إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ينقل الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هذه الحادثة التي جرت في عصر الخليفة العباسي المعتضد ، تقدمت امرأة إلى قاضي الري فادعت على زوجها بصداقها خمسمائة دينار، أي أنه لم يوفها إياها، فأنكر الزوج التهمة، فجاءت ببينة لتشهد لها بها، فقالوا: نريد أن تسفر لنا عن وجهها حتى نعلم أنها الزوجة أم لا، فلما صمموا على ذلك قال الزوج: لا تفعلوا، لا تكشفوا عن وجهها، هي صادقة فيما تدعي، فأقر بما ادعت لا لشيء إلا ليصون زوجته من الرجال أن ينظروا إلى وجهها، يعني: لا بارك الله بمال إذا تسبب في مس عرضي أو انتهاك حرمة زوجتي، فقالت المرأة حين عرفت تلك الغيرة فيه، وأنه إنما أقر ليصون وجهها عن النظر قالت: أيها القاضي هو في حل من صداقي في الدنيا والآخرة!
إيهٍ يا أهل الغيرة!! أين أنتم لتروا ما حل بالغيرة في واقع المسلمين اليوم؟! مسخ عجيب لم يعهد من قبل في أي عصر سبق في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال سعد بن عبادة رضي الله عنه الذي لا أدري ماذا كان سيفعل لو أطل على زماننا ومجتمعنا اليوم؟! قال: [لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح] فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أتعجبون من غيرة
أيها الناس! الغيرة موضوع مهم جداً، نحن في أمس الحاجة إلى مراجعته، ليس للواقع المشاهد فقط .. بل لأن الغيرة في نظر الشرع ليست مجرد خلق حميد مندوب إلى التحلي به، بل الغيرة في الشرع أكبر من ذلك بكثير، الغيرة مطلب شرعي يجب صيانته والاعتناء به، ذلك أن ضعف الغيرة عند الرجل قد يؤدي به إلى الانحدار إلى مستوى الدياثة والعياذ بالله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث) والديوث هو: الذي لا يغار على أهله ومحارمه، هذه هي نظرة الشرع لمن ماتت لديه الغيرة، بل إن الشرع اعتبر من قتل في سبيل الدفاع عن عرضه شهيداً، ففي الحديث: (ومن قتل دون أهله فهو شهيد) أخرجه الترمذي ، هكذا يُجلّ الإسلام الرجل الغيور.
وأغير الرجال هو محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أغير الأمة، والله أغير منه، فما لحال بعض الرجال اليوم؟! بل إن كثيراً من الرجال اليوم بعيدون عن هذا الخلق؟! لماذا نرى النساء اليوم متروكات كأنهن بلا عائل ينصح ويزجر ويردع؟!
هذا الصون الذي يتمناه كل غيور في نساء أمته، هذا الصون الذي لا يكاد يرى اليوم حتى أصبح أهله غرباء .. خروج الواحد منهم إلى السوق ليقضي حاجة أهله من أشق وأثقل ما يعاني منه؛ لأن الغيور -يا أمة الإسلام- يحترق، لا يطيق رؤية السفور ومظاهره دون أن يشتعل قلبه غضباً لله وغيرة على محارمه، كما أنه لا يأمن على قلبه من الزيغ أو التبلد الذي أصاب كثيراً من الرجال.
هكذا هو شأن الغيور؛ تجده يمشي غريباً وسط كومة من البشر نساء ورجالاً هم في واد وهو في واد آخر، فهذه تتبختر في مشيتها بعباءتها الفاتنة، وتلك تضحك بصوت مسموع مع رفيقاتها، وخلفهن فسقة: اثنان أو ثلاثة ذكور يتبعونهن يتحينون الفرصة الشيطانية، وآخر يرقب امرأة مسلمة من نساء هذا البلد كشفت عن وجهها أمام البائع بكامل زينتها، وأخذت تساومه وتلين صوتها، وأخرى متوشحة بعباءة ضيقة قد أبرزت صدرها وقوامها، وعيون الذئاب تنهش عرضها نظراً. ويتنهد الغيور حسرة على العباد وهو يتأمل في هذه المشاهد ويقول بحرقة: يا سبحان الله! أين الغيرة؟! ثم يتلفت متسائلاً: أين أولياء هؤلاء النساء؟!
أحد الغيورين من جنس هذا الغريب كان يقف وسط جمهرة من الرجال أمام محاسب أحد المطاعم، فإذا به يرى بينهم رجلاً قد اصطحب معه ابنته.. فتاة في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمرها -لكن جسمها أكبر من سنها- قد أوقفها بين الرجال بجانبه وقد لبست قميصاً قصيراً، وبنطلوناً ضيقاً جداً من النوع اللاصق، وكان البنطلون أيضاً قصيراً إلى فوق الركبة، وإذ بالنظرات.. نظرات أولئك الواقفين تنهال على الفتاة بلا خشية ولا خوف من الله، وأما أبوها فهي في عينه طفلة، ولكنها في عين أولئك شيء آخر، وهنا تقدم الغيور بينهم؛ لأن الغيور لا يستطيع أن يحتمل المنظر، فسلم على الأب، ثم قال له بصوت منخفض وبكل أدب واحترام: أخي الكريم! ألا تستر ابنتك! فإن الرجال ينظرون إليها، فكيف كان رد الأب؟ حتى ندرك أن الغيرة في المجتمع أصبحت غير واضحة المعالم، وأن الغيور في المجتمع غريب.. بل غريب ومنبوذ أحياناً.
رد الأب عليه رداً عنيفاً وقال: ما دخلك!! هذا الذي أنتم ترددونه: استر بنتك استر بنتك -بهذه العبارة أيها الإخوة- اذهب وانظر إلى الأمريكان عراة على الشاطئ فانصحهم.
فيجيبه الغيور: والله ما قلت لك هذا الكلام إلا من الغيرة على ابنتك؛ ولأني اعتبرتها مثل ابنتي.
فيرد الأب: هذه صغيرة.
فيجيب الغيور: نعم. وسوف تبقى في نظرك صغيرة حتى بعد ما تكبر وتأتي بعيال وهي صغيرة.
يتعاطف أحد الواقفين مع صاحبنا ويقول: جزاك الله خيراً، ثم ينصرف ذلك الأب وهو يزمجر ويتمتم بكلمات الضجر.
بل ذهب بعض المعدودين على الرجال إلى أبعد من ذلك، ذهب بعضهم إلى حث زوجته على ارتداء ذلك النوع من العباءة؛ لأن منظرك بها أجمل .. هكذا يقول بصراحة: البسيها لأن منظرك بها أجمل! لمن تريد أن يظهر جمال زوجتك؟ للرجال المتلهفين؟! أم للفسقة المتسكعين؟! يا هداك الله!
هناك خلل مخيف! الغيرة أصحابها ينحسرون ويتلاشون، ومخطط الإجهاز على حجاب المرأة وعباءاتها مستمر، والسواد الأعظم من الناس يتفرج على مظاهر هذا المخطط بل ويساهم في إنجاحه.
وإذا لم يعد أحدنا هذا التلاعب بعباءة المرأة المسلمة مظهراً من مظاهر ضعف الغيرة لدى الرجال؛ فهي مصيبة أخرى.
فجئت بمنطق العرب الأصيـل وكان بقدر ما عاينت قيل |
وليس يصح في الأفهام شـيء إذا احتاج النهار إلى دليل |
النهار لا يحتاج إلى دليل، فهو واضح للعين.
الغيرة -يا إخوة!- شعور غريزي في فطرة الإنسان، ولابد من عوامل وأسباب أدت إلى طمس هذه الفطرة في الرجل، وسنتحدث عنها -إن شاء الله- لاحقاً، أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا فطرتنا!
ومن مظاهر ضعفها: الرضا بما تلبسه المرأة زوجة كانت أو بنتاً أو أختاً من فساتين خليعة تكشف صدرها وظهرها وأحياناً أفخاذها .. نعم. فنحن لسنا عمياً لا نرى ما تعرضه بعض محلات بيع الملابس النسائية من فساتين يندى لها الجبين، ويحزن قلب المؤمن الصادق لرؤيتها معروضة على أبواب تلك المحلات بكل وقاحة وبلا أدنى خجل، فالرضا بارتداء المرأة هذه الملابس لتستعرض بها في الحفلات النسائية ليس من المروءة، وقد ينطفئ نور الغيرة فيختار بعضهم مثل هذه الأزياء المثيرة بنفسه ليدفعها لزوجته كي تلبسها في الحفل؛ لتستعرض مفاتنها أمام النساء، فلا بارك الله في هذا الاختيار، ولا بارك الله في خلق كهذا الخلق.
فإن كان الأمر كذلك فأين الغيرة؟ أم أنه كلام بريء ولا يعني شيئاً، وماذا فيه لو قالت للمطرب: أنا فرحة برؤيتك؟ أو قالت: (يا بعد عمري) أو قالت: (تسلم لي).. هذا هو مبدأ النصارى واللادينيين في التعامل مع مثل هذه القضايا، أما مبدأ المسلم الموحد فغير ذلك، المسلم في هذه القضايا يقف عند قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً [الأحزاب:32] ليس في الإسلام شيء اسمه كلام بريء وغير بريء، حتى في الجاهلية -يا إخوة- ألم يقل علقمة بن عبدة :
منعمة لا يستطاع كلامها على بابها من أن تزار رقيب |
هناك رجل وامرأة، وبالتالي لا ينبغي أن يفتح باب الحوار بينهما إلا للحاجة والضرورة كما قال العلماء، وأن يكون كلام المرأة فصلاً واحداً بصرامة وجد، وأن يكون قولها جزلاً لا إطالة فيه، وقد وردت علة النهي عن اللين في الكلام، في قوله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] فإن لم يكن الذي اتخذ الغناء وسيلة للكسب يفتخر بها بين الناس مريض القلب فمن هو مريض القلب إذاً؟!
وقد أسقط الإسلام الحج الذي هو ركن من الأركان الخمسة وطاعة عظيمة .. أسقطه عن المرأة إذا لم تجد محرماً يسافر معها ويصحبها، بل حتى الجهاد في سبيل الله الذي هو من أعظم الفرائض يؤمر الرجل بتأجيله من أجل أن يحج مع امرأته فلا تسافر وحدها.
سبحان الله! كيف يربي الإسلام الغيرة في النفوس! لو حرص المسلمون على التزام أحكامه!!
يا أخي! رسول الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يكن يثق بابنته؟ بلى. ولا أحد ينكر ذلك، ولا يشك في ذلك، لكن هل منعه ذلك من أن يسألها كما صح عند ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر لما رأى ابنته فاطمة مقبلة بحجابها الكامل السابغ، وكان صلى الله عليه وسلم قد توسط الطريق مع أصحابه وهم عائدون من المقبرة، فلما دنت منه قال لها: (ما أخرجك يا
هل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59] هل أمر الله تعالى في هذه الآية يعني عدم الثقة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته؟!
هل قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53] هل يعني هذا الأمر عدم الثقة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم الثقة بصحابته الكرام؟!
معاذ الله .. معاذ الله، ولكنه الواجب .. المسئولية والغيرة على المحارم التي يجب أن تكون لدى كل ولي أمر.
وبعضهم -نسأل الله العفو والعافية- يشترط على زوجته إذا سافرت معه إلى الخارج أن تنزع حجابها، وإلا فلن يسافر بها، لماذا؟ قال: أتريدين أن تفضحينا .. هكذا -والله العظيم- يقولها بكل وقاحة، فيا سبحان الله! ما أحلمك يا رب! ومتى كان شرع الله يفضح كما يقول ذلك الدعي؟!
ثم أهكذا يهون العرض؟!
أتذكر هنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأساً يهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).
إن من حرم الغيرة فقد حرم طهر الحياة، ومن حرم طهر الحياة فهو أحط من بهيمة الأنعام، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال. يقول المناوي في الفيض : وأشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة، فالمؤمن الذي يغار في محل الغيرة قد وافق ربه في صفة من صفاته، ومن وافقه في صفة من صفاته كان قريباً من رحمته.
ذكرنا فيما مضى أن الغيرة غريزة محمودة في فطرة الإنسان السوي، ولا تزول هذه الغريزة المحمودة إلا بفساد الفطرة. يقول ابن القيم رحمه الله: إن الفطرة قد تفسد، وقد تزول، وقد تكون موجودة ولا ترى، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، يقول تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30] فالإنسان بطبيعته السوية يغار، لكن الفطر تنحرف بأسباب عديدة، وسوف نذكرها إن شاء الله تعالى.
والغيرة على المحارم والأعراض من سمات العرب المشهورة في الجاهلية قبل الإسلام، حتى دفعت هذه الغيرة كثيراً منهم إلى جريمة الوأد وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * تَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:59] هذا شكل من أشكال الغيرة المفرطة، أن يدفن العربي ابنته في التراب من أجل الخوف على العرض.
وكذلك من غرائب الغيرة: استعمال الفرسان الإفرنج في القرون الوسطى الأحزمة الحديدية ذات الأقفال عندما كانوا يذهبون إلى الحروب، فكانوا يقيدون نساءهم بهذه الأقفال؛ حتى يضمنوا بقاءهن عفيفات، طبعاً الوضع تغير الآن، ولقد بُعث الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بإفسادها وتغييرها، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ولما جاء الإسلام لم يلغ هذه الغريزة الفطرية، هذه الصفة الكريمة .. صفة الغيرة، ولم يوهنها، ولم يضعفها، وإنما أتى عليها الإسلام فهذبها وأرشدها لتصرف في محلها، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الغيرة ما يحب الله، ومن الغيرة ما يكره، فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة) أي: التي تثور في نفس الرجل إذا رأى ما يغضب الله، أو رأى ما يخدش الحياء في أهله (والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبـة) أي: الغيرة المبنية على الأوهام والشكوك والوساوس بلا أية قرينة؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم ويطلب عثراتهم، نهى عن ذلك كما صح عند الإمام مسلم، فالغيرة المحمودة هي ما وافقت غيرة الله، وهي الغضب من أن تنتهك محارمه.
وكما يجب على الرجل أن يغار على محارم الله أن تنتهك، فكذلك يجب عليه أن يغار على محارمه الخاصة به عن غيره من الناس، فإن من لم يغر على محارمه .. ومحارمه أهله من زوجته وبناته وأخواته عُد ديوثاً. يقول ابن القيم : لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يشركه الغير في أهله، فغيرته من فاحشة أهله ليست كغيرته من زنا الغير؛ لأن هذا يتعلق به، وذاك لا يتعلق به إلا من جهة بغضه لما يبغضه الله تعالى، ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأته ثم أقاربه ومن هو تحت طاعته، فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي، والغيرة المستحبة ما أوجبت المستحب من الصيانة، يعني: كمن لا يذهب بزوجته إلى أماكن تجمع الفسقة، وإن كانت زوجته كاملة الحجاب، غيرته لها من أن تطولها نظراتهم، هذه غيرة مستحبة.
وثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر بن الخطاب : (دخلت الجنة فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لـ
وعثمان بن عفان رضي الله عنه لما وُلِّي وشاع في زمنه اللعب بالحَمَام أدى ذلك إلى الالتهاء عن أداء الواجبات، والاطلاع على عورات الناس بارتقاء السطوح لتطيير الحمام؛ فنهى عن تطيير الحمام ولم يكتف بذلك، بل عين رجلاً يقص أجنحتها حتى لا تستطيع الطيران. ولما دخل عليه المضللون ليقتلوه رضي الله عنه؛ حاولت زوجته نائلة أن تستره بشعرها، فقال لها: [خذي خمارك فلعمري لدخولهم علي -أي: لقتلي- أهون من حرمة شعرك].
أما علي بن أبي طالب فقد أثر عنه أنه لما رأى الأسواق مدعاة للاختلاط المريب قال: [تغارون أن تخرج نساؤكم، فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج] أي: الرجال الفحول من الأعاجم، هذا في عصره رضي الله عنه فكيف بعصرنا اليوم؟ الله المستعان!
هذه هي غيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، غيرة واضحة حية لها وزنها وتأثيرها على حياتهم.
أما اليوم فكم من الفتيات يعلنَّ إعجابهن بالمطرب أو الممثل أو اللاعب الفلاني .. يعلنَّ ذلك بلا حياء، وبكل جرأة في الصحافة، والتليفزيون، ولا أحد يحرك ساكناً، أما عمر رضي الله عنه فقد مر ليلة بـالمدينة فسمع امرأة تنشد:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم من سبيل إلى نصر بن حجاج |
إلى فتىً ماجد الأعراق مقتبـل سهل المحيا كريم غير ملجاج |
فقال عمر : [لا أرى معي في المدينة رجلاً تهتف به العواتق في خدورهن] فاستدعاه فإذا هو أحسن الناس وجهاً وشِعراً، فعزم عليه ليأخذن من شعره، فأخذ منه فخرج بوجنتين كشقي القمر، فأمره أن يعتم -يعني: يلبس عمامة ويأخذ بطرفها ويتلثم- فافتتن الناس بعينيه، فأمر بنفيه إلى البصرة .. هكذا هي غيرة عمر على نساء المسلمين ألاَّ يُفتنَّ! فكيف بنسائه هو؟!
ولما كسا الناس نساءهم في عهده رضي الله عنه بالقباطي وهي ثياب بيض رقاق من كتان أعلن قائلاً: لا تلبسوها نساءكم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين: قد ألبستها امرأتي فأقبلت في البيت وأدبرت فلم أره يشف -يعني يظهر الجلد- قال: إن لم يشف فإنه يصف، أي: يلتصق بالجسد فيبرز معالمه.
أقول: تعال يا عمر ! وانظر إلى ما تلبسه المسلمة اليوم، وانظر إلى خمارها وجلبابها ماذا حل به، كيف تحول إلى عباءة باريس ، (ماركة بيركردان) و(سان لوران) مشقوقة الجنبين، عباءة الفتنة والإثارة تمشي بها ولا أحد أبداً من محارمها يراقبها أو ينهى عن تبرجها؟ كان رضي الله عنه يؤدب من يتعرض للنساء بمعاكستهن بضربه عشرين سوطاً، ومن شبب بهن من الشعراء جلده، أي: الذي يرقق شعره بذكر النساء يجلده، لا يفتح له المنتديات، ويعد له المهرجانات.. لا، بل يجلده، هكذا كانت غيرته رضي الله عنه، هكذا كانت غيرة الصحابة في زمان كان الفساد فيه ذليلاً، وأهله شرذمة لا جرأة لهم.
في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع) وكان المسلمون من بعده يحمدون بالغيرة وينتخون بها.
ولشدة داعي الغيرة في قلوب المسلمين كانوا يستثارون بها، فكما جاء في السير: أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها -بضاعة- فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها -تلك المرأة المسلمة- فأبت، فعمد الصائغ إلى طرفها فعقده إلى ظهرها وهي غافلة، فلما قامت انكشفت سوأتها؛ فتضاحك اليهود بها فصاحت، فالتفت رجل من المسلمين من أهل الغيرة في ذلك الزمان- فوثب على الصائغ فقتله، فشد اليهود عليه فقتلوه لعنهم الله! فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه وهم صاغرون، هكذا كان المسلمون يستثارون بالغيرة على نسائهم.
ولما أثنى الإمام ابن كثير على الأمير المجاهد صاحب الموصل عماد الدين زنكي والد نور الدين محمود الشهيد، ذكر غيرته في سياق الثناء عليه وقال: وقد كان زنكي من خيار الملوك، وأحسنهم سيرة وشكلاً، وكان شجاعاً مقداماً حازماً، خضعت له ملوك الأطراف، وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية.
ولما بلغ الخليفة العباسي المعتصم أن امرأة هاشمية صاحت وهي أسيرة في أيدي الروم: وا معتصماه؛ نهض عن سريره من ساعته قائلاً: لبيكِ لبيكِ، وصاح في قصره: النفير.. النفير.. أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية هي أشرف البلاد عندهم، فسار إليها ولم يرجع إلا ومفاتيحها بيده، إنها الغيرة .. كانت تفعل الأعاجيب في المسلمين.
عندما احتل الصليبيون الكاثوليك بيت المقدس سنة (492هـ) وقتلوا المسلمين الآمنين فيه بلا رحمة، حتى خاضت خيولهم في دماء المسلمين، وفر الناس من الشام إلى العراق ليستنجدوا بالمسلمين هناك؛ تلا الشيخ أبو سعد الهروي أبياتاً من قصيدته المشهورة أمام المسلمين، يستحثهم بماذا؟
يستحثهم بالغيرة على المحارم.
مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراجم |
إلى قوله:
فليتهمو إذ لم يذودوا حمية عن الدين ذادوا غيرة بالمحارم |
ولقد كان من مشاهير المسلمين ممن لم يعرفوا بالإمامة في الدين، يشمئزون ويتعجبون من ضعف الغيرة لدى الرجال! فهذا ابن بطوطة الرحالة المشهور يذم أهل مدينة أيولاتن التي أقام بها أثناء تجواله خمسين يوماً، فقال: ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأناً من الرجال، وشأن هؤلاء القوم عجيب، وأمرهم غريب! فأما رجالهم فلا غيرة لهم، ثم قال: وهم مسلمون محافظون على الصلوات، وتعلم الفقه، وحفظ القرآن، وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يتحجبن، مع مواظبتهن على الصلوات. فهو يتعجب كيف جمع هؤلاء القوم بين النقيضين: المواظبة على الصلوات وضعف الغيرة.
التدين الصحيح -أيها الإخوة- لابد أن يحيي صفة الغيرة في العبد، وهذا ما سنطرقه إن شاء الله تعالى فيما بعد، أسأل الله تعالى أن يجدد الغيرة على محارم الله تعالى في قلوبنا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر