أما بعد:
فما أجمل الأمثلة إذا كانت تحكي الواقع المشاهد، وما أصدقها إذا قدمت لنا فتىً قريباً عاش في ضاحية من ضواحي مدينتنا، فلا فروق مكانية، ولا فروق زمانية، ولا شيء من ذلك.
هذا هو مثالنا الذي سأقدمه لك اليوم إن شاء الله بكل بساطة.
أليست حياة صعبة تفتقد أدنى أسباب الراحة؟! بلى هي كذلك!
لكن العجيب في ماجد أنه بالرغم من كل المعاناة والألم والضيق كان كثير التبسم، بل كان دائم التبسم كما أخبر عنه أخوه، وكان رده على من يسأل عن حاله تلك: أنا بخير والحمد لله على كل حال.
لقد كان أمر ماجد يثير الإعجاب، كان أكثر كلامه ذكر الله تعالى: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، واستغفار ودعاء، تراه وهو على كرسيه يهلل ويسبح لا يفتر لسانه عن ذكر الله.
وكان كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، تقولون: هذا شأن كبار السن والشيوخ، أقول: لا. فـماجد كان صغير السن، في العاشرة أو في الحادية عشرة، كان صغيراً لكن لسانه دائم الذكر، وإن نطق بغير ذلك نطق بخير.
لقد كان ماجد كثير الاطلاع والقراءة، لكنه لم يكن كغيره من الناس يقرءون ولا يستشعرون النصوص القرآنية والنبوية، لا.
ماجد كان يستشعر قول الله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وهو يحذر من الغيبة بشدة: (المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) وقوله عليه الصلاة والسلام: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) .
فـماجد كان يخاف أن يقع عليه شيء من هذه العقوبات، ومع أنه كان لا يحضر مجالس الغفلة، ولا يشارك المغتابين ولا أهل النميمة، إلا أنه كان يحرص على أن يعمل الأعمال التي تكفر السيئات، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً طوال السنة، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصوم عبد يوماً في سبيل الله إلا باعد ذلك اليوم النار عن وجهه سبعين خريفاً) صيام يوم واحد في سبيل الله يفعل ذلك، فكيف بأيام وأيام طوال العام.
أما القرآن فقد كان له مع ماجد شأن آخر، كان يختم القرآن في الشهر الواحد مرة أو مرتين، إذ بتلاوة القرآن يحس ماجد بالأمان والاطمئنان، وفي آياته يجد السلوى الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
لقد كان ماجد يحتسب في قراءته أن يكون القرآن شفيعاً له في يوم أشد ما يحتاج العبد فيه إلى شفيع، وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما قال: (اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) فيوم القيامة يوم عظيم، يوم تتقطع فيه جميع الروابط، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وتتخلى المرضعة عن رضيعها ، والوالد عن ولده، والأخ عن أخيه، كل منهم مشغول بأمره، كل منهم يردد: نفسي نفسي لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] وإذا تخلى عن الإنسان في ذلك اليوم العصيب أقرب الناس إليه، كان الإنسان بحاجة إلى من يسنده ويسانده، ويشفع له، ويشهد له بالخير.
وهنا يبرز القرآن لخاصة أهله الذين كانوا يتلونه حق تلاوته في الدنيا، ويأتي إليهم بكل صدق وإخلاص، فيكون لهم خير شفيع، فهنيئاً لمن كان من أهل القرآن وخاصته، فالقرآن يخلص لمن أخلص لله في تلاوته، ومن كان مع القرآن في الدنيا كان القرآن معه في الآخرة إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [الإسراء:9-10].
لقد كان ماجد يستحضر كثيراً من الآيات عن ظهر قلب، ويحفظ الكثير من الأحاديث، كان يحب العلم الشرعي، وعلم الكتاب والسنة -لا شك أن ذلك أشرف العلوم- لم يكن ماجد ليتعالى بما حفظ، بل كان شديد التواضع، وكل من جالسه أو تحدث معه لاحظ ذلك بوضوح.
