أما بعد: معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هيا بنا نقضي هذه الساعة مع الله، ومع ملائكته، ونقضيها في الدنيا ونقضيها في الآخرة.
وقد وصلنا إلى هذا الكمال بطريق الإسلام والحمد لله. فالحمد لله أن هدانا للإسلام، فأصبحنا مسلمين، وأنزل على رسولنا كتابه الكريم القرآن العظيم، فأصبحنا نعيش دقائق وساعات مع الله وملائكته ولقاءه. وهذا فضل الله علينا معشر المسلمين! فهيا نحمد الله ونشكره. فالحمد لله.
قال تعالى: واذكر يا رسولنا! وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47]، أي: يختصمون في جهنم. وهم أبو جهل عمرو بن هشام وفلان وفلان، الذين كانوا يُجَهِّلون الناس، ويحملونهم على الكفر والشرك والحرب للرسول والمؤمنين. فاذكر وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47]. وكيفية حجاجهم ذكره تعالى بقوله: فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ [غافر:47] الذين كانوا فقراء وضعفاء وليسوا بأقوياء، والذين كان يلزمهم الأغنياء وأصحاب السلطة بالكفر والفسوق والفجور، فهؤلاء الضعفاء يقولون للذين استكبروا في هذه الدنيا ولم يعبدوا الله ولا أطاعوه، ولا آمنوا به ولا بلقائه، وأبوا أن يقوموا لله راكعين ساجدين، أو عابدين متقين: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [غافر:47]، أي: كنا تابعين لكم أيها الأغنياء! .. أيها الرؤساء! فنحن كنا لكم تبعاً، فقد تبعناكم أنتم أيها الرؤساء والمسئولين! وكنتم أنتم الذين توجهوننا وتقودوننا حيث شئتم، حتى كفرنا بربنا وفسقنا عن أمره. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [غافر:47]، أي: تابعين. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ [غافر:47]؟ ويقولون هذا وهم في جهنم في عالم الشقاء، فيقول: هل تغنون عنا نصيباً قليلاً من النار، فلا تحرقنا؟
وكلمة نار يا أبناء الإسلام! ما تستطيعون أن تتصوروها، فأنتم ترون الشمس أكبر من الأرض مليون ونصف مليون مرة، وكلها نار، وحرارتها لا يمكنكم أن تمسوها. فكيف بعالم آخر كله نار؟
وهنا يقول الذين استكبروا: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا [غافر:48]، أي: نحن وأنتم. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:48]. فقد صدر حكم الله، فأدخل أهل الإيمان والتقوى الجنة، وأدخل أهل الكفر والفجور النار. وهذا حكم الله، وهم اعترفوا به وأقروه، فقالوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [غافر:48]. فأدخلنا نحن وإياكم النار، وأدخل أهل طاعته وولايته الجنة دار النعيم المقيم. هكذا اعتذروا إليهم.
فهم في النار يقولون ما حكاه تعالى عنهم بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]، أي: سلوا ربكم ادعوه يا ملائكة! أن يخفف عنا يوم من العذاب، يعني: مقدار يوم من أيام الدنيا؛ إذ ما في الآخرة يوم وليلة، ولا ليل أبداً، بل كلها نهار. فيقولون: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]، أي: مقدار يوم من أيام الدنيا، وأما الآخرة فما فيها ليل أبداً، بل هي يوم واحد.
ويوم الحساب والناس على عرصات الأرض ينتظرون الجزاء طوله خمسين ألف سنة من أيامنا هذه، فقد قال تعالى من سورة المعارج: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]. وهذا كعمر الدنيا بكاملها.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: بيان تخاصم أهل النار، وهو ما يتم من خصومة بين الأتباع والمتبوعين ] أي: بين الرؤساء ومن دونهم، والأقوياء والضعفاء؛ لأن الأقوياء دائماً هم الذين يحملون على الكفر والفساد والشر، والضعفاء يتبعونهم لفقرهم وحاجتهم. فيقع والله بينهم خصومة في جهنم. وقد سمعتموها.
[ ثانياً: التنديد بالكبر والاستكبار؛ إذ الكبر عائق عن الطاعة والاستقامة ] فنبرأ إلى الله من أن نتكبر أو نستكبر، ومهما ما كنا لا بد من التواضع، ولا بد أن نتطامن، ولا بد من اللطف والرقة، وأما الشدة والعنف والغلظة والتكبر فنبرأ إلى الله منه ومن أهله. وهذه الآية تندد به، وتذكر مصير أصحابه.
[ ثالثاً: عدم استجابة دعاء الكافر في الدنيا والآخرة ] أبداً [ إلا ما شاء الله ] فلا يستجيب الله للكافر إذا دعا، إلا لأمر أراده الله وحكمة أرادها، وإلا ففي العموم الكافر ما يستجاب له، ولو يبيت يدعو الله ويظل يدعوه ما يستجيب له بنص الآية الكريمة، إلا من شاء الله.
[ رابعاً: عدم قبول المعذرة يوم القيامة ] والمعذرة تقبل في الدنيا. فإذا عصيت ربك الآن واعتذر إليه بقولك: غرني فلان .. جهلني فلان .. غرتني الدنيا .. فعل بي الشيطان، وأنا أتوب إليك يا رب! فاغفر لي وارحمني واقبلني، فإنه يستجيب لك، وأما في الآخرة لا معذرة تقبل أبداً؛ لأنها ليست دار عمل، بل دار جزاء فقط، إما الجنة وإما النار.
[ خامساً: عدم استجابة الدعاء في النار ] فأهل النار يدعون وما يستجاب لهم، كالكفار في الدنيا لا يستجاب لهم.
[ سادساً ] وأخيراً: [ بيان وعد الله لرسله والمؤمنين، وهو أنه ينصرهم بأحد أمرين: الأول: أن ينصر دينهم ويظهره ويقرره وإن طال الزمن، والثاني: أن يهلك عدوهم وينجيهم ] فالله ينصر أولياءه ورسله، إما بنصر دينهم، وإما بنصرهم هم وإهلاك أعدائهم، كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود.
وقوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، الأشهاد هم الأنبياء الذين يشهدون على أممهم، والعلماء والدعاة الصالحون، فإنهم يشهدون على من دعوهم، والملائكة يشهدون كذلك.
فالأشهاد ثلاثة: الأنبياء، والدعاة من الصالحين، والملائكة. فالكل يشهدون على أهل النار، وعلى ما عملوا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر