أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:70-75].
قال ربنا جل ذكره: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70]. الذي نهى رسول الله هذا النهي الله منزل الكتاب، فهو القائل لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]. ليسليه ويحمله على الصبر والثبات؛ لأنه يواجه العناد والمكابرة، والتعالي والكلام البذيء والسلوك الفاسد، وهو وحده في تلك الديار، فكان في حاجة إلى من يسليه، ويحمله على الصبر والثبات، حتى يؤدي رسالته، ثم يرفعه الله إليه. ولذلك قال له تعالى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ [النمل:70] وشدة مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70]. وقد مكروا برسول الله والله.
ثانياً: اجتمعوا في دار الندوة في ناديهم، وتشاوروا وتبادلوا الرأي، ثم أصدروا حكمهم بقتله صلى الله عليه وسلم. وليس هناك مكر أعظم من هذا. فقد صدر الحكم بقتله، وبعثوا رجالهم وشبابهم بسيوفهم، فجلسوا عند بابه ينتظرون خروجه؛ حتى يخرج فيضربوا رأسه ويقتلوه. ولكن الله أخزاهم وأذلهم، وأضاع مكرهم، ونجا رسوله، ولجأ إلى المدينة وهاجر إليها.
والذين مازالوا يدعون إلى الله في أوروبا .. في أمريكا .. في العالم يجدون هذا الذي وجده الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في ذلك شك، وحينئذ ينتفعون بهذه الآية: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70]. الضِيق والضَيق بمعنى: الهم والغم والشدة في النفس.
وقوله: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:71]؟ المراد من الوعد بالعذاب الذي يعدهم الله ورسوله به في كتابه: عذاب الدنيا وعذاب البرزخ وعذاب الآخرة.
هذه أول خطوة في باب الشكر. فيا من يريدون أن يكونوا من الشاكرين! أولاً: أن نعترفوا بالنعمة لله ذي الفضل العظيم. وهذا الاعتراف يكون بالقلب، فيكون القلب معترفاً موقناً أن كل ما أنت عليه من الخير هو من الله عز وجل.
ثانياً: أن تشكر الله بالحمد والثناء عليه. فعندما تريد أن تركب سيارتك قل: ( بسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. الحمد لله .. الحمد لله .. الحمد لله، الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر، سبحانك ظلمت نفسي، فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ). وهذا كان الرسول يقول ويعلم أصحابه.
وإذا قدم لك طعامك فقل: بسم الله، وإذا فرغت منه قل: الحمد لله. وإذا لبست ثوبك وأنت تلبسه فقل: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب، ولو شاء لأعراني. وقل: الحمد لله الذي أكرمني ووهبني، وأسعدني ورزقني هذه الثياب، ولو شاء لأعراني. وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا رفعت السفرة من بين يديه -ولم تكن كسفركم والله، بل لم يكن فيها إلا طعام واحد، وليس أطعمة- ما إن ترفع حتى يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني وسقاني، وآواني وكفاني، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي إلا الله ).
واليوم قل من يحمد الله من السامعين إلا في حالات خاصة. فيجب أن لا يفارقنا لفظ: الحمد لله. وإذا سئلت: كيف حالك؟ فقل: الحمد لله.
ثالثاً: أن تصرف النعمة التي أنعم بها عليك وأعطاك إياها بفضله وإحسانه فيما يحب، وإياك أن تصرفها فيما يكره!
وعلى سبيل المثال: إذا وهبك الله بصرك الذي تبصر به حياتك وتنتفع به، وحرم عليك أن تنظر إلى امرأة أجنبية لا تحل لك، لم يجز لك أن تفتح عينيك وتنظر إليها، بل اصرف النعمة فيما وهبكها، مثل أن تبصر طريقك؛ لتعرف الطريق حتى تصل إلى بيتك.
وإذا وهبك السمع، والسمع والله هبة الله، ولو تجتمع الدنيا على إعطائك سمعاً ما تستطيع، ولكنه وهبك هذا السمع نعمة منه، فأصبحت تسمع، ولولاه لما كنت تسمع شيئاً. إذاً: فلا تسمع ما يغضب ربك ويسخطه عليك. والذي يغضب الله هو ما حرمه ونهى عنه وتوعد عليه، فلا يجوز أن تسمع الغيبة والنميمة، وسب الناس وشتم المؤمنين، ولا يجوز أن تسمع أصوات العواهر والماجنين المغنين الهابطين، وتتمتع بذلك. وإذا فعلت هذا فإنك والله ما شكرت الله على هذه النعمة، نعمة السمع، بل حتى تصبح لا تسمع إلا ما يرضى الله عنه ويرغب فيه، وأمره وشرعه.
وكذلك الريال في جيبك، فقد وهبك الله هذا الريال لتعيش عليه، ولتحيا به حياة إلى أجلك به، فلا يجوز أن تنفقه فيما يسخط الله والله.
ومن هنا نقول للمدخنين: اتقوا الله توبوا إليه. ومن الآن من في جيبه سيجارة فليمزقها عند باب المسجد، ولا يعود إليها أبداً؛ لأن هذا الريال الذي ينفقه نعمة الله، فيجب أن يشكر الله به، لا أن يعصيه فيدخن، فيؤذي ملائكته ويزعجهم من جنبه، ويؤذي المؤمنين، ويفتت المال ويبدده، والله لا يراض بهذا.
وكذلك نقول لأصحاب الوقت المبارك، الذين وهبهم الله الوقت. فالوقت نعمة والله من أعظم النعم، وساعة الفراغ من أعظم النعم. والبعض بدلاً من أن ينصبوا أنفسهم في هذه الساعة لذكر الله، وتذكر الله، وقراءة كتابه يجلسون يسمعون الأغاني، ويشاهدون العواهر في التلفاز وما إلى ذلك، ويقضون هذه الساعة فيما يسخط الله عز وجل، وهذا لا يجوز. وهكذا.
وصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله بها هو الشكر، وصرفها في غير ما أمر الله به وأذن فيه هو الكفر للنعمة، والعياذ بالله، والله يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]. فحتى في أكلك وشربك لا تسرف، ولا تتجاوز الحد المطلوب، بل اشرب قدر حاجتك، واطعم وكل بقدر ما يسد حاجتك، ولا تسرف.
ونحن مأمورون بشكر النعم. فلنكن مستعدين لذلك. اللهم اجعلنا من الشاكرين!
وكيفية الشكر: أولاً: بالاعتراف لله بكل نعمة، حتى في أظافرك، فالله هو الذي واهبكها، وليس مالك ولا جدك، ولا دولتك ولا غير ذلك، بل الذي وهبكها هو الله.
ثانياً: الاعتراف بالقلب بالباطن في الصدر، ثم ترجم هذا وأعرب عنه وأفصح وقل: الحمد لله والشكر لله على كل نعمة.
ثالثاً: أن تصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله بها عليك. فإن صرفتها في غير ما يريد الله فقد كفرت هذه النعمة، والعياذ بالله، وأنت من الكافرين، لا من الشاكرين.
بهذا نكون من الجماعة الشاكرة، والله يقول: وَإِنَّ رَبَّكَ [النمل:73] يا رسولنا! لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النمل:73]. فضل لا حد له أبداً. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ [النمل:73]. اللهم لا تجعلنا من هذا الكثير، واجعلنا من ذلك القليل، الشاكرين لله على آلائه وإنعامه.
ومعنى هذا: إن الله مطلع على كل شيء، على ما في صدورهم، وعلى ما يقولونه بألسنتهم، ويعملونه بجوارحهم؛ إذ ما من غائبة في السماء ولا في الأرض إلا وهي مكتوبة مدونة.
ونكرر القول في هذه الحقيقة ليفهم السامعون والسامعات، فحركة يدي هذه هكذا والله مكتوبة، ولا يوجد شيء في الكون علويه ولا سفلية لا في الدار الآخرة ولا في الدنيا إلا وقد كتبه الله قبل أن يكون.
وقد ضربت لكم المثل لذلك، وقلت: إن المهندس المعماري يجلس على منصته وأمامه طاولة، ويقال له: يا فلان! نريد أن ترسم لنا عمارة من عشرين طابقاً، سعتها كذا، وأبوابها ونوافذها كذا وكذا، فيأخذ قلمه ويرسم ساعتين .. ثلاث .. يوماً تلك الصورة، ويعطيها للقادرين على التنفيذ، فتنفذ كما رسمت، ولا ينقص منها شيء، ولا يزيد فيها شيء. وهذا مشاهد في الواقع، وأنتم تفهمونه.
ولما أراد الله أن يخلق الخلائق والأكوان كلها خلق أول ما خلق القلم، فقال: ( اكتب، قال: ماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكتب كل حدث يحدث في الكون ). فلا توجد حادثة غائبة خرجت عن كتاب المقادير، بل كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]. بلا فوضى ولا اضطراب ولا غير ذلك. ولو ما كان هذا لكان العالم فسد من قرون، واضطرب بعضه في بعض، ولما بقي، ولكن كل شيء يتم حسب النظام الإلهي. هذا معنى قوله تعالى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:75] واضح بين، ألا وهو كتاب المقادير.
وأركان الإيمان ستة، وآخر ركن منها هو الإيمان بالقضاء والقدر. وهذا القضاء وهذا القدر المقدر يوجد في كتاب اسمه الإمام المبين واللوح المحفوظ.
قال: [ معنى الآيات:
مازال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنوبة والبعث الآخر ] أي: هذه الأركان الثلاثة [ ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا تُرد، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء، ولكن المشركين مازالوا يعارضون ويمانعون، بل ويمكرون، فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم، كما نهاه عن ضيق صدره كما يمكرون، ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (70).
وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه، ويلقنه الجواب؛ فقال تعالى ] في الآية [ (71): وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ [النمل:71]، أي: بالعذاب، إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64] فيما تقولون وتعبدون؟ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ [النمل:72]، أي: اقترب منكم ودنا، وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل. هذا ما دلت عليه الآيتان (71) و(72).
وقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ [النمل:73] مؤمنهم وكافرهم، إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم، ولم يهلكهم بذنوبهم ] ولو كان يهلك كل صاحب ذنب ما بقي أحد على الأرض، ولكنه يعفو ويصفح [ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ [النمل:73]. فهاهم أولاء يستعجلون العذاب، ويطالبون به، ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون. وهذا أعظم فضل ] من الله.
[ وقوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [النمل:74]، أي: لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وسيحصى لهم أعمالهم ويجزيهم بها. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لهم وتهديد.
وقوله تعالى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:75]. وهو اللوح المحفوظ أي: إن علم ربك أحاط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء. وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي، المستلزم للبعث والجزاء؛ إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضاً لا يبعثهم، ولا يحاسبهم ولا يجزيهم ] ولكنه علام الغيوب.
من هداية الآيات:
أولاً: تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعاني ] ويقاسي [ شدة من ظلم المشركين وإعراضهم ] والله ما عرفنا عشر ما كان يعانيه ولا يقاسيه أبداً، ولا ذقنا شيئاً. فكان في حاجة إلى أن يصبره الله ويسليه؛ ليثبت على دعوته، وقد ثبت، وما هي إلا ثلاثة وعشرون سنة وانتصر الإسلام، ولاحت أنواره في الجزيرة بكاملها وتجاوزها، وهذا بالصبر.
[ ثانياً: بيان تعنت المشركين وعنادهم ] وهذا إلى اليوم، ولو واجهت مشركاً أو صاحب باطل ووعظته ونصحته فإنه يقابلك بما قابل به المشركون رسول الله، إلا من شاء الله.
[ ثالثاً: تحقق وعد الله للمشركين، حيث نزل بهم بعض العذاب الذي يستعجلون ] وبالفعل هلكوا في بدر، وسقط منهم سبعون قتيلاً، وأسر سبعون ممن كانوا طغاة وجبابرة في مكة، وصدق وعد الله فيهم، ووأذاقهم العذاب، فضلاً عن عذاب البرزخ من الموت إلى يوم القيامة، وعذاب النار الدائم الذي لا ينقطع.
[ رابعاً: بيان فضل الله تعالى على الناس، مع ترك أكثرهم لشكره سبحانه وتعالى ] إننا لفي نعم من الله، لا يحصيها إلا هو؛ فأسماعنا وأبصارنا وعقولنا وقلوبنا وأولادنا ونساؤنا وديارنا وطعامنا وشاربنا وظلنا وشمسنا وحرارتنا هذه النعم مولاها الله عز وجل، ولو ظللنا طول اليوم والليل نقول: الحمد لله ما وفينا شكرها. ولكن لابد أن نحمد الله في كل حين.
[ خامساً: بيان إِحاطة علم الله بكل شيء ] فلا يخفى على الله ذرة في الكون، لا في السماوات ولا في الأرض. ولهذا أعمال الخليقة كلها محصية مسجلة مدونة، لا يخفى على الله منها شيء.
[ سادساً ] وأخيراً: [ إثبات وتقرير كتاب المقادير، وهو اللوح المحفوظ ] فقد دلت هذه الآيات على إثبات كتاب المقادير، وهو كتاب القضاء والقدر، والكتاب المحفوظ والإمام المبين، وهو مصرح به في القرآن الكريم.
والإيمان بالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان، فأركان الإيمان ستة، وهي: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر