وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، فاللهم حقق لنا هذا الفوز واجعلنا من أهله إنك ربنا وولينا ولا ولي لنا سواك.
وقد ختمنا سورة النساء، ولنستفتح بحمد الله سورة المائدة، هذه السورة من آخر ما نزل من سور كتاب الله عز وجل، فهي -إذاً- سورة الأحكام، وقد اشتملت على العديد من الأحكام الشرعية، والسورة آياتها مائة وعشرون آية، وهي مدنية بدون ما شك من آخر ما نزل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:1-2]. هيا نتدارس هاتين الآيتين الكريمتين.
يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً! يا من آمنتم بالله وكتبه ورسله ولقائه وقضائه وقدره! أيها المؤمنون أولياء الله! أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وسبق أن علمنا أن الله لا ينادينا إلا لأمر يريد أن يأمرنا بفعله، أو ينادينا لينهانا عن شيء يضرنا ويفسد نفوسنا، أو ينادينا ليبشرنا بما يزيد به صالح أعمالنا، أو ينادينا ليحذرنا وينذرنا مما هو خطر علينا في دنيانا أو أخرانا، أو ينادينا ليعلمنا ما به نعرفه ونطيعه فنكمل ونسعد.
فالله إذا ناداك أصغ بأذنك واسمع، وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: إذا سمعت (يا أيها الذين آمنوا) فأعرها سمعك، فإنك منادى، أعطها أذنك واسمع: فإن أمرت فافعل وإن نهيت فاجتنب، وإن بشرت فاستبشر، وإن أنذرت فاحذر، وإن علمت فتعلم، وحاشا الله أن يناديك لا لشيء.
ثم تأتي العقود العامة: الصلاة، إذا استقبلت البيت وقلت: الله أكبر ناوياً صلاة تصليها فهل يجوز أن تبطلها؟ أن تنقضها؟ لا يجوز فذلك حرام، إذا عقدت عقداً فوف به، قلت: لبيك اللهم عمرة، ومشيت مائة كيلو وبعد ذلك تقطعها تقول: لقد تركنا مشاغلنا. أيجوز هذا؟ إنه عقد بينك وبين الله! شرعت تتوضأ فغسلت يديك بعد وجهك ثم قلت: سوف نتوضأ في ساعة أخرى. فما يجوز، لا تنقض العقد الذي بينك وبين الله.
وتأتي العقود الأخرى عقود البيع والشراء والإيجار والكراء وسائر العقود التي بينك وبين الناس، يجب الوفاء بها ويحرم نقضها ونكثها وعدم الوفاء بها، قلت: بعت. فقال: اشتريت، فلا يحل أبداً أن تقول: رجعت عن البيع. إلا أن تقول: أقلني لوجه الله. ارحمني فأنا ضعيف ما شعرت بكذا، فيمكن أن يرحمك أخوك، أما أن تعقد ثم تتراجع فلا، استأجرت سيارة منزلاً طيارة أي إيجار أي اكتراء أي شيء يجب الوفاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فلهذا المؤمنون الصادقون لا ينكثون عهداً ولا ينقضون عقداً أبداً، وإن اضطر أحدهم -كما مثلت- فإنه يتلطف مع من عقد له ويسأله بالله أن يرحمه أو يلطف به ليحل العقد بنفسه.
هذا نظام حياتنا معاشر المؤمنين عملاً بهذا الأمر الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، وعهود المرأة وعقود الزواج والنكاح أيعبث بها ويلعب بها؟! بالأمس تزوجتها على كتاب الله وسنة رسول الله ثم تسبها وتطلقها خمسين طلقة، ما حملك على هذا، أي نقض في العهود أكثر من هذا؟!
بايعت إماماً يجب أن تفي بيعته حتى الموت، أما أن تعاهده وتبايعه ثم تخونه وتبايع آخر فلا يحل هذا في الإسلام أبداً، أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
وكذلك السياسية الدولية، عقدنا عقداً مع دولة كافرة يجب أن نفي لها بعقدنا ولا نقول: هذه كافرة، وكذلك إذا عقدت عقداً مع يهودي أو مجوسي عدو لله ورسوله يجب أن تفي بعقدك؛ لأنك مؤمن حي وأما هو فكافر ميت.
فهل نحن بعد هذا مستعدون للطاعة؟ إي ورب الكعبة، كيف نرضى بالكفر بعد الإيمان وهو تعالى ينادينا تشريفاً لنا بعنوان الإيمان ويأمرنا بأعظم شيء؛ إذ الحياة كلها قائمة على الوفاء، فلولا الوفاء بالعهود لأكل الناس بعضهم بعضاً، وأصبحت الدنيا ناراً مستعرة؟
فهذه منته: أولاً: خلقها لنا، ثم أذن لنا في أكلها، قال: رُفع الحظر وانحلت العقدة فكلوا من بهيمة الأنعام، فهيا نشكره: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.
هل نحن خلقنا البقر أو الإبل أو الماعز؟ خلقها الله، ولو أنه ما أذن لنا في أكلها لكانت كالذئاب والكلاب ما نأكل منها أبداً، إذاً: له المنة، فالحمد لله.. الحمد لله، ما أعلمنا بهذا إلا لنحمده ونشكره.
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]، الإبل والبقر والغنم بنوعيها الضأن والماعز.
ثم قال تعالى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، إلا الذي سيقرأ عليكم بعد الآية الثانية، وهو ما حرم علينا بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة:3]، إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1] في المستقبل بعد آيتين، فذلك غير مباح، ما أحله، أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1] اللهم إلا ما سيتلى عليكم من الحرام فاعرفوا أنه محرم.
ولم سميت البهيمة بهيمة؟ قيل: لأنها مبهمة ما تنطق وما تبين وما تعقل وما تفهم، فهي بهيمة، والناس قد يشتم أحدهم أخاه يقول له: أنت بهيمة، لأنه ما فهمه وما عرف عنه، فالبهيمة سميت بهيمة لبهمة فيها، ما تعرف هذا ولا ذاك، هذه البهيمة أحلها الله عز وجل لنا.
ولو كانت غير بهيمة لما أحلها لنا، لو كانت تنطق وتعقل وتفهم لما حلت لنا؟ أيحل لنا أكل بعضنا؟ لكن هذه البهيمة أذن لنا في أكلها لنعبده طول حياتنا.
إذاً: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ [المائدة:1] والحال: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، أما من كان حلالاً فليصد ما شاء أن يصيد، باستثناء أن لا يصيد في الحرم، صيد الحرم حرام لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يصيد في الحرم أرنباً ولا غزالاً ولا ضبياً ولا حيواناً أبداً ولا طيراً ولا حماماً إلا ما أذن الشارع فيه كالحيوانات المؤذية التي تؤذي.
والمدينة أيضاً؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وإنى حرمت المدينة ما بين لابتيها )، وقال: ( المدينة حرام ما بين عير إلى ثور )، فالمدينة حرام، فلو مررت بحيوان في الطريق تحت شجرة مستظل لا يحل لك أن تزعجه وتبعده من الظل وتجلس مكانه.
و(عير): جبل في جنوب غرب المدينة، كالحمار، ولهذا يسمى بالعير لأنه رابض هناك، ووراء أحد الحل، لكن أحداً نفسه وما دونه إلى المسجد من الحرم، وجبل ثور وراء أحد ملاصق له من الجهة الشمالية الشرقية، فقوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ [المائدة:1] والحال أنكم محرمون، فالمحرم لا يصيد سواء كان في أي مكان ما دام قد أحرم وقال: لبيك اللهم حجة أو عمرة، ولو كان في فلسطين فإنه لا يحل له أن يصيد وهو حرام.
والشاهد عندنا في قول ربنا: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:1]، فالمحرم لا يحل له أن يصيد في أي مكان، لو أحرم من بلاد بعيدة وخالف السنة فهل يجوز له هل له أن يصيد وهو محرم؟ لا يحل له، لكن الحلال لا يصيد بالحرم، الحلال بخلاف المحرم لا يحل له أن يصيد في الحرم.
والحرم حرمان: الحرم المكي والحرم المدني، فذاك حرمه إبراهيم وهذا حرمه الحفيد محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: ( إن إبراهيم قد حرم مكة وإني حرمت المدينة )، وقال في تأكيد هذه الحرمة: ( المدينة حرام ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لو يفهم هذا الحديث مؤمن ويبلغه لارتعدت فرائصه ولما استطاع أن يرتكب سوءاً في هذا البلد، كيف وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟! كيف ولا يقبل منه فرض ولا نفل؟! من أحدث فيها حدثاً أو نصر وآوى محدثاً.
ولكن جهل الناس تركهم يقعون في هذه وهم لا يشعرون، إذا لم تستطع أن تستقيم في المدينة فارحل منها ولا تقم فيها أبداً نفسك، ما تقوى على أن تعبد الله فيها ارحل إلى مكان آخر، هذا الكلام تكلمنا به منذ ثلاثة وأربعين عاماً ونحن على علم بما نقول، إذا لم تستطع أن تقيم في هذا الحرم فاخرج إلى بلد آخر فزمر أو غنِّ أو احرق وجهك أو اكشف وجه امرأتك! أما هنا فلا.
أعيد القول: الحديث في الموطأ وفي البخاري وفي مسلم وفي الصحاح كلها: ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، لا فرض ولا نفل، كيف يعيش هذا العبد؟!
وقد نادانا الله تعالى في القرآن تسعين نداء، ما بقي حكم من أحكام الشرع إلا وحوته هذه النداءات: في الحرب.. في السلم.. في السياسة.. في المال.. في الاقتصاد.. في العبادات.. في العقائد.. في كل شئون الحياة.
وتبين بالاستقراء والتتبع أنه ما نادانا إلا لواحدة من خمس: إما ليأمرنا بما فيه صلاحنا، أو ينهانا عما فيه شرنا، أو يبشرنا بما يزيد في عملنا، أو ينذرنا ليخوفنا فنترك ما حذرنا منه، أو ينادينا ليعلمنا ما نحن في حاجة إلى علمه ومعرفته، إذاً: فالحمد لك يا رب العالمين، اللهم لك الحمد. اللهم لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، هذا النداء فيه ما هو محكم وفيه ما هو منسوخ.
إذاً: فقوله تعالى: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ [المائدة:2] منسوخ؛ لأن الله تعالى قال في الإذن: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5].
إذا كان بعيراً فإنه يجرح من سنامه من الجهة اليمنى فيسيل دم فيعمم على وبره، فيعرف بين الناس أن هذا هدي، لو وجدته وحده في الصحراء لا يحل لك أن تقربه، هذا مهدى لله ولحرمه، أو بقرة كذلك، والغنم لا تجرح، ولكن تعلق قلادة في عنقها وتمشي بها، من رآها يقول: هذه للحرم. فلا يختطفها منك ولا يقاتلك من أجلها، فإذا كنت خائفاً من بني فلان أن تمر بديارهم وأنت ذاهب إلى الحرم فعلق في عنقك من شجر الحرم، فيقولون: هذا من أهل الحرم فلا يؤذونك! هذا تدبير الله عز وجل.
وقد جاء في السورة في آخرها قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97].
إذاً: قوله تعالى: وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [المائدة:2]، الشهر الحرام قلنا: إن تحريم القتال فيه منسوخ، يجوز القتال فيه إذا أمر إمام المسلمين بالقتال.
والهدي والقلائد هل يجوز أن نعتدي عليها؟ لا أبداً، لو أن شخصاً قلد عنقه لحاء من قشر من شجر الحرم فإنك تقول: هذا كان بالحرم أو هو في طريقه إلى الحرم فلا تؤذوه، ففي الإسلام من باب أولى، في الإسلام لا نؤذي مؤمناً سواء ذهب إلى الحرم أم ذهب إلى أوروبا.
وقد كان في الزمان الأول قبل هذه الآية إذا كان الحجاج محرمين ذاهبين إلى مكة يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً -أي: تجارة ومالاً ودعاء الله- فلا تعترضوهم ولا تؤذوهم، ثم صار هذا منسوخاً أيضاً.
مرة ثانية: يقول تعالى منادياً لنا بإيماننا: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2]، فعلمنا أنه لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة أن يحل شعيرة من شعائر الإسلام لا بفتيا يفتي بها ولا بعمل يعمله، يجب أن يحفظ دين الله بيننا.
ثانياً: الشهر الحرام كان محرماً على الناس أن يقاتلوا فيه، ثم لما قامت دولة القرآن على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ الله ذلك، فما بقي للشهر الحرام حرمة القتال فيه.
ثالثاً: الهدي والقلائد، وهذه محرمة إلى الآن، إذا أراد شخص أن يهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً إلى الحرم وأعلمها فلا يحل لك أن تعتدي عليها بحال من الأحوال.
رابعاً: آمو البيت الحرام الذين يذهبون للتجارة فيه أو للدعاء؛ لأن المشركين كانوا يحجون للتجارة ويحجون لدعاء الله وسؤاله وطلب حاجاتهم منه، وهو ربهم ويستجيب لهم، قال تعالى: وَلا آمِّينَ [المائدة:2]، قاصدين، الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ [المائدة:2]، ماذا؟ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ [المائدة:2]؛ لأنهم يتجرون يحملون البضائع ويبيعونها في الحج أو يشترون أخرى ويبيعونها في بلادهم، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2].
ثم قال تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، أذن لنا: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا، أي: اصطادوا خارج الحرم، أما داخل الحرم فلا صيد، سواء كنت محرماً أو غير محرم، فلا يحل الصيد أبداً.
في صلح الحديبية كان بعض المؤمنين ما زال في نفوسهم تغيظ على المشركين؛ من أجل أنهم منعوهم من مكة وردوهم بدون أن يعتمروا، ففي نفوسهم بغض لهؤلاء وشنآن، فقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فتمت تلك العهدة وذلك العقد وذلك العهد، فكان الرجل يمر بقاتل أبيه فما يلتفت إليه، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2]، فلهذا قدمنا أنه لا يحل الاعتداء على أي إنسان كافراً كان أو مؤمناً، والاعتداء هو الظلم ومجاوزة الحد، فلا يجوز في مال ولا في عرض ولا بدن.
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة:2]، لا يحملنكم، شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [المائدة:2]، عام الحديبية، أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة:2] عليهم أو على واحد منهم أو أكثر.
في الحقيقة هي صدقة الفطر، ولكنها زكاة لأنها تزكي النفس وتطهرها كسائر العبادات، ما من عبادة شرعها الله تعالى وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم فيفعلها العبد إيماناً واحتساباً وإخلاصاً لله إلا عملت في نفسه الزكاة والطهر والصفاء، والله العظيم، ولا تتخلف أبداً إذا استوفت الشروط وهي:
أن تكون مما شرع الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن يفعلها كما بينها الرسول بلا زيادة ولا نقصان ولا تقديم ولا تأخير.
ثالثاً: أن يفعلها إيماناً بالله وأن يخلصها لله وحده، فلا بد أن تطهر نفسه وتزكيها.
والصاع: أربعة أمداد، والمد: حفنة بكفي الرجل المتوسط لا القصير ولا الطويل، أربع حفنات بحفنة الرجل المعتدل هي الصاع، المد حفنة، والمدان حفنتان، والثلاث ثلاث حفنات، والأربعة صاع، مما يقتات ويكون غالب قوت أهل البلد، ننظر إلى البلد الذي نحن فيه ما هو أكثر طعام يأكلونه، فإن قالوا: الأزر، إذاً: فالأرز، وإن قالوا: أكثر ما يأكل أهل البلاد التمر، إذاً: نعطي من التمر، أو أغلب ما يأكلون الأقط، ما عندهم إلا اللبن المجفف فنعطي منه، نعطي صاعاً من تمر أو شعير أو أرز أو أقط أو طعام آخر، هذا المقدار، هذه هي الكمية.
والذي يعيل أفراداً هو الذي يجب أن يخرج زكاتهم، مثلاً: تعيل اثنين أو ثلاثة من الفقراء طول رمضان وهم معك إذاً: تخرج عنهم زكاتهم، خادم أو خدم معك طول العام في بيتك أنت الذي تخرج صدقتهم وزكاتهم، أما ضيف استضفته ليلة أو ليلتين فما أنت بملزم بأن تخرج زكاة فطره.
وإخراجها لمن يكون؟ للفقراء والمساكين، للذين ما يجدون ما يقتاتونه يوم العيد، فمن رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم أن قال: ارحموا فقراءكم وسدوا حاجتهم ولا تضطروهم إلى أن يسألوا يوم عيد ويوم فرح المؤمنين.
إذاً: فلو أخرجت قبل العيد بيوم أو يومين للضرورة فلا بأس، وأفضل أوقاتها من صلاة الصبح إلى صلاة العيد، أفضل وقت، وبعد صلاة العيد كأنما هي صدقة، بعد زوال يوم العيد تصبح صدقة من الصدقات وليست بزكاة الفطر؛ لأنها ما انتفع بها الفقراء والمساكين.
إذاً: فلنحرص على أن نقدمها قبل وقت نهايتها، لكن لو حجزها في جانب ينتظر صاحبها أن يأتي فممكن أن يعفى عنه، فهو أبعدها وقال: يا فلان! تعال لتأخذ زكاة الفطر. وتأخر هذا الإنسان إلى ما بعد الظهر أو حتى المساء فنسأل الله تعالى أن يثيبه عليها، أما أن لا يخرجها إلا بعد زوال يوم العيد فهي صدقة يثاب عليها لكن ما هي بزكاة الفطر التي يبقى الصيام معلقا بها، فلا يقبل صوم الصائم حتى يدفع زكاة الفطر هذا شرط، زكاة الفطر قبول الصيام متوقف عليها، حتى لا يبقى في القرية أو المدينة مؤمن أو مؤمنة جائع بيننا وأهل القرية شباع.
ولو أن الدولة هي التي تجمعها وهي التي تقوم بتوزيعها فشأنها؛ إذ إمام المسلمين يطاع في هذا إذا كان صادقاً.
وبعض الناس يمرون بمن يبيع البر فيعطيه الفلوس ويقول: أخرج الزكاة عني. فإذا كان ثقة تطمئن إليه أنه صادق ويعطيها لمستحقيها فلا بأس، وإذا كنت تشك أنه ما يخرجها أو يخرجها لمن لا يستحقها فما يجوز، لا تعطه.
أولاً: لا يحل لنا أن نخرجها نقوداً في ديار تأكل اللحم وتأكل الخبز والأرز، لكن في بلاد أمريكا وأوروبا قد يوجد من لا يعرف أن يخبز الخبز ولا من يطبخ الأرز ممن أكلهم كله في المطاعم، في هذه الحالة للضرورة تعطي الفقراء نقوداً، تقوم الصدقة كما تساوي وتعطيهم نقوداً، وتسأل الله أن يتقبل منك، أما في البلاد التي فيها التمر والبر والأرز والناس يطبخون ويطحنون ويأكلون؛ فإن أردت أن تفوز برفع صومك وقبوله فلا تخرج عن هذه أبداً.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم دائماً بما ندرس ونتعلم ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر