إسلام ويب

وباء إنفلونزا الخنازيرللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوباء على مر العصور هو مرض مهلك، لا يجتاح أرضاً إلا وأسقط في طريقه ما لا يعد من البشر، وقد جرت سنة الله في عباده أن يسلط عليهم الأوبئة كلما تنكبوا طريقه وتجاهلوا تحذيره، ومما انتشر بين الناس في هذه الأزمنة مرض إنفلونزا الخنازير، والذي ظهر في أماكن مختلفة من أرجاء المعمورة نتيجة تريبة حيوان الخنزير وأكل لحمه.

    1.   

    أسباب الأمراض المهلكة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الإخوة في الله! ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم المسيح ابن مريم حكماً عدلاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية )، يقسم عليه الصلاة والسلام بنزول المسيح في آخر الزمان، وأخبر عليه الصلاة والسلام عن صفته حال نزوله وأعماله، بأنه يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه يبطل ما عداها من الأديان، يبطل ما عداها من التحريفات والتغييرات والتبديلات، فيكسر الصليب الذي افتراه المفترون بعده عليه الصلاة والسلام، ويضع الجزية، أي: لا يقبل ديناً غير الإسلام، ومن أعماله أنه يقتل الخنزير.

    حديثنا في هذه اللحظات عن هذا الداء الذي تتخوفه البشرية اليوم، حديثنا عنه وعن موقف الشرع من هذه الآفة.

    لقد أخبر عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وهو يتحدث عن الطاعون، فقال: ( إن هذا الداء رجز -يعني: عذاب- أرسله الله عز وجل على من كان قبلكم، فبقي في الأرض بعد ذلك، يذهب المرة ويجيء الأخرى )، فيخبر عليه الصلاة والسلام عن مبدأ هذا النوع من الأدواء، وهي الأدواء العامة، والهلاك العام، والمرض الذي يأخذ الأخضر واليابس، يخبر عليه الصلاة والسلام بأنه رجز وعذاب، أرسله الله عز وجل على طائفة من الناس بسبب فسقهم وفجورهم وعنادهم، رجز أرسله الله على طائفة من الأمم، ثم بقي في الأرض، يذهب المرة ويجيء الأخرى، وهو وإن كان في حق المفسدين عذاب ورجز، فهو في حق المؤمنين الصالحين شهادة، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فقال كما في الحديث: ( والمطعون شهيد )، يعني: من أصيب من هذه الأمة بالطاعون فمات فهو شهيد، إلا أن الحديث الأول يخبر عن سنة عامة من سنن الله، وهي أن الأمم متى حادت عن منهج الله، والبشرية متى خرجت عن دين الله وعاندت ما أراده الله عز وجل لها أصابها الله عز وجل بأنواع من الأدواء، أصابها بأنواع من المهلكات والأمراض، وهذا ما يؤكده تاريخ هذه البشرية منذ قديم العهد وحديثه.

    أباح الله عز وجل لهم كل طيب في مناكحهم، في مطاعمهم، في مشاربهم، في مكاسبهم، جاءهم بالطيبات، وبعث الرسل يحلون لهم الطيبات، ويحرمون عليهم الخبائث، فجاءت رسل الله بكل طيب من الأعمال، وكل طيب من الأقوال، وكل طيب من العقائد، والمكاسب، والمطاعم والمشارب، وكانت هذه هي البشارة التي أودعها الله عز وجل كتب الأولين لتتحدث عن خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، فجعلها من أبرز صفاته، ومن أوضح صفاته في الكتب المتقدمة، كما أخبر عن ذلك في سورة الأعراف، فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ [الأعراف:157] يعني: عظموه. وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157].

    كانت من أبرز صفات هذا النبي الذي أرسله رحمة للعالمين الرحمة، كما قال عنه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

    ومن أبرز مظاهر هذه الرحمة أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، أباح لهم الطيبات ودلهم عليها، ونبههم إليها، وحرم عليهم الخبائث وحذرهم منها، وكان مما حذرهم منه: أنواع الخبائث في شتى مجالات الحياة، في المناكح، في المشارب، في العقائد والأعمال، وفي مقابله دلهم على أصناف الطيبات في مناكحهم ومشاربهم وغير ذلك، أباح لهم الطيب من المنكح، فقال لهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3] (ما طاب) الطيب هو الطاهر من النجس، الطاهر من القذر، الطاهر من الإثم، مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، فحادوا عن هذا المنهج، وانصرفوا عن هذا الطريق، وذهبوا يلتمسون الشهوات فيما حرم الله، فبعث الله عز وجل عليهم الإيدز، ولا يزال يحصد ملايين البشر، ولا تزال البشرية إلى اليوم لم تهتد لعلاج يقلع عنها هذا الداء، أباح لهم المكاسب الطيبة، وأباح لهم البيع والشراء، وأمرهم بالضرب في الأرض ليبتغوا من فضل الله، وحرم عليهم الربا؛ لأنه آفة الآفات، يضر بالفرد كما يضر بالمجتمع، ويقع فيه الظلم وأنواع الموبقات، لكنهم انصرفوا عن هذا الطريق، وأبوا إلا العناد، فأصابهم الله بهذه الآفة التي لا نزال نعيشها ونحياها، ذهبت بأموالهم، وبددت أرصدتهم، وأحالت غناهم فقراً، وبدلت أمنهم خوفاً وفزعاً، ولا يزالون كلما عادوا أعاد الله عز وجل عليهم، كلما انصرف الناس عن منهج الله وابتعدوا عن طريق الله جاءتهم سنة الله عز وجل بالعقاب العام.

    1.   

    دور حيوان الخنزير في نشر إنفلونزا الخنازير

    ومن هذه الأدواء هذا الداء الذي ينسب إلى الخنازير، وأياً كان سبب النسبة -سواء كان هذا الداء سببه الخنزير أو كان هذا الداء يخيم في الخنزير- فإننا نستطيع أن نقول جازمين: بأن وجود الخنزير له دور كبير في انتشار هذا الداء، وجود الخنزير له أثر كبير في بقاء هذا الداء، ولو أن الناس امتثلوا ما أراده الله عز وجل لهم لكفاهم سبحانه وتعالى هذه الآفة.

    هذا الحيوان الذي تستقذره الطباع السليمة، بل تستقبحه العين عندما تراه، لا تستطيع العين أن تقر على رؤيته، ولا يستلذ لرؤيته طبع سليم، فكيف يستلذ الطبع بعد ذلك أكله، لا عجب أن تأتي شرائع السماء بتحريم هذا النوع من المطعومات، بتحريم هذا النوع من المأكولات؛ لأنه خبيث، لأنه دنيء، فلا يتناسب مع ما يريده الله عز وجل للبشرية، من أجل ذلك حرمه، وذكره باسمه في القرآن، وذكره في مواضع خمسة في كتابه العزيز، وأخبر سبحانه وتعالى عن سبب تحريمه، كما قال في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145] (أو لحم خنزير فإنه رجس).

    قال العلماء: ذكر اللحم ولم يذكر الخنزير جملة؛ لينبه الناس إلى أن لحم الخنزير حرام كيفما حصل، ولو ذبحوه، ولو ذكوه، ولو طبخوه، ولو طهروه بأقسى أنواع المطهرات، فإن اللحم بنفسه رجس، ولا تزال البشرية تكتشف كل يوم أنواعاً من الأدواء والأوباء والأمراض التي يحملها هذا الحيوان.

    في أوائل القرن الماضي اكتشف العلم الحديث دودة موجودة في بطن هذا الحيوان، ويحملها لحمه، وأجزاؤه تنتقل إلى الإنسان، فتفذلك المتفذلكون، وتكلم الحذاق، وقالوا: أدوات الطهي وأساليب الطباخة اليوم قادرة على أن تميت كل أنواع الديدان التي توجد في هذا اللحم، فيكشف الله عز وجل لهم اليوم عن داء آخر يشارك هذا الحيوان في وجوده وفي انتشاره، إنه رجس؛ ولذلك لا عجب أن تأتي الشريعة بقتل هذا الحيوان، والقضاء على حياته، والتخلص منه.

    وفي هذا إشارة إلى أنه ليس من الأموال التي تقتنى؛ لأن المال لا يجوز إتلافه، وإهداره، وعيسى عليه السلام عندما ينزل فيقتل الخنزير فإن هذا يدل على أن الشريعة تطلب قتل هذا الحيوان، لكن العلماء اختلفوا بعد ذلك: هل تطلب قتله وجوباً، أو تطلب قتله استحباباً وإرشاداً وتوجيهاً، وعلى كل حال فمشروع لنا أن نقتل هذا الحيوان، وأن نبيده قبل أن يبيدنا.

    اليوم وصلنا إلى هذه الحقيقة، ثلث البشرية مهدد بالانقراض، ثلث البشرية مهدد بالفناء، مهدد بالمرض بسبب هذا الحيوان، وبسبب وجوده، إننا عندما نتكلم عن هذا إنما نتكلم عن منهج الله الذي أراده لهذه الأمة، وأراده للبشرية لتحيا به، لأنه سبحانه أعلم كما قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    1.   

    أهمية التمسك بالشريعة في دفع الأمراض والأوبئة

    إننا أيها الإخوة! ونحن نعيش هذا الجو من الإعلام، وهذا النوع من الفزع الموجود في وسائل الإعلام؛ حق لنا أن نذكر أنفسنا بهذه الحقائق، وهي:

    ما موقف البشرية من الاهتداء بهدي الله، وقبل ذلك ما موقف المسلمين من إبلاغ الناس دين الله، وتعريفهم بكلمة الله، وإيصال كتاب الله إليهم، البشرية اليوم ظمأى، البشرية اليوم فقيرة، هي أحوج ما تكون إلى دين يهديها في كل مناحي حياتها؛ في اقتصادها، في أخلاقها وآدابها، في عقائدها، في كل منحى من مناحي حياتها، ولا صلاح لها ولا هداية ولا استقامة لأحوالها إلا بالدين الذي أنزله الله، وعلى كواهل المسلمين، وعلى عواتقهم وفي ذممهم تحمل هذه المسئولية، وإبلاغ هذا الدين إلى من سواهم، فإنه لا نجاة لأحد إلا باتباع هذا الدين الحق، هذه أول الحقائق التي ينبغي أن نقف معها مستلهمين منها الدرس والعبرة، أن دين الله عز وجل طيب جاء بكل طيب، وأنه سبحانه وتعالى كما أخبر عن نفسه بأنه طيب -كما قال في الحديث الصحيح: ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً )- منزه سبحانه وتعالى عن كل نقص، منزه سبحانه وتعالى عن كل عيب، وأراد لعباده أن يحيوا حياة طيبة في هذه الدنيا، فشرع لهم أنواع الشرائع التي تجرهم وتقودهم إلى هذه الحياة، شرع لهم عقائد صحيحة في القلوب تثمر أخلاقاً زاكية، تثمر أعمالاً صالحة، فقال سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24] (كلمة طيبة) هي كلمة التوحيد، تثمر في القلب أنواعاً من الأخلاق القلبية، الخوف من الله، الرجاء لما عند الله، التوكل على الله، مراقبة الله، فيثمر ذلك أنواعاً من الأعمال الصالحة الحسنة، كالشجرة الباسقة في الارتفاع ذات الأغصان والفروع المتعددة، وهكذا الأعمال الصالحة التي تنبثق وتخرج عن هذه الديانة الصحيحة، عن هذا الاعتقاد الصحيح.

    شرع لهم وهداهم إلى أحسن الأقوال، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الحج: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24]، هداهم الله إلى الطيب من الأقوال، هداهم إلى الطيب في مناكحهم، في مشاربهم، في ملابسهم، أراد منهم أن يحيوا حياة طيبة، وقال لهم بعد ذلك: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].

    وإذا عاش الإنسان هذه الحياة، إذا عاش الإنسان تحت ظلال هذا المنهج، يعمل بأمره وينتهي بنهيه، ويتأدب بأدبه، فإنه موعود بأن يموت طيباً، يموت بريئاً من الأنجاس، يموت منزهاً من القبائح والذنوب، وتأتيهم الملائكة كما أخبر سبحانه وتعالى في سورة النحل: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32]، أي: طاهرين من كل دنس، طاهرين من كل رذيلة، طاهرين من كل قبح، يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ [النحل:32]، ويوم يبعث الناس للحساب والجزاء تتلقاهم الملائكة بالوعد والبشرى، يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، هذا هو الطيب الذي أراده الله لهذا الإنسان، أن يحيا طيباً نظيفاً طاهراً، ويموت كذلك ويبعث كذلك، فإذا حاد عن هذا الطريق وانصرف عن هذا الصراط فعلى نفسها تجني براقش، ولا يلومن إلا نفسه.

    أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الواجب على المسلمين حيال الأمراض والأوبئة

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.

    الإيمان بقضاء الله وقدره

    إخوتي في الله! هذا الدين يبعث في النفوس الطمأنينة وقت الجزع والخوف، إذا اشتدت بالناس المخاوف، فإن من يعتقد ما جاء في كتاب الله وما جاء في سنة رسول الله فإنه يعيش في مأمن من كل خوف، إذا رددت وسائل الإعلام الحديث عن تلك التقارير المخيفة المفزعة، وبأن ثلث العالم مهدد بهذا الوباء، وبأن الهلاك العام قادم، فإن المسلم عليه أن يعتقد جازماً بأنه لن تموت نفس قبل أن تستوفي رزقها وأجلها، وأن الله عز وجل قد قدر المقادير قبل أن تخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كتب سبحانه وتعالى آجال العباد، فلن يموت أحد قبل أجله بلحظة، لن يموت أحد إلا إذا بلغ الأجل الذي قدره الله عليه، لكن تختلف الأسباب، وتتنوع الوسائل، وقد يريد الله عز وجل ثناءً لطائفة من البشر في وقت ما، فيبعث من السبب ما يحقق ذلك القدر، لكن المسلم عليه أن يكون راكناً، عليه أن يكون معتقداً جازماً بأنه لن يموت إلا في اللحظة التي قدرها الله عز وجل له، وقد ذكرت لكم على هذا المنبر غير مرة تلك القصة الطريفة قصة الوباء العام الذي نزل في القرية، فأراد أحد الشباب أن ينجو بنفسه، وأراد أن يفر، قال له أبوه: ابق معنا، فإن بقينا بقينا جميعاً، وإن متنا متنا جميعاً، قال: لا. أريد أن أنجو بنفسي، خرج من القرية فاراً هارباً، وأثناء السفر في الطريق نام تحت شجرة، فجاءت حية فلدغته فمات، رجع النبأ إلى الوالد في القرية، وهم أحياء لم يصبهم الداء، فقال:

    فر يبغي نجوة من هلاك فهلك

    والمنايا راصدات للفتى حيث سلك

    كل شيء قاتل حين تلقى أجلك

    يوم يأتيك قدر الله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولن تنفع المحاذير؛ ولذلك كان علي رضي الله عنه ينشد وسط المعركة:

    أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أو يوم قدر

    يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر

    الإنسان يعيش يوماً وهو فيه أحد أمرين: إما أن يكون قد قدر الله عز وجل فيه الموت، فلن تستطيع الأرض كلها أن تدفع عنك هذا القدر، وإما ألا يكون قد قدر الله عز وجل عليك الموت فلن تستطيع البشرية كلها بل المخلوقات كلها على أن تفنيك أو تبيدك في هذا اليوم.

    هذه عقيدة إذا ما وجدت في القلوب واستقرت، فإن المسلم وحده بين أبناء الأرض جميعاً يعيش كالصخرة الصماء، كالجبل الأشم لا تحركه الأحداث، ولا تقلقه المخاوف؛ لأنه يعتقد جازماً أن كل أمرٍ بقضاء وقدر.

    الأخذ بالأسباب في اتقاء الوباء

    لكن مما قدره الله عز وجل اتقاء أسباب الهلاك، مما قدره الله عز وجل اجتناب أسباب الردى، فإنه سبحانه وتعالى شرع لنا أن نأخذ بأسباب السلامة، وأن نجتنب أسباب الهلاك، والأخذ بهذه الأسباب هو من جملة قدر الله تعالى، فنحن مأمورون أن نأخذ بأسباب السلامة، وهو ما يعرف اليوم بالحجر الصحي.

    إذا تكلم الناس اليوم عن إغلاق المنافذ، وأن الدولة السليمة إذا وصل الخطر إلى المرتبة السادسة فإن كل دولة تثبت سلامتها يجب عليها أن تسد كل منافذها البرية والبحرية والجوية، هذا هو المبدأ الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الناس ما ينبغي أن يفعلوه ( إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه ).

    أثبت الطب الحديث اليوم أن الإنسان في بلد الوباء قد يكون ظاهر الصحة، قد يكون ظاهر السلامة، لكنه يحمل الوباء في مكامن جسده، لا تكشف عنه إلا الأدوات الطبية الحديثة، هذا ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام، لا ينبغي للإنسان أن يخرج من بلد الوباء، لأنه ربما يكون حاملاً لهذا الداء، فيكون سبباً لنقله إلى غيره، وربما يكون قد فسد قلبه بالاعتقادات الفاسدة، فلا يخرج فراراً منه؛ لأن الله عز وجل سيصيبه بما قدر له في هذه الأرض أو في غيرها.

    حدث الطاعون في خلافة عمر في الشام، كان عمر رضي الله تعالى عنه قد توجه إلى الشام، فقبل أن يصل إليها جاءه الخبر وأخبروه بأن الشام وقع فيها الطاعون، فاحتار ماذا يفعل؟ ولم يكن قد بلغه هذا الحديث، فأمر أصحابه بأن يجمعوا له كبراء الصحابة، ليستشيرهم في الأمر، فبدأ أولاً فاستدعى كبراء المهاجرين، فلما اجتمعوا عنده سألهم، فاختلفوا عليه، فبعضهم قال: نرى أنك قدمت لأمرٍ لا ينبغي أن ترجع دونه، وبعضهم قال: نرى بأن معك بقية الصالحين من المسلمين فلا تقدم بهم على هذا الداء، فلما تفرقوا أمرهم بأن ينفضوا فانفضوا، ودعا بعد ذلك بكبراء الأنصار، فاختلفوا كما اختلف المهاجرون، ثم دعا بعد ذلك بمسلمة الفتح، يعني: بمن أسلموا بعد الفتح من عقلاء الناس ووجهائهم، فدعاهم فاجتمعوا على رأي واحد، وهو أنك لا تقدم بالصحابة على هذا الداء، فأمر الناس في الصباح أن يركبوا وأن يرجعوا إلى المدينة، في هذه اللحظة قام أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! أفراراً من قدر الله؟ لماذا ترجع؟ هل تفر من قدر الله؟ وكان عمر رضي الله عنه لا يرضى أبداً بأن يخالف أبا عبيدة ؛ لمنزلة أبي عبيدة عنده، لما قال أبو عبيدة هذه المقالة قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ، يعني: لو كانت هذه المقولة قالها غيرك لقبلت، لكن منك لا ينبغي أن تقولها أنت.

    ثم قال له: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان، يعني: جانبان، عدوة خصبة، وعدوة جدبة، أليس إذا رعيتها في الخصبة رعيتها بقدر الله، وإذا رعيتها في الجدبة رعيتها بقدر الله؟! يعني: أنت موكل بالأخذ بالأسباب، فقد تأخذ بأسباب السلامة، وقد تأخذ بأسباب الهلاك، ولكن عليك بعد ذلك كله أن تعتقد جازماً بأنه لن يكون إلا ما قدره الله.

    من الحقائق المهمة في شريعتنا: أن النبي عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث نفى أن تكون العدوى هي المؤثرة بنفسها، وهذا ما تجهله البشرية اليوم، فالعدوى لا تمرض بنفسها؛ ولذلك قال لهم عليه الصلاة والسلام في أكثر من موقف: ( لا عدوى )، يعني: لا تؤثر العدوى بنفسها.

    كان في الموقف أحد الأعراب صاحب إبل، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( لا عدوى، قال: يا رسول الله! ما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الضباء أي-: صحيحة تجري كأنها الضباء- فيأتي البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها )، فتصاب بعد ذلك كلها بالجرب، هذه شبهة وفساد في عقله، لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا عدوى) يعني: العدوى لا تؤثر بنفسها، يقول: نرى في الواقع أشياء على خلاف هذا، نرى البعير الأجرب يجرب الإبل كلها، فأجابه عليه الصلاة والسلام بجواب حاسم يقطع الشبهة ويزيل العلة، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( فمن أعدى الأول؟ ) من الذي أصاب الأول بالجرب؟ الذي أصاب الأول هو الذي أصاب الثاني، الذي أمرض الأول هو الذي يمرض الثاني، لا تفعل العدوى بنفسها، وكم رأينا من صحيح عاشر أمراضاً وخرج منها سليماً؛ لكن هذا لا يعني للإنسان أن يتقحم موارد الهلاك وأن يتقحم أسباب الردى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يورد ممرض على مصح )، يتكلم مع أصحاب الإبل الصحيحة السليمة لا يكون لهم أبداً أن يوردوا الإبل الصحيحة وقت شرب الماء على الإبل المريضة، (لا يورد ممرض على مصح) لا لأن العدوى تؤثر بنفسها، ولكن ليسلم الإنسان من الأخذ بالسبب، وليسلم من تعنيف نفسه، وليسلم من تأنيب ضميره بعد ذلك إذا أصابه المكروه، لأنه سيرجع ويقول: لو كنت فعلت كذا لما كان كذا وكذا، فحتى يقطع عنه الشرع هذا الألم النفسي قال: ( لا يورد ممرض على مصح ).

    وجاء في وفد ثقيف رجل مجذوم حين جاءوا يبايعون النبي عليه الصلاة والسلام على الإسلام، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام بأن فيهم رجلاً مجذوماً -يعني: مصاب بالجذام- أرسل إليه من يقول: إنا قد بايعناك فارجع، قد بايعناك فلا داعي للمصافحة، ولا داعي للمخالطة، وقال لأصحابه: ( فر من المجذوم فرارك من الأسد ).

    ففي أوقات الأوبئة على المسلمين كما على غيرهم أن يتخذوا أسباب الوقاية، وهذا من قدر الله، وهذا أمر واجب ملقىً على عواتق من ولاهم الله عز وجل أمر الأمة، فيجب عليهم أن يبذلوا ما في وسعهم لحماية الناس من الوباء والهلاك.

    نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يصرف عنا كل مكروه، اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

    رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

    اللهم لا تدع لنا في هذا المقام ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا منفعة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين.

    اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

    وصل اللهم وسلم على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757285148