان والعرافين والمدعين للعلوم الغيبية هم ممن يستعملون الشياطين سواء ممن ينتسب لهذه الأمة الإسلامية أو ممن هو خارج عن أمة الإسلام من عبدة الأوثان من أهل الهند التي تكثر فيها مثل هذه الوسائل أو غيرهم، فيحصل لهؤلاء الكذابين من الكهان ونحوهم كثير من الخوارق الظاهرة عند العامة، وحقيقة أمرها أنها مما تعمله الشياطين لهم، فإن الشياطين -كما هو معروف في القرآن- قد أقدرهم الله على ما لم يقدر عليه البشر؛ ولذلك كان لسليمان من الشياطين من يغوصون له، وقصتهم مع سليمان معروفة، قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ [النمل:39] ومثل هذا خارق للعادة.

    فمثل هذه الأعمال التي تصدر بواسطة الشياطين أمر لا يستطيع أحد أن ينكره .. لكونه موجوداً في هذه الأمة وفي غيرها -أي: في المنتسبين لهذه الأمة وفي غيرهم-، فهذا القول هو من إنكار الحسيات، فإن هذه المعارف من علوم السحر وعلوم الطلاسم وما إلى ذلك كانت مشهورة حتى في عصر المعتزلة، وعلماء المعتزلة مطلعون على مثل هذه الكتب، ولا سيما أن بعضها كان مترجماً من فلسفة الهند وغيرها.

    فهذا كله من التكلف في إنكار ما هو من الحسيات مع أنه لا موجب له من جهة النظر فضلاً عن الشرع، فإن الله ما نفى هذه الكرامات في القرآن، بل في القرآن والسنة ما هو إثبات لها، وأما هذا الموجب الذي فرضوه فلو فرض صدقه أمكن ذلك في خوارق السحرة والكهان؛ لأن الكذاب من الكهان ونحوهم قد يدَّعي بخارقه اختصاصاً من جهة الديانة، فيدعي صفة ربانية أو نبوية أو ما إلى ذلك، أما الولي فإن هذا الادعاء يمتنع في حقه.

    الولاية اسم تابع للإيمان

    لكن مع إيمان أهل السنة بها وتصديقهم لما يحصل من ذلك إلا أن هذا ليس من امتياز الأولياء، بمعنى أن الولي لا يعرف بالكرامة، وهي وإن كانت تحصل لمن هو من الأولياء، فهي لا تختص -أعني: الكرامة- بمقامات الأولياء، بحيث أن الولي إذا حصل له كرامة فإنه يعلم بها أنه أفضل من غيره ممن لم تحصل له كرامة .. بل هي تعرض لبعض الأولياء على ما يشاء الباري سبحانه من الحكمة: قد يكون الأمر تثبيتاً له، وقد يكون نصرةً له .. الخ، فللكرامة موجبات على حكمة الله، لكن النتيجة من هذا أنها لا توجب الفضل المطلق لهذا الولي على غيره، حتى ولو كثرت كراماته، والآخر لم يشتهر بالكرامات.

    الجهة الثانية: أن الكرامات في كلام أهل العلم تتعلق بالأولياء، والولاية -كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- تتفاوت، يقول: فكما أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فكذلك الولاية، فإن الولاية اسم تابع للإيمان، فبقدر تحقيقه للإيمان يكون محققاً للولاية، وكما أنه يحصل له الإيمان مع نقص فيه فكذلك يحصل له الولاية مع نقص فيها؛ لأن الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] فمن حقق الإيمان على التقوى فهو الولي المطلق، والمؤمن المطلق هو الولي، والمؤمن الناقص لا تنفى عنه الولاية، إذ له من الولاية بقدر يناسب إيمان هذا الولي أو هذا المؤمن، وإن كان لا يسمى ولياً بإطلاق، فلا يعني هذا أنه ليس له من الولاية شيء، كما قد يقع في ذهن بعض العامة أن الولي هو درجة من الاختصاص لا يقع اسمها لا مطلقاً ولا مقيداً إلا في حق الخاصة؛ بل الولاية هي ولاية الله، والله يتولى الذين آمنوا إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ [المائدة:55] فالله يتولى أهل الإيمان على درجاتهم.

    لكن الاسم المطلق حينما يقال: إن فلاناً من أولياء الله لا يسمى به إلا من عرف تحقيقه للإيمان .. هذه جهة في مسألة الولاية.

    حال الصحابة رضوان الله عليهم مع الكرامات

    الجهة الثانية في مسألة الولاية: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كانوا يعنون بتخصيص بعضهم بمقام الولاية؛ لأن مقام الولاية حقيقته أنه مقام عبادي أحوالي، يتعلق بأحوال القلوب، وهذا الباب وإن كان يدرك بالاستفاضة أو بالشهادة إلا أنه في حقيقته باب غيبي، بمعنى أن المعين للولي هو الله سبحانه وتعالى.

    والذي كان عليه السلف الأول من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يعينون بالعلم، هذا هو الذي درج عليه السلف، أما الصوفية -أو أكثر الصوفية- فإن الولاية يكون لها أشبه ما يكون بالنظام والدستور العلمي أو العملي عندهم، فتجد الجانب الوراثي الشخصي المتعلق بالنسب، وأن هذا أبوه كان هو الولي، فتتحدر الولاية فيهم كابراً عن كابر، وهذا كله من الجهل والغلط على الشريعة.

    ومثله التخصيص لأناسٍ بأنهم هم الأولياء لمظاهر أو لدرجة يظهرونها من المقام، ويُتبرك بهم على هذا التقدير وما إلى ذلك، فأكثر هذا التخصيص لا وجه له، إنما التخصيص الممكن هو التخصيص الظاهر من جنس التخصيص الذي كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن فلاناً اشتهر بالعلم، وفلاناً اشتهر بالجهاد، وفلاناً اشتهر بالفقه، وهذا بحفظ الحديث .. وهلم جراً، وكل هذه المقامات العلمية والعملية هي من مقامات الولاية.

    أما تقسيم المجتمع بأن هؤلاء هم السادة الأولياء، وهؤلاء هم المريدون التبع، والمسألة مسألة ترقي، والولي هو الذي يحكم لهذا المريد أو لهذا المتقدم أنه وصل إلى درجة كذا، ثم يتصعد إلى أن يصبح ولياً، فهذا كله جهل بالشريعة؛ فإن الذي يقبل الولي ولياً هو الله، وقد يكون هذا الولي من العامة وهو عند الله من الأولياء، فهذه الطرق المترقية عند الصوفية لا شك أنها من البدع المحدثة في تسمية الولاية.

    فمن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، والكرامة قد تقع لغير الولي بالمفهوم الخاص، فهي تقع للمؤمن؛ ولذلك لو كان التعبير: ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات المؤمنين لكان صحيحاً؛ لأن الكرامة ليست ملازمة للولاية، والولاية قد تتحقق لمن لم تقع له كرامة، ولا يقول بغير هذا إلا غلاة من الصوفية: أن من شروط الولي عروض الكرامات له.

    فالكرامة مرتبطة بالإيمان، وهذا لا ينافي قول أهل السنة أو قول أهل العلم عموماً أن الكرامة للولي، فالمؤمن هو الولي، ولكن ينبغي أن يعبر بأن الكرامة تكون للمؤمن كما يعبر أنها تكون للولي، فيذكر التعبيران قطعاً لهذه الشبهة المترتبة في عقول الصوفية، والتي دخلت على كثير من عامة المسلمين ولا سيما في البيئات التي يكثر فيها التصوف: أن الكرامات هي خصائص لقوم بلغوا درجة الولاية، حتى ربما أظهرت لهم الشياطين بعض هذه الخوارق، وزينتها لهم فظنوا أنهم أولياء، فضلوا وأضلوا.

    ولذلك قد تعرض الكرامة من كرم الله سبحانه وتعالى لبعض المسلمين، فقد تدركه رحمة حتى لو كان عنده بعض المعاصي، قد يكون في انقطاع من السبل مثلاً فتدركه كرامة من الله بإجراء ماء أو بجرية ماء بين يديه أو ما إلى ذلك، وهذا قد يعرض.

    فالكرامة حقيقتها أنها عون إلهي ونعمة إلهية، والكرامة ليست مجازاة على الثواب المطلق، نعم هي لا تكون إلا لمؤمن، وهذا الشرط ثابت، لكن ليس معناه: أن من كان في حاله شيء من النقص يمتنع وجود الكرامة في حقه، إنما شرطها الإيمان الصادق.

    ثم هناك فرق بين الكرامة التي تعرض على نوع من حفظ النفس كمن انقطعت به السبل، وبين الكرامة التي تحصل لولي على مقام من النصرة التي يلحقه أتباع بها، فهذه لا تعرض إلا لمن هو أهل لها.

    من بدع الصوفية في الكرامات

    قال رحمه الله: [وما يجري الله على أيديه من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات ] .

    مما يعلم أن كثيراً من الصوفية زادوا في مسألة هذه المكاشفات، ولا سيما المكاشفات الأحوالية المتعلقة بالقلب أو المكاشفات العلمية، فأدخلوا على نظرهم وعلى محصلاتهم ما هو من البدع وما هو من الوهميات العلمية، وزعموا أن هذا من الأسرار أو من المكاشفات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، أي: أنها من الكرامات التي تحصلت لهم بفضل ولايتهم، وهذا موجود وثابت كما ذكر المصنف رحمه الله، لكن مما يعلم أنه حصل فيه استطالة كثيرة ولا سيما عند مبتغيه.

    ولذلك من فقه الكرامة أن صاحبها لا يكون متطلباً لها أو منتظراً لها، فمن تطلب الكرامة فهو في الغالب يقع عنده شيء من الفتنة، ولذلك الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما كان أحد منهم يتطلب مثل هذه الكرامة أو ينتظرها، ومن المعلوم أن كبار أئمة الصحابة ما حصل لهم شيء من هذه الكرامات الظاهرة التي تعرض لبعض الصوفية من بعدهم، مما يدل على أن مقام الكرامة ليس هو مقام الحكم على الإيمان ودرجته.

    [والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة] .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755905612