الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس في المبحث الثالث من مباحث النبوة الذي يدور حول الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: هذه الأمور والعلامات والدلالات كثيرةٌ غزيرة، يمكن أن نجمعها في أربع علامات:
العلامة الأولى: النظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خلقاً وخلقاً.
والعلامة الثانية: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام.
والعلامة الثالثة: النظر إلى المعجزات التي أيد الله بها أنبياءه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
والعلامة الرابعة وهي آخر العلامات: النظر إلى أصحابه الكرام، فالتلاميذ هم صورة شيوخهم، ونبينا عليه الصلاة والسلام إذا أردت أن تعرف حاله فانظر إلى أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
هذه العلامات الأربع من تأملها وبحث فيها يتبين له صدق النبي عليه الصلاة والسلام، كما يتبين أيضاً كذب المتنبئ الدعي الذي يدعي أنه رسول الله، وهذه العلامات تفضحه وتظهر حقيقة أمره، وأنه ليس كما يقول.
إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور، والعلامة الأولى من هذه العلامات: وهي النظر إلى نفس الرسول على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: النظر إلى نفس الرسول عليه الصلاة والسلام يدور حول أمرين: النظر إلى نفسه خلْقاً، والنظر إلى نفسه خلُقاً، فقد أعطى الله أنبياءه ورسله الكمال في الأمرين: في الخلق وفي الخلق، كنا نتدارس خَلق النبي عليه الصلاة والسلام، وما فيه من علاماتٍ ودلالات تدل على أنه رسول رب الأرض والسموات على نبينا صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! لقد حبا الله نبينا عليه الصلاة والسلام الكمال في خلقه، فأعطاه البهاء والجمال عليه صلوات الله وسلامه، فكان جميلاً عليه صلوات الله وسلامه بهياً، وكان جليلاً مهيباً عليه صلوات الله وسلامه كما تقدم معنا هذا، وآخر شيءٍ تدارسناه في الموعظة السابقة: أن البهاء الذي في نبينا عليه الصلاة والسلام والجلال كان يمنع الصحابة الكرام من إدامة النظر إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا رآه الإنسان في أول وهلةٍ يهابه، ثم إذا عاشره أحبه عليه صلوات الله وسلامه.
وختمت الموعظة السابقة بحديثين اثنين: الحديث الأول في مستدرك الحاكم وسنن ابن ماجه من رواية أبي مسعود ، والرواية الثانية للحديث هذا في المستدرك أيضاً ومعجم الطبراني الأوسط عن جرير ، لما جيء برجلٍ إلى النبي عليه الصلاة والسلام فارتعدت فرائصه عندما وقع نظره على النبي عليه صلوات الله وسلامه، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (هون عليك، إني لست بملك، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)، وقلت: ليست هذه الحالة حالة فردية في هذا الصحابي الذي ما كان يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، ولا اجتمع به، بل هذه حالة سائر الصحابة الكرام معه، وختمت الموعظة السابقة بالحديث الذي في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وقلت: إنه كان أدهى الخلق في ذلك الوقت، وعنده من الشجاعة والجرأة والهيبة ما عنده، ومع ذلك يخبر عن نفسه أنه ما استطاع أن يملأ عينيه من نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
وهذا الوصف الذي كان في نبينا عليه الصلاة والسلام وهذه الهيبة كانت من دون خدمٍ ولا حشم ولا حرسٍ ولا شرطةٍ تحيط به عليه صلوات الله وسلامه، إنما فيه هذه الهيبة العظيمة مع جمال عظيم بحيث يهابه الإنسان ويوقره، لكن هذا التوقير مشوبٌ -كما تقدم معنا- بحبٍ كثيرٍ، لا يعدله حب أحدٍ من الخلق، فقد كان محبوباً، وهو مع ذلك مرهوب عليه صلوات الله وسلامه، وهبه الله الكمال، فهو موهوب، وهو محبوب، وهو مرهوب عليه صلوات الله وسلامه.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يسألوني خطةً فيها رشدٌ إلا أجبتهم إليها)، فوقف مكانه، وبدأت الوفود تأتي إليه من مكة من أجل مفاوضته، وهل يدخل هذا العام أو يعود؟ وما هي الشروط بينهم وبين المشركين؟ جاء عروة بن مسعود الثقفي وكان مشركاً ثم أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وكان قد جاء قبله أناسٌ، فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنت بين أمرين اثنين، يعني إذا كنت تصر على الدخول إلى مكة من أجل العمرة، أنت بين أمرين: إما أن تستأصل أمر قومك، أي: أن تبيدهم، وأن تفنيهم، وهل سمعت أحداً اجتاح أهله قبلك؟ يعني هذه منقصة عليك ومذمة إذا استأصلت أمر قومك، وقتلت أهلك في مكة، فهم عشيرتك وأصحابك وأسرتك، وهل سمعت أحداً قبلك اجتاح أهله وقتلهم؟ هذا الأمر الأول، والم
أمر الثاني: إن كانت الأخرى، وما انتصرت على أهل مكة، إنما انتصروا عليك وغلبت، إن كانت الأخرى فلا أرى معك وجوهاً، أي: سادةً من الأشراف الذين يدافعون عنك أهل النخوة والمروءة، لا أرى معك وجوهاً، لا أرى معك إلا أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً من الناس، خليقاً أن يفروا، أي: يجدر بهم إذا انتصر المشركون أهل مكة عشيرتك عليك أن يفر أصحابك، وأن يسلموك إلى قومك.
وهذه الكلمة التي تفوه بها صديق هذه الأمة ونطق بها رضي الله عنه وأرضاه هي كلمة حقٍ وصدق، قيلت في المكان الذي ينبغي أن تقال فيه، وحذار أن يقول واحدٌ: إن هذا من الفحش، فالصحابة أعف خلق الله ألسنةً وأطهرهم قلوباً، لكن الذي يتهجم عليهم بهذه العبارات ويقول: إن حول النبي عليه الصلاة والسلام أشواباً من الناس، أي: أخلاطاً ليس لهم أصلٌ -كما يقال- ولا فصل، ولا مروءة ولا شهامة، إذا كانت الدائرة على المسلمين فروا وتركوا نبيهم الأمين عليه الصلاة والسلام، فهذا ينبغي أن يردع بكلمةٍ توقفه عند حده، وهي: امصص بضر اللات، أنحن ننكشف عنه؟ أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! هذه كلمة حق، فإذا تطاول الإنسان ينبغي أن توقفه عند حده بعبارةٍ خشنة.
وقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه البغوي في شرح السنة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وهو حديثٌ صحيحٌ، عن أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان في مجلسٍ، فتكلم بعض الحاضرين بنعرة الجاهلية، وبدأ يباهي بنسبه وعشيرته وقبيلته، وأبي جالس، فلما سمعه أبي يتكلم بهذا الكلام قال له: أعضض أير أبيك، فقال له الحاضرون: يا أبا المنذر ! ما كنت فحاشاً. أنت صحابي سيد القراء تقول هذه الكلمة في المجلس! فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، والهن: هو العورة، هو العضو الذكر، (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، لا داعي للكناية، لا تقل له: أعضض كذا وكذا، بل صرح كما فعل سيد القراء أبي بن كعب .
والذي يدعو إلى حمية الجاهلية ينبغي أن يردع عن هذه الخصلة الردية بهذا اللفظ الذي يستأصل هذا الداء من قلبه لئلا يعود إليه مرةً أخرى، لقد أكرمنا الله بالإسلام، وبنبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضلنا عند الله أتقانا، وهذا غيبٌ لا يعلمه إلا الله، فعلام يفخر بعضنا على بعض؟ إذاً الذي يثير هذه الحمية الجاهلية ينبغي أن يردع بهذه اللفظة الخشنة القاسية، وآخر الدواء الكي، كما أن الإنسان يكتوي أحياناً من باب علاج نفسه، والكي شديدٌ أليم، لكن ليداوي نفسه بذلك، وهنا كذلك: (فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
والأثر رواه ابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه وأمصوه)، قل له: أعضض وامصص، عندما يتكلم بنعرة الجاهلية ويثير الحمية الجاهلية، وهنا أبو بكر صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد الأنبياء والرسل عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عندما قال عروة بن مسعود الثقفي : يا محمد عليه الصلاة والسلام! لا أرى حولك وجوهاً، إنما أرى أشواباً من الناس خليقين أن يفروا، قال أبو بكر : امصص بضر اللات، أنحن نفر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أنحن ننكشف عنه؟!
والصفة الرابعة: وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم، وهم عرب كانوا في الجاهلية في منتهى البذاءة والغلظة والجفاف، لكن إذا تكلموا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام أصوات خافتة لا تسمع إلا بانتباه وهدوء.
والصفة الخامسة وهي محل الشاهد: وما يحدون النظر إليه تعظيماً له، ما رأيت صحابياً ينظر إليه ويديم ويتابع النظر، هذا لا يوجد، هذا هو صاحب الهيبة، رسول الله عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! هذا هو العام السادس للهجرة وسبقه ثلاث عشرة سنة في مكة، تسع عشرة سنة يصاحبونه فيها أبو بكر وغيره من الصحابة، ومع ذلك لا يستطيع أحدٌ أن يحد النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف عروة لنبينا عليه الصلاة والسلام مع صحابته.
زاد ابن إسحاق في السيرة: قال: ولا تسقط شعرة من شعر النبي عليه الصلاة والسلام، عندما يتوضأ، عندما يسرح لحيته وشعره عليه صلوات الله وسلامه، إلا تسابقوا إليها أيهم يأخذها، هذه هي حالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد عروة إلى قومه في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي هذا هو أحد الرجلين اللذين كان المشركون يريدون أن تنزل الرسالة عليهما، قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، فهو من الوجهاء الكبار، ورئيس أهل الطائف وزعيمهم، عروة بن مسعود الثقفي .
عاد وقال لهم: لقد أتيت النجاشي في ملكه، وكسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، فما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! كسرى وقيصر والنجاشي هؤلاء أعظم ملوك الأرض في زمنه، وكل واحدٍ عنده من السطوة والرهبة ما عنده، ويعظم من أجل دنيا، ومع ذلك تعظيم الجنود لهؤلاء القادة ليس كتعظيم الصحابة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، لا من أجل عرضٍ دنيوي، إنما من أجل التقرب إلى الله القوي سبحانه وتعالى، ثم قال: وقد دعاكم إلى أمر رشد، فأرى أن تطيعوه، فلما أبوا قال: إني أفارقكم خشية أن ينزل الله علينا عقوبةً، فترك مكة وخرج إلى الطائف.
عروة بن مسعود الثقفي لما شرح الله صدره وآمن في العام الثامن للهجرة في آخره، أراد أن يعود إلى قومه ليكون سبب هدايتهم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (إني أخاف عليك من قومك أن يقتلوك)، فقال: أهم يقتلونني؟ أنا عندهم أغلى من سمعهم وبصرهم، أنا المحبب عندهم، فلما ذهب ودعاهم إلى الإسلام رشقوه بالنبال فقتلوه، رضي الله عنه وأرضاه، ثم أسلم قومه بعد ذلك في العام التاسع للهجرة.
إذاً: ما كان أحدٌ يستطيع أن يحد النظر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا حال الصحابة الكرام، جمال وجلال في نبينا عليه الصلاة والسلام، فجمع الله له الملاحة والبهاء، الجمال والجلال، فصار كاملاً في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه، وهذا الجمال والجلال الذي في خلقه صاحبه جمالٌ وجلالٌ وكمالٌ في الخلق أيضاً كما سيأتينا تفصيل هذا في الأمر الثاني.
ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لما بنيت الكعبة. وكان هذا قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام بخمس سنين في العام الخامس والثلاثين من عمر نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، كان عمره خمساً وثلاثين سنة، عندما جاءت سيولٌ وهدمت الكعبة، ثم بعد ذلك أرادوا أن يعمروها ويبنوها في هذه السنة التي بلغ فيها نبينا عليه الصلاة والسلام من العمر خمساً وثلاثين سنة، قال: لما بنيت الكعبة ذهب العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام ورسول الله عليه الصلاة والسلام يحملان الحجارة، فقال العباس إشفاقاً على ابن أخيه محمدٍ عليه صلوات الله وسلامه: يا محمد! ارفع إزارك فضعه على عاتقك، أي: من أجل ألا تؤثر الحجارة عليك عندما تحملها، ومن أجل أن يكون أخف عليك، فلما فك النبي عليه الصلاة والسلام إزاره ليضعه على عاتقه خرّ على الأرض عليه الصلاة والسلام، وطمحت عيناه إلى السماء، أي: شخصت ونظرت إلى السماء وسقط على الأرض عليه صلوات الله وسلامه، فما كشف عن عورته ولا رئيت عورته بعد ذلك عليه صلوات الله وسلامه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، والبيهقي في دلائل النبوة، وأبو نعيم في دلائل النبوة من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه: أنه لما سقط النبي عليه الصلاة والسلام وطمح بصره إلى السماء سمع منادياً يناديه: (يا محمد! عليه الصلاة والسلام خمر عورتك، يا محمد! استر عورتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذلك أول ما نوديت)، أول ما سمعت هذا النداء، وهذا كله إرهاص بنبوته عليه صلوات الله وسلامه، وسيأتينا إن شاء الله عند بيان المعجزات أنواع خوارق العادات والفارق بينها، فمنها إرهاص، ومنها معجزة وكرامةٌ ومعونةٌ، فالإرهاص: أمر خارقٌ للعادة يجريه الله على يد النبي ليكون بمثابة تأسيسٍ لنبوته، ولفت الأنظار إلى عظيم شأنه، مأخوذ من الرهص وهو أساس الجدار. والحديث إسناده صحيح، أعني: حديث أبي الطفيل ، وحديث جابر في الصحيحين.
إذاً: هذا الخلق الكريم صاحبه حفظٌ من رب العالمين، فصانه الله من رجس الجاهلية، وما تلبس بشيءٍ من آفاتها ومنكراتها، وقد سئل نبينا عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: هل رتعت فيما كان يرتع فيه قومك، ووقعت في شيءٍ من خصال الجاهلية ومنكراتها؟ والحديث رواه البزار في مسنده، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في دلائل النبوة، ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده، وإسناد الأثر الصحيح من رواية علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بشيءٍ مما كان عليه أهل الجاهلية غير مرتين، كل ذلك يحول الله جل وعلا بيني وبين ما أريد، حتى أكرمني الله بالرسالة)، والذي هم به هو أنه هم أن يحضر عرساً من أعراس الجاهلية، وكان يرعى الغنم، فقال لمن معه لرفيقه: انتبه للغنم أريد أن أذهب من أجل أن أحضر العرس، فلما وصل إلى حدود مكة وأراد أن يدخلها ألقى الله عليه النوم، فما أيقظه إلا حر الشمس من اليوم التالي، وانتهت الليلة بكاملها على نبينا صلوات الله وسلامه، وهذا العرس فيه ما فيه من خصال الجاهلية ودنسها، فصان الله نبيه عليه الصلاة والسلام عن مشاركة المشركين في أفراحهم وأتراحهم وعباداتهم عليه صلوات الله وسلامه، هم بذلك مرتين، فحال الله بينه وبين ما يريد، ليصنع على عيني الله المجيد سبحانه وتعالى.
والحديث ثابتٌ في المسند بسندٍ رجاله ثقات من رواية السائب بن عبد الله ، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث علي رضي الله عنه بسندٍ رجاله ثقات، ولفظ الحديث من رواية علي رضي الله عنه والسائب بن عبد الله : أن المشركين عندما أرادوا بناء الكعبة -وقد ذكرت أن عمر نبينا عليه الصلاة والسلام كان خمساً وثلاثين سنة- فلما رفعوا الكعبة ووصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفت قبائل العرب: أيهم يأخذ الحجر ليضعه مكانه؟ اشتركوا في البناء، وكل واحدٍ يضع حجراً، ولهم شرف البناء جميعاً جميع القبائل، لكن أي قبيلة سترفع الحجر وزعيمها تكون له هذه المفخرة وهذه المكانة، هذه مفخرة لا بد من التنازع عليها، فكل قبيلةٍ تقول: نحن أحق برفع الحجر الأسود منكم، واختصموا وأحضروا السيوف وكادت أن تقع مقتلةٌ عظيمةٌ بسبب ذلك، ثم قام بعض عقلائهم وقال: نحن نريد من بناء بيت الله تعظيم الله، فكيف يقتل بعضنا بعضاً؟ حكموا أول داخلٍ عليكم، من سيأتي الآن إلى هذا الحرم حكموه ليحكم في هذه القضية، ففاجأهم نبينا عليه الصلاة والسلام بدخوله، وهو شاب، ويوجد شيوخ قريش أبو جهل وغيره الذين لهم المشورة، ويوجد أبو طالب وغيره من الذين لهم شأن، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام، فصاحوا صيحة رجلٍ واحد: هذا الأمين رضينا به، ما يحكم به هذا الأمين لا يرد، وهذا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام بخمس سنين.
انظر لهذه الحكمة التي ألهم الله بها هذا الأمين عليه صلوات الله وسلامه قبل بعثته وقبل إكرام الله له بالرسالة، فعرضوا عليه مشكلتهم فقال: الأمر يسير، هاتوا رداءً، فأتوه برداء، فحمل الحجر بيديه الشريفتين عليه الصلاة والسلام ووضعه في وسط الرداء، وقال: لتأت قبائل العرب ولتمسك كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع الحجر، فكل قبيلةٍ نالت شرف رفع الحجر، أما وضعه مكانه فيكون بيد النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذه ووضعه فكلهم قبلوا، وما استأثرت قبيلةٌ من القبائل بوضع الحجر على القبائل الأخرى، كلها شاركت في رفعه، لكن حمله النبي عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين ووضعه مكانه، وقد رضي الجميع بحكمه وفض النزاع عليه الصلاة والسلام.
وفي روايةٍ: قالوا: أتاكم الأمين، جاءكم الأمين رضينا به.
إذاً: هذا الخلق الكريم صانه الله جل وعلا عن كل خلقٍ ذميم، فصنعه الله جل وعلا على عينه، وكمله في خلقه وخلقه عليه صلوات الله وسلامه.
وهذه الصفات إخوتي الكرام التي في خير البريات عليه الصلاة والسلام في خلقه وخلقه سيأتينا الإشارة إلى شيءٍ منها عند بيان خلقه عليه صلوات الله وسلامه، وأوضح هذا بما لا يدع مجالاً للريب أن هذا الخلق هو خلق نبي، ولا يمكن أن يصدر من إنسانٍ عادي، بدأً من أبي بكر ومن دونه رضي الله عنهم وأرضاهم، هذا الخلق خلق نبي عليه صلوات الله وسلامه، ولا يمكن أن يصل إليه صديقٌ مهما علا شأنه، نعم، اقتدى به الصديقون والصالحون عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
وهناك أقوالٌ قيلت لكنها أوليةٍ مقيدة، فقيل: سورة المدثر أول ما نزل، كما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، لكنها أولية مقيدة مشعرة بتبليغ الدعوة؛ لأن فيها: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]، وأما هناك فهي مجرد قراءة، ولأجل إعلام الله له بأنه مكلف، وعما قريب سينزل عليه ما يبلغ به قومه، فنزل عليه بعد العلق سورة المدثر، هذان القولان صحيحان ثابتان، وهناك أربعة أقوال في أول ما نزل وحولها ما حولها من الكلام. فقيل: الفاتحة، وقيل: البسملة، وقيل: ن والقلم، وقيل: المزمل، والآثار التي تدل عليها ليست قوية، ولها توجيهاتٌ تطلب في مظانها من كتب علوم القرآن، لكن القولان الأولان هما المعتبران: فالذي في الصحيحين أولية مطلقة، والذي في صحيح مسلم أولية مقيدة، ولا تعارض بينهما.
تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وهي تروي هذا عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثم أخذته إلى
انتبه لكلام هذه المرأة العاقلة الحصيفة الرزينة الواعية: (والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل)، أي: تحمل الشدائد من أجل إعانة الناس، تتحمل الصعاب، تحمل الأثقال من أجل معونة الناس، فإذا علمت بيتيمٍ ساعدته، أو بمحتاجٍ أعنته، أو بأرملةٍ قضيت حاجتها، الثقل العظيم أنت تحمله من أجل مساعدة الناس ومعونتهم.
و المراد بقولها: (وتكسب المعدوم)، يحتمل أمرين: إما أنك تكسب المال المعدوم، إشارة إلى جده وذكائه عليه صلوات الله وسلامه وتوفيق الله له، ولا تعني هذه الصفة فيه لأنه لا مدح فيها، إنما تعني ما يترتب عليها، أي: تكسب هذا المال المعدوم، ثم إذا كسبته لا تستأثر به إنما توزعه، والثانية: (تكسب المعدوم)، أي: تكسب المعدوم ماله، فإن الفعل كسب يتعدى بنفسه إلى مفعولين، ويتعدى بواسطة التضعيف أو الهمزة، فتقول: كسَّبت زيداً مالاً، أي: أكسبت زيداً مالاً، وعليه فتكسب المعدوم، أي: تكسب المعدوم مالاً، أي: المعدم الذي لا يملك شيئاً أنت تكسبه وتعطيه وتساعده، ففيك هذه الصفات الطيبة، قالت: (وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
ففيك هذه الصفات، فلن يتخلى الله عنك، الشياطين تتنزل على من فيه دنس ونجس، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، أما أنت فصادق القول، نقي القلب، تساعد عباد الله، تتحمل الشدائد من أجلهم، لا يوجد معروفٌ إلا وتسبق الخليقة إليه، فلن تكافأ بعد ذلك من قبل الله بأن يقترب منك جن أو أن تصاب بخبل في العقل، أو أن يسلط عليك مكر من قبل أهل الشر، هذا لا يمكن أن يحصل، فيحفظك الله جل وعلا فهو الذي لا يضيع أجر المحسنين سبحانه وتعالى.
والحديث في الصحيحين، فمن يثير حوله شبهةً نضرب رقبته، لا يأتي أحد ويقول: من أين تأتون بهذه الآثار؟ هذا في الصحيحين عن أبي جحيفة ، وهو في الكتب الستة إلا سنن أبي داود ، وهو في المسند أيضاً، فانظر لهذا التعلق بهذا النبي عليه الصلاة والسلام.
الحادثة الثانية: رواها الإمام أحمد في المسند والإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، وانظر لهذا التقدير من الصحابة لنبينا عليه الصلاة والسلام، يقول أنس : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة -يعني الفجر- أتاه خدم أهل المدينة بآنيتهم ) أي: ليضع النبي عليه الصلاة والسلام أصابعه في هذه الآنية التي فيها الماء من أجل حصول البركة والاستشفاء بها، (أتاه خدم أهل المدينة بآنيتهم، فلا يدع النبي عليه الصلاة والسلام إناءً إلا وضع يده فيه)، يجبر خواطرهم عليه صلوات الله وسلامه، يقول أنس رضي الله عنه: ( وربما أتوه بآنيتهم في الغداة الباردة -وبرد المدينة شديدٌ- فلا يدع إناءً إلا غمس يده فيه )، عليه صلوات الله وسلامه، فلا يمتنع ويقول: في ذلك مشقة وعناء، ماء بارد وغداة باردة، أتوا ليتبركوا بآثار النبي عليه الصلاة والسلام، فيغمس أصابعه في الآنية، ثم تؤخذ إلى البيوت ليستشفى بها، وليتبرك بها، والحديث في صحيح مسلم .
حديث آخر: ثبت في المسند أيضاً وصحيح مسلم ، والحديث رواه أهل السنن الأربعة إلا الترمذي ، فهو في النسائي وابن ماجه وسنن أبي داود ، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال: أخرجت لنا أسماء بنت أبي بكر جبةً، فقالت: هذه جبةٌ كان يلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يكون عند عائشة ، فلما قبض بقيت هذه الجبة عند عائشة ، على نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، تقول أسماء وهي أخت عائشة رضي الله عنهم أجمعين: فلما قبضت عائشة أخذت الجبة إليّ، أخذتها من عائشة بعد موتها رضي الله عنها وأرضاها، قالت: فنحن نغسلها للمريض ليستشفي بها، إذا كان هناك مريض فتغسل هذه الجبة وتصب عليها ماءها، ليستشفي به المريض، وليبرأ بإذن الله المجيد.
والحوادث في ذلك كثيرةٌ وفيرة، ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال: (أرسلني أهلي إلى أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين بقدحٍ فيه ماء)، ولماذا؟ انظروا لهذه الحادثة وما هو السبب، قال: (فأخرجت أم سلمة -وهي أمنا زوج نبينا على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه- فأخرجت أم سلمة جلجلاً)، والجلجل شيءٌ كالجرس، تنزع منه الحديدة التي يضرب بها في داخله، لصلابة معدنه، ويوضع فيه الشيء الثمين ليحفظه، فهو في الأصل شيء يضرب به، لكن ينتزع منه ثم يوضع فيه ما هو ثمينٌ ليحفظ، يقول عثمان بن عبد الله بن موهب : (فأخرجت أم سلمة رضي الله عنها جلجلاً فيه شعرٌ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عثمان بن عبد الله : وكان إذا أصاب أحدنا عينٌ أو شيءٌ أتينا إلى أم سلمة رضي الله عنها بقدحٍ فيه ماء فأخرجت هذه الشعرات من الجلجل ثم غمستها في هذا الماء ليشربها من أصيب بعينٍ أو بشيءٍ)، من مرضٍ مهما كان شأنه.
يقول الإمام الذهبي في السير: قال محمد بن سيرين : قلت لـعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام، وأنس حصل هذه الشعرات من قبل زوج أمه أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وأبو طلحة هو الذي أخذ شعر النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع عندما حلق النبي عليه الصلاة والسلام الجانب الأيمن من رأسه أعطى الشعر لـأبي طلحة ليوزعه على الصحابة، ثم حلق الجانب الأيسر فأعطى الشعر لـأبي طلحة ليعطيه لزوجه أم سليم التي تزوجته على الإسلام فقط، فـأبو طلحة عندما وزع شعر النبي عليه الصلاة والسلام على الصحابة الكرام في حجة الوداع احتفظ لنفسه بشعرات، فأخذ أنس بعضاً منها، وأنس رضي الله عنه عندما احتضر -كما أخرج ابن السكن - أوصى بأن توضع شعرة من شعرات النبي عليه الصلاة والسلام تحت لسانه، من أجل أن يسدده الله، وأن يقيه فتنة القبر، وأن يثبته عند السؤال.
قال ثابت رضي الله عنه وهو تلميذ أنس وصاحبه: فدفن أنس وشعرة النبي عليه الصلاة والسلام تحت لسانه، كما في الإصابة في الجزء الأول صفحة إحدى وسبعين، وأما توزيع النبي عليه الصلاة والسلام شعره في حجة الوداع فانظروه في صحيح البخاري في كتاب الوضوء، في باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، وهذا تخريجٌ القصة التي سأذكرها عن محمد بن سيرين ، وفي الأثر الذي بعدها أن أبا طلحة رضي الله عنه كان عنده شعر النبي عليه الصلاة والسلام عندما حج النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، والحديث أيضاً ثابتٌ في صحيح مسلم عندما أعطى النبي شعره لـأبي طلحة ، والحافظ جمع بين روايتي صحيح مسلم ؛ لأنه في بعض الروايات أنه أعطاه لـأم سليم ، قال الحافظ في الفتح: أي: أعطاه لـأبي طلحة ليعطيه لـأم سليم -هذا الجانب الأيسر- لتوزعه على النساء، ولتجعله في سكها الذي كانت تضع فيه الطيب.
قال محمد بن سيرين لـعبيدة : إن عندنا من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من قبل أنس بن مالك ، فقال عبيدة : لأن يكون عندي منه شعرةٌ أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض. وهذا الأثر ثابتٌ في صحيح البخاري كما قلت، ولفظ البخاري : لأن يكون عندي منه شعرةٌ أحب إليّ من الدنيا وما فيها. وهنا: من كل صفراء وبيضاء، أي: من كل ذهبٍ وفضة..
نكمل كلامه ثم أعلق بما تيسر، قال الذهبي : ويقول: يدٌ مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نقول إذ فاتنا ذلك: حجرٌ معظمٌ بمنزلة يمين الله في الأرض مسته شفتا نبينا صلى الله عليه وسلم لاثماً له، فإذا فاتك الحج وتلقيت الوفد فالتزم الحاج وقبل فمه، وقل: فمٌ مس بالتقبيل حجراً قبله خليلي صلى الله عليه وسلم. هذا المعترض قال: هذا لا يجوز أن يفعل، قلت: ما وجه الاعتراض فيه؟ حاجٌ جاء وقد قبل الحجر الأسود، هذا جاء من سفر، يشرع لنا أن نعانقه أم لا؟ ويشرع لنا أن نقبله أم لا؟ نعم يشرع، تقبيله جائز، ومعانقته جائزة كما سأذكر الدليل، فهنا التقبيل مشروع، فهو لو قدم من بلاد الشام لجاز لنا أن نعانقه وأن نلتزمه وأن نقبله، فكيف وقد جاء من بلد الله الحرام، وقبل بشفتيه الحجر الأسود الذي هو بمنزلة يمين الرحمن في الأرض، وهذا الحجر قبله نبينا عليه الصلاة والسلام بيقين، فمست شفتا المقبل مكاناً قبله النبي عليه الصلاة والسلام، وهنا إن انضاف إلى هذه المشروعية العامة خصوصياتٌ كثيرة، فأقبل المكان الذي قبل مكاناً قبله خليلي عليه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! ثبت في سنن الترمذي بإسنادٍ حسن عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( قدم
وقد أرشدنا نبينا عليه الصلاة والسلام إلى المصافحة، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا).
وفي رواية في سنن ابن ماجه : (أينحني بعضنا لبعض؟ قال: لا، أفيعانق بعضنا بعضاً؟ قال: لا، ولكن تصافحوا).
وفي معجم الطبراني الأوسط عن أنس رضي الله عنه وإسناد الحديث حسن، قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفرٍ تعانقوا)، فهذا الأخ يعتبر هذا من باب الغلو، وأن هذا لا يفعل إلا مع النبي عليه الصلاة والسلام مباشرةً بدون واسطة، لكن كما قلنا: أي حرجٍ في ذلك؟ وهذا الذي كان يفعله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، ويقره مشايخ الإسلام، ونحن بعد ذلك نتنطع نحوهم.
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاثمائة وثلاثين، في ترجمة شيخ العارفين سهل بن عبد الله التستري : أنه كان يأتي إلى أبي داود -والله إذا كان أبو داود مبتدعاً فلا خير بعد ذلك فينا ولا في أئمتنا- يقول له: أنت تحدث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فيقول: نعم، فيقول: أخرج لسانك التي تحدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقول: لماذا؟ فيقول: حتى أقبله، فيدلي أبو داود لسانه ويقبله سهل بن عبد الله التستري . هل هذا تنطع؟ هل هذا غلو؟ سبحان ربي العظيم، ما بقينا نميز بين الحب وبين التنطع والغلو والإطراء، الإطراء أن تنسب إليه ما يختص به الله جل وعلا، أما أن يقال: هذا نبي عليه صلوات الله وسلامه يحب ويحترم ويعظم هو وآثاره عليه صلوات الله وسلامه، فهذا النفس الذي يجري على لسان المحدث له أثرٌ وأنا أقبله، فتأتي بعد ذلك وتقول: هذا غلو وتنطع! والإمام الذهبي يورد هذا في السير ويقره ولا يعترض عليه.
حضرت مرةً موعظةً لبعض من يدعون الالتزام، والله الذي لا إله إلا هو أسمعه بأذني يقول: المخرفون يقولون عن النبي عليه الصلاة والسلام: سيدنا، وأي تخريفٍ في ذلك؟! أي تخريف عندما نقول لخير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه: سيدنا؟! وهنا يقول الإمام الذهبي : حتى يكون هذا السيد أحب إليك من نفسك، وولدك، وأموالك، والناس كلهم، قال: هذا تخريف عندما تقول: سيدنا رسول الله تخريف! هذا حب النبي عليه الصلاة والسلام، هذا إكرام النبي عليه الصلاة والسلام، هذا تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، القلب إذا ذكر ينبغي أن يخفق طرباً وشوقاً إليه، وهو سيدنا عليه صلوات الله وسلامه وأفضلنا وحبيبنا وقرة أعيينا عليه صلوات الله وسلامه، وأي غلوٍ في ذلك؟
ومن آدابه: قال عبد الله بن أحمد : رأيت أبي يأخذ شعرةً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه ويستشفي به، ورأيته أخذ قصة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في حب الماء ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به ويمسح به يديه ووجهه، قلت -القائل الذهبي -: أين المتنطع المنكر على أحمد ؟ وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الخشبة التي في أعلى المنبر والنبي عليه الصلاة والسلام كان يمسكها عندما يخطب، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمن يلمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويمس الحجرة النبوية؟ فقال: لا أرى بذلك بأساً، أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع.
هذا كلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء ينقله عن شيخ أهل السنة في زمانه، أنه لا يرى بأساً بمس الرمانة، والحجرة النبوية تبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، أي غلوٍ في ذلك وأي إطراء؟ وهل هذا إلا من باب التعلق بخاتم الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، والله إنه بشر لا يملك نفعاً ولا ضراً، والعبادة لا تصرف إلا للخالق المعبود بحق وهو الله جل جلاله، لا إله غيره ولا رب سواه، لكن هذا هو حب النبي عليه الصلاة والسلام، لم ماتت القلوب؟ لماذا عندما يذكر النبي عليه الصلاة والسلام عند أحدنا لا تدمع عيناه، لا يشتاق قلبه، لا يتحرك؟ لم لا يقول: حبيبي قرة عيني، بهجة نفسي، سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ لم لا يقول هذا؟ إنما يذكر كلمة جافة كأنه إن أتبعها بالصلاة يمن على النبي عليه الصلاة والسلام بذلك! والله -يا إخوتي الكرام- لا يتحقق الإيمان في الإنسان حتى يحب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من نفسه، وماله، وأولاده، ووالديه، والناس أجمعين، ولو خيرت بين الدنيا وما فيها من ذهب وبين رؤية النبي عليه الصلاة والسلام واخترت الدنيا فاعلم أنه لا إيمان في قلبك.
يقول الإمام ابن حجر : علامة الحب المذكور أن يعرف المرء أن لو خير بين فقد غرضٍ من أغراض الدنيا، أو فقد رؤية النبي عليه الصلاة والسلام أن لو كانت ممكنة، فإذا اختار فوات عرض الدنيا، وآثر لقاء النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو المحب، يقول: فإذا آثر فقد الدنيا فقد اتصف بالأحبية المذكورة، (حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، فقد اتصف بالأحبية المذكورة، ومن لا فلا، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد -يعني بين رؤيته وعدم رؤيته- بل يأتي أيضاً مثله في نصرة سنته، والذب عن شريعته، وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو قيل لك: أيهما أولى عندك أن تنتصر سنة النبي عليه الصلاة والسلام وأن تظهر، أو أن تحصل الدنيا بما فيها؟ قل: فلتذهب الدنيا وأضعافها معها، وتظهر سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
فالحب هو تعلق القلب بالمحبوب، ولا بد من أن يظهر هذا على الجوارح إذا كنت تحب النبي عليه الصلاة والسلام، أما أن تحبه كلمة جافة، وعندما يذكر النبي عليه الصلاة والسلام لا يظهر عليك آثار شوق ولا تطلع، ثم بعد ذلك إذا ذكرت قصة من مثل هذه القصص تراه يقشعر جلده، ويقول: كيف هذا؟! وهذا تنطع! يا عبد الله! لسنا بأتقى لله من سلفنا، أبو داود يخرج لسانه ليقبله ذاك العبد الصالح، وهو من أئمتنا من أصحاب الكتب الستة، فإذا كان هؤلاء فيهم بدعة فلنبحث بعد ذلك عن ديننا أين سيكون، وإذا كان الإمام الذهبي عليه رحمة الله يورد هذه القصص مورد التسليم ويعلق عليها ثم يقول: أين المنكر على من يفعل هذا؟ أعاذنا الله من رأي الخوارج وأهل البدع، ثم بعد ذلك أحدنا يقول: ليس في فعل ثابت حجة، ولا في فعل أنس حجة، ولا في فعل فلان حجة، إذاً من الحجة؟ أنس ليس بحجة، وثابت ليس بحجة، هل أنت الحجة؟ ما الذي ينهى عن هذا؟ ائتني بدليلٍ على النهي، فقط فكرك، أو ما تلقيته من فلانٍ أو فلان.
إخوتي الكرام! ينبغي أن نقف عند حدنا، قصةٌ تذكر عن سلفنا في العصر الأول فعلها تابعي مع صحابي ثم يستنكرها الإنسان! والله الذي لا إله إلا هو! لأن يبتلى الإنسان بكبيرةٍ أقل جرماً من أن يعترض على مثل هذه القصص عندما تذكر، وأن يقشعر جلده منها، وأن يعقبها بعد ذلك بالتفوه بهذه الكلمات: لا ثابت حجة، ولا أنس حجة، ولا يستدل بفعل أحد، اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي سلفكم.
نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب نبيه عليه الصلاة والسلام، وحب الصحابة الكرام، وحب أئمة الإسلام، وأن يرزقنا الأدب معه ومع خلقه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر