إسلام ويب

تفسير سورة الجمعة (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوراة كتاب عظيم أنزله الله على نبيه ورسوله موسى عليه السلام، فيه الشرائع والأحكام والآداب، وفيه ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته ونعوته، وقد أنزله الله على نبيه لهداية بني إسرائيل، فلم ينتفعوا به ولم يهتدوا، وقد أمر الله نبيه محمداً هنا أن يدللوا على صدق معتقدهم بتمني الموت، ويخبره سبحانه في ذات الوقت أنهم لن يتمنوه أبداً؛ لأنهم لم يقدموا لأنفسهم خيراً في حياتهم، لكنهم مع ذلك ميتون لا محالة، وبين يدي الله موقوفون، وبأعمالهم مجزيون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:5-8].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، الذي ضرب هذا المثل وبينه هو الله. فهو يخبر تعالى أن مثل الذين حملهم التوراة رب العالمين ليدرسوها ويعملوا بما فيها ثم أعرضوا عنها وتجنبوها، وما اجتمعوا عليها ولا طبقوا ما فيها وهي عندهم، أن هؤلاء مثلهم كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]. فالحمار إذا وُضع على ظهره عدد من الأسفار والكتب فإنه لا يدري ماذا على ظهره، ولا يستفيد من ذلك شيئاً.

    وهذا كما قاله الله لأهل الكتاب، فنحن نقوله لأهل القرآن، فالذين يحفظون القرآن ولا يعملون به مثلهم كمثل الحمر التي تحمل أسفاراً. فالذين يقرءون القرآن ويشركون بالله ويفجرون ويفسقون ولا يعملون بما فيه والله مثلهم كمثل الحمار، فالحمار يحمل أسفاراً وكتباً عظيمة، ولكنه لا يعرف ما على ظهره. وهذه موعظة كاملة.

    وقوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5]، الذي حملهم هو الله. وقد أنزل التوراة على عبده ورسوله موسى، وطلب من بني إسرائيل الإيمان والعمل بها، فآمن من آمن، وعمل من عمل، ثم انتكسوا وارتدوا، وأضاعوا التوراة، ولم يعملوا بشيء منها. ومن ذلك: أنه ورد في التوراة صفات النبي محمد، فكذبوا بها وأعرضوا عنها. ففي التوراة الإيمان بالنبي الخاتم محمد، فلم يؤمنوا به، وإنما أعرضوا عنه.

    وقوله: ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا [الجمعة:5]، أي: يعملوا بما فيها، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].

    ثم قال تعالى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5]، أي: بئس هذا المثل المضروب للذين كذبوا بآيات الله. وقد كذب اليهود بالقرآن، وكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا عنده في المدينة، وحاربوه وسقوه السم وحاولوا قتله، وما إلى ذلك. فلعنة الله عليهم.

    وهذه الآية عجب، فهو يقول فيها: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5]. والتوراة كتاب عظيم فيه ألف سورة، فهي كتاب عظيم أنزله الله على عبده ورسوله موسى عليه السلام، وفيه الشرائع والأحكام والآداب كما في القرآن، وفيه نعوت النبي الخاتم وصفاته، وإذا بهم يكذبون بكل ذلك، والعياذ بالله. فمثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً، أي: كتباً. بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5] من العرب والعجم، واليهود والنصارى، ومن كل البشر، فـ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

    وأخيراً: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]. فمن ظلم بأن أشرك وكفر وفسق وفجر واعتدى وظلم فالله عز وجل لا يهديه. وقد علمنا هذا غير ما مرة، وهو: أن من توغل في الفساد والشر عاماً بعد عام فإنه يجيء وقت ما يهتدي، وما يقبل الهداية أبداً، بل يرفضها، وقد رفضها اليهود وهم في المدينة يسمعون قراءة القرآن، ويشاهدون الرسول يصلي والمؤمنون وراءه، وما آمنوا.

    أنواع الظلم

    قد بينت للسامعين والسامعات: أن الظلم ثلاثة أنواع، وهي: ظلمك لنفسك أولاً بارتكابك الجرائم والموبقات، والذنوب والآثام، فإنها تخبث نفسك وتلوثها، وتصبح منتنة عفنة، ولا يرضى الله عنها أبداً، ولا يرضى أن تجاوره في السماء أبداً.

    وظلمك لربك بعبادة غيره، وذلك بأن تعطي العبادة التي تعبد العباد بها لغيره، وليس هناك ظلم أفحش من هذا الظلم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21]. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. فإياك أن تأخذ عبادة من عبادات الله وتعطيها لمخلوق من مخلوقات الله! حتى ولو كان الحلف بفلان أو فلان، فهذا ظلم عظيم، وقد قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    والظلم لغيرك لا يجوز، سواء لعباد الله الكافرين أو المؤمنين، فلا تعتدي على أموالهم، ولا تعتدي على أبدانهم، ولا تعتدي على أعراضهم، ولا تسب ولا تشتم، ولا تقبح ولا تعير أبداً، وإلا فأنت ظالم. ومن ظلمهم فقد ظلم نفسه، وعرضها للمسخ والسخط، والله لا يهدي القوم الظالمين في كل زمان ومكان. فمن توغل في الظلم وواصل الظلم ولم ينقطع منه ولم يتب ولم يرجع فإنه يبلغ مستوى ما يقبل فيه التوبة أبداً.

    والآن نعرف أن وزير الأوقاف المصري أو الشئون الدينية أعلن عن حرمة الدخان، وقال للمرأة: إذا زوجكِ أبى أن يترك الدخان فطالبي بطلاقك. وهذه فاتحة عظيمة. هذا الحاكم المصري قد أعلن كما بُلغت الآن: أن الدخان حرام، لا يحل بيعه ولا شراؤه، ولا غرسه ولا الانتفاع به أبداً. فالحمد لله.

    والشاهد عندنا: أن المتوغلين في الدخان ما يستطيعون أن يصبروا عليه، وسوف يشتهونه في الخفاء ويستعملونه، ولا يهديهم الله؛ لأنهم توغلوا في هذا الفساد. والله تعالى نسأل أن يعافينا، ويعافي كل المؤمنين والمؤمنات.

    هكذا يقول تعالى هنا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [الجمعة:5]. وهم اليهود. وقد حمَّلهم إياها ربهم بواسطة رسله وأنبيائه. فقد حملهم التوراة ليعملوا بها، ويحلوا ما أحل الله، ويحرموا ما حرم الله، ويعبدوا الله بما شرع من أنواع العبادات. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا [الجمعة:5]، بل أضاعوها وأهملوها، فمثلهم كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، أي: مثل الحمار الذي على ظهره كتب، فإنه لا ينتفع بها.

    وقد قلت لكم هنا كما قال أهل العلم، وهو: ليتنبه أهل القرآن من أن يدخلوا في هذا، فالذين يحفظون القرآن الكريم ويفجرون ويفسدون ويعبثون يدخلون في هذا المثل، فهم والله كمثل الحمار عليه أسفار، لم ينتفع بها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)

    قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا [الجمعة:6]! فنادهم يا رسول الله!: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا [الجمعة:6]! أي: يا من دخلوا في اليهودية وأصبحت ديناً لهم معروفاً عندهم، ويا أيها اليهود!: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ [الجمعة:6]. بل إنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه. فإذا زعمتم أن لكم هذه وقلتم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وزعمتم أنكم أولياء الله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6]، أي: تمنوا على الله أن يميتكم. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده لو تمنوا على الله لما بقي يهودي على الأرض ) أبداً. فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6]. و( لو تمنوا الموت -وطلبوه- لما بقي على وجه الأرض يهودي )، بل يموتون كلهم، ولكنهم ما يتمنونه. فهم عارفون عالمون أنهم سيدخلون جهنم ولا يخرجون منها، فلذلك لن يتمنوا الموت، فهم موقنون بأن عذاباً لا نظير له سيصيبهم في الدار الآخرة، فبمجرد ما يموت يصاب بهذا العذاب، فلهذا ما يستطيعون أن يتمنوا الموت.

    نهي المريض عن تمنى الموت

    المريض نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتمنى الموت، فمن كان مريضاً فلا يتمنى الموت؛ لأن المرض فيه أجر ومثوبة وحسنات، فيصبر خيراً له؛ ليثاب على مرضه. وأما حديث: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه )، فكل مؤمن ومؤمنة يحب أن يلقى الله عز وجل. وهذا في حالة الوفاة. وأما هذا ففي حال المرض. وإذا كان أحدنا على سرير الموت فالمؤمن الصادق يحب لقاء الله، ويفرح بالموت، والفاسق الفاجر الهالك لا يحب ذلك، بل ويكرهه.

    ففي حال الموت ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ). وأما المريض فقد نهي عن تمني الموت، فاصبر على مرضك حتى يتوفاك الله؛ فإن فيه من الحسنات ما لا يقادر قدره.

    وهؤلاء اليهود يقول تعالى لرسوله: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا [الجمعة:6]! أي: تهودوا، إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم...)

    قال تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة:7]. وإلى الآن إذا أتيت يهودياً وقلت له: تمن أن تموت فلن يتمناه، كما قال تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا [الجمعة:7]، أي: بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الجمعة:7]. وهي الجرائم التي فعلوها والتي لا تطاق، فقد كانوا يقتلون النبي من الأنبياء وفي المساء الأسواق عامرة، يبيعون ويشترون. وحسبنا من ذلك ما فعلوا بنبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فقد حاولوا قتله غير ما مرة، وكذبوا به وافتروا وقالوا ما قالوا، وسقوه السم، فهم شر الخلق.

    وهنا يقول تعالى عنهم: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا [الجمعة:7]، أي: بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [الجمعة:7] من الظلم والشر والفساد. فهذا هو السبب المانع لهم من أن يتمنوا الموت، فهم والله ما يتمنونه أبداً؛ بسبب ما قدمت أيديهم من سفك الدماء وإراقتها، والكفر والشرك، والفسق والفجور، والكذب على الله وعلى رسله، وعلى أنبيائه وعلى عباده، والعياذ بالله. فأصحاب هذه الجرائم ما يمتنون الموت أبداً، كما قال تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة:7]. بسبب ما قدمت أيديهم.

    ثم قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:7]. فالله عليم، ولهذا عرف أنهم ما يتمنوا الموت والله، وقد عرف ما هم عليه من العقائد الفاسدة والأخلاق الهابطة، والشرور والمفاسد. ولهذا علم تعالى أنهم لا يتمنون الموت أبداً، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفس محمد بيده! لو تمنوا على الله الموت لما بقي على الأرض يهودي )، أي: لماتوا عن آخرهم، ولكنهم ما تمنوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم...)

    قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]. فقل يا رسولنا! لهؤلاء اليهود: إن الموت الذي تهربون منه وتجرون فارين هاربين منه إنه ملاقيكم وجهاً لوجه. فلو هربت هكذا يجيء من أمامك، فهو ملاقيك وجهاً لوجه، سواء في السماء أو في الأرض، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]. فهو يلاقي صاحبه وجهاً لوجه. وكما قلت لكم: إذا كنت ذاهباً شمالاً فيأتيك من أمامك، وإذا كنت ذاهباً جنوباً فيأتيك أمامك، وكذلك إذا كنت ذاهباً غرباً أو شرقاً فإنه ملاقيكم. وهذا هو الواقع، فلا يبقى أحد لا يموت، ولم يبق من اليهود من لم يمت، وما بقي منهم أحد. فالموت ملاقينا كلنا، ولا يهرب منه أحد أبداً، ولا ينجو.

    وهو تعالى يقوله لهم هنا: قل لهم يا رسولنا! إن الموت الذي تفرون منه ملاقيكم، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الجمعة:8]. فبعد الموت تساقون وتقادون إلى العليم الحكيم، وإلى الرب العظيم الذي يعلم ما غاب وما شهد وحضر، فالغائب والحاضر عنده على حد سواء، فهو عالم الغيب والشهادة، فما غاب عنا أو شاهدناه الله يعلمه كله، ثم نرد إليه من أجل الحكم السريع، فيحكم على الظالمين المجرمين الكافرين -والعياذ بالله- بالجحيم والخلود فيه.

    فقال تعالى هنا: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8] والله. ثم بعد الملاقاة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الجمعة:8]. فنرجع إلى الله؛ لأن الله هو خالقنا، وهو الذي أوجدنا في صلب آدم، واستشهدنا ونحن في صلب آدم وظهره أن نعبده، فقلنا: نعبدك يا رب! وبعد ذلك أعرضوا وتكبروا، وعبدوا الأصنام والأحجار والشهوات. ولذلك قال تعالى: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، أي: الذي كنتم تعملونه في حياتكم الدنيا، فهي دار العمل والابتلاء، فينبئكم به حادثة حادثة، وذلك بواسطة ملائكته في عرصات القيامة. والله تعالى نسأل أن يهدينا ويتوب علينا.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

    [ من هداية الآيات ] التي تدارسناها والحمد لله:

    [ أولاً: ذم من يحفظ كتاب الله ولم يعمل بما فيه ] ففيها ذم الذي يقرأ القرآن ويحفظه ولا يعمل به. فالذي يحفظ القرآن من الفاتحة إلى الناس ولا يعمل بما فيه يكون كاليهود، والعياذ بالله، وليس معنى هذا: ألا تحفظ القرآن، وهل هناك مؤمن يقول: لا نحفظ القرآن حتى لا نعمل به. فلا يقل هذا أحد، بل احفظوا كتاب الله، وأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، ولكن عليهم أن يتوبوا إن كانوا فاسقين فاجرين، وعليهم أن يثبتوا إن كانوا مستقيمين حتى يتوفاهم الله. فلا يكن أحد حاملاً للقرآن ويزني، أو حاملاً للقرآن ويفجر، أو حاملاً للقرآن ويلوط، أو حاملاً للقرآن ويكذب، أو حاملاً للقرآن ويخدع. ومن كان هكذا فإنه يكون كاليهود، والعياذ بالله.

    [ ثانياً: التنديد بالظلم والظالمين ] فإن الله حرم الظلم، فلا نظلم. وقد قلت لكم: الظلم ثلاثة أنواع: ظالم لنفسه، وظالم لربه، وظالم لعباد الله عز وجل، فلا يحل الظلم أبداً. وظلمك لنفسك هو ارتكابك للآثام والذنوب، فهذا ظلم لها، فإذا كانت النفس مشرقة فإنها تصبح منتنة عفنة، وما تدخل الجنة.

    وظلمك لعباد الله بسبهم وشتمهم، وأكل أموالهم وانتهاك أعراضهم.

    وظلمك لربك خالقك بأن تأخذ عبادته وتعطيها لمخلوقين. فما تعبدنا الله به من الدعاء والصلاة والركوع والسجود والعبادات كلها يجب ألا نصرف شيئاً منها لغير الله، ومن صرف شيئاً لغير الله فقد وقع في الظلم، فهو ظالم، والله يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

    [ ثالثاً: بيان كذب اليهود ] عليهم لعائن الله [ وتدجيلهم ] وكذبهم [ في أنهم أولياء الله ] وأحباؤه [ وأن الجنة خالصة لهم ] وقد رد الله عليهم هذا، فهم قد كذبوا في هذا، بل والله إنهم لأعداء الله، وليسوا بأولياء الله أبداً. فأبطل الله دعواهم وحطمها. وهم يدجلون ويكذبون بقولهم: نحن أبناء الله، وأنه لا يعذبنا أبداً، فالله لا يعذب أولياءه. وهكذا يقولون لبعضهم البعض؛ حتى يستمروا على الفسق والفجور، والكفر والشرك والمعاصي.

    [ قال بعض أهل العلم: أبطل الله ادعاء اليهود في ثلاث آيات من هذه السورة، افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [الجمعة:6]. وبأنهم أهل كتاب؛ فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت، فشرع الله للمسلمين الجمعة، فلم يبق لهم ما يفتخرون به على المسلمين ] فاليهود تبجحوا بالسبت، فأعطانا الله الجمعة قبل السبت، وتبجحوا بأنهم أهل كتاب، فلعنهم الله وجعلهم كالحمار الذي يحمل الكتاب، وتبجحوا بأنهم أولياء الله، وإذا بهم أعداؤه وأهل جهنم.

    [ رابعاً ] وهي آخر الهدايات: [ بيان أن ذوي الجرائم أكثر الناس خوفاً من الموت وفراراً منه ] وهذه حقيقة، وهي: أن أهل الذنوب والآثام وأهل الجرائم والموبقات أكثر الناس خوفاً من الموت، وأما أولياء الله وصالحوا عباده من المؤمنين والمؤمنات فوالله ما يخافون الموت، بل يفرحون به؛ لأنهم يريدون أن يلتحقوا بالملكوت الأعلى. وأما الفجار أهل الذنوب والآثام فهؤلاء أشد الناس خوفاً من الموت. والدليل: أن اليهود يخافون من الموت أبداً؛ لعلمهم أنهم كافرون مشركون، فاسقون فاجرون، ظلموا الله، وظلموا العباد، وظلموا أنفسهم.

    فهذه اللطيفة ما ننساها، وهي: أن أكثر الناس ظلماً وفسقاً وفجوراً أشدهم خوفاً من الموت، وصاحب هذا ما يريد أن يموت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755826418