وإنه في صبره على الوضوء وسعادته إذا أخذ يتوضأ ليذكرني بحوار جرى بين شابين.
يقول ناقل الحوار: سألني صاحبي ذات يوم وقد كنت أثني عليه في بعض صفاته: كيف تتوضأ؟
قلت ببرود: كما يتوضأ الناس.
فأخذته موجة من الضحك ثم قال متبسماً: وكيف يتوضأ الناس؟
فابتسمت ابتسامة باهتة وقلت له: كما تتوضأ أنت.
فقال بنبرة جادة: أما هذه فلا، فإني أحسب أن وضوئي على شاكلة أخرى غير شاكلة أكثر الناس.
قلت على الفور: فصلاتك باطلة.
فعاد إلى ضحكه، فلم أشاركه هذه المرة بالابتسام، ثم سكت وقال: يبدوا أنك ذهبت بعيداً جداً، أنا أقصد أني عندما أتوضأ أحاول أن أستشعر عبادة الوضوء، وإنني يا أخي أحفظ ثلاثة أحاديث عظيمة أستحضرها عند الوضوء، وكلما استحضرتها كانت والله كالثلج البارد على صدري، فأبدأ في وضوئي كغيري من الناس ظاهراً ولكني أشعر وأنا أتوضأ بلذة عجيبة.
استمع! قال صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وفي رواية في صحيح مسلم : (فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه).
وسكت صاحبي بعد أن ذكر تلك الأحاديث عن ظهر قلب، وأطرق برأسه وأخذ يحركه منتشياً بما ذكره من كلمات النبوة، ويردد بصوت منخفض: سبحان الله! سبحان الله! ثم رفع نظره إليَّ وقال: جرب، وتأمل في معاني هذه الكلمات الصادقة وأنت تتوضأ، فإنك ستجد للوضوء حلاوة ومتعة، وستجد فيه مغانم وفرص عظيمة، فليس الأمر غسل أعضاء فحسب، بل هو في الحقيقة غسل وتطهير للقلب على حد سواء.
قلت: سبحان الله! والله إنني أتوضأ منذ سنوات طويلة، غير أني لم أحفظ هذه الأحاديث، ولم أستشعر هذه المعاني، إنما هي أعضاء أغسلها بالماء ثم أنصرف إلى الصلاة.
قال: ولهذا ينبغي أن تجمع قلبك أثناء الوضوء، وستجد الفرق الكبير بإذن الله.
ألا يظن بـماجد هذا الاستشعار؟ ألا يظن به ذلك وهو يمكث في وضوئه ذلك الوقت الطويل، ثم لا يمل ولا يشتكي، بل إذا نظر إليه أخوه نظرة إشفاق وهو في تلك الحال العصيبة قال لأخيه: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]؟
كان ماجد يتمنى أن يجاهد في سبيل الله، كما يتمنى أن يزور بيت الله الحرام، وأن يؤدي فريضة الحج كما ذكر أخوه، ولربما حرص ماجد على البقاء كل يوم بعد الانتهاء من صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس عالياً ويصلي الضحى ليغطي هذا النقص الذي يشعر به، وليشبع هذا الجانب في نفسه، فقد قال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة) فإذا لم يدرك الحج فعلاً لعجزه أدركه فعلاً باحتسابه بهذه العبادة العظيمة.
لقد كان قلب ماجد معلقاً بالمسجد، كلما خرج منه وحتى يعود إليه، فلا يكاد يفوته فرض مع الجماعة، بل كان ماجد كما أخبر أخوه يتمنى أن يكون مؤذناً لمسجد الحي، كان إذا انتهى من الصلاة يتمنى ألا يخرج من المسجد، وكان يمكث في المسجد الساعات الطوال، وربما مكث بعد صلاة العشاء حتى الساعة التاسعة والنصف ليلاً، وإذا جاءه من يعينه على الخروج من المسجد والعودة إلى البيت خرج على مضض، فكأنما خرج جسده وبقي قلبه في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد).
وإذا أوى ماجد إلى فراشه لينام تسمعه يذكر الله كثيراً، يقول أخوه: حتى إذا استطاع أن ينام بعد مشقة لضيق تنفسه تسمعه بين حين وآخر حتى وهو نائم يسبح الله ويحمده.
حتى إذا كان آخر ثلاثة أشهر قبل وفاته اشتد عليه المرض، وفي آخر ساعة له في هذه الحياة الدنيا تلاشت قواه، وفترت حركته، وقبل أن يلفظ أنفاسه بنصف ساعة أو أقل دخل في غيبوبة، فأصبح لا يشعر بمن حوله، لكن العجيب في ماجد -كما ذكر أخوه- أنه بالرغم من غياب وعيه إلا أنه كان في تلك اللحظات الأخيرة التي يلفظ فيها آخر أنفاسه ينادي بصوت منخفض: الصلاة الصلاة، الأذان أذن، هيا قوموا نصلي، الصلاة الصلاة، هكذا وهو في تلك الحال.
وفي يوم الخميس الثامن عشر من جمادي الآخرة، من عام (1422هـ) توفي ماجد في مستشفى محمد الدوسري بـالخبر متأثراً بمرضه، ولم يكمل عشرين سنة من عمره.
هكذا كانت حياة ماجد قصيرة، تسع عشرة سنة وبضعة أشهر فقط، حياة قصيرة في عمرها لكنها عظيمة في ثمارها وأجرها إن شاء الله، ذلك أن حياة المؤمن لا تقاس بالأيام ومر الأعوام، وإنما تقاس بما قدم لحياته فيها.
تقاس بما أبلى فيها من طاعات وقدم من قربات.
تقاس بما عمل فيها استعداداً لأول ليلة له في القبر، عندما يضعه أهله في تلك الحفرة المظلمة، وينثروا عليه التراب ليغلقوا عليه جميع المنافذ، ثم ينصرفوا تاركينه لوحده يواجه ما يواجه من أهوال القبر وعالمه المفزع، فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يجد حينها ما يصد عنه من العذاب من أهل أو عشيرة سوى عمله الذي أفنى به دنياه، فإما أن يكون العمل صالحاً يستبشر به، أو يكون فاسداً يسود به وجهه.
فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة فيأتيه من طيبها وروحها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: وأنت بشرك الله بخير، من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب من الجنة وباب من النار، فيقال: هذا منزلك لو عصيت الله، أبدلك الله به هذا. فإذا رأى ما في الجنة قال: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال له: اسكن.
وإن العبد الفاجر إذا كان في انقطاع من الآخرة وإقبال من الدنيا نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح من النار، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه أرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40].
قال فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتطرح روحه من السماء طرحاً، حتى تقع في جسده، قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] قال: فتعاد روحه في جسده. قال: فإنه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه .. لا أدري. فيقولان له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه .. لا أدري. فيقولان له: فما تقول في هذه الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا يهدى لاسمه، فيقال: محمد.
فيقول: هاه هاه .. لا أدري، سمعت الناس يقولون ذاك.
قال: فينادي منادٍ من السماء: أن كذب، فافرشوا له من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، قال: فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: ومن أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟
فيقول: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله، سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً. ثم يقيض له ملك أعمى أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان تراباً، فيضربه ضربة فيصير تراباً، ثم يعيده الله كما كان، فيضربه ضربة فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين.
قال البراء : ثم يفتح له باب من النار، ويمهد له من فرش النار، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة
).أيها الشاب العزيز! إن الأعمال الصالحة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تحرس المؤمن في قبره، ففي القبر من الأهوال والأحوال ما نعرفه وما لا نعرفه، صح عند ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس فيجلس، وقد مثلت له الشمس، وقد أدنيت للغروب، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولون: إنك ستفعل، أخبرني عما نسألك عنه: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ قال: فيقول: محمد أشهد أنه رسول الله، وأنه جاء بالحق من عند الله. فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك منها، وما أعد الله لك فيها لو عصيته، فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدأ منه، فتجعل نسمته في النسم الطيب، وهي طير يعلق في شجر الجنة، قال: فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]. قال: وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يجد شيئاً، ثم أتي عن يمينه فلا يجد شيئاً، ثم أتي عن شماله فلا يجد شيئاً، ثم أتي من قبل رجليه فلا يجد شيئاً، فيقال له: اجلس، فيجلس خائفاً مرعوباً، فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أي رجل؟ فيقال: الذي كان فيكم. فلا يهتدي لاسمه، حتى يقال له: محمد، فيقول: ما أدري، سمعت الناس يقولون قولاً فقلت كما قال الناس. فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله، ثم يفتح له باب من أبواب النار، فيقال له: هذا مقعدك من النار، وما أعد الله لك فيها، فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: ذلك مقعدك من الجنة، وما أعد الله لك فيه لو أطعته، فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنكا التي قال الله: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]
نسأل الله أن يلطف بنا وأن يقينا شر نفوسنا!
تأمل! تفكر! إن نعم الله عليك عظيمة أيها الشاب الكريم! لدرجة أنها لا تفارقك إطلاقاً ولا حتى للحظة واحدة، جرب، خذ نفساً عميقاً الآن، تستطيع أليس كذلك؟! وبكل يسر وراحة، فقل: الحمد لله، فإنها نعمة غائبة عن ذهنك، ولكنها كانت حاضرة عند ماجد؛ لأنه لم يكن يستطيع التنفس إلا بصعوبة بالغة.
أنفاسك نعم، مشاعرك نعم، ضحكك نعم، سبحانه ما أكرمه، ما أعظمه، ما أحلمه، ما أرحمه، حتى وأنت تعصيه يفيض عليك من نعمه، لو أنك أضررت بإنسان له فضل عليك؛ أعطاك مالاً، أو هبك سيارته، أو أعطاك هدية ما، أو أعانك في قضاء حاجتك، أو فرج عنك شدة، له فضل عليك، ثم أغضبته يوماً ماء، هل يظل فضله مستمراً؟
لو قال لك يوماً: افعل كذا، فلم تفعل، أو قال لك: اترك الأمر الفلاني، فلم تفعل وأنت تعلم أن ذلك يغضبه، وبالرغم من ذلك لويت عنقك ولم تكترث بنهيه، وأدرت له ظهرك، وفعلت ما نهاك عن فعله، ثم جئت إليه بعد ذلك مباشرة تتمطى وتطلب سيارته، أو تريد منه مالاً، أو تسأله حاجة، هل يمكن أن يعطيك وقد أهملت رغبته، وأغضبته قبل هذا السؤال بقليل؟ لا يمكن.
لكن الله الكريم الحليم يعطيك، ويعطيك، بالرغم من أخطائك وإصرارك على معاصيك، فهل من حياء منه يا حفظك الله؟ هل من رجوع إليه؟
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني |
تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن |
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاًَ جميلاً لعل الله يرحمني |
يا نفس ويحك توبي واعملي حسناً عسى تجازين بعد الموت بالحسن |
هكذا كان ماجد ، فماذا عنك أنت؟ أفلا تكون كذلك الشاب الكسير الذي دخل المسجد قبل أن يدخله أحد للصلاة، ثم صلى ركعتين خاشعتين تائباً لله وهو يقول:
يا رب إني قد غسلت خطيئتي في أدمعي |
يا رب إني ضارع أفلا قبلت تضرعي |
إن لم تكن لي في أساي فمن يكون إذاً معي |
يا رب في جوف الليالي كم ندمت وكم بكيت |
ولكم رجوتك خاشعاً وإلى رحابك كم سعيت |
قد كنت يوماً تائهاً واليوم يا ربي وعيت |
يا رب من لي غير نورك إن ضللت وإن غويت |
إن كنت تعرض جنة للبيع بالنفس اشتريت |
أو كنت تدعوني إلهي للرجوع فقد أتيت |
أسأل الله تعالى أن يأخذ بأيدينا إلى هدايته، وأن يوفقنا لطاعته، وأن يحسن لنا أعمالنا قبل لقياه، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر