أما بعد:
أيها الإخوة! هذه حلقة من حلقات (من نبأ المرسلين)، وهي الحلقة الثانية بالنسبة لسيرة نبينا موسى عليه الصلاة والسلام مع أكبر جبار عنيد في الأرض، أنكر الألوهية، وادعى لنفسه الربوبية، وبطش في الأرض، وعاث في الأرض فساداً، ولكن نهايته كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137].
وهذه النهاية هي نهاية كل جبار عنيد، وكل طاغوت يريد أن يبطش بعباد الله، ويريد أن يستذل من أعزه الله وأن يعز من أذله الله، ولربما تطول الجولة لطغاة ووحوش البشر، ولكن الله عز وجل كما قال عن نفسه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].
وقصة موسى مع فرعون قصة طويلة، كما عرفنا الجزء الأول منها، والجزء الأول يعود كله إلى إعداد موسى عليه الصلاة والسلام إعداداً عجيباً، يبدأ من ولادته في فترة كان فرعون يقتل الرجال ويستحيي النساء، ويتحدى الله تعالى -كما مر معنا في الحلقة السابقة- أيما تحدٍ، قال تعالى: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، ثم يتحداه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8].
ثم يكون الصراع المؤقت بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعون .. إلى أن فر إلى ديار مدين وبقي هناك بضع سنين، ثم رجع إلى ذلك الطاغوت وهو يحمل الرسالة من عند الله سبحانه وتعالى، وهو النصف الثاني من الحديث عن موسى وفرعون، يبدأ بقول الله تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]، ولعلكم خلال الآيات التي سمعتموها أدركتم كيف أن الإيمان يفعل أفاعيله بالرجال، وأن الإنسان ليعجب كل العجب وهو يسمع أن السحرة الذين استقطبهم فرعون من كل أقطار مصر، حتى قال بعض المفسرين: إن عددهم بلغ مائة ألف، كل جاء بما عنده من السحر، أنهم في اللحظة الأولى يقولون: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء:44]، وبعدها بلحظات يقولون: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72]، وحينئذ نعلم أن الإيمان فطرة في هذه القلوب، وأن الله سبحانه وتعالى قد استودع في النفوس البشرية، بل في نفوس مخلوقاته سبحانه وتعالى هذا الإيمان، كما قال عن نفسه سبحانه وتعالى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
ثم إنك لتعجب كل العجب وأنت ترى هؤلاء السحرة الذين ما عرفوا الله عز وجل إلا في لحظات، وما عبدوه إلا في سجدة واحدة فقط، ثم يوجه إليهم هذا الإخبار الشديد، وهذا التخويف والإرهاب من طاغية هو ينفذ في الحقيقة كل ما يقوله، فيقول لهم: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71]، وفعلاً هذه أخطر وسائل القتل والتصليب والتقطيع، ولكن الإيمان أمره عجيب! لا أحد يستطيع أن يقف في وجه الإيمان حتى ولو كان إيماناً حديث العهد وجوده في نفوس هؤلاء الناس؛ لأن أصله -وهي الفطرة- موجود ومفطور عليه كل الناس، ولذلك فإنهم: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] تغير الأسلوب، فقد كان الحلف: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ)، فأصبح بعزة الله سبحانه؛ فهو (فطرهم) أي: خلقهم فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72].
فانظر يا أخي! السحرة لم تمر على إيمانهم إلا لحظات، إذاً: كيف بالذين ولدوا على الفطرة؟! وكيف بالذين عاشوا في بيوت الفطرة وفي أرض الفطرة لو تعرضوا لمثل هذه الفتن أو لأقل من هذه الفتنة، ماذا سيفعلون؟ وماذا سيقولون؟
نستطيع أن نأخذ هذه المرحلة من مرحلة حياة موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصارع هذا الطاغوت الجبار العنيد على عدة مراحل من هذه الآيات التي ذكرها الله تعالى.
إذاً: أول مهمة وأطروحة طرحها موسى عليه الصلاة والسلام، وأول هدف جاء به من عند الله عز وجل مع أخيه هارون أمام هذا الطاغوت هو تحرير النفوس البشرية من الخضوع لغير الله عز وجل: فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ [طه:47]؛ لأن تعذيب النفوس بغير حق إنما هو ظلم، والمرسلون جاءوا لرفع الظلم عن البشرية، والعلماء المصلحون يأتون من بعدهم لرفع هذا الظلم، ولذلك أول مطلب لهذين الرسولين عليهم الصلاة والسلام: فأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ [طه:47]، ولم يقولوا له: والسلام عليك؛ لأنه غير مؤمن، وإنما قالوا: وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن يوجه لكل كافر لا يؤمن بالله عز وجل، ولا يؤمن باليوم الآخر، فلا يجوز أن نبدأ اليهودي ولا النصراني ولا الكافر أياً كان، ولا الملحد بتحية غير هذه التحية: (السَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) أي: فإن اتبعت الهدى فعليك السلام، وإن لم تتبع الهدى فإن السلام ليس حق لك منا، وعلى هذا يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه).
ولذلك حتى الملاحدة الذين لا يؤمنون بالخالق يقول أحدهم: والله الذي لا وجود له، كان يحلف بمثل هذا الحلف، فالفطرة تفرض عليه أن يقول: والله، لكن المصلحة تفرض عليه أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد هذا الطاغوت لا يمكن أن يستعبد الأمة إلا أن يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] أي: فيما يدعيه من أن له إلهاً، ولذلك نجده هنا يقول: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49]، وهو يعرف أن ربهم هو الله عز وجل، وأنه لا يصلح أن يكون إلهاً، وأنه لم يخلق شيئاً في هذا الكون، ولا يستطيع أن يخلق شيئاً في هذا الكون، وأن الفطرة البشرية التي فطر الله عز وجل عليها البرية هي الإيمان بهذا الخالق سبحانه وتعالى، لكن لا يمكن أن يستعبد الأمة وهي تعرف أن لها خالقاً، ولذلك فإنه يضطر إلى أن ينكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، حتى يستطيع من خلال هذا الإنكار أن يستذل هذه الأمة.
أما فرعون في قرارة نفسه فإنه يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى بنص القرآن: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] و(ظلماً) هنا حال من الواو في (جحدوا)، لا من الهاء في (استيقنتها)، أي: أن تركيب الكلام: (وجحدوا بها ظلماً وعلواً واستيقنتها أنفسهم)، وهذا شيء مشاهد، ولذلك نجد هذا اليقين الذي أخبر الله عز وجل عنه بقوله: (وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) نجده يبرز في ساعة الصفر حينما تنتهي المهمة، وتنتهي مسرحية فرعون الذي أنكر الخالق سبحانه وتعالى، واستذل أمة مدة طويلة من الزمن، حتى إذا انتهت الفترة التي من خلالها يستطيع أن ينكر الخالق إذا هو يعلن إيمانه بالخالق سبحانه وتعالى، وهي ساعة الغرق؛ ولذلك يقول الله عز وجل عنه في ساعة الغرق: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، ثم قال الله تعالى له: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس:91-92] فقط لا نعيدك للدنيا مرة أخرى لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، كل طاغوت يريد أن يستذل أمة أو أن يستعبد شعباً أو أن ينكر الخالق سبحانه وتعالى أو يستضعف الأمة المؤمنة تكون أنت آية له وكل من رآك، وإن من يراه في متاحف مصر ليتذكر هذه الآية التي يقول الله عز وجل فيها: (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).
إذاً: هو يؤمن في قرارة نفسه بالله عز وجل، ويعلن هذا الإيمان في الفترة التي لا يستفيد فيها من إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وإن من يزور مقابر الفراعنة في مصر يتأكد أنهم يؤمنون بالخالق سبحانه وتعالى، فهم يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولذلك يجعلون فتحات في مقابرهم لعودة الروح يوم القيامة، والإيمان بالبعث بعد الموت فرع عن الإيمان بالخالق سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يؤمن بالبعث بعد الموت إلا بعد أن يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى.
وهنا يوجد من ينكر البعث بعد الموت وإن كان يؤمن بالخالق سبحانه وتعالى، كما كان المشركون في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يعتقدون شيئاً من ذلك.
إذاً: الطغاة والمتجبرون والمعاندون، والذين لهم تفكير في إذلال البشرية، لا بد من خلال هذا التفكير أن ينكروا الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك نجد الشيوعية التي جاءت وحكمت مدة خمسة وسبعين عاماً في بلادها ثم سقطت في آخر المطاف؛ لأنها تنافي الفطرة، نجد أنها طيلة هذه الفترة تجبر الناس على إنكار الخالق سبحانه وتعالى، وأهم مبادئها هو إنكار الخالق سبحانه وتعالى؛ لأن الشعوب لا يمكن أن تخضع لغير الله إذا آمنت بالله عز وجل، وبالرغم من ذلك فإنها لم تستطع أن تنجح في مهمتها.
إذاً: الإيمان بالله عز وجل فطرة فطر الله عز وجل كل المخلوقات عليها الإنسان وغير الإنسان، فالإنسان مفطور على الإيمان: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172] وغير الإنسان من المخلوقات الحية مفطورة على الإيمان أيضاً، كما قال الله عز وجل: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50].
ولذلك هذا هو الخوف الحقيقي، هو خوف على الأرض لا خوف على الدين، وإن تظاهر المفسدون في الأرض بأنهم يخافون على الدين، وأنهم يخافون على عقيدة الناس، وعلى منهج الناس، فهم في الحقيقة لا يخافون إلا على الأرض، أما المصلحون فليس لهم مطمع في الأرض؛ لأن هدفهم فوق الأرض والتراب، هدفهم هو إصلاح هذه الأمم وربطها بالله عز وجل.
أما الكراسي والمراكز فإنها ليست أهم أهدافهم، اللهم إلا إن كان هدفاً كهدف يوسف عليه الصلاة والسلام حينما قال للعزيز: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] يريد أن يتخذ من هذه السلطة منطلقاً للإصلاح في الأرض.
ولذلك يقول الله تعالى هنا: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا [طه:70]، فقد ولدوا بعيدين عن الفطرة معزولين عزلاً كاملاً عن الفطرة، يعيشون على حياة السحر والشعوذة بعيدين عن الله عز وجل، لكن حينما رأوا آية واضحة من آيات الله عز وجل اعتبروا السجود هو العاصم الذي يعتصمون به من هذا الذنب العظيم الذي اقترفوه مدة طويلة من الزمن، فخروا ساجدين لله عز وجل، وما أدوا عبادة إلا هذه السجدة وهي سجدة فقط، ثم كانت نهايتهم الجنة، وكان مصيرهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وعلى هذا نقول: إن باب التوبة مفتوح، ومهما ابتعد الإنسان عن ربه سبحانه وتعالى فإن عليه أن يفكر دائماً وأبداً في طريق العودة إلى الله عز وجل، ولا يستعظم ذنباً فعله، فإن الله عز وجل يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].
ومن هنا نقول: إن هؤلاء السحرة بالرغم مما فعلوه من الذنوب العظيمة، وآخرها الوقوف أمام آية من آيات الله عز وجل، والحلف بعزة فرعون وهو لا يستحق شيئاً من ذلك، ثم لما رأوا الآية من آيات الله عز وجل رجعوا إلى أنفسهم؛ لأنهم تجردوا عن الهوى، وعرفوا أن ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آية من عند الله، وليس بسحر، فخروا ساجدين لله عز وجل.
ثم كانت هذه هي الخاتمة، فالعبرة إذن بحسن الخاتمة، يقول عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، ولذلك فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يسأل الله تعالى حسن الخاتمة، حتى لو كان في خير وفي عمل صالح يرضى به لنفسه ويطمئن إليه فلابد أن يسأل الله عز وجل حسن الخاتمة والثبات، ولذلك فإن الرسول -وهو الرسول عليه الصلاة والسلام- كان كثيراً ما يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فتقول له
فهؤلاء كفرة يحلفون بعزة فرعون، جاءوا معاندين لآية من آيات الله، يريدون أن يأتوا بالسحر ليطمسوا فيه معالم آية من آيات الله، وما كانوا يظنون أنها آية، واستغفلوا مدة من الزمن، واستذلوا واستعبدوا، لكن لما رأوا الحقيقة رجعوا إلى الطريق المستقيم، فخروا ساجدين لله عز وجل، ووقف فرعون مبهوراً! مائة ألف ساحر جميعاً ولدوا على السحر وعلى البعد عن الله وعلى عبادة فرعون، ثم يسجدون جميعاً سجدة واحدة لله عز وجل! هذا أمر عجيب! لكنه ليس عجيباً بالنسبة لأمر الله عز وجل.
إذاً: ما هو الموقف الذي سوف يسلكه مثل هذا الطاغوت؟! منطق الطواغيت والظلمة معروف حينما تعييهم الحجة ليس أمامهم إلا القوة؛ لأنهم يملكون القوة البشرية، ويملكون القوة المادية في هذه الحياة، ولربما يفقدها المؤمنون، فيلجئون إلى التهديد بهذه القوة، ولذلك أحضر الجلادين، وأحضر جذوع النخل، وأحضر الذين سوف يقطعون اليد اليمنى والرجل اليسرى من خلاف، وأحضر كل وسائل التعذيب أمام مائة ألف من البشر خروا ساجدين لله عز وجل.
وكان المنطق البدهي المجرد من الإيمان يقول: إن ساحراً أمضى حياته في السحر وفي عبادة غير الله عز وجل، وما دخل الإيمان إلا بسيطاً في لحظة واحدة قد يتأثر بسرعة، ويتراجع عن مبدئه حينما يرى وسائل التعذيب، كما نشاهد في دنيانا اليوم أن كثيراً من ضعاف الإيمان حينما يخوفون بغير الله عز وجل يخافون، ولكن الله عز وجل ربط على قلوب هؤلاء السحرة، وتحدوا فرعون وكل قوى التعذيب والبطش التي أحضرها لهم، وقالوا: نحن رأينا بأعيننا الحقيقة، آمنا عن اقتناع، افعل ما تشاء! ولو فعلت فماذا ستفعل؟! ستهلك هذا الجسد، لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الروح، سوف تهلك هذه الدنيا، لكن لن تستطيع أن تصل بنا إلى الحياة الآخرة، افعل ما تشاء، لما قال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71]، أنا أم الله؟ أو أنا أم موسى؟!
فكان الجواب شافياً: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ [طه:72] آيات رأيناها بأعيننا، آية جاءت من عند الله عصا تتحول إلى ثعبان عظيم يلتهم سحر مائة ألف من السحرة كنا نعده منذ سنوات طويلة، فتلتهم هذه الآية هذا السحر في لحظة واحدة، وتريد أن نرجع إليك بعد هذه الآية التي رأيناها! لن نؤثرك عليها، لن نقدم رأيك ولا تعذيبك على تعذيب الله عز وجل في الحياة الآخرة؛ لأننا لو أطعناك الآن وسلمنا في هذه اللحظة تعرضنا لعذاب عظيم: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107]، لكننا حينما نعصيك اليوم وتريد أن تذيقنا ما تذيقنا من عذاب الدنيا فإن ذلك لن يضيرنا؛ لأنه لحظة واحدة تفارق فيها الروح الجسد، وننتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
هذا هو المنطق الصحيح الذي يجب أن يكون منطق كل مؤمن، ومنطق كل إنسان رأى الحقيقة بعينيه، وآمن بالله عز وجل حق الإيمان، فلا يكون من الذين قال الله عز وجل فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ [العنكبوت:10] أي: في الدنيا جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] نعوذ بالله! هؤلاء ضعاف الإيمان.
أما هؤلاء فقالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا [طه:72] حلفوا بالله أنهم لن يغيروا رأيهم أبداً، ولن يرجعوا عن دينهم الذي اهتدوا إليه بعدما رأوا الآيات بعينهم، فحلفوا بعظمة الله عز وجل الذي فطرهم. أي: خلقهم، ثم قالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72]، الذي تريد أن تفعله فافعله، لك الأجسام لكنك لن تستطيع أن تتسلط على الأرواح؛ لأن الأرواح في قبضة الله عز وجل وليست في قبضتك: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) أي: افعل ما تريد أن تفعله في هذه الحياة الدنيا.
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا [الشعراء:51]، فهم ما زالوا خائفين رغم أنهم سجدوا لله عز وجل، بالرغم من أنهم سلموا أجسادهم للطاغوت يفعل فيها ما يشاء، وبالرغم أنهم استهانوا بالدنيا، فهم يطمعون طمعاً ولا يجزمون جزماً بأن الله سوف يغفر لهم خطاياهم، مع أن الله عز وجل قد أوجب على نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده، فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] و(على) للوجوب أوجبها على نفسه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17]، والقريب هو ما قبل الموت، فأبشروا أيها الإخوة، فليس القريب معناه في اللحظة الأولى، القريب ما قبل الموت، ولذلك هؤلاء ما تابوا إلا في آخر حياتهم قبل الموت، لم تمض بعد توبتهم إلا دقائق، ثم لقوا الله عز وجل على جذوع النخل على أيدي هذا الطاغوت المتجبر.
(إنما التوبة عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) يعني: في أيام غفلة (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، أي: قبل الموت، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، فإذا بدأت تغرغر الروح في الجسد تريد الخروج فهنا لا تقبل التوبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرر أو ما لم تبلغ الروح الحلقوم)، وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا تقبل التوبة أيضاً، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72-73] أنت ليس بيدك شيء، حتى الموت فإنه ليس بإرادتك، بل هو بإرادة الله عز وجل، قال تعالى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام:112]، لو شاء الله لما استطاع أن يصل إلى أجسامهم أيضاً، مع أنه ما قتلهم إلا بقضاء الله عز وجل وقدره، وهو لم يستطع أن يصل إلا إلى الجسد ولم يصل إلى الروح، وهو أيضاً بقضاء الله وقدره، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73].
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76]، وهذا ليس عجيباً من أمر الله، وإن كان عجيباً في واقع البشر، وفي حياة البشر، وفي مألوفات الناس أن يتحول الساحر إلى داعية، بل ليس عجيباً في عالمنا اليوم ولله الحمد، فقد رأينا كثيراً من المفسدين تحولوا إلى مصلحين، وكثيراً من تجار المخدرات والمحرمات وأصحاب الجرائم والملاحدة في مثل هذه الأيام والحمد لله أصبحوا دعاة مصلحين، وعسى الله أن يتجاوز عنهم، وليبشروا، فإن الله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
المهم أن يوفق الإنسان إلى العودة إلى الله عز وجل قبل أن يحضر الأجل، أما إذا جاء الأجل فإن أحدهم يقول بكل لوعة وندامة: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] فيقال له: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
هذا درس يجب أن نفهمه أيها الإخوة! لا سيما في مثل هذه الأيام المباركة التي سقطت فيها المبادئ، وسقطت فيها الأفكار، وأهبت ريح الخير والإيمان والحمد لله، علينا أن نراجع أنفسنا قبل أن يحضر الأجل، ثم علينا أن نصلح العمل قبل القدوم على الله عز وجل: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى [طه:74-75]، هذا الكلام صدر من السحرة، ولكنه كلام بعد الاقتناع بالإيمان، وهم يرون الموت ليس بينهم وبينه إلا لحظات، لكنهم يعرفون أنها ميتة لا بد أن تكون، سواء كانت هنا أو هناك، في هذه الساعة أو بعد ساعات أو بعد سنوات، كل حي ميت، إذاً: لا بد أن يموت الإنسان على الفطرة، ولا بد أن يموت في سبيل الإصلاح قال تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا [النساء:84].
فنجد أيضاً أن المصلحين يدعون فيقولون: اثبتوا على هذا الطريق، فنجد موسى عليه الصلاة والسلام يحرضهم على الثبات: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128] موسى أصبح يخاطب الذين ينظرون إلى هؤلاء القوم وهي تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى لا يتراجعوا عن منهجهم الصحيح الذي اقتنعوا به، فيوجه إليهم وسيلة تثبتهم بإذن الله عز وجل ويقول: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128]، والعجيب أن موسى يقول هذا في فترة ما كان يملك شيئاً من الأرض، ولا كان يملك شيئاً من السلطة، وإنما يملك فقط آية من آيات الله عز وجل، لكنه واثق بأن الأرض ليست ملكاً لأحد، وليست ملكاً لطاغوت أو لحاكم يظن أن هذه الأرض هي له وسوف تبقى له، ولا أحد يستطيع أن ينازعه إياها، فإذا قام المصلحون يريدون تطبيق شرع الله عز وجل في الأرض في أمة من الأمم خاف أولئك على هذه الأرض، فأصبحوا يبطشون بالمسلمين كل البطش خوفاً على هذه الأرض، ويظنون أن هذه الأرض ملك لهم، والعجيب أن يكون من ورائهم من يعتقد هذه العقيدة، ويظن أن هذه الأرض لفلان وليست لفلان، وأن فلاناً صاحب السلطة لو خرج من ينازعه في هذه الأرض لا يريد الأرض ذاتها، وإنما يريد أن يقيم شرع الله وحكم الله في هذه الأرض، يتصور طائفة من الناس أن هؤلاء ليسوا كفئاً لأن يكونوا في هذا المستوى، فيبنون الأرض لفلان أو لفلان أو لصاحب السلطة، ثم بعد ذلك لا يفكر أحدهم أن هذه الأرض سوف ترجع إلى أصحابها الشرعيين، فالأرض لست ملكاً لهؤلاء الطواغيت الذين يحكمون الناس بغير شرع الله عز وجل، الأرض كما قال الله تعالى هنا: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف:128] فقد يملكها اليوم رجل، وفي الصباح الباكر في ملك رجل آخر، قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
فهذه هي الأرض، وهي لمن أراد أن يحكمها بشرع الله، والقوم الذين يعيشون على هذه الأرض لا يتبعون إلا من يحكمهم بشرع الله عز وجل؛ ولذلك فقد أخبر الله عز وجل في آية أخرى أن الأرض للمؤمنين وليست للكفرة الذين يحكمون بغير شرع الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] فهي للصالحين، وليست للفسقة الذين يأخذونها بطريق الانقلابات العسكرية، والثورات الدامية، واستغلال البشر، وملء السجون، ووضع المخيمات التي يسومون فيها المسلمين سوء العذاب، ويظنون أن هذا العرش ملك لهم، وأن هذه الأرض ورثوها كابراً عن كابر، الأرض ليست لهم وإنما هي لعباد الله الصالحين، كما أن الرزق في هذه الأرض وما في هذه الأرض من طيبات ليست ملكاً لأحد وإنما هي للمؤمنين، لكن في الدنيا يشاركهم فيها الكفرة والفسقة كما تشاركهم البهائم.
أما في الآخرة فإنها خالصة لهم من دون الناس، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32] هذه هي الأرض! وهذا هو الرزق! فالأرض ملك لله عز وجل يورثها من يشاء من عباده، والرزق هو رزق الله إنما هو للمؤمنين، ويأكل هؤلاء الكفرة والفسقة من فضلات المؤمنين، لكن المؤمنين يختصون بطيباتها وبرزقها في الحياة الآخرة.
ولذلك فإن من ظن أن الإسلام لا يستحق أن يحكم هذه الحياة، وأن هؤلاء الذين يطالبون بأن يحكموا بشرع الله أنهم متمردون، أو أنهم بغاة أو أنهم خارجون، من يعتقد مثل هذا الاعتقاد فقد ذهب بعيداً عن المنهج الصحيح، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون، ولربما تطول فترة من الزمن تصبح هذه الأرض في أيدي غير أصحابها الشرعيين ابتلاءً من الله عز وجل؛ ليعيش أصحابها الشرعيون الذين يجب أن يملكوا هذه الأرض في غياهب السجون أو في المعتقلات أو في المخيمات التي يحكمون فيها بقوة الحديد والنار، لكن هذه إنما هي فترة مؤقتة ومحددة، وسوف يأتي ذلك اليوم القريب الذي تعود فيها الأرض لأهلها الشرعيين، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، الذين يطالبون بشرع الله، ويقدم لهم الطواغيت الطعام والمغريات فيقول أحدهم: نحن نطالب بتطبيق شرع الله، نحن لا نريد حتى وسائل المتاع البسيطة، وإنما نريد أن نحكم بشرع الله عز وجل، هؤلاء هم أهلها الشرعيون طال الزمن أو قصر، فلا بد بإذن الله عز وجل أن يتحقق هذا الوعد؛ لأن الله تعالى أقسم على ذلك فقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا) (ولقد) الواو هنا للقسم، واللام للقسم، وأكد الفعل بـ(قد) من المؤكدات للفعل الماضي (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي: من بعد التوراة (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، وهو يرد أيضاً في القرآن الكريم: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].
فلا يستطيل المؤمن الطريق مهما كانت وعرة، ومهما كانت صعبة، ومهما رأينا إخواننا يعيشون في عذاب ليروا أعداء الله عز وجل يحكمونهم بقوة الحديد والنار، فالذي أسقط الشيوعية بعد أن حكمت ثلاثة أرباع قرن من الزمان وهي تحكم أناساً بقوة الحديد والنار، سوف يسقط كل حكم طاغوت يريد أن يحكم هؤلاء الناس بعيدين عن شرع الله عز وجل بقوة الحديد والنار.
إذاً: انتهت دولة الكفر التي تقول للناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] انتهت هذه المرحلة، وجاء تحقيق وعد الله عز وجل: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ [الأعراف:137]، الذين كانوا يعيشون في مصر بالأمس أذلة، لما صبروا وصابروا ورابطوا، وكانوا عضداً مع أنبياء الله موسى وهارون عليهم الصلاة والسلام بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ * وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف:137-138].
إذاً: المسألة هي قدرة الله عز وجل التي لا تغلب، ويعبر موسى ومن معه إلى الضفة الشرقية، ويعبر فرعون وجنوده داخل البحر، حتى إذا اكتمل موسى ومن معه خارجين إلى الجهة الشرقية، واكتمل فرعون وكل جنوده داخل البحر؛ أمر الله عز وجل البحر أن ينطبق عليهم ليستأصلهم عن آخرهم: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ [الزخرف:55-56].
هذا درس يجب أن يفهمه المؤمنون دائماً، ويجب أن يفهموه في ساعة الشدة بصفة خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110]، فالنصر لا يأتي غالباً إلا بآخر لحظة من لحظات الابتلاء، ولذلك أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن معه، فأصبح الأمر آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى.
الدرس الأول: لا بد من التغيير، قد يظن بعض الناس أن الدعاء والتضرع -ولو كان بصدق- يمكن أن يخلص المضطهدين والمؤمنين، ولو كانوا على ما كانوا عليه من معصية الله عز وجل، وهذا خطأ واضح جداً، ولذلك أخبر الله تعالى أخبر في القرآن: أنه يأخذ الأمة وهم يتضرعون إذا لم يغيروا، فيقول الله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ [الأنبياء:11-15]، وهم يقولون: يا ويلنا، فالمسألة ليست مسألة يا ولينا إنا كنا ظالمين فقط.
إذاً: ما هو طريق العمل والإصلاح؟ فالأمة ليست مطالبة بالتندم والتحسر على هذا الدين، وإنما هي مطالبة بالإصلاح، ولذلك أخبر الله تعالى في قصة موسى مع بني إسرائيل أنهم بقوا مدة من الزمن يتضرعون بين يدي الله عز وجل، ويقولون دائماً وأبداً: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، لكن هذا دعاء ناشف ليس فيه تغيير أبداً، وليس فيه بذل في سبيل الله، ولا تضحية، فقط: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، فما نفعهم ذلك أبداً وهم يعيشون تحت الذلة والاستعباد؛ لأنهم لم يغيروا، ولم يفكروا بالجهاد في سبيل الله الذي يتخلصون به من الذلة، ولم يقدموا أغلى ما يملكون وهو المال.
فبقي بنو إسرائيل مدة طويلة من الزمن قبل أن يأذن الله عز وجل لموسى صلى الله عليه وسلم بالرحيل من مصر ببني إسرائيل وهم يدعون ويتضرعون: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86] لكنهم لم يغيروا شيئاً من وضعهم كما يفعله كثير من الناس، يكتفون بالدعاء لكنه دعاء ناشف كما يقولون.
فالذي حدث أن الله أرشدهم بأن هذا الدعاء لن يقبل إلا بتغيير وتضحية: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، وفعلاً بنو إسرائيل نفذوا هذا الأمر من أوامر الله عز وجل فغيروا، فجعلوا بيوتهم مكاناً للعبادة، وأقاموا الصلاة، واستقاموا على دين الله عز وجل، ثم دعوا بعد ذلك مرة أخرى، وانظر إلى الفرق بين الدعاء الأول والدعاء الثاني بعد التغيير: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88] ما هي النتيجة؟ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا [يونس:89]، لماذا ما أجيبت في الأول وقد مضت عليها سنوات رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]؟
لأنه ليس هناك تغيير في الواقع، فلا بد أن يكون هناك تغيير، وإذا حدث التغيير فالدعوة تستجاب من الله عز وجل.
درس آخر نختم به قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون: لما عبر موسى ببني إسرائيل البحر وأقبلوا على الأرض المقدسة أرض الشام، كان بنو إسرائيل -بالرغم من ذلك التكريم من الله عز وجل- كان الخوف يسري في عروقهم، ويختلط بدمائهم؛ فيقبلون على بلاد الشام ويقول لهم موسى: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة:21] لكن صاحبهم الخوف؛ لأنهم ولدوا في أرض خوف، وعاشوا في جبن وضعف قد ملأ قلوبهم، فقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22]، وبالرغم من أن النصائح توجه لهم قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23]، وبالرغم ذلك كله قالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، فيقولون لموسى: اذهب أنت وربك قاتل العمالقة في بلاد الشام، ونحن سنجلس هنا، حتى إذا حررتم البلاد دخلناها! هذه هي الأمة التي تقوم على هذا الضعف والإذلال!
ولذلك فإننا ننصح من يتولى سلطة من سلطات المسلمين ألا يذل شعبه، وألا يذل أمته؛ لأن هذه الأمة هم سلاحه وعتاده، فحينما يذلهم بالتجسس والأذى والبطش والطغيان سوف لا يكون عنده سلاح ولا عتاد ولا قوة حينما يريد أن يدافع بهم عن حدود بلاده؛ ولذلك حكم الله عز وجل على بني إسرائيل أربعين سنة يتيهون في الأرض في صحراء سيناء، يقول المؤرخون: حتى فني الجيل الأول الذي ولد في أرض الإذلال والاستعباد، وفي الأربعين السنة هذه ولد ونشأ جيل جديد ما عاشوا على الإذلال، فدخلوا بعد ذلك الأرض المقدسة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الدعاة المصلحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر