الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة غافر: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر:77-78].
يأمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه في هذه الآيات بالصبر، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غافر:77]، فإنه كما ابتلي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ابتلي أيضاً وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، فأمره ربه سبحانه بأن يصبر ويأمر المؤمنين كذلك بالصبر، وإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر فهو أمر بالتبع للمؤمنين؛ لأنه قدوتهم صلى الله عليه وسلم، فأمروا أن يصبروا وأن يصابروا وأن يرابطوا وأن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غافر:77]، أي: إن وعد الله عز وجل لكم بإحدى الحسنين حق: إما النصر والتمكين، وإما الشهادة وقبض الروح فترجعون إليه ويجازي هؤلاء على ما فعلوا، قال تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [يونس:46] أي: فتبصر وترى ما توعدناهم وتهددناهم به، وما أخبرناك بأنه آتيهم من عذاب الله عز وجل، أو نقبضك إلينا ونتوفينك.
وكلا الأمرين خير للنبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقبضه الله عز وجل فيرجع إلى ربه الكريم سبحانه، فيدخله جنات النعيم فيكون خيراً له، أو أن الله سبحانه وتعالى يمكن له وينصره فيرى في أعدائه ما يشفي صدور المؤمنين، قال تعالى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [غافر:77]، وهذا من كرمه سبحانه، فإنه لما هددهم سبحانه علم أن فيهم من يتوب ويرجع إليه فقال: بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [غافر:77]، وليس كل ما وعدهم الله سبحانه، فقد يعفو عن البعض وقد يعذب البعض، وقد يؤخر الجميع إلى يوم يرجعون إليه سبحانه وتعالى ويفعل الله ما يشاء.
قال تعالى: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ [غافر:77]، أي: بعض ما توعدناهم به من العذاب وما هددناهم به من نزول العقاب (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي: نرجعك إلينا ونقبضك، قال تعالى: (فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، أي: الجميع سيرجع إلى الله، ثم يكون الجزاء والحساب والثواب والعقاب والجنة والنار.
وقوله تعالى: (إِِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)، هذه قراءة الجمهور، وقرأ يعقوب (إلينا يَرجِعون)، أي: يرجع كل إنسان إلى ربه فيجازيه بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر.
ولما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يبعد عنهم الجبلين اللذين في مكة من أجل أن تتوسع أرضهم؛ لأن أرضهم ضيقة، وأن ينزل عليهم من السماء أمطاراً غزيرة، وينزل عليهم من السماء ذهباً وفضة وينزل عليهم كتاباً من السماء، وتعنتوا فيما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لم يجبهم ربنا سبحانه إلى ما سألوا وطلبوا؛ لأن الذين من قبلهم لما طلبوا الآيات ورأوها لم يؤمنوا، فهؤلاء مثلهم، فكان من رحمة الله عز وجل ألا يبعث هذه الآيات؛ فإن الله إذا أرسل آية من الآيات وكذب بها الخلق أتتهم العقوبة والاستئصال والإهلاك والتدمير، ولذلك من رحمة الله عز وجل أنه لم يعطهم ما سألوا من الآيات؛ لأنه علم أن الذين يطلبون هذه الآيات سيموتون على كفرهم كـأبي جهل وأبي لهب وغيرهم، فإذا أعطاهم الله عز وجل آية وحول لهم الصفا ذهباً فسيقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر، ويظلون على تكذيبهم، فيأتيهم العذاب من عند الله فيستأصلهم جميعاً، فمن رحمة الله أنه لم يعطهم الآية التي طلبوها؛ حتى لا يهلكهم ويبيدهم بعد ذلك، وهذا فضل منه ورحمة.
قال تعالى: فإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ [غافر:78] أي: في يوم القيامة أو في وقت مجيء العذاب، قُضِيَ بِالحَقِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر:78] أي: في دعواهم أن مع الله آلهة، وحاشا له سبحانه وتعالى! وفي دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساحر أو كاذب أو مجنون، فيخسرون حين يرون العذاب.
فطمأن الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمره بالصبر، فصبر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمره الله عز وجل بالصبر في السور المكية وفي السور المدنية فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200] وهذه في سورة آل عمران وهي مدنية.
ومما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر أيضاً.
قوله: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)، فيبتليهم الله عز وجل بما يشاء ليرفع درجاتهم ويكفر خطاياهم ويعطيهم من فضله سبحانه، فإذا رضي الإنسان عن ربه سبحانه وصبر فله الرضا.
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الراضين عن ربه سبحانه وتعالى، فكان يصبر ويرضى، ففي يوم أحد لما هزم المسلمون هزيمة شديدة وصعبة وقتل فيها عمه حمزة وبقرت بطنه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ورأى صلى الله عليه وسلم في أصحابه قتلاً شنيعاً صعباً، فعندما انتهى القتال قال: (قوموا نحمد الله، فأقام أصحابه وراءه صفاً، وقام حامداً ربه سبحانه وتعالى بمحامد ذكرها صلوات الله وسلامه عليه، فقال: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت..)، وذكر كلاماً كثيراً صلوات الله وسلامه عليه، فحمد ربه سبحانه وتعالى ثم تعوذ بالله سبحانه وتعالى من الخوف يوم القيامة ومن الفزع الأكبر ومن يوم العيلة ومن غيرها.
فيحمد ربه وهو في موقف الضعف وهو في موقف الهزيمة، فقد كان يحمد الله على كل حال ليعلم المؤمنين ألا يتسخطوا على ربهم أبداً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهذا كما في الحديث السابق: (فمن رضي فله الرضا).
فالإنسان إذا نزلت به المصيبة إما أن يصبر صبر الكرام، وإما أن يسلو سلو البهائم، فالبهيمة عندما تنزل بها المصيبة تصرخ مدة ثم تسكت، فإذا كان الإنسان يصرخ كذلك إذا نزلت به البلية ثم في النهاية يسكت فقد أشبه البهيمة، وأما إذا تصبر وانتظر أمر الله سبحانه وقال: يا رب يا رب، وطلب الفرج من الله عز وجل فهذا صبر الكرام، فإما أن يصبر صبر الكرام وإما أن يسلو سلو البهائم، ومن رضي عن الله فله الرضا، أي: يرضى الله سبحانه وتعالى عنه، وإذا رضي الله عنه جعل قلبه مليئاً بالرضا.
وكم رأينا من بلاء ينزل بالصالحين فيصبرون الصبر العظيم، وأعظم من صبر أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد أعطاه الله عز وجل المال فصبر وحمد الله، ثم أخذ منه المال والصحة والولد فصبر وحمد الله سبحانه وتعالى، واستمر ثمان عشرة سنة في البلاء، فجعله الله آية للخلق في الصبر العظيم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهؤلاء، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وقال تعالى: اصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غافر:77].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر