إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هيأ الله له رجالاً حفظوه وأحصوه ونقلوه، وإن حديث ابن مسعود في النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق حفص ابن غياث، وتابعه عبد الأعلى السامي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود، ورواه غيرهما إلى الشعبي من قوله، ولعل الشعبي وصله تارة وأرسله أخرى، وكل هؤلاء أئمة هدى، مناقبهم كثيرة، وسيرهم عطرة، وأقوالهم حكم، وأعمالهم هدى.

    1.   

    تراجم رجال إسناد حديث: (لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً, وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك!

    اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد: فقد وصلنا إلى الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة من جامع أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنوان هذا الباب: باب: ما جاء في كراهية ما يستنجى به.

    قال الإمام الترمذي عليه رحمة الله: حدثنا هناد قال: حدثنا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ).

    قال أبو عيسى عليه رحمة الله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله - يعني: ابن مسعود - رضي الله عنه: ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ), الحديث بطوله، فقال الشعبي : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ). وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث . والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم.

    وفي الباب عن جابر وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

    هذا الحديث الذي ذكره الإمام الترمذي في الرواية الأولى جعله كله منقولاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية الثانية رواية إسماعيل بن علية جعل الشطر الآخر من الحديث من كلام الشعبي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه مرسل, ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن )، فالرواية الأولى متصلة, والثانية مرسلة، وسيأتينا تحقيق الكلام في هاتين الروايتين إن شاء الله ضمن مراحل البحث.

    وكما هو عادتنا سوف نتدارس الرجال أولاً، ثم نتدارس بقية مباحث الحديث الأربعة في بيان درجة الحديث، وتخريج الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي في الباب، وفي بيان فقه الحديث, وما يدل عليه من أحكام.

    أول المباحث في ترجمة رجال الإسناد:

    شيخ الإمام الترمذي هناد تقدم معنا ذكره مراراً, وهو أول شيخ للترمذي في كتابه الجامع عند الحديث الأول.

    ترجمة حفص بن غياث

    هناد قال: حدثنا حفص بن غياث ، هذا أول مكان يرد معنا فيه ذكر هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وهو حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النخعي , أبو عمر الكوفي القاضي، ثقة فقيه، هذا حكم الحافظ ابن حجر عليه في التقريب, تغير حفظه قليلاً في الآخر, أي: في آخر حياته عليه رحمة الله، من الطبقة الثامنة, توفي سنة 195هـ، وحديثه مخرج في الكتب الستة. أخرج حديثه الجماعة. حفص بن غياث . هذا كلام الحافظ ابن حجر عليه في التقريب.

    وما أشار إليه الحافظ من أن حفظ حفص بن غياث تغير في الآخر هو الذي قرره أئمتنا, يقول أبو زرعة : ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

    ولعله عندما شغل بأمر القضاء والمنازعات والخصومات صار في حفظه شيء من الوهم والسهو والخطأ، فكما تقدم معنا أنه ثقة فقيه، عدل ضابط، ولكن إذا صرف الإنسان جهده وعنايته في الرواية يبرز فيها، وإذا شغل عنها بغيرها فإنه عندما يروي يغلط ويخطئ، ولذلك يقول أبو زرعة عليه رحمة الله: ساء حفظه بعدما استقضي، فمن كتب عنه من كتابه -حتى بعد أن ولي القضاء- فإنه صالح والناس كتبوا عنه بواسطة ما يرويه من كتابه؛ لأن كتابه مصون.

    وتقدم معنا مراراً أن الضبط ينقسم إلى قسمين: ضبط صدر، وضبط سطر، أي: ضبط كتاب، وإذا كان يصون كتابه فلا يوجد مجال للوهم ولا للخطأ، ولذلك قبل ما حدث به قبل أن يطرأ على حفظه شيء من التغير، سواءٌ كان من صدر أو من كتاب، أما بعد اختلاطه فيقول أبو زرعة : فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح.

    وكان حفص بن غياث من القضاة الصالحين، وكان أئمتنا يقولون: ختم القضاء به في الكوفة، يعني: ما جاء قاض بعده خيراً منه، ولا يساويه.

    وكان يقول كما في تاريخ بغداد: ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة، أي: من فقره وشدة حاجته، ولذلك ولي القضاء ليأخذ شيئاً من المعونة يستعين بها على أمر دينه ودنياه.

    وعلى كل حال فمن قام بهذه المهنة واتقى الله فلا لوم عليه، وإن كان كما سيأتينا في ترجمة إسماعيل بن علية : أن كثيراً من أئمتنا كانوا يكرهون هذه المهنة, والسبب في كراهيتهم لها أن القاضي يعتبر من فصيلة الحكام، كما أن العالم يعتبر من زمرة الأنبياء؛ ولذلك كان أئمتنا يقولون: ما نريد أن نحشر مع الحكام، إنما نريد أن نحشر مع الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    إن الإمام ابن جرير عليه رحمة الله وهو شيخ المفسرين في زمنه وتوفي سنة 310هـ عندما أريد منه أن يلي القضاء فامتنع فلامه تلاميذه وأصحابه قال: كنت أخشى إذا وليت القضاء أن تلوموني, فقد انعكس الأمر، ثم قال لهم: أما بلغكم أن القضاة يحشرون مع الأمراء، والعلماء يحشرون مع الأنبياء، أتريدون أن أحشر مع الأمراء؟ نحن تعلمنا العلم لنكون ورثة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    يضاف إلى هذا ما حصل في القضاء من خلل بعد ذهاب الخلافة الراشدة، ولكن كلمة الحق لا بد منها: من اتقى الله في قضائه فلا حرج عليه.

    إن حفص بن غياث ثقة عدل؛ لذا حديثه مخرجٌ في دواوين الإسلام، ولم يغمز عليه في كونه ولي القضاء.

    يقول الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح صفحة 398: أجمعوا على توثيقه وعلى الاحتجاج به، إلا أنه في الآخر ساء حفظه، فمن سمع من كتابه فهو أصح ممن سمع من حفظه -انتبه لهذا التقييد- حتى بعد أن ساء حفظه ما حكم عليه بالاختلاط, ولا أن روايته متروكة، لكن يقولون: بعد أن كبر إن حدثت عنه وضبطت من كتابه فهذا أصح مما لو ضبطت من صدره.

    هذا فيما يتعلق بترجمة هذا العبد الصالح حفص بن غياث ، وانظر ترجمته في السير للذهبي في الجزء التاسع صفحة 220.

    ترجمة داود بن أبي هند

    والراوي الثاني تقدم له ذكر معنا فيما تقدم, ألا وهو داود بن أبي هند القشيري المصري , أبو بكر أو أبو محمد , ثقة متقن، كان يهم بآخرة, أي: في آخر حياته يعتريه أيضاً وهم وخطأ, وشيء من النسيان, وهذا حال البشر، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].

    كان يهم بآخرة, من الخامسة, توفي سنة 140ه، قال الحافظ ابن حجر : وقيل قبلها، ثم رمز له خت م 4، أي: روى له البخاري تعليقاً, وروى له بقية الجماعة, مسلم وأهل السنن الأربعة, ثقة متقن, من أئمة السنة.

    ولما ناقش الضال المضل غيلان القدري، وتقدم معنا ذكر القدرية ضمن مباحث سنن الترمذي ، وتكلمنا على بدعة القدرية, وقلت: إن غيلان بدعته من بدعة القدرية الغلاة, وليس من القدرية المعتزلة المجوسية.

    يقول داود بن أبي هند : ما ناقشت أحداً بكامل عقلي إلا القدرية.

    يقول: فالتقيت بـغيلان وقلت له: يا غيلان ! ما أفضل ما أعطي ابن آدم؟ أي شيء أغلى جداً عند ابن آدم؟ أي هبة يحصلها؟ وعطية يفوز بها خيراً من غيرها؟ ما أفضل ما أعطي ابن آدم؟ فقال: العقل، وحقيقة هو كذلك.

    قال داود : هل العقل شيء مقسوم لا دخل للإنسان فيه، أو هو شيء مباح يأخذ منه الإنسان ما شاء أخبرني؟ ولا شك أنه مقسوم, وكل إنسان له عقل أعطاه الله إياه، ولا يمكن أن يزيد في عقله. ويكبره أو أن يصغره؟

    فلما سأله هذا السؤال يقول: ما أجابني غيلان بل ومضى.

    ولم مضى؟ لأن القدرية يقولون: إن الله ما قدر شيئاً، ولا يعلم الشيء إلا بعد أن يطرأ، والعباد هم الذين يقدرون, وهم الذين يخلقون ويوجدون.

    فلو قال هو شيء مباح تأخذ منه ما شئت، فبإمكانك أن تجعل عقلك أكبر العقول أو أقلها, والواقع غير ذلك، فالعقل شيء مقسوم لا اختيار لك فيه, وهذا يبطل قول القدرية ومذهبهم، ولذلك مضى غيلان وما أجاب داود بن أبي هند عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    ومن مناقبه أنه صام أربعين سنة وما علم أهله به، وكان يتاجر بالخز, فيأخذ غداءه يوهمهم أنه سيأكله، فإذا خرج من بيته تصدق به وذهب إلى حانوته, وما عاد إلا بعد غروب الشمس.

    وكان يقول: ثنتان لو لم تكونا لم ينتفع الناس بدنياهم:

    أولهما: الموت, لولا الموت لما وسعت الدنيا من عليها.

    وثانيهما: أن الأرض تنشف الندى, أي: تمتص الرطوبات والعفونات، وأما إذا كانت الرطوبة تقع على الأرض ولا تجف, فإن الأرض لن تصلح عليها حياة. الموت والندى. عليه رحمة الله. وانظروا ترجمته إن شئتم أيضاً في السير في الجزء السادس صفحة 376.

    ترجمة الشعبي

    عن داود بن أبي هند عن الشعبي , وهو عامر بن شراحيل , أبو عمرو , ثقة مشهور فقيه صادق, رحمة الله ورضوانه عليه، من السادسة، توفي بعد المائة عن عمر يقارب الثمانين، أخرج حديثه أهل الكتب الستة, الجماعة. قال مكحول الدمشقي -وهو في أهل الشام كـالحسن البصري في أهل البصرة-: ما رأيت أفقه من الشعبي .

    و عامر بن شراحيل الشعبي هو علامة عصره، وهو من التابعين, ولد في عهد عمر رضي الله عنه، ورأى علياً -رضي الله عنه- وصلى خلفه.

    ومن مناقبه وفضائله وجودة ذهنه أنه كان يقول: ما كتبت شيئاً قط, ما كتب بيمينه سوداء في بيضاء، إنما يعول على حفظه وذاكرته، وكثير من أئمتنا قالوا هذه الجملة: ما كتبت شيئاً قط.

    وقال الشعبي : أدركت خمسمائة صحابي أو أكثر يقولون: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.

    أي: هم في الفضل والمنزلة على هذا الترتيب، وهذا قول الصحابة, ولا يقولون بهذا بناء على عقولهم, وإنما هذا بتوقيف من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وهذا هو الذي استقر عليه قول أهل السنة الكرام بعد أن حصل خلاف بينهم في العصر الأول بين المفاضلة بين عثمان وعلي ، ثم الذي استقر عليه قولهم هذا. وأما أبو بكر ثم عمر . فلا خلاف في ذلك، ثم يثلثون بـعثمان , ويربعون بـعلي رضي الله عنهم أجمعين.

    وكان الشعبي يقول -وإذا كان يقول هذا وهو من هو فنحن ماذا نقول- كان يقول: إنا لسنا بالفقهاء.

    سبحان الله! ما ترجمك أحد إلا قال: إنك فقيه، بل قال مكحول : ما رأيت أفقه منه، يعني: ما يوجد في التابعين أفقه من الشعبي . ويقول الشعبي : إنا لسنا بالفقهاء، لكنا سمعنا الحديث فرويناه.

    تسمع وتروي وتستنبط، هذا هو حال العلماء، وإذا لم يكن هذا هو الفقيه فمن الفقيه؟

    قال: ولكن الفقيه من عمل, علم فعمل، هذا هو الفقيه.

    ووالله ما عندنا شك بأنك تعمل بعلمك، ولكن هذا زيادة تواضع منك لربك جل وعلا.

    وهذا كما كان الحسن البصري عليه رحمة الله يقول: هل رأيتم فقيهاً قط؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا والراغب في الآخرة، القائم ليله الصائم نهاره.

    وكان الشعبي يقول -وهذا من باب تواضعه وتعليم طلبة العلم بعده- يقول: ليتني لم أكن علمت من ذا العلم شيئاً.

    سبحان ربي العظيم! علم تعلمه ويصبح به خليفة للنبي عليه الصلاة والسلام ومن ورثته، ثم يقول: ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً!

    قال الإمام الذهبي معلقاً على هذه الجملة المباركة: لأن العلم حجة على العالم, فينبغي أن يعمل به، هذا الأمر الأول، وينبغي أن ينبه الجاهل فيأمره وينهاه، وهذا الأمر الثاني، ولأنه مظنة ألا يخلص طالب العلم والعالم في علمه, وأن يفتخر به ويماري به؛ لينال رئاسة ودنيا فانية، ولأجل هذه الأمور الثلاثة يقول الإمام الشعبي : ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً! فالعلم حجة على العالم, فيغفر الله للجاهل يوم القيامة سبعين مرة, ولا يغفر للعالم إلا مرة، وليس من عصى الله وهو يعرفه كمن عصاه وهو لا يعرفه.

    وبالمقابل فثواب العالم عظيم أيضاً إذا ما اتقى الله بعلمه، فالعلم حجة على العالم ليعمل، ويدعو إلى هذا العلم، ويأمر وينهى، ويخلص في علمه, وألا يماري به, وألا يريد به رئاسة ولا دنيا فانية.

    فمن أجل هذه المحاذير التي تحف بالعلم يقول الشعبي : ليتني لم أكن تعلمت من ذا العلم شيئاً!

    وكان يصبر على أحوال الناس فيقول: لو أصبت في تسع وتسعين مسألة وأخطأت في مسألة لحفظ الناس الخطأ وتركوا الصواب.

    يعني: الكريم من عد خطؤه، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

    وكان يقول - وهذا كثير من السابقين كانوا يرددونه, يقولون-: ما بكيت من زمان إلا بكيت عليه، يعني: زمان لا يعجبني لما فيه من كدر وانحراف، وبعد مضيه يقول: ليته عاد ذلك الزمان, ليته عاد.

    وتقدم معنا في ترجمة عبد الله بن مسعود أنه قال: لا يأتي على هذه الأمة عام ولا يوم إلا والذي بعده شر منه, حتى نلقى نبينا عليه الصلاة والسلام على الحوض.

    وكان يقول هذه الجملة التي تنطبق على واقعنا: ما اختلفت أمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها.

    هذه سنة الاختلاف، فعندما ننشغل ببعضنا فأعداؤنا تخلو لهم الساحة، ويفرغ الأمر لأهل الباطل, ولا يعارضهم في طريقهم أحد, إلا ظهر وانتصر أهل الباطل على أهل الحق.

    وكان يقول: لا أدري -تساوي- نصف العلم. انظرو ترجمته الطيبة المباركة مطولة في السير في الجزء الرابع صفحة 294.

    والراوي الذي بعد الشعبي تقدمت معنا ترجمته, وهو علقمة .

    عن عبد الله بن مسعود تقدمت معنا أيضاً ترجمته.

    ترجمة إسماعيل بن علية

    قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم ، يريد به إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم , وهو المعروف بـإسماعيل بن علية، وعلية اسم أمه، وقد حكي عنه أنه كان يكره أن يتسمى بذلك رحمة الله ورضوانه عليه.

    قال الحافظ ابن حجر في التقريب: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي , أبو بشر البصري , يقال له: ابن علية , المعروف بـابن علية , ثقة حافظ, من الثانية، توفي سنة 193هـ, وهو ابن ثلاث وثمانين سنة, يعني: يقارب الشعبي , ويزيد عليه ثلاث سنين, عليهم جميعاً رحمة رب العالمين. هذه ترجمته في التقريب.

    و إسماعيل بن علية يقول فيه سيد الحفاظ شعبة بن الحجاج : إسماعيل بن علية سيد المحدثين, ويقول أئمتنا: حديثه في كتب الإسلام كلها.

    وكان يقول كما في السير في الجزء التاسع صفحة 107: من قال لي: إسماعيل بن علية فقد اغتابني، رحمة الله ورضوانه عليه.

    علق الإمام الذهبي على هذه العبارة قال: هذا سوء خلق، أي: غلط الذهبي من قال هذه العبارة في حق هذا الإمام المبارك، ولو كان التمس له عذراً فيما يقول، فإنه إذا عرف الإنسان بلقب وإن كان فيه نقصاً فلا حرج على الإنسان عندما يذكره أن يذكره بذلك اللقب من باب التعريف والتبيين، لا من باب التحقير والتهوين، فإذا قلت: الأعمش أو الأعرج لا يضر بشرط ألا تقصد تحقيره.

    وهنا إسماعيل بن علية يقول: إذا نسبتموني إلى أمي كأنكم ضيعتم نسبي، والإنسان لا ينسب إلى أمه إلا في حالة العهر، وإذا كان ابن طهر فإنه ينسب إلى أبيه، فيقول لذلك: من قال لي إسماعيل بن علية فقد اغتابني، ومن حقه أن يقول هذا.

    وأنا أقول: من قال: إسماعيل بن علية ونسبه إلى أمه تنقيصاً له فلا شك أنه قد اغتابه، ومن قال: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المعروف بـابن علية ، فليس هناك حرج، ولا داعي لأن نقول إن هذا سوء خلق.

    والإمام الذهبي رحمة الله ورضوانه عليه دائماً ما يرقق العبارة، ولكنه بشر، فالعبارات من قالها وقيدها لو كرر نظره فيها مرات ومرات لغير وغير، فالإنسان يغير في الكلام العلمي, فكيف في حكمه على الناس وفي التعبير عنهم فهو من باب أولى.

    والإمام الشافعي عليه رحمة الله قرئت عليه الرسالة مائة مرة, وما من مرة إلا وغير فيها، ثم قال في تمام المائة: أبى الله أن يصح كتاب غير كتابه ولو عرض كتاب سبعين مرة. هذا كلام الإمام الشافعي ، لا يوجد فيه سقط ولا خطأ، وأنا لا أقول هذا من باب التعيير للذهبي وتنقيصه, فرحمة الله عليه وعلى أئمتنا، إنما أقول: من حق هذا الإمام أن يقول: أنا أكره أن تعبر عني بهذا اللقب، وإنما قل: إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ، وإذا الإنسان ما عرف قل له: هذا الذي هو أبو بشر البصري الثقة الحافظ الذي يقول فيه شعبة : إنه سيد المحدثين, الذي ولي القضاء ثم ترك القضاء، الذي هو تلميذ شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك , قل ما شئت في تعريفي، لكن تجنب هذه التسمية: ابن علية ، حقيقة لا حرج، فهذا من حقه أن يقول: من قال عني إسماعيل بن علية فقد اغتابني.

    قال الذهبي : هذا سوء خلق. ثم قال: هذا شيء غلب عليه, يعني: خلق غلب على إسماعيل بن علية, وفي الحقيقة لو أن الناس تجنبوا التعبير عنه بذلك لكان الخير وانتهى الأمر.

    وهو من العلماء الربانيين، قال فيه حماد بن سلمة من أئمة أهل السنة الكبار: كنا نشبهه بـيونس بن عبيد .

    و يونس بن عبيد تقدم معنا ذكره وشيء من كراماته، وذكر زهده وورعه في البيع والشراء، وقول بعض الباعة بعد أن رأى ورعه وعرف اسمه، قال: إذا كنا في السفر واشتد علينا الكرب نقول: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا على أعدائنا.

    يقول حماد بن سلمة : كنا نشبه إسماعيل بن إبراهيم بـيونس بن عبيد ، حتى دخل فيما دخل من الولاية. وكان قد تولى ديوان المظالم لـهارون الرشيد , كما ولي أيضاً القضاء في الصدقات والإشراف على أموال اليتامى.

    فـحماد بن سلمة كأنه يريد أن يقول: نزل وتأخر عن مرتبته.

    ويقول شعبة عنه: إنه ريحانة الفقهاء، يعني: في الفقه ريحانة الفقهاء، وفي الحديث سيد المحدثين, يشبهونه بـيونس بن عبيد , فلما دخل في القضاء نزلت رتبته.

    انظر لهذه القصة التي يرويها أئمتنا في ترجمته, رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في ترجمته في الجزء السادس صفحة 236، وذكرها ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمته في الجزء الأول 278، وأشار إليها الذهبي وذكرها في الميزان في الجزء الأول صفحة 218، وفي السير في الجزء التاسع صفحة 110.

    وخلاصتها: أن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يشتغل ويتجر وينفق على أئمة الحديث، وكان يقول: لولا خمسة ما اتجرت, فعندي ما يكفيني, ولا أريد أن أدخل في أمر الدنيا، لكن لولا خمسة ما اتجرت: السفيانان الثوري وابن عيينة ، وابن السماك والفضيل بن عياض وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ، كأنه يقول: هؤلاء شيوخ المحدثين، وسادة المسلمين، ريحانة الفقهاء هؤلاء, أريد أن أصونهم عن وظائف السلطان, وعن أعطيات الحكام، لولا هؤلاء لما اتجرت، إنما أتجر لأنفق عليهم؛ من أجل أن يبتعدوا عن الأمراء، وحقيقة إن الاقتراب منهم ذل للقلب, لا شك في ذا.

    وكان سفيان بن عيينة يخبر عن نفسه فيقول: منذ أن خالطت السلطان حرمني الله من فهم القرآن.

    وقد قلت مراراً: إن سلطان زمانهم يتبرك به، ولو خرجنا للاستسقاء لقدمناه يدعو، وفي حقيقة لعله لا يصل أحد إلى صلاحه في هذا الوقت.

    وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم وعلى قدر الكرام تأتي المكارم

    ومع ذلك يقول: منذ أن أخذت أعطيات السلطان وخالطت السلطان حرمت فهم القرآن, أي: حجبني الله عن فهم القرآن. هذا سفيان بن عيينة .

    إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم ولي لـهارون الرشيد -الذي يحج سنة ويغزو أخرى- على الصدقات وعلى ديوان المظالم. فلما جاء عبد الله بن المبارك من مرو إلى بلاد العراق إلى بغداد تلقاه تلاميذه, ومنهم إسماعيل بن إبراهيم , فأكرمهم وأحسن إليهم ولاطفهم. إسماعيل جاء إلى شيخه، وكما رباه شيخ الإسلام وجده على ذلك، سلم على شيخه فلم يسلم عليه وجلس في الحلقة فما نظر إليه، فكعادة التلميذ يريد أن يسترضي شيخه، ولا يعني أن شيخه هجره أنه يهجر شيخه، يعني: ليس كحال التلاميذ في هذه الأيام، وقد أخبرني بعض الشيوخ الصادقين أن بعض طلبة العلم جاء ليتعلم وجلس فترة، يريد أن يتعلم, يطلب من الشيخ زيادة، قال: يا ولدي! طلب العلم يحتاج إلى بذل ومصابرة وجهد وتعب ومجاهدة إلخ وما أظهر التلميذ هذه العلامات, فقال له: خذ بمقدار ما تتحمل على حسب استطاعتك, يقول هذا التلميذ: لا, أنا أريد أن أتفرغ, وأنا وأنا. ويقول: أنا في أكثر مما تقول، فالشيخ أراد أن يستفزه ليثبت له فعلاً, فقال: كذبت، قال التلميذ: لم أكذب, بل أنت ومن علمك كذابون دجالون، قال: يا ولدي! أنا قلت لك من البداية: العلم يحتاج إلى صبر, نسأل الله حسن الخاتمة.

    إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم هو ريحانة الفقهاء، وسيد المحدثين، لكن وفوق كل ذي علمٍ عليم.

    والله إن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك أفضل منه ومن غيره, فهو سيد المسلمين في زمانه, يقول فيه الإمام أحمد كما تقدم معنا: لا يتقدمه في قلبي أحد، ويقول: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة إماماً، ما اخترت لهم إلا سفيان الثوري .

    على كل حال إسماعيل بن إبراهيم يقول لـابن المبارك: أيها الإمام! كنت منتظراً برك وإحسانك فما كلمتني، وأنا الذي سلمت عليك وما رددت علي، وجلست فما نظرت إلي, فما الذي بدر مني؟ أتوب إلى الله. فقال ابن المبارك : يأبى العبد إلا أن يقصر له عن العصا, يعني: ما فهم في التعريض, ويحتاج إلى تصريح فـ:

    العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة

    يأبى العبد إلا أن يقصر له عن العصا وإن لم يضرب بها؛ من أجل أن يعي حاله, ويبصر طريقه, ثم قال: اكتبوا على ظهر كتابه, فنظم أبياتاً كتبت إليه, يقول فيها:

    يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين

    احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين

    فصرت مجنوناً بعدما كنت دواء للمجانين

    أين رواياتك فيما مضى عن ابن عون وابن سيرين

    أين رواياتك في سردها في ترك أبواب السلاطين

    فإن قلت أكرهت فذا باطل زل حمار العلم في الطين

    وآخر الأبيات:

    لا تبع الدين بالدنيا كما يفعل ضلال الرهابين

    وأنا أقول: والله إنه ما باع دينه بدنياه، لكن هذا الورع الذي كان عند سلفنا وأئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    فلما قرأ إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم هذه الرسالة خرج حافياً من بيته إلى بيت هارون الرشيد مباشرة، وما بقي عنده شيء يثبته للقائه في اليوم الثاني خرج، ويقول قابله بعد الظهيرة, فلما دخل عليه قال: اجلس, قال: لا أجلس، قال: ماذا وراءك؟ قال: الله الله في شيبتي يا أمير المؤمنين! قال: وماذا عندك؟ قال: اعفني من القضاء, قال: وماذا عندك؟ ما السبب؟ لعل مجنون خراسان أفسدك علينا؟ يقصد ابن المبارك , قال: هو ذاك أقلني، قال: أقلناك، فخرج من قصر هارون يطير فرحاً، وذهب إلى شيخه عبد الله بن المبارك فأخبره, فأكرمه وأحسن إليه كما كان.

    هذا وهم في القرن الثاني، وتالله لا يوجد في القضاء في ذلك الوقت مادة واحدة خارجة عن كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، بل زيادة على هذا لا يولى القضاء إلا المجتهد، الذي لا يلزم باجتهاد أحد, وهو قرن الشافعي ومن بعده إلى أحمد , وسيقضي على حسب اجتهاده, ومع ذلك انظر لورع أئمتنا, لأن الحكم حقيقة عندنا في زماننا تغير عن المسلك الشرعي، وكانوا -أي: السلف- يرون أن الأسلم لطالب العلم وللعالم أن يبتعد، عن الولايات وعلى كل حال من خالط فقد عرض نفسه للتلف، إلا إن اتقى الله فلعله ينجو كفافاً.

    وسيأتينا أن الترمذي ساق هذا الحديث عن إسماعيل بن إبراهيم في كتاب التفسير عند سورة الأحقاف من طريق شيخه علي بن حجر , وقد تقدمت معنا ترجمته. يقول هنا: وروى الحديث عن علي بن حجر قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند , وأوردها هنا من طريق شيخه هناد .

    وقد روى هذا الحديث إسماعيل بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند , عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ), الحديث, أي: أي: أتم الحديث وأكمله إلى آخره بطوله. انتبه! فقال الشعبي : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ). انتبه لترجيح الترمذي ! وسيأتينا الكلام على هذا إن شاء الله ضمن مباحث الحديث.

    وكأن رواية إسماعيل أصح, يعني: الإرسال, وأن هذه الجملة ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) من كلام الشعبي مرسلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هو من رواية عبد الله بن مسعود عن نبينا المحمود عليه صلوات الله وسلامه، وكأن رواية إسماعيل أصح من رواية حفص بن غياث .

    وبقية الكلام: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم. يأتينا الكلام عليه إن شاء الله.

    هذا إخوتي الكرام! فيما يتعلق بالمبحث الأول في ترجمة رجال إسناد هذا الحديث.

    1.   

    تخريج طرق حديث: (لا تستنجوا بالعظم...)

    المبحث الثاني في تخريج الحديث، وتخريج هذه الروايات.

    أما هذا الحديث فهو حديث صحيح, رواه الإمام مسلم في صحيحه بمثل هذه الرواية, ومن هذا الطريق أيضاً, ولا داعي لترجيح الإرسال أو الوصل.

    انظر في الجزء الرابع صفحة 170 من شرح الإمام النووي ، وروي في مسند أبي عوانة في الجزء الأول صفحة 218، وفي السنن الكبرى للبيهقي في الجزء الأول صفحة 109، وفي صحيح ابن خزيمة في الجزء الأول صفحة 45.

    ورواية هؤلاء الأربعة من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود , كرواية الترمذي تماماً.

    وفي رواية ابن خزيمة : ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالبعر ).

    روايات الوصل والاتصال لحديث: (لا تستنجوا بالعظم...)

    والحديث روي من غير هذا الطريق, عن عبد الله بن مسعود , وأن هذه الجملة ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) روي متصلاً مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن من غير طريق داود بن أبي هند ، رواه أبو داود في سننه من غير الطريق المتقدمة في كتاب الطهارة, في الحديث رقم 39, باب ما ينهى عنه أن يستنجى به, ورواه النسائي في الجزء الأول صفحة 35 في كتاب الطهارة أيضاً, باب النهي عن الاستطابة بالعظم, ورواه أيضاً البيهقي من غير الطريق المتقدم ورواه الدارقطني في سننه في الجزء الأول صفحة 55.

    ولفظ رواية النسائي : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستطيب أحدكم بعظم أو روث ).

    ولفظ رواية أبي داود والبيهقي والدارقطني عن عبد الله بن مسعود عنه رضي الله عنه قال: ( قدم وفد الجن إلى النبي عليه الصلاة والسلام )، وسيأتينا أن هؤلاء الجن جاءوا من نَصيبين -بفتح النون- وهي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على طريق القوافل من الموصل إلى الشام، يقولون: في وسطها نهر بارد.

    قدم وفد الجن من ذلك المكان ( فقالوا: يا محمد! إنه أمتك ). من النهي، ( إنه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة ), وهي الفحمة المحترقة، قطعة الخشب إذا احترقت يقال لها: حممة. ( انه أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة؛ فإن لنا فيها رزقاً ), أي: هذه الأشياء جعلها الله لنا رزقاً, نأكل وننتفع بها، فلا تستنج أمتك بهذه الأشياء من أجل ألا تفسدها علينا، فيصبح أثر النجس عليها. قال عبد الله بن مسعود : ( فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ).

    والحديث رواه الإمام أحمد في المسند من طريق أخرى في الجزء الأول صفحة 459 عن عبد الله بن مسعود عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه, وفيه: ( سألوني )يعني: جن نصيبين ( الزاد فزودتهم، فقال له عبد الله بن مسعود : وهل عندك من شيءٍ تزودهم إياه يا رسول الله )؟! يعني: عندما خرجت لمقابلة وفد الجن ما كان مع النبي عليه الصلاة والسلام زاد. يقول: سألوك الزاد فزودتهم, وهل عندك شيء تزودهم إياه؟ قال: ( قد زودتهم الرجعة ). وهي الرجيع كما قلنا؛ لأنها رجعت عن حالها الطبيعي إلى حال النتن والفساد والتغير، ( زودتهم الرجعة, ما وجدوا من روثٍ وجدوه شعيراً، وما وجدوا من عظم وجدوه كاسياً ). فالروث والذبل والغائط إذا رآه الجن يقلب بقدرة خالق الإنس والجن إلى شعير ويصبح علفاً لدوابهم, والعظم الذي يطرح يجدونه كاسياً كأوفر ما كان عليه من اللحم.

    وهذا سنتكلم عليه ضمن مبحث الجن بعون الله، لنكون على بينة من هذه القضية. وأمر الغيب نؤمن به ونكل كيفية العلم بحقيقته إلى الله الذي يعلم السر وأخفى, وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وأمور الغيب كما قلت مراراً: من أكبر وأشنع العيب أن تدخل عقلك فيها وتبحث في الكيفية, بل وفوضها إلى العالم بها وإلى قائلها, وهو الله جل وعلا.

    إذاً: ( سألوني الزاد فزودتهم، وهل عندك شيء تزودهم إياه؟ قال: زودتهم الرجعة, فما وجدوا من روث وجدوه شعيراً، وما وجدوا من عظم وجدوه كاسياً. قال عبد الله بن مسعود : فعند ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطابة بهما ), يعني: بالروث وبالعظم. وفي رواية: ( نهى عن أن يستطاب بالروث والعظم ).

    ورواه الدارقطني من رواية أخرى؛ وابن أبي شيبة في المصنف, في الجزء الأول صفحة 108، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط كما في المجمع في الجزء الأول صفحة 210 بلفظ: قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن مسعود عندما ذهب ليقضي حاجة وتبعه عبد الله بن مسعود قال: ( ائتني بشيء استنجي به, ولا تقربني حائلاً ولا رجيعاً )، والحائل هو العظم المتغير الذي قارب من البلى والتفتت، والرجيع هو: الروث والغائط والبعر.

    وفي رواية للدارقطني : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بعظم حائل أو روثة أو حممة ).

    وفي رواية الطبراني في معجمه الأوسط: عن عبد الله بن مسعود قال: ( أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر ), يعني: عندما نادى الجن وعاد إليه قبيل السحر ( وفي يده عظم حائل ), متغير, ( وروثة وحممة, فقال: إذا أتيت الخلاء فلا تستنج بشيء من هذا ).

    والحديث أورده ابن أبي شيبة في المصنف مرسلاً من طريق علقمة دون ذكر عبد الله بن مسعود , فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تستنجوا بالعظام ولا بالروث؛ فإنهما زاد إخوانكم من الجن ).

    هذا فيما يتعلق بالرواية الأولى, وهي رواية صحيحة ثابتة, من نفس طريق الترمذي ، ورويت من طرق أخرى, وهي صحيحة ثابتة متصلة مرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

    طرق وروايات الإرسال لحديث: (لا تستنجوا بالعظم...)

    أما الرواية الثانية المرسلة وأن هذه الجملة من كلام الشعبي مرفوعة إلى النبي عليه صلوات الله وسلامه، وهذا ما رجحه وأشار إليه الإمام الترمذي من أن الجملة الأخيرة في الحديث الطويل في مجيء الجن ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) وأنها مرسلة من حديث الشعبي , وليس في حديث عبد الله بن مسعود ذكرها، صرح به الترمذي , ورواه في كتاب التفسير في تفسير سورة الأحقاف.

    وكذلك رواه مسلم في صحيحه, من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم , وفي نهاية الحديث قال الشعبي : ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث )، مرسلاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    ورواه أحمد في المسند في الجزء الأول صفحة 436، ورواه البيهقي في دلائل النبوة في الجزء الثاني صفحة 229، وفي السنن الكبرى في الجزء الأول صفحة 109.

    قال النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الرابع صفحة170: وإن هذا الحديث ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ) ليس مروياً عن ابن مسعود في رواية إسماعيل بن إبراهيم فيما رواه بهذا الحديث، وإنما هو من كلام الشعبي مرفوعاً إلى النبي عليه صلوات الله وسلامه.

    قال الإمام النووي : والشعبي لا يقول هذا إلا بتوقيف. وسيأتينا من طريق الشعبي ما صرح فيها بالرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولها حكم الرفع؛ لأن التابعي إذا قال قولاً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع، فلا يمكن أن يقول هذا إلا بتوقيف, يعني: تلقاه عن صحابي؛ لا أنه لم يتلق هذا عن عبد الله بن مسعود . ولذلك عندما روى هذا الحديث ما أضاف هذه الجملة إلى عبد الله بن مسعود إنما ذكرها على أنها حكم شرعي مع هذا الحديث.

    هذا على هذه الرواية بالإرسال، وسيأتينا الجمع بين الأمرين؛ لأن كلاً من الأمرين ثابت، والراوي أحياناً يرفع الحديث وأحياناً يوقفه، فلا حرج ولا إشكال في ذلك على الإطلاق.

    هذه الرواية كما قلت: رواها مسلم وغيره.

    قال الإمام مسلم : حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى -فـعبد الأعلى بن عبد الأعلى كما سيأتينا تابع حفص بن غياث ، وهذا مما يدل على عدم وهمه وخطئه في الرواية, وأن الرواية مروية من طريق آخر متصلة مرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام-

    حدثنا عبد الأعلى عن داود - وهو ابن أبي هند - عن عامر - وهو الشعبي - قال: سألت علقمة هل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، قال: فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود , فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال - ابن مسعود -: ( لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب, فقلنا: استطير ), يعني: طارت به الجن وخطفته، ( استطير أو اغتيل ), أي: قتل سراً وخفية, وهو أصله الغيلة، ( استطير أو اغتيل, قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ). وهذا سيأتينا ضمن مبحث الجن ومقابلة النبي عليه الصلاة والسلام لهم، وأن هذا تعدد, فمرة كان معه الزبير ، ومرة كان معه عبد الله بن مسعود ، ومرة ذهب بنفسه، وهذه التي في هذا الحديث ذهب بنفسه، وبهذا يجمع بين الروايات إن شاء الله.

    قال: ( فبتنا بشر ليلة بات بها قوم, فقال: أتاني داعي الجن فذهبت معه, فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد, فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه, يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم ).

    هذه الرواية متصلة من رواية عبد الله بن مسعود , تابع عبد الأعلى فيها حفص بن غياث في روايته عن داود بن أبي هند .

    يقول مسلم -انتبه!-: وحدثنيه علي بن حجر , وهو شيخ الترمذي ، روى عنه هذه الرواية في كتاب التفسير، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم . ونعم ما فعل, أضافه هنا إلى ما لا يكرهه, قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بهذا الإسناد, يعني: عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود بهذا الإسناد, إلى قوله: ( فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ). انتهى الحديث. قال الشعبي : وسألوه الزاد, وكانوا من جن الجزيرة, وهم جن نصيبين, إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله , يعني: مفصولاً, وليس هذا من روايته, يعني: وميز الرواية الأولى بأنها متصلة مرفوعة من رواية عبد الله بن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأما هذا فمن كلام الشعبي ، وقلت: مثل هذا يكون مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    انتبه! وهذه طريق أخرى فيها كما في رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم : قال الإمام مسلم : وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن داود , يعني: ابن أبي هند . وهنا عبد الله بن إدريس , خالف حفص بن غياث . كما إسماعيل بن إبراهيم خالف حفص بن غياث حيث الذي جعل الحديث كله من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأما رواية إسماعيل بن إبراهيم ( لا تستنجوا بالعظام ولا بالروث ) فهي من كلام الشعبي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فهذه وهنا متابعة أخرى لـإسماعيل , وفيها مخالفة لـحفص بن غياث .

    حدثنا عبد الله بن إدريس عن داود ، عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام إلى قوله: وآثار نيرانهم. ولم يذكر ما بعده. كأنه يريد هنا أن يقول في هذه الرواية والتي بعدها والتي بعدها: إن حفص بن غياث وهم, فرفع هذا الحديث من كلام ابن مسعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وهو من كلام الشعبي مرفوعاً.

    قال الإمام مسلم : وحدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا خالد بن عبد الله عن خالد عن أبي معشر عن إبراهيم - وهو النخعي - عن علقمة عن عبد الله قال: ( لم أكن ليلة الجن مع رسول الله عليه الصلاة والسلام, وودت أني كنت معه ). هذا حديث آخر. وسيأتينا الجمع بين النفي وبين الإثبات إن شاء الله عند مبحث الجن.

    إخوتي الكرام! خلاصة الكلام: حفص بن غياث في الرواية الأولى جعل الحديث كله من رواية عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى نبينا المحمود, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتابعه عليه كما تقدم عبد الأعلى بن عبد الأعلى في صحيح مسلم , وفي مسند الإمام أحمد , وفي السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء الأول صفحة 108.

    أما الروايات التي تقدمت وقلنا: هي مرسلة, فرواها أيضاً مسلم من كلام الشعبي , والبيهقي في دلائل النبوة، والسنن الكبرى، والإمام أحمد في المسند كذلك، لكن رواه مسلم من كلام عبد الله بن مسعود من غير طريق حفص ، بل من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى البصري السامي - بالسين المهملة- وهو أبو محمد, وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام ، كما كان يكره إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم النسبة إلى أمه، ثقة، توفي سنة 189 للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الستة.

    وتابع عبد الأعلى حفصاً , ولم يتفرد حفص بهذه الرواية، وإن خالفه إسماعيل ، وابن أبي زائدة ، وعبد الله بن إدريس الأودي ، وابن زريق ، وأكثر أصحاب داود خالفوا حفص بن غياث كما قال الإمام مسلم، وهكذا غيرهم جعلوا هذا من كلام الشعبي .

    الجمع بين روايات الوصل والإرسال لحديث: (لا تستنجوا بالعظم...)

    إن الجواب عن هذا الخلاف وهو ما اختاره الشيخ أحمد شاكر ونعم ما قال، ولو لم يقل به لا بد من القول به، وهو ما ذهب إليه الإمام الترمذي , والعلم عند الله جل وعلا، أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وحفص بن غياث ثقة حافظ، وتابعه ثقة حافظ أيضاً، فهذا يؤيد رواية حفص ، وأن الرواية مضبوطة محفوظة, فإن قيل: إنها في رواية الأكثر مرسلة نقول: الراوي قد يصل أحياناً وقد يرسل أحياناً. فـالشعبي فيما رواه حفص بن غياث عن داود عنه في هذه الرواية وصل، وأحياناً جاء الشعبي وأرسل، فما رفع هذا إلى علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, فلا حرج أنه أحياناً يصل وأحياناً يرسل، فإذا تبين لنا الاتصال نقول: تلك الرواية متصلة لمجيئها من هذه الطرق الثابتة الصحيحة. نعم لو انفرد حفص بن غياث فممكن أن يقال: بأنه يهم، أما وقد رواها حافظان فلا, وإن كان أربعة حفاظ رووا خلافها فهذا لا يعني أن هذه الرواية مجهولة مع إمكان الجمع، فنحن نريد ألا تتعارض الروايات، والجمع هنا ممكن بيسر وسهولة، والراوي أحياناً كما يقول علماؤنا: يرسل، وأحياناً يصل، وأحياناً يقطع، وأحياناً يرفع, وأحياناً يقف الحديث ولا يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فلا حرج.

    فإذا تبين ثبوت الحديث متصلاً مرفوعاً من طريق صحيح ثابت عض عليه بالنواجذ، وهنا تفرد حفص زال بمتابعة عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي البصري، والعلم عند الله جل وعلا.

    وعليه فهذه الرواية ثابتة من رواية عبد الله بن مسعود عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن ).

    متابعات لحديث ابن مسعود: (لا تستنجوا بالعظم)

    وقبل أن أنتقل إلى تخريج الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي وفي الباب, أقول: إن رواية عبد الله بن مسعود التي تقدمت معنا من طرق متعددة, ورواها أصحاب الكتب المصنفة، تقدم معنا ما يشبهها ونظيرها سابقاً.

    منها الرواية المتقدمة في المسند وصحيح البخاري , ورواه أهل السنن الأربع إلا سنن أبي داود ، وهو في صحيح ابن خزيمة والسنن الكبرى البيهقي وسنن الدارقطني ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف وابن حبان في الصحيح وأبو داود الطيالسي في مسنده, بلفظ ( التمس لي ثلاثة أحجار ). وهو الحديث السابع عشر في الباب الثالث، يعني: قبل هذا, وفيه شاهد لهذه الرواية. ( التمس لي ثلاثة أحجار، فأتيت بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة, وقال: إنها ركس ). يتمشى مع هذه الرواية، وأنها ضمن رواية عبد الله بن مسعود .

    قال الحافظ ابن حجر : هذا الحديث بأنها رجس، وأنها أيضاً زاد إخوانكم من الجن, هذه كلها روايات ثابتة عن عبد الله بن مسعود , وقال: إن الحديث مشهور بجميع طرقه، كما في التلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة 120.

    وتقدم معنا أيضاً في المباحث السابقة حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه البزار بإسناد رجاله موثقين وفيه: أن عبد الله بن مسعود قال للسائل عندما قال له: يعلمكم نبيكم صلى الله عليه سلم كل شيء، وقلنا: هذا ثبت أيضاً عن سلمان . فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستقبل القبلة بفروجنا، وألا نستنجي بأيماننا، وألا نستنجي بالرجيع ولا بالعظم - تقدم معنا- وألا نستنجي بدون ثلاثة أحجار ).

    هذه كلها من رواية عبد الله بن مسعود , يمكن أن يقال عنها: في الباب، لكن ضمن رواية عبد الله بن مسعود .

    شواهد لحديث ابن مسعود: (لا تستنجوا بالعظم)

    أما الروايات الأربع التي أشار إليها الإمام الترمذي بقوله: وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر .

    أما قوله بعد: وفي الباب عن جابر وابن عمر فأئمتنا قالوا: هذا مكرر، والذي يبدو لي أن هذا من عمله اختصر والعلم عند الله.

    وفي الباب عن أبي هريرة وسلمان وجابر وابن عمر , يعني: فيما يتعلق بالنهي عن الاستنجاء بالعظم والروث والبعر أحاديث وردت عن أبي هريرة وعن سلمان وعن جابر وابن عمر .

    أما رواية أبي هريرة فقد أخرجها الإمام البخاري في كتاب الوضوء, باب الاستنجاء بالحجارة، ورواها الإمام البيهقي في دلائل النبوة في ا لجزء الثاني صفحة 233، وهي بمعنى رواية عبد الله بن مسعود المتقدمة في الحديث السابع عشر، وفيه: أن أبا هريرة تبع النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: ( ائتني بثلاثة أحجار, ولا تأتني بروثة ولا عظم ).

    ورواية أبي هريرة هذه تقدمت الإشارة إليها أيضاً ضمن الروايات المتقدمة السابقة.

    ورواية سلمان تقدمت معنا, وقلت: رواها أبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي , وقلت: إن الحديث صحيح، كما نص على ذلك النووي في المجموع, وغالب ظني ذكرها عند النهي عن الاستنجاء باليمين, وهو الباب الحادي عشر, قال: وفي الباب: عن عائشة وسلمان وأبو هريرة ، وحديث أبي هريرة تقدم التخريج, وهو ينفع هنا؛ لأنه فيه النهي عن الاستنجاء باليمين مع أمور أخرى, منها: النهي عن الاستنجاء بعظم أو بروث, كما تقدم معنا لفظه من الروايات التي أشرت إليها عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه ). هذا وهو في باب كراهة الاستنجاء باليمين, ( ولا يستطب بيمينه, وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة ). وتقدم معنا أن الروث هو: البعر والغائط، والرمة هي العظام البالية.

    حديث سلمان تقدم معنا في الباب الثاني عشر باب الاستنجاء بالحجارة, وقلت: إنه في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن ابن ماجه ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه وابن خزيمة في صحيحه والدارقطني والبيهقي ، ورواه أبو عوانة وأبو داود الطيالسي وابن حزم في المحلى, ولفظه أنه قيل لـسلمان : ( قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمان : أجل، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين, أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار ). انتبه لمحل الشاهد! ( أو أن نستنجي برجيع أو عظم ).

    قوله: وفي الباب عن جابر لم تتقدم معنا هذه الرواية، ورواية جابر رواها مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، وأبو عوانة في مسنده في المكان المشار إليه في الجزء الأول صفحة 218، ورواها البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الأول صفحة 110، ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم أو روثة ).

    وفي رواية أبي داود : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم أو بعر ), وهو بمعنى الروثة.

    والرواية الرابعة في الباب عن ابن عمر لم يذكرها الشيخ المباركفوري في تحفة الأحوذي وما تكلم عليها أبداً, مع أن عادته أن ما لم يجده يقول: ما وقفت عليه, كما تقدم معنا.

    وهذه الرواية ما تكلم عليها مع أنها موجودة في المتن, يعني: في نسخته, وما أسقطها، فما قال: إنها مروية ولا إنها غير مروية، ولا وقف عليها ولا لم يقف.

    وحقيقة ما وقفت على رواية لـعبد الله بن عمر تدل على ثبوت هذا المعنى, ألا وهو النهي عن الاستنجاء بعظم أو بعر. نعم تقدمت معنا رواية لـعبد الله بن عمر رضي الله عنه فيها الاستجمار بالحجارة. فهل الإمام الترمذي يشير إليها, وأن الاستجمار بالحجارة يفهم منه عدم الاستجمار بالعظم أو بالروث؟ نعم العلم عند الله.

    ورواية عبد الله بن عمر التي وفيها هذا المعنى، هي في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء الأول صفحة 211، وقال الهيثمي : في إسناده قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة , وضعفه جماعة، وقلت: إن قيس بن الربيع صدوق, تغير لما كبر كما قال الحافظ ، وهذا كله تقدم معنا.

    يقول الحافظ : صدوق, تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به. توفي سنة بضع وستين, أي: بعد المائة؛ لأنه من الطبقة السابعة, وقلت: حديثه في السنن الأربعة إلا سنن النسائي .

    ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من استجمر فليوتر ).

    فهل يقصد الإمام الترمذي هذا؟ الذي يظهر لي أنه لا يقصده.

    لكن -كما قلت- هذا ما وقفت عليه من رواية لـابن عمر فيما يتعلق بالاستجمار والاستنجاء، مع أنني بحثت كثيراً وكثيراً في دواوين السنة لكن دون وقوف على المطلوب، وهذا يخل المقولة التي يتناقلها الناس في هذا الزمان: إن علم الحديث دون وجمع، والوقوف عليه أيسر من الوقوف على الحديث في الزمن الماضي.

    إن السابقين كانت أناجيلهم صدورهم، فصارت أناجيلنا كتبنا, لكن دون أن نعي ما فيها، يعني: العلم في السطر لا في الصدر، وأئمتنا يقولون: العلم ما وعاه الصدر, لا ما وعاه القمطر, بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]. فلو كان الإمام الترمذي عليه رحمة الله بين لنا وروى لنا حديث عبد الله بن عمر في الباب، ولكن هذا حالنا, وإلى الله نشكو ضعفنا وجهلنا وقصورنا وتقصيرنا.

    اللهم صلّ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمن علمنا ولمن تعلم منا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756365130