الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام! قرأتم ما اختاره إخوانكم عنواناً في هذا اللقاء وهو: (مَن أسعدُ الناس؟).
إن هذا العنوان اشتمل إشارة إلى ما يسعى إليه الجميع، وما يتسابق إليه الناس جميعاً على اختلاف أصولهم وأجناسهم وجهاتهم وألوانهم وألسنتهم، فالكل يسعى ويسير سيراً حثيثاً لإدراك هذه الغاية، وهي السعادة التي يحصل بها للإنسان نعيم الدنيا، هذا هو حال كثيرٍ من الناس في سعيهم وراء هذا الأمر، فإن كثيراً من الناس يقصرون السعادة على هذه البرهة القصيرة، والفترة الوجيزة من مراحل العمر، ومن منازل الإنسان، وهي منزلته في هذه الدنيا، وهذه الدنيا وصفها الله جلَّ وعلا فقلل من شأنها في كتابه، وبيَّن أنها متاع قليل، فمهما حصل فيها من الصفاء والجودة والجمال فإنها مؤذنة بالزوال، وهي راحلة ينتقل منها الناس ويصيرون إلى دار يستقرون فيها؛ وهي الدار التي ينبغي لهم أن يسعوا إلى تحقيق السعادة فيها.
- فمنهم من يرى السعادة جمع المال.
- ومنهم من يرى السعادة جمال المنظر.
- ومنهم من يرى السعادة جمال المركب.
- ومنهم من يرى السعادة في الجاه والمنصب.
وكل هؤلاء أصابوا شيئاً وأخطئوا في أشياء، فإن هذه الأمور -وإن كانت من أسباب السعادة في هذه الدنيا- ليست هي السعادة الحقيقية التي ينبغي للمؤمن أن يسعى لها، وأن يحث الخطا في تحصيلها وإدراكها؛ ولذلك تجد أن كثيرين ممن لم يُمَكَّنوا من هذه الأمور أو من أكثرها يتلذذون ويجدون من الانشراح والطمأنينة، وسعة الصدر، والابتهاج والسرور، ما لا يجده مَن مَلَك هذه الأشياء جميعاً أو مَلَك أكثرها، وذلك يبرهن ويبين أن السعادة ليست في هذه الأشياء، إنما هذه وسائل وآلات ووسائط قد يدرك بها الإنسان بعض مقصوده؛ لكنها لا تكون مقصوداً وغرضاً على أي حال من الأحوال.
بهذه الأمور الثلاثة كمل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أسباب السعادة: شرح له صدره؛ فكان من أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلباً، وأقرهم عيناً، وأكملهم حياةً صلى الله عليه وسلم.
ثم إن هذه السعادة لم تكن مقتصرةً على انشراح الصدر، بل هي سعادةٌ موطئةٌ لسعادة عظيمة في الآخرة، فقال جلَّ وعلا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4]، فخفف الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم الآثام والأوزار، فلم يكن محملاً بما يُحَمَّلُه كثيرٌ من الناس من الأوزار، التي هي من أعظم أسباب ضيق الصدر، ومن أعظم أسباب قلة السعادة، بل من آكد أسباب زوالها، فإن السعادات تذهب عند مقارفة السيئات؛ ولذلك ذكر الله جلَّ وعلا بعد شرح الصدر تخفيف الوزر عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر ثالث ما من به سبحانه وتعالى على رسوله فقال سبحانه وتعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، ولا شك أن رفع الذكر من سعادة المرء؛ ولذلك خصه الله جلَّ وعلا بالذكر.
إن الله عز وجل قد ذكر في هذه السورة الكريمة السبب الذي حصَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم السعادة، فبعد أن ذكر تلك المنن الثلاث التي افتتح بها السورة، قال جلَّ وعلا في آخرها: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7-8] هذا هو سبب السعادة، وسر ذلك الشرح، وسبب ذلك التخفيف، وسبب رفع الذكر الذي أدركه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
واستمع إلى ما قاله ابن القيم رحمه الله في هذا!
يقول رحمه الله: شرح الله صدر رسوله صلى الله عليه وسلم أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه -أي: لمن اقتفى أثره، وآمن به، واهتدى بسنته- حظاً من ذلك -يعني: من شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر- إذ كل متبوع فلأتباعه حظٌ ونصيبٌ من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له.
فأتبعُ الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرحُهم صدراً، وأوضعهم وزراً، وأرفعهم ذكراً، وهذا فضل الله الذي منَّ الله به على الأمة؛ أن جعل ما منَّ به على رسوله صلى الله عليه وسلم من تلك المنن ومن تلك المنح ومن تلك الفضائل يمكن للعبد أن يدركها بسلوك سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يفعل كما فعل، وأن يعتقد كما اعتقد، وأن يعمل كما عمل، فبقدر متابعة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً، حالاً واجتهاداً، بقدر ما يكون له نصيباً من السعادة التي نالها صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: وكلما قويت متابعة العبد علماً وعملاً وحالاً واجتهاداً قويت هذه الثلاث التي هي: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر، حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدراً وأرفعهم في العالمين ذكراً.
نسأل الله عز وجل من فضله!
أيها الإخوة الكرام! إن الله جلَّ وعلا قد أمرنا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأبان لنا في كتابه الحكيم فوائد ذلك؛ حثاً لنا على المسابقة إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن جملة ما بينه سبحانه وتعالى لنا من فضائل اتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما ذكره في قوله آمراً عموم الناس: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].
ومما حث الله سبحانه وتعالى به هذه الأمة على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جعل اتباعه والاستجابة لندائه صلى الله عليه وسلم سبباً للحياة الكاملة والحياة الطيبة، فقال الله جلَّ وعلا مخاطباً المؤمنين، منادياً أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24]، أمر الله جلَّ وعلا في هذه الآية بالمسارعة إلى الاستجابة إلى الله ورسوله، ثم بيَّن ما الذي يدعونا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وفي نهيه وفي قوله وفي تركه وفي فعله وفي كل ما دعانا إليه قولاً أو فعلاً، ما الذي يريده صلى الله عليه وسلم من ذلك؟
إنه يريد لنا الحياة الكاملة في هذه الدنيا، والحياة الكاملة في الآخرة.
أما الحياة الكاملة في الدنيا: فإن أسعد الناس وأكملهم حياةً هم أتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالحياة الكاملة إنما تحصل بالاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الآخرة: فأتباعه لهم الجنة التي قال الله جلَّ وعلا في وصفها: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64]، انظر كيف قال: (الْحَيَوَانُ)! أتى بصيغة (فَعَلان) التي تدل على امتلاء الحياة، أي: إن الحياة الكاملة التامة التي يتمتع بها الإنسان، وينال بها كمال مبتغياته؛ هي الدار الآخرة، وذلك في الجنة نسأل الله أن نكون من أهلها!
فإذا كان هذا شأن الإنسان في هذه الدنيا إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شأنه إذا اتبع رسوله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، أي: أن الله يجزيه (الحيوان)، وهي الجنة التي أعد الله فيها لعباده المتقين الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ كان هذا حافزاً لأولي الألباب، وأصحاب البصائر والعقول، الذين تنفذ بصائرهم وأبصارهم من هذه الدنيا إلى الآخرة، إلى مزيد عمل صالح، واقتفاء للنبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، واعلم أن كل هديٍ، وكل سنةٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ، ظاهرةٍ أو باطنةٍ، دقيقةٍ أو جليلةٍ، من سنن النبي صلى الله عليه وسلم هي من أسباب الحياة، فبقدر أخذك من سننه وهديه وعمله صلى الله عليه وسلم بقدر ما تأخذ من أسباب الحياة في الدنيا، ومن أسباب الحياة في الآخرة.
أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، لماذا؟
لأنهم آمنوا بالله عز وجل، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم: وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ [الأعراف:157]، والنور الذي أنزل معه هو: كتاب الله عز وجل، وهو السنة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم.
والإنسان يسعى لأن يكون محبوباً لله عز وجل، وإذا كنت ممن يسعى لذلك فاحرص على هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك نموذج حفظته السنة وهو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يصلي بأصحابه في إحدى المرات فخلع نعليه وهو في الصلاة، فما كان من الصحابة رضي الله عنهم إلَّا أن خلعوا نعالهم) تأسياً واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لبس الخاتم فلبسوه، خلع الخاتم فخلعوه، وهكذا كانوا ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم حفظوا لنا حركة لحيته وهو يصلي؛ لشدة تأسيهم به؛ ونظرهم إلى أفعاله ليقتدوا بها ويتأسوا.
ومن عجيب ما حفظوه لنا: عدد ما في رأسه ولحيته من الشيب! فحفظوا أن في رأسه ولحيته سبع شعرات من الشيب فقط لا غير، وهذا دليل على أن الصحابة جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المجهر عندهم، يرقبون فعله، وينظرون إلى ما يفعل، وليس نظر ترفُّه وتفكُّه وحب استطلاع، وإنما هو نظر اتباع واقتداء، فكانوا يهتدون ويقتدون به في دقيق الأمر وجليله.
إن الجواب على هذا السؤال هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
إن الطريق فيه نوع صعوبة لاسيما في مبادئه، فطريق تحصيل هذا النوع من السعادة فيه عسر وصعوبة، يحتاج إلى مجاهدة نفس، ويحتاج إلى أن يتخلى الإنسان عن مألوفه، وما اعتاده وما شب عليه وتربى عليه، والنظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه وقعوده، في ذهابه ومجيئه، في دخوله وخروجه، في نومه واستيقاظه، في معاملته لربه ومعاملته للخلق وفي جميع شأنه؛ وإذا نظر إلى ذلك فإنه يحتاج إلى عزم أكيد، ورغبة صادقة، وجهد متواصل؛ لإدراك ذلك الذي قرأه واطلع عليه، ولما كان الأمر يعسر على كثير من الناس كان أكثر الناس في تخلف عن سلوك هذا الطريق.
لكن يا أخي! اسلك هذا الطريق، واستعن بالله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى إذا علم من عبده الصدق يسر له سبل الهدى، ويسر له سبيل الخير، وأعانه، وجعله يجني من ثمرات وبركات اتباع النبي صلى الله عليه وسلم خيراً كثيراً في الدنيا، يعينه ذلك على مواصلة الاتباع والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم.
فأحثكم -يا إخواني- على قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ سنته، ومطالعة هديه، فإن السلف الصالح كانوا يمضون أوقاتاً طويلة، وأعماراً مديدة، في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي العمل بها، وفي طلبها، وكان أحدهم إذا بلغه الحديث عمل به؛ لكونه سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان في نفسه شيء من معناه، حتى أن الإمام أحمد رحمه الله عمل بسنة، وقال: لم أعمل بها إلا مرة واحدة لما بلغني الحديث، وكان رأيه رحمه الله خلافاً لما دل عليه الحديث لأحاديث أخرى، لكنه لم تطب نفسه أن يترك تلك السنة، وقد بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها حديث.
ينبغي لنا -أيها الإخوة- أن نحرص على الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نحتسب الأجر في ذلك عند الله سبحانه وتعالى، والطريق -ولله الحمد- ميسر وسهل، لكن يحتاج إلى عزيمة وجد، وصدق رغبة، والإنسان إذا استعان بالله أعانه، فليقرأ من الكتب الميسرة في عرض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه مثل كتاب ابن القيم رحمه الله: زاد المعاد في هدي خير العباد، فإنه من أنفع الكتب التي جمعت لنا هديه صلى الله عليه وسلم وسيرته.
ومن ذلك أيضاً الكتب التي حفظت لنا نصوص أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم، كرياض الصالحين، وبلوغ المرام، وما أشبه ذلك من الكتب التي ملأت بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر مجالس العلم، وأن يسمع أشرطة العلم، فإن فيها من بيان هديه صلى الله عليه وسلم وسنته ما يعين الإنسان على اقتفاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم -يا أخي- أنك لن تحصل بركة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من فعل سنة أو سنتين مرة أو مرتين، بل داوم واستمر وجاهد، فإنك إذا استمريت على ذلك وصبرت؛ وجدت بركة ذلك بعد حين.
فأسأل الله عز وجل أن يبلغنا وإياكم هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على التزام سنته، وأن يسلك بنا سبيله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر