وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه.
وبعد:
ألتقي بأحبتي في هذه المدينة المباركة، وإني في مقدمة كلمتي أشكر فرع الوزارة على أن هيأ لي هذا اللقاء، الذي أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، كما أشكر المكتب التعاوني بمدينة الرس على ما بذلوه من جهدٍ وعلى حرصهم ومتابعتهم، وليس هذا بغريب عليهم.
أقول لأحبتي: إن الأمة بحاجة إلى الوقوف مع كتاب ربها تلك الوقفات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقفها مع صحابته رضوان الله عليهم، تلك الوقفات التي تترجم سلوكاً عملياً لهذا القرآن في سلوكه صلوات الله وسلامه عليه، لما سئلت عائشة رضي الله عنها وأرضاها عن خلقه، ما زادت على أن قالت: [كان خلقه القرآن] فهذا هو الخلق الذي تُرجم إلى سلوك عملي وقيل للأمة: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
إن الأمة لفي حاجة إلى إقامة دروس حول القرآن، وحول هذا الكتاب العزيز، وأقول للأحبة: ربما يقام درس في الحديث أو الفقه فترى عدداً هائلاً، ولكنك حين تقيم درساً لتفسير القرآن ترى قلةً ممن يحضره، وربما لا يحضره إلا طلاب العلم الذين يحرصون على الاستفادة من كتاب ربهم.
كانت مجالس الصحابة هي القرآن، وهاهو أسيد رضي الله عنه وأرضاه يجلس لـعمر ، ويقول له عمر : [شوقنا لربنا، ذكرنا ربنا] وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لـابن عباس فيقول: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) ومعنى علمه التأويل: أن يعلم معاني هذا القرآن العظيم.
سبحان الله! إني أتأمل في حياة شيخنا العلامة مفتي هذه الديار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ما من درسٍ يقيمه إلا والتفسير معه، بل إنه جعل له درساً خاصاً يوم الجمعة بعد الصلاة يقرأ في تفسير الإمام البغوي وحده غير الدرس الذي في الفجر، وفي المساء في تفسير ابن كثير ، وما نسي التفسير لعلمه أن القرآن هو أصل هذه الأمة وعزها، وتمكينها.
وأقول للأحبة: نحن في حاجة لأن نرتبط بهذا القرآن ارتباطاً قوياً، وما شرفت أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الكتاب العظيم، إذ أنزل عليها أفضل الكتب وأحسنها.
وقد أنزله الله لأي شيء: أهو لأجل أن يتبرك به؟!
أو يُقرأ على الموتى وفي المصائب إذا حلَّت بالناس من مسٍ أو جنون؟!
أم أنزل ليعلق ويصبح تحفة جميلة في مجلس أو صالة أو غيرها؟!
أم أنه أُنزل ليبتدأ به في الحفلات؟!
أو ليصبح حروزاً تعلق على صدور المرضى؟!
لا وربي! إنه أنزل ليعمل به المسلمون، وليترجم إلى سلوك عملي، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنه ونقل عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإما خير تؤمر به، أو شر تحذر منه] كم نسمع: (يا أيها الذين آمنوا) وما ندري، وكأن الخطاب يرجع للصحابة وحدهم، ونعوذ بالله أن نكون من قومٍ ذكرهم الله -وهم الكفار- ويتشبه بهم بعض الناس قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
إن هذا القرآن وصفه الله بصفات عجيبة بديعة:
- أنه هدى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].
- أنه شفاء: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ [الإسراء:82].
- أنه نور وروح وحياة: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].
فمن هدي لهذا القرآن وهدي للعمل به فوالله إنه هو المستقيم على دين الله تعالى.
ونحن والله في حاجة إلى أن نرتبط بكتاب ربنا.
فأقول: قد فكرت في نفسي وقلت: لم أقيم درساً طويلاً في القرآن، ولكن لو جعلتها دروساً متعلقة بالسور التي نقرؤها نحن، ونسمعها دائماً، وترتبط بنا بمناسبات وبأوقات محددة، فالناس في حاجة إلى أن يكشف لهم شيء من معانيها، وأن يستفيدوا شيئاً من دروسها، وأن يتأثروا بما فيها من معانٍ ودلالات، وإن كنا بحاجة إلى معرفة تفسير القرآن كله وليس سوراً محددة؟
وسبحان الله! إني أتأمل قول الشافعي رحمه الله تعالى حين قال كلمته المشهورة في سورة والعصر: أنها لو أنزلت على الناس كحجة وحدها لكفتهم. لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة؛ من الأمر بالإيمان، والعمل والصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذا هو الدين، وهي سورة جامعة عظيمة.
كيف والناس في حاجة إلى علمٍ بسورة الفاتحة -أعظم سورة في كتاب الله- وفي حاجة إلى أن يعلموا شيئاً من السور التي نقرؤها في مناسبات عدة؟ مثلاً سورة الغاشية فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه أنه سئل: (بم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة؟ قال: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]) نسمعها يوم الجمعة، ويوم العيد، ونقرؤها في الوتر، وتجد أن الإنسان يحتاج إليها ويقرؤها لما تشتمل عليه من المعاني العظيمة.
وهي سورة مكية بالاتفاق، نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف، وآياتها ست وعشرون آية، وهذه السورة ترتكز على أربعة مواضيع ضخمة:
الموضوع الأول: عن تهويل يوم القيامة، وما فيه من عقاب قوم أعرضوا عن ربهم، مبينة حالهم، ومشوهة حالتهم، ومبينة واقعهم في النار، نعوذ بالله من النار.
الموضوع الثاني: عن طائفة وهم أهل الإيمان. أسأل الله أن نكون وإياكم منهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ [الغاشية:8] بين الله حالهم وما لهم من النعيم وما أعد لهم في جنات عدن؛ بسبب صلاحهم وإيمانهم وتقواهم.
الموضوع الثالث: اشتملت السورة على الركن الثاني: وهو النظر في آيات الله الكونية، والاستدلال بمخلوقات الله تعالى التي نصبها الله أمام أعين الناس يشاهدونها ليل نهار، بل إنها تلتصق بحياتهم فلا يستغنون عنها طرفة عين، سواء في الإبل -وهذه حالة العرب معهم، وسيأتي الكلام عليهم- أو في السموات أو الجبال أو الأرض إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] من كان ذا لبٍ ممتلئٍ بالإيمان والصلاح والتقوى فإنه يستجيب لتلك الآيات: وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ومن كان في غفلة وإعراض عن ربه فلا يدري مهما جاءته من آية، ومهما مرت عليه، فما تغني عنه تلك الآيات، ونعوذ بالله أن نكون من القوم الغافلين.
الموضوع الرابع: ختمت بالركن الثالث: وهو تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام، وألا يعبأ بإعراض الكافرين: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21].
وختام هذه السورة يحتاج إلى محاضرة كاملة؛ لأنها منهج للذين يدعون إلى الله ويريدون أن يتأسوا بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك تربية ربانية للأنبياء والرسل، وتربية لنا نحن ممن يريد أن يتأسى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وتربية للعلماء الذين هم ورثة الأنبياء: (فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
ومبينة في ختام هذا الركن: أن الذين يعرضون عن دين الله أن وراءهم البعث، وأنهم راجعون إلى ربهم سبحانه وتعالى وسيجازيهم على كفرهم وعنادهم.
لا. وهو خطاب لنا، وجيء بهذا الاستفهام للتشويق إلى معرفة الخبر بما يترتب عليه من الموعظة، ويدل على أهمية الخبر الذي بعده، وهذا في القرآن كثير كما في قوله تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21] .. وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9] وهنا: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وذكر الحديث ولم يفصل فيه أي حديث عن الغاشية هو؛ وذلك لزيادة التشويق في القلب: أي حديث هو؟! وذلك لأن الآتي من الأخبار عنهم، فيصبح الذهن متوجهاً ليعرف هذا الخبر وهذا الحديث، وليتمكن في القلب.
والحديث هو: الخبر المتحدث عنه.
ثم تأتي قضية الغاشية، وسبحان الله! إنك إن تتأمل أسماء يوم القيامة تجد أنها أسماء ضخمة: حاقة، قارعة، صاخة، غاشية، آزفة، كلها تهز القلب والوجدان.. كلها معانٍ ضخمة يقف المسلم معها متأملاً: أي حديث هو؟!
وسميت غاشية؛ لأنها من الغشيان، فهي تغطي على القلوب فلا تستشعر شيئاً، ويصبح الإنسان في فزع، وقد حكاه الله في قوله: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [الحج:2].
وذكر الله عنها: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
وسميت غاشية؛ لأنها إذا قامت لم يجد الناس مفراً من أهوالها، فكأنها غشت على عقولهم، ويبقون حيارى فيها.
وتلك المعاني في هذه الأسماء ليوم القيامة تقف في النفس موقفاً عجيباً: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] .. الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] إنها تقرع القلوب وتغشاها وتفزعها، هذا إذا كان في القلب شيء من الإيمان يحركه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن تأثر به أشد التأثر، أليس لما سمع من ابن مسعود رضي الله عنه سورة النساء ووصل إلى قوله: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء:41] قال النبي: (حسبك)؟ لأن ما بعدها مفزع: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] ويصبح محمد أشفق الناس وبكى وذرفت عيناه بالدمع صلوات الله وسلامه عليه؛ من هول ذلك اليوم ومطلعه، إذ يقف محمد شهيداً على الأمة، والله سبحانه وتعالى مطلع لا تخفى عليه خافية.
قال الله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] وما هو حديث الغاشية؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2] وجيء بلفظ الوجوه؛ لأن الوجه تظهر فيه معالم ما في القلب، فإنك عندما ترى أخاك أو عزيزك أو قريبك وتنظر إلى ملامح وجهه تعرف أهو مسرور أم مصاب، وتعرف أنه في حزن أو في فرح، وتصبح تلك الوجوه تعبر عما في القلوب وأثر الجوارح عليها، وليس المقصود هنا الوجه وحده وإنما الجسد كله، ويعبر عن الوجه هنا بالذات، وقال بعض العلماء: يستدل عليه بقول الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27] مقصود به الله سبحانه وتعالى، قالوا: واستدل لذلك في قوله تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6] كناية عن الناس وليس كناية عن الوجوه؛ لأن الطعام للجسد وليس للوجه.
وسبحان الله! نجد هذا في القرآن كثيراً: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس:38-39].
وفي القرآن كذلك: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] والسبب؟ لأن المعاصي أظلمت عليه، أو الكفر والشرك والبدع أثرت عليهم فتصبح وجوههم مغبرة، ونعوذ بالله من تلك الوجوه.
ووصفها أنها خاشعة، ويقصد به الذل، خشعت من الذل والفضيحة والخزي، ونعوذ بالله أن يفضحنا ربنا بسوء أعمالنا، بل نسأله سبحانه وتعالى أن يسدل علينا كنفه وألا يبدي لنا سوءة نكرهها يوم القيامة.
ويأتي الخشوع بمعنى الذلة: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ [الشورى:45] وكذلك في قوله تعالى: خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [القلم:43] وفي قوله تعالى: وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً [طه:108] يصبح الناس في هذا اليوم في خشوع وسكون فما يستطيع أحد أن يحرك ساكناً، وهذه حال أهل الكفر والعناد والإعراض عن صراط الله المستقيم.
وكل هذه الصفات تعريضاً بشقائهم، وتذكيراً لهم بأنهم تركوا الخشوع لله تعالى والعمل بأمره في الدنيا، فجازاهم الله بالنصب والتعب يوم القيامة، وبخشوع المذلة وبالإرهاق.
ويقول بعض المفسرين رحمهم الله تعالى: إن هذه الآية: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق في الدنيا على طائفتين: الأولى: على أهل الكفر والعناد، ونجد دليلاً على ذلك في أثر أورده ابن المنذر رحمه الله تعالى: [أن
ويقول ابن القيم : لو كانوا يعرفون الله حق المعرفة ما عصوه، وما تجرءوا عليه بالعصيان، وليس هذا مما ينافي قضية الولاء والبراء، ولا ينافي أنهم يُبغضون في الله، لكن مع ذلك ينظر إليهم نظرة شفقة ورحمة؛ حتى يحسن أسلوب الإنسان في عرضه ونصحه وتوجيهه، وفي بيان الحق لهم. وهذا المنهج نأخذه مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم.
إذاً: فقوله: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] تنطبق على طائفتين:
الطائفة الأولى: أهل الأديان الباطلة والملل الفاسدة.
الطائفة الثانية: وتنطبق على المبتدعة؛ لعدم تأسيهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
من الناس من يكون مبتدعاً في دينه، ترى عنده كثرة التأله، والذكر، والركوع، والسجود، ولكنك لا تراه متأسياً بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.
كم نرى من الصوفية من الأذكار العظيمة، وكثرة الصلاة والصيام والمواصلة فيه، ومع ذلك لا يستفيدون؛ لأن من شرط العمل: أن يكون خالصاً لوجه الله تعالى، وأن يكون متأسياً فيه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواجب علينا؛ فنحرص أشد الحرص على هذين الأصلين العظيمين: الإخلاص والمتابعة.
وسبحان الله! نجد الله يقول: تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً [الغاشية:4] ومجرد الصلي يكفي في حرارتها؛ لأنها تحيط بهم من كل مكان.
وذكر النار بعد (تصلى) وأنها حامية؛ لزيادة التهويل، ولزيادة الإرهاب والإفزاع من يوم القيامة، وذلك يبين لنا أنها تجاوزت في الحد مقدارها المعروف؛ لأن الحمي عليها من لوازم النار، وهذا يدل على شدة حمي النار.
ويصبح هؤلاء في دركات النار -نعوذ بالله من النار- ولقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم وفزع منها أشد الفزع، ورآها النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر منها تأثراً عجيباً وهو يقول: (أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار) رآها رأي العين يحطم بعضها بعضاً: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] .. تبحث عن أهلها تريد أن تلتهمهم، ونعوذ بالله أن نكون من أهل هذه النار.
ولهذا كان دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في يوم الغاشية؛ هذا اليوم العظيم: (اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم) هم في فزعٍ وهلع وهم أنبياء الله! دعاؤهم: (اللهم سلم سلم) حين يذهبون إلى آدم ونوح وإبراهيم، ما يزيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يقولوا للناس: (إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ويقول النبي: (نفسي نفسي، نفسي نفسي) مع عظم منزلتهم عند الله وكرامتهم على ربهم.
وهذا يدلنا على أن من كان بالله أعرف كان منه أخوف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولذهبتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش).
أي شيء رآه المصطفى؟
إنه رأى النار وما فيها من الفزع والهلع.
سبحان الله! أقول للأحبة: ونجدها سنة، كلما اشتد علينا الحر نحتاج إلى الماء، في أيام الحر الشديد تجد أن جسد الإنسان يفرز عرقاً فيحتاج إلى كثرة الماء، وهؤلاء يصلون في نار حامية تحيط بهم من كل مكان، يستغيثون فيغاثون: بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] يشربه فيسقط لحم وجهه على الأرض من شدة حره وخبث طعمه.
ولما ذكر الله الاحتراق في النار فإن الذهن يتصور مباشرة أن هذه الأجساد تحتاج إلى إطفاء شيء من حرارتها بالشراب، فجعل الله لهم هذا الشراب -نعوذ بالله أن نشربه- وهو من عين حامية أي: شديد حرها.
وهنا نتذكر قصة رجل آخر يدخل الجنة، والحديث قصته في الصحيح وأنا أرويها لكم بالمعنى، وهو حديث عظيم ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم حال آخر رجل يدخل الجنة، ونحن نعلم يقيناً أن الشمس تدنو من الخلائق، وأنهم يلجمهم العرق والناس على حسب ذنوبهم ومعاصيهم، فمنهم من يصل العرق إلى ثدييه ومنهم إلى حقويه ومنهم إلى ركبتيه ويحتاج الناس إلى ماء، فمن الناس من يسقون من حوض محمد صلى الله عليه وسلم -نسأل الله أن نكون ممن يرده- فإن من شرب منه فإنه لا يظمأ بعدها أبداً، وآخر أهل الجنة دخولاً يمشي على الصراط، وليتصور المسلم هذا الصراط الذي نُصب على النار، وهذه النار كما سيأتي شيء من صفاتها، تأتي يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع على كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ [الملك:8] تجر جراً، وسيمشي كل واحدٍ منا عليها كما قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] هذا الصراط دحض مزلة، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعر، ويمشي الناس عليه على مقدار أعمالهم في الدنيا، ويحتاجون إلى نور؛ لأن النار سوداء مظلمة، والإنسان في حاجة إلى نور، فمن الناس من يكون نوره كالشمس، ومن الناس من يكون نوره كالقمر، ومنهم من يكون نوره كالكوكب الدري.. وهكذا.
أما آخر أهل الجنة دخولاً فإنه يمشي ومعه نور في إبهام قدمه، وهذا لا يغني، فهو يمشي قليلاً ويسقط ويتعلق بيده، ثم يصعد على الصراط فيمشي قليلاً ثم يسقط فيتعلق مرة أخرى، والنار تسفعه يمنة ويسرة، ويمشي على هذا الصراط، وما يدري ما حاله، ويرى حوله الكلاليب تتخطف العصاة وأهل الكفر والبدع يمنة ويسرة، حتى إذا نجاه الله من النار التفت إليها وقال: الحمد لله الذي أنجاني منك. ويصبح جسده كالفحم، فالجسد مع شدة الحرارة يحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: الظل البارد؛ لأنه يريد أن يطفئ حرارة جلده.
الأمر الثاني: يحتاج إلى الماء البارد ليطفئ حرارة جوفه، فيخلق الله له شجرة طيبة وهي بعيدة عنه ويجري من تحتها ماء بارد فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة؟ فيقول الله: ألم أنجك من النار؟ -يعني: أليس أمراً عظيماً أن تنجو من النار- قال: بلى، ولكنه يعلم بأن رحمة ربه واسعة وسعت كل شيء، فأين الذين يريدون أن يتعرضوا لنفحات الله تعالى في هذا اليوم؟!!
ويأخذ الله عليه العهد: ألا يطلب غير ذلك، فينقله الله إلى هذه الشجرة، يستظل ويشرب، ثم يخلق الله شجرة أحسن منها وأطيب ماءً فيلتفت إليها ويسأل، فيقول: يا رب! إني أريد أن أجلس تحت هذه الشجرة، فيقول الله: ألم آخذ عليك العهود والمواثيق، ما أغدرك يا بن آدم! ولكن ظنه بربه أنه لن يخيبه، والله يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] فينقله الله إلى تلك.
ثم يخلق الله شجرةً ثالثة وهي عند باب الجنة، فإذا قرب منها دعا ربه، ثم ينقل إليها فيرى أهل الجنة ويرى ما فيها من نعيم، فيقول: يا رب! إني أريد أن أدخل الجنة، أدخلني الجنة، فيقول: ما أغدرك يا بن آدم! وما أكثر ما تعاهد وتنقض، فيقول الله له: ادخل الجنة، أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، وفي بعض الروايات: أن الله تعالى قال: ادخل الجنة، فلما وجدها مليئة بالبشر قال: يا رب قد أخذ الناس منازلهم، فيضحك الجبار سبحانه وتعالى.
وقال له في بعض الروايات: أترضى أن يكون لك مثل ملك الدنيا، قال: أيا رب! أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. أقلَّ الناس دخولاً للجنة له عشرة أمثال الدنيا. هذا فضل أهل الجنة وما أعد الله لهم.
وبيت القصيد : تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] شتان بين هذين الماءين؛ أهل الإيمان يسقون أولاً من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، ويسقون من نعيم أهل الجنة وأنهارها وما فيها من الخير، وأهل النار يسقون من هذا الماء: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] وشتان بين هذين الماءين.
إنهم يطعمون الضريع، يطعمون طعاماً كله آلام وتنغيص وتعذيب؛ فإنه لا ينفعهم أبداً، والأصل في الطعام أن الإنسان حين يطعم فإنه يطعم لأمرين:
إما أن يطعم لكي يسمن، وإما أن يطعم ليدفع حاجة الجوع التي في جسده وشدتها، ولهذا قال الله: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:6-7] فما يزيده إلا ألماً على ألم، كما أن شرابهم لا يكفي أن يسد عنهم رمق الظمأ، وهذا الضريع يابس وهو نبت ذو شوك إذا كان أخضر أكلته الإبل، وإذا يبس سمي ضريعاً ويصبح هذا الشوك ساماً، وقد وصف بهاتين الصفتين؛ لأنه لا يعود على آخذه بالسِّمَن حتى يصلح أجسادهم التي أكلتها النار، ولا يغني عنهم من دفع ألم الجوع شيئاً، وسبحان الله! ولعل الجوع نوع من عذابهم يوم القيامة، فيصبحون يعذبون في النار بشدة الظمأ والجوع، فيطلبون ماءً فيسقون ماءً حميماً، ويطلبون طعاماً فيطعمون ضريعاً فما يستفيدون شيئاً، نعوذ بالله من حالهم.
وهذا يدل على أن المسلم الواجب عليه أن يحرص على الأعمال الطيبة في هذه الحياة الدنيا.
وأقول للأحبة: إن هذه النار هي عذاب الله تعالى لمن أعدت له -ونعوذ بالله أن نكون من أهلها- وهي سجن المجرمين، والخزي الأكبر الذي لا خزي فوقه أبداً، والخسران العظيم الذي لا خسران بعده أبداً، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:192] .. فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63] .. قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15].
أنتحدث عن عمقها؟! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس إذ سمعنا وجبة -أي: صوتاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً -سبعين عاماً- فهو يهوي في النار إلى هذه اللحظة) الآن وصل إلى قعرها، ومع ذلك وعد الله سبحانه وتعالى هذه النار للعصاة وللكفار، والعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخل بعضهم ثم يخرجون؛ فإن النار لا يخلد فيها إلا المشرك، وأما الموحد -فلله الحمد- لا يخلد في النار.
وما ندري أنتحدث عن كثرة الملائكة الذين يأتون بالنار؟ فهذا الحديث رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك).
أم نتحدث عن وقودها؟ فقد ذكره الله في القرآن: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] ونعوذ بالله أن نكون من وقود النار.
أم نتحدث عن شدة حرها؟ فقد روى لنا البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن نارنا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن نارنا لكافية) كافية أن يعاقب بها الإنسان، والصحابة رضي الله عنهم يحكون عن واقع، من منا يتحمل أن يضع إصبعه على وقود النار التي عندنا، من منا يستطيع أن يضع إصبعه على عود الثقاب حتى ينطفئ، فكيف إذا وعد الإنسان أن يكون في غمرات النار من فوقه وتحته -نعوذ بالله من النار- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها فضلت عليها -يعني: على ناركم- بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها) نعوذ بالله منها.
أنتكلم عن بشاعة منظرها؟ فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني رأيت الجنة) ونسأل الله أن نكون من أهل الجنات، وقد رآها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف، صلى النبي بالصحابة وإذا به تفتح له الجنة ويراها رأي العين، ويتقدم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يريد أن يأخذ عنقوداً من عناقيد الجنة، قال الراوي: (فتقدم الصحابة ثم تأخر النبي فتأخر الصحابة فسألوا الرسول: لم تقدمت وتأخرت؟ فقال النبي: فتحت لي الجنة ورأيتها رأي العين فأردت أن آخذ عنقوداً من عناقيدها، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) عنقود واحد يبقى مع الناس ما بقيت الدنيا يأكلون منه، كيف بمن يتقدم في القصور والجنات، ويتقلب بين الأنهار والأشجار والخير العميم الذي أعده الله لأوليائه؟ وقال النبي في سبب تأخره: (رأيت النار فلم أر كاليوم منظراً أفظع منه أبداً، ورأيت أكثر أهلها النساء) ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب ذلك.
أما كثرة ساكنيها، فقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الله يقول لآدم: (يا آدم! أخرج بعث النار؟ قال: يا رب! وما بعث النار، قال: أخرج من كل ألفٍ من ذريتك واحداً إلى الجنة، وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، فلما سمع الصحابة ذلك الخبر غطوا رءوسهم ولهم خنين، يقولون: متى النجاة يا رسول الله؟! -متى ننجو إذا كان من الألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار- فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا، ثم ذكر أن معظمهم من يأجوج ومأجوج -ثم أسرهم ببشرى عظيمة- قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، قال: فكبرنا فرحاً، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة، فكبر الصحابة -فرحاً بهذا الخير العظيم-).
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع) ولعلها تضخم أجسادهم والسبب: لتكون العقوبة على كل جزءٍ من أجسادهم.
وقد ثبت في مسلم : (إن ضرس الكافر يوم القيامة أو نابه مثل أحد ، وإن غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام) ونعوذ بالله أن نكون من الكافرين.
وهذا يوجب لنا أحبتي أن نحمد الله تعالى على الهداية لهذا الدين، وعلى تحبيب الإيمان في قلوبنا، وأن تسأل الله دائماً الثبات على دينه.
الوقفة الثانية: ينبغي لنا أن نعرف الأسباب التي توجب لأهل النار أن يدخلوها، بأي شيء دخل هؤلاء؟! ولم دخل هؤلاء؟! طائفة دخلت لكفرها، وطائفة دخلت لنفاقها، وطائفة دخلت لردتها، وطائفة دخلت لمعاصيها وبعدها عن ربها، فاحذر أشد الحذر أن تكون من هؤلاء، وإن كنت على صلاح وإيمان فسل ربك الثبات إلى أن تلقاه، وأن يختم لك بخاتمة خير، وهذه المعلومات التي ذكرت عن النار ليست خاصة بالعلماء، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بها صحابته صغيرهم وكبيرهم، ويحدث ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الخطاب عام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
إن أهلك لفي حاجةٍ أن يحدثوا عن النار ولو بشيء يسير، وأن يحدثوا عن أصناف أهل النار، وعن الأسباب الموجبة للنار -نعوذ بالله من النار- وكم نحن في حاجة إلى أن يبصر الناس بمثل هذه الحقائق، عقولنا تسمع وتؤمن بها ولله الحمد، ونبقى في معرفة لهذا الغيب العظيم الذي يقف المسلم معه بإيمانه ويقينه أن هذا حق؛ لأنه ثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويحدثنا الله عن الجنس الثاني، وسنة من سننه تعالى ومنهج في كتاب ربنا سبحانه وتعالى أنه إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة مقابلاً.
ولعل السبب في ذلك: أن الإنسان يذكر النار فربما يجزم بأنه من أهلها، فيأتي خبر الجنة فيسليه ويحرص أن يكون من أهلها، وأن يعمل بما يوجب له دخولها.
وسبحان الله! لماذا نضرت تلك الوجوه؟!
لأنها ناعمة لسعيها راضية، ولأنها عملت بالطاعة في هذه الحياة الدنيا.
وأقول لكل مسلم: إنك إن توفق لطاعة الله تعالى، ويفتح لك عمل من أعمال الخير؛ من حفظٍ لكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الدعوة إلى الله تعالى، أو أمر الناس بكل خير، أو مجالسة الأخيار، أو محبة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قيام الليل، أو غيرها، فسل ربك أن يعينك على هذا العمل إلى أن تلقاه، وسل ربك أن يرضيك.
قال تعالى: لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ [الغاشية:9]؛ لأنها تعبت في الدنيا وعملت بطاعة ربها فرضيت يوم القيامة كامل الرضا، والسبب: لأنها سترى حسنات عظيمات، والله وعد أولياءه في غير ما آية بكل عمل يجدونه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه [الزلزلة:7] بخلاف الطائفة الأخرى فإنها ليست راضية، والرضا ضد السخط.
إذاً: هي حامدة لما سعته في الدنيا من العمل بامتثال أمر الله، وامتثال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وسميت جنة؛ لاستئثارها بكثرة ما فيها من الأشجار والنعيم والخير العظيم الذي أعده الله لأوليائه، وأصبحت جنة عالية، وهذا من زيادة الحسن، وسبحان الله! الآن في واقع الحياة كلما كانت البساتين في سفوح الجبال كانت لها مناظر عجيبة، وأثر في النفس وانشراح في الصدر، ولذا إذا رأيت جبلاً كله أشجار ومزارع قلت: سبحان الله العظيم! الذي أوجد هذا الكون.
وأهل الجنة في جنة عالية ليست منخفضة، وتصبح مساكنهم في أعلى، وتصبح فتصبح غرفهم من فوقها غرف مبنية فيصبحون في علو، وهذا من فضل الله تعالى الذي أعده لأوليائه، فهم يشرفون على ما أعد الله لهم من الكرامة.
وتصبح مع علوها قطوفها دانية، والقطوف هي الثمار من فواكه وخير، واللذيذ الذي لا انقطاع له، وثمار حسنة.
دانية أي: في التناول، ما يحتاج إلى قيام، فإذا كان مضطجعاً ومستريحاً ويريد فاكهةً ينزل عليه الغصن فيأخذ منه، ولا يحتاج إلى رفع يده، ولا إلى قيام، نسأل الله أن نكون ممن يأكل من هذه القطوف الدانية، ويصبحون يتناولونها على كل حال.
وكم يحصل للناس من النعيم عندما يدخلون الجنة العالية، ويصبحون من نعيمهم أنهم لا يسمعون فيها لاغية، فمجالسهم في الجنة لا لغو فيها أبداً؛ واللغو هو الكلام الذي لا فائدة منه، وفيه تنبيه: على أن الجنة دار جد فلا مكان لما لا فائدة منه.
أقول: كم نجلس في المجالس فيحصل منا اللغط، وكم نجلس المجالس فنتكلم بأمور قد لا تعود علينا بالنفع في الدنيا ولا في الآخرة، وأهل الجنات كلامهم كله حق ونافع ومشتمل على ذكر الله تعالى، وذكر نعمه المتواترة عليهم.
بنى قصوراً وجعل الأنهار تجري من تحتها ونادى في قومه: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] بئس ما قال، وشتان بين مقالته وبين ما أعد الله لأوليائه في جنات عدن.
لما ذكر الله في القرآن: أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً [الإسراء:91] وهذا اسم جنسٍ لقضية العيون الجارية، وعيون الجنات كثيرة أعدها الله لأوليائه، وهذا من الحسن الذي كان لهم.
ويصبح لهم من النعيم كذلك تلك السرر المرفوعة، وهذا من محاسنهم، سرر وقصور عظيمة في داخلها تلك السرر، والسرير: هو ما يجلس عليه الإنسان ويضطجع عليه، ووصفت بأنها مرفوعة بتصوير حسنها، والأصل في السرير أن يكون مرتفعاً عن الأرض، وكونها مرفوعة لكمال حسنها، فهي مجالس مرتفعة وفيها من الفرش اللينة الوطيئة، وفيها أكواب موضوعة، والكوب هو: الذي له عنق وساق وليس له عروة، وتصبح موضوعة دليل على أنها معدة لأولياء الله تعالى، ما يحتاجون أبداً إلى أن يصبوا فيها شيئاً، أعدها الله لهم فهي مجهزة، لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكل ما طلبوه وصل إليهم وحصل لهم فيها الخير العظيم، وتصبح هذه من لذائذ الجنات، ولهم النمارق؛ والنمرقة: هي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع، وهي من الحرير والإستبرق، وهي مما لا يعلمه إلا الله، وقد أعطوا خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، وتصبح لهم كذلك الزرابي؛ وهي جمع: زربية، قالوا: هي البسط الحسان، وأحسن البسط عندنا هي المنسوجة من الصوف الناعم، وتفرش في الأرض للزينة، مثلما يوجد عند بعض الناس الآن قطع صغيرة توضع للزينة لا للجلوس وهي نوع من الجمال، وغالباً ما يضعها أهل الترف فكم من بسط توضع للجمال والحسن، وتصبح هذه مبثوثة في كل مكان تجميلاً وتحسيناً.
قوبلت صفات أهل النار بصفات أهل النعيم، وشتان بين تلك الصفات، أولئك خاشعة وجوههم ذليلة وعاملة وناصبة وتصلى ناراً حامية، أما هؤلاء ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية، إلى غير ذلك من النعيم العظيم.
ونعيم أهل الجنة ذكره الله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71] وقد وردت أحاديث عظيمة في وصف الجنات وهي كثيرة، منها: الحديث الصحيح: (أعددت لعبادي الصالحين في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ووالله مهما يخطر في قلبك من الحسن ففي الجنات أعظم منه، ويدل عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) وهذا الحديث في الصحيحين .
أقول للأحبة: كم نتقاتل على الدنيا؟! وكم يحدث بيننا من القطيعة والخصومات وغيرها؟!! وما ننظر لما أعد الله لأوليائه من الجنات، وكم نرى من زهرة الدنيا حين ندخل قصور أصحاب الثراء والأموال الطائلة، والزخارف وما فيها من الفرش وغيره؟!!
ويقول بعض الناس: لئن كان أهل الجنة في مثل هذا فهم في نعيم.
نقول: رويدك فالجنة فيها: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
وهنيئاً له بهذا الفضل العظيم، وهذه هي الشفاعة الثانية التي هي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن الفقراء يسبقون أهل الثراء إلى الجنات، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أسامة بن زيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فكان عامَّة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون يحاسبون) وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في الحديث الصحيح: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة) أكثر الناس مالاً أقلُّ الناس دخولاً لجنات عدن إلا من سلط ماله في هلكته بالحق، وكذلك من كسب المال من حلِّه وصرفه في حلِّه.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار.
ونجد كذلك أبواب الجنة كثيرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله دُعي من أبواب الجنة الثمانية، من كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الزكاة دعي من باب الزكاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، فقال
وتأتي قصور الجنة وأشجارها وغير ذلك أمور كثيرة متعددة، وإن كان الكلام حول الجنة قد يطول بنا، ونتركه إن بقي له شيء من الوقت في آخر هذه الكلمة.
ولأنها أعظم المخلوقات عندهم.
ولأنها كذلك مذللة مع عظم خلقها، يأتي الطفل الصغير ويأخذ بخطامها فتبرك إلى الأرض، ثم يقيموها ويحملون عليها.
ولأنها تصبر على المشقة فتبقى عشرة أيام أو أكثر لا تحتاج إلى الماء، وتحمل أثقالهم.
ولأنها ترعى أغلب الأعشاب في هذه الجزيرة .
وسبحان الله! لما خلق الله الحيوانات جعلها مصنفةً: طائفة منها تؤكل، وطائفة يشرب درها، وطائفة يحمل عليها، وطائفة للزينة والجمال. والإبل جمعت ذلك كله؛ نأكل لحمها، ونشرب لبنها، ونحمل عليها، ونتجمل بها ونفتخر، وتصبح من الأموال، ولذلك يقول الله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية:17] إنها من المخلوقات العظيمة، فهو استفهام إنكاري، ينكر الله عليهم لم لا ينظرون إلى دقائق صنع الله؟!! وليس النظر المقصود هنا نظر العين فإن الكافر والمسلم والكبير والصغير ينظرون، وإنما يقصد به النظر المفيد للاعتبار، ذلك النظر الذي يُؤْثر الإيمان والصلاح في القلب، وهذا هو الذي يستفاد منه في هذا النظر.
الأول: أنه ينبغي تذكير الناس دائماً بالجنة، وبما أعدَّ الله لأوليائه فيها، فإن أثرها عظيم في ترغيب الإنسان في الاستقامة على دين الله تعالى، إذا كنت تركت هذه المحرمات وحرصت على طاعة الله، فإن نتيجة ذلك جنات أعدها لك.
الثاني: أنه يوجب لي أن أعرف الأعمال التي تعين على دخول هذه الجنة، منها: بر الوالدين، وتوحيد الله تعالى، وأنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وصلة الأرحام، والبعد عن المحرمات: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الأنبياء:49] خشية بالغيب وبعد عن المعاصي.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة الثمانية، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ..) فكن أخي المسلم ممن يعمل بتلك، ووالله إننا في حاجة دائمة لأن نذكر بها.
إن كثيراً من الأحبة يقول: قد سمعنا بهذا الوعظ دائماً، ونقول: ومع ذلك نحن في حاجة إلى التذكير به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يذكر صحابته بالجنة والنار.
وسبحان الله! إني أتأمل حديث الأعرابي الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمعه يدعو ومعه معاذ قال: (يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ودندنة
وأقول للأحبة: إن السماوات نراها ليلاً ونهاراً، وننظر إليها في كل أحوالنا صيفاً وشتاءً، وإن كنت أقول:
قلَّ من يعتبر ويتعظ من تلك السماء، ونحن نراها في سفرنا وحضرنا، كم للسماء من الأثر العظيم إذ يخرج الإنسان في ليلة لم يكن القمر فيها بادياً، ويخرج إلى برية فيرفع بصره إلى السماء ليرى تلك النجوم وكأنها وجدت الآن مع أنه كان يراها من قبل، ويرفع بصره إلى السماء دائماً فيرى فيها بديع صنع الله تعالى، فهي فوقنا ومع هذا فقد رفعت بغير بعمد، وقد ذكر الله أن السماء سقفاً محفوظاً، والأصل أن السقف يكون بأعمدة، ومع ذلك هذه السماء لم يكن بها أعمدة أبداً، وخلق الله فيها الكواكب التي أدهشت العقول، ونثر الله فيها النجوم بلا عدد، وكم نحن في حاجةٍ إلى الاطلاع على عجيب صنع الله تعالى فينا، يقول ابن قتيبة الدينوري: إن أعلم الناس بمواقع النجوم ومساقطها هم العرب. وهم أولى الناس أن يتوجهوا لمعرفة تلك، ولهذا تجد التقويم القطري أو تقويم أم القرى تجد أنه إذا خرج سهيل يحصل كذا، وإذا بدأ كذا يحدث كذا، وتجد المزارعين يعرفون أوقات الزراعة على ضوء هذه النجوم، ليس لأن النجوم لها تأثير فإن ذاك علم باطل، ومنه ما يسمى علم التسيير وليس علم التأثير، فعلم التأثير من السحر، وعلم التسيير أن تعلم مواقع النجوم وأوقاتها.
وقد علقت أوقات الصلوات عندنا بقضية السماء وكواكبها، إذا أصبح ظل كل شيء مثليه فهو قبل الغروب، فنحن نرتبط بالشمس في السماء، إذا غربت الشمس بدأ المغرب، وإذا غاب الشفق ونحن ننظر إليه بدأ العشاء، وهكذا نرتبط بهذه السماوات: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190] والكلام على الشمس وبديع صنع الله تعالى فيها يطول بنا.
وإذا نظر الإنسان إلى ديار عاد وثمود يرى فيها عجباً: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130] وسبحان الذي أعطاهم القدرة على أن ينحتوا الجبال: وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ [الشعراء:149] كما ذكر الله في كتابه، وهذا يدل على أن هذه الجبال يمكن أن نستفيد منها، ومع ذلك ذكر الله أنه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21] يخاف من ربه مع أنه صلب، وجعل الله هذه الجبال أنواعاً، منها: الصخري الجامد، ومنها: ما ينبت الأزهار والثمار والعجائب، ومنها: ما يتوج بتيجان الثلج في أعلام ناصعة بديعة في منظرها، ومنها: براكين تخرج منها حمم بركانية تقذف به، ومنها: الذي تسكنه الطيور والمخلوقات العجيبة، ومنها: ما يصبح مسكناً مصيفاً لعباده يؤون إليه، وتصبح تلك الجبال أمورها عجيبة، وحين يصعد الإنسان إلى قمم هذه الجبال الشم الضخمة الرواسي يتعرف على عظمة الله تعالى، وعلى أن الذي خلقها قادر على هذا الكون كله، وما أصغر الإنسان أمام هذا الجبل الضخم.
وإنا لنجد أمراً عجيباً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يتحنث في غار حراء ، ويحدث بعد أن صعد عليه، وإن كنا نقول: ليس من السنة صعود جبل النور ، يرقاه في ساعة إلا ربع ثم يصل إلى قمته بلا فائدة، ونبينا كان يتحنث فيه الأيام ذوات العدد يتعبد لله فيه؛ لأن ذلك الجبل يعطي الإنسان عظمة الرب سبحانه وتعالى، ويستصغر الإنسان نفسه أمام هذا المخلوق وهو من مخلوقات الله تعالى.
ويذكر العلماء رحمهم الله تعالى في أقسام التوحيد: أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية، وكيف ذلك؟ أليس الله يقول في سورة البقرة: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ [البقرة:22] كل هذه ربوبية، جاءت بعدها: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً [البقرة:22].
إن سَوق آيات الربوبية ليس المقصود منها أن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر فذاك أمر معروف، وإنما يراد منا أن ننتقل من هذا التوحيد إلى توحيد الألوهية: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].
وكان كفار قريش يعرفون أن الله هو الخالق الرازق وما نفعهم هذا شيئاً؛ لأنهم لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى، ويتأثروا بهذا النظر إلى معرفة أن الله هو الخالق الرازق للإنسان، والمستحق للعبودية وحده سبحانه وتعالى، ولهذا قال: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:101].
وجاءت هنا: أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية:17] هم ينظرون ولهم أبصار، والعين يبصر بها الإنسان ويبصر بها الحيوان، لكن الإنسان المؤمن هو المستفيد والمتأثر بذلك أشد التأثير، هذه آيات الله الكونية.
يحتاج إلى جهاز ضخم كبير لأجل أن يقوم بعمل قطعة اللحم هذه وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21].
نعمة السمع والبصر، وما أدري ما أحدث من عجائب خلق الله في هذا الجسم، وكم يحدث للإنسان من قضية كريات الدم وغيره، وهناك كتب ألفت في الطب يقرؤها الإنسان فيحمد الله على ما أنعم الله به عليه .
أذكركم بلطيفة من اللطائف وهي من آيات الله الكونية: قضية النمل هذه الحشرة الصغيرة؛ هي من عجائب خلق الله تعالى.
ويحدثنا الآباء من قبل عندما كان الناس في حال جوع -والحمد لله الذي أبدلنا من الخوف أمناً، ومن الجوع رغداً من العيش- كانت النمل تجمع محاصيل الناس من قمح وغيره ثم تدفنه في الأرض، فإذا جاء المطر أخرجته فنشرته في الشمس؛ لعلمها أنه لو بقي مع الرطوبة تعفن فما استفادت منه، يقول الكبار: فإذا أخرجته أخذناه فأكلناه وتركناها وما أعطيناها شيئاً، وسبحان الله! هذا النمل إذ يأخذ القمح يعرف محل النواة التي تخرج منه فيأكل هذا النواة بحيث لو جاءه الماء لا ينبت حتى لا يفسد منزله وبيته، وذكروا عن صنف من النمل أنه يأخذ البذور فيضعها على سواقي الأنهار، ثم يغطيها بالتراب، حتى إذا أينعت السنابل رقى النمل فقطف الثمار، ثم يأكل النواة ويخزنه عنده ليأكله طيلة عامه، ولهذا في أيام الشتاء القارس لا ترى النمل يخرج، وبعد أيام يخرج فيؤذي البيت كله، أين هو من قبل؟ إن معه طعامه في الداخل، سبحان الذي أعطاه! وقد تكلم على هذه المسألة ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ، وأنصحكم بقراءة هذا الكتاب؛ فإن فيه من عجائب خلق الله تعالى، التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله ليربطنا بأن الله هو المستحق للعبودية وحده لا شريك له.
والكلام على آيات الله الكونية في السماوات أو الأرضين أو جسد الإنسان أو غيره يحتاج إلى محاضرات حتى يوقن الإنسان ويرسخ في قلبه الإيمان، ويتأثر بذلك أشد التأثر.
وهنيئاً لأقوامٍ يدعون لدين ربهم ويدعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتأسون بما كان عليه أصحاب رسوله وسلف الأمة من النور والضياء والحق الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة.
ثم نقول: لو كان الحق يقوم بنفسه والدين يقوم بنفسه وينتشر بذاته لما احتاج الناس إلى الدعاة، ولهذا قال الله لرسوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [يونس:99] وإنما أمر: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ [النحل:35].
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21-22] بلغهم دين الله تعالى؛ لأنك لم تبعث عليهم مسلطاً ولا موكلاً بأعمالهم، ويجب أن نعلم أن هذا التذكير إنما هو لما بين الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر).
وأقول لأحبتي: يجب أن نعلم أن أحدنا حين ينصح إنساناً فلا يقبل منه فإنه يحزن قلبه، وربما ينتصر لنفسه، ثم تكون النتيجة أن تضيع ثمرة دعوته، كأن تنصح شخصاً وتقول له: يا أخي! اتق الله واترك المعصية، فربما رد عليك بلفظ نابٍ، ثم ترد عليه أنت بأسلوبٍ ليس جيداً، فتنتقل من مهمة الدعوة إلى الانتصار للنفس، قال الله لرسوله: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21] .. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] فقط فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ [النحل:35] مهمتنا أن نقول للناس: إن هذا حلال وهذا حرام، وما عداه ليس من مهمتنا، ولهذا قد يحزن القلب لعدم القبول، ولإعراض الناس عن دين الله، ومع ذلك قال الله لرسوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8] وقال الله لرسوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حريصاً على هداية عمه أبي طالب ، ووقف عند رأسه يناشده أن يقول كلمة التوحيد، وتحسر قلبه على ذلك: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].
يقول الإمام ابن القيم بعد أن ذكر شيئاً من الآيات كما في قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ [الشورى:48] وكما في قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ [يونس:108] يقول ابن القيم ناقلاً عن المفسرين رحمهم الله -أقوله بالمعنى-: إنك لم ترسل مسلطاً عليهم قاهراً لهم جباراً، بل أنت عبدي ورسولي المبلغ رسالاتي فمن أطاعك فله الجنة، ومن عصاك فله النار. ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى) دلَّ هذا على أن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يبلغ دين الله وأن يذكر؛ فما هو عليهم بمسيطر.
ينبغي لمن أراد أن يذكر الناس أن يستغل إقبال القلوب، فإن القلوب لها إقبال وإدبار، فإذا أقبلت انطلق ليعظها وليذكرها، وأن يكون منتهزاً للفرص، ولعلي أضرب بمثال في الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه نمرقة، وكان أهداها إليه
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل الصحابة نقلةً عظيمة: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) مهما كانت الدنيا بما فيها من النعيم، ومهما أصابك بها من الشدة: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، نقلة عظيمة! تجعل قلب الإنسان يرفرف حول الجنات ويتمنى أن يكون من أهلها، وما يكون ذلك إلا بصلاحٍ واستقامة على دين الله تعالى، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، والكلام حول هذا يطول بنا كثيراً.
ولكن الله قال: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21-22] فإذا قمت بما عليك فلا عليك بعد ذلك لوم أبداً، والله قال لرسوله: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
ثم تكون النتيجة: فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ [الغاشية:24] والسبب: كيما يسلي نبيه: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ [الغاشية:25] مرجعهم. فلا مفر لهم أبداً، والسبب قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94] تركتم الأموال والمناصب، والقصور والزوجات والأولاد كلها خلف ظهوركم وجئتم فرادى كلٌ يقول: نفسي نفسي، يقول الله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] ويقول: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29] النتيجة: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:30-31] والسبب: بأن حسابهم على الله سبحانه وتعالى.
وإذا قيل: إن الله سيحاسبهم، ليس حسابهم عليك يا محمد وإنما علينا نحن، فإذاً: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47] سيحاسبون حساباً دقيقاً على كل صغير وكبير: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17] لن يظلم أحد أبداً، وهنيئاً لأقوام وقفوا مع القرآن وقفات.
وأقول للأحبة: إن هذه السورة تحتاج إلى ثلاث محاضرات بمواضعها المركزة هذه، ووقفات دقيقة؛ نظراً لأننا والله في حاجة إلى أن نقف مع القرآن، وأنا إنما ذكرت خواطر سريعة ودروساً ميسرة حول هذه السورة العظيمة سورة الغاشية.
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم من أهل الصلاح والإيمان والتقوى، وأن ينفعنا وإياكم بالقرآن، وأن يجعل القرآن ربيعاً لقلوبنا ونوراً لصدورنا، اللهم إنا نسألك أن تذكرنا منه ما نُسِّينا، وأن تعلمنا أحكامه وآياته، وأن تجعلنا ممن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم إنا نسألك أن تتوفانا على دينك وأن ترزقنا الصلاح والإيمان والتقوى.
اللهم إنا نسألك أن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، اللهم اجعلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، معزين لمن أطاعك مذلين لمن عصاك.
اللهم إنا نسألك أن تجزي القائمين على وزارة الشئون الإسلامية خير الجزاء على أن هيئوا لنا هذه الفرصة، وأن تجزي الإخوة القائمين على المكتب التعاوني خير الجزاء، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في جنات عدن.
ونصلي ونسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر