قال الله عز وجل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سورة النمل أنه إذا جاء أمر الله سبحانه ووقع القول على الخلق، والقول هو حكم الله وقضاء الله وقدره سبحانه، وغضب الله سبحانه وتعالى، فإذا كان أكثر أهل الأرض من المجرمين الكافرين نزل عليهم غضب الله سبحانه واستحقوا العذاب واستحقوا العقوبة.
وقالوا أيضاً في قوله تعالى: (إذا وقع القول عليهم) أي: حق عليهم القول من الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، ولا يأتي بعد ذلك إلا الكفار والفجار، فيستحقون غضب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أخبر عن قوم نوح أن نوحاً قال لربه سبحانه وتعالى مستغيثاً ومستجيراً به: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [نوح:5-7]، فأخبر عن قومه أنهم كفار مجرمون مستكبرون، فأوحى إليه ربه فقال: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود:36]، فإذا كان الأمر أن الإيمان وقف على ذلك، أن هؤلاء مؤمنون والباقي كلهم كفار، ولن يأتي مؤمنون بعد ذلك، فعلى ذلك يستحق هؤلاء الكفار عقوبة رب العالمين سبحانه.
ثم قال: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36]، أي: لا تحزن على هؤلاء، فستأتيهم المصائب وسيأتيهم العقاب من الله سبحانه.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ قال: يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن، فهذا يكون يوماً من الأيام أن الله عز وجل بعدما ينتشر الدين ويعم الأرض كلها يقبضه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، ويقول ابن مسعود : (أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال رضي الله عنه: يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة)، نسأل الله العفو والعافية، يعني: إذا صار من يحفظ القرآن يحفظه للدنيا ليس للدين استحقوا ذلك، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر قراء أمتي منافقوها).
فإذا كان حفاظ القرآن من المنافقين استحقوا ذلك، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء)، أي: الصالحون من أهل العلم الذين يعملون بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله لا ينزع العلم من قلوبهم، ولكن يقبضهم هم، أما أهل الفسق وأهل النفاق، فالله يأخذ من صدورهم كتابه سبحانه وتعالى كما أخبر هنا.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة، وينسون لا إله إلا الله)، فسيصل الأمر إلى أن الناس ينسون لا إله إلا الله، وهذا الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، يعني: يصبح الناس يتهارجون كتهارج الحمر، ويستباح الزنا في الطرقات، فالله عز وجل يقبض الصالحين وتقوم الساعة على شرار الخلق وهم على ذلك.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم؛ وذلك حين يقع القول عليهم) يعني: إذا وقع القول عليهم إذا بالله سبحانه وتعالى يأخذ منهم كتابه فيصيرون بغير كتاب فينسون.
ويقول أيضاً ابن مسعود رضي الله عنه: (أكثروا من زيارة هذا البيت، من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه) يعني: حتى الكعبة، وجاء في حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تهدم، يهدمها
في هذا الحين يحق عليهم قول الله عز وجل، فتأتي العلامات الكبرى للساعة، ومن العلامات الكبرى: خروج الدابة التي ذكرها الله عز وجل في الآية.
قوله: (يدرس) من درس الشيء بمعنى: قدم وبلي وخلق وانمحى وزال، وهنا: يدرس القرآن بمعنى: ينمحي، مثل الثوب، فالثوب يكون جديداً ويكون لونه ظاهراً جيداً، فتأتي عليه الشمس تحيله إلى شيء آخر ويصير خلقاً بالياً قديماً، ثم يتمزق فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإسلام سيأتي عليه زمان يكون هذا حاله، يدرس كما يدرس وشي الثوب، حينها تقوم الساعة على هؤلاء الذين يدرس عليهم الإسلام، ولا يكون ذلك إلا في نهاية الزمان، بعد أن ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويعم العدل في الأرض ويحكم بالإسلام، ولا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله عز وجل به الإسلام، وذلاً يذل الله عز وجل به الكفر وأهله.
بعد ذلك يرجع الناس مرة ثانية إلى أخلاقهم السيئة، ثم يكونون شرار الخلق، ثم تقوم الساعة على هؤلاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، يعني: يصل الأمر أنهم لا يعرفون أي شيء عن الإسلام، إلا أن العجائز والشيوخ الكبار يذكرون كلمة لا إله إلا الله فقط، لا ما يعرفون شيئاً آخر غير هذه الكلمة.
قال أحد الرواة واسمه صلة ، قال: (ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟) -يعني: إذا كان وصل الأمر أنهم لا يعرفوا شيئاً عن الدين، فماذا تغني عنهم لا إله إلا الله؟! (فأعرض عنه
فأخبر أنهم معذورون في هذا الحين، لأنه رفع منهم القرآن، وأخذ منهم العلم، ولم يبق معهم علماء، فتمسكوا بآخر شيء عندهم كلمة لا إله إلا الله، فهم لا يعرفون غيرها، فتنفعهم هذه الكلمة، وتنجيهم من النار.
يقول الله سبحانه: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني: استحقوا غضب الله واستحقوا عذاب الله سبحانه وتعالى، الذي قال فيه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، فإذا وجب عليهم هذا القول بكونهم شراراً، إذا بالله يخرج لهم آية من الآيات الكبرى للساعة، والساعة قبلها علامات وآيات، وقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات تكون قبل قيام الساعة، من هذه الآيات طلوع الشمس من مغربها، ومن هذه الآيات خروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ليحكم بين الناس بالإسلام، وقيل: المسيح الدجال.
ومن هذه الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم.
ومنها أيضاً: ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب .. وهكذا.
فإذا كذب الناس بآيات الله سبحانه وتعالى كذبوا بالقرآن، وكذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بالأحكام الشرعية، فتخرج عليهم هذه الآية وتكلمهم كأنها تأتي لعقاب من يشاء الله سبحانه؛ بسبب أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات الله سبحانه.
هذه الدابة تأتي فتختم الناس على وجوههم، المؤمن تختم عليه بأنه مؤمن، والكافر تختم عليه بأنه كافر، ولا يستطيع إنسان أن يهرب منها ولا يقدر أن يهرب منها.
هذه الدابة تخرج على الناس وتكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها)، أي: ثلاث من أكبر وأعظم الآيات، إذا خرجت هذه الآيات لا ينفع بعدها الإيمان، فهذه الآيات الثلاث يقول فيها صلى الله عليه وسلم: (لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، و
وفي حديث يرويه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي أمامة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم)، قوله: (فتسم): من الوسم، وهو: العلامة، وخراطيم الناس هي الأنوف، بمعنى: الأنف، يعني: فتسم على الجبهة وتسم على أنف الإنسان وتضع علامة عليه، قال: (ثم يعمرون فيكم) يعني: يظلوا على هذه الحال، هذا مكتوب على جبينه أنه مؤمن، وذاك مكتوب عليه أنه كافر، ويبقون فترة، قال: (ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطمين)، يعني: المكتوب على خطمه أنه كافر أو أنه مؤمن.
يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يحدث الصحابة عن الدجال وأخبر عن صفات الدجال وأخبرهم عما يكون من علامات قبل الساعة، فجاء تميم وحدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشيء الذي حدث به أصحابه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمعوا ما قاله تميم ليزدادوا يقيناً فوق يقينهم رضوان الله تعالى عنهم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني: أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، - يعني: القوارب التي تكون في جوف السفينة- فركبوا هذه الأقرب ودخلوا إلى الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب) قال العلماء: هذه هي الدابة التي تخرج يوماً من الأيام على الناس، إذاً: فهي مخلوقة موجودة كما أن المسيح الدجال مخلوق وموجود الآن، ويخرج على الناس يوماً.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فلقيتهم دابة أهلب - يعني: كثيرة الشعر- لا يدرون ما قبله من دبره) يعني: لا يعرفون الوجه من الظهر لكثرة الشعر الذي عليه، ففزعوا من منظرها يقول: (قالوا: ويلك؟ ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق -يعني: اتركوني واذهبوا إلى هذا الذي ينتظركم في هذا الدير- قالوا: فلما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط، خلقاً، وأشده وثاقاً -يعني: رأوا منظر إنسان ما رأوا مثله قبل هذا، منظره عظيم جداً، وكان طويلاً عريضاً مكتفاً تكتيفاً شديداً جداً- مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني من أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة -هذه هي الدابة التي جاء ذكرها في القرآن، والله أعلم- قال: قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ -يسألهم عن مواضع في بلاد العرب والشام هل ما زالت موجودة، أو أنها انمحت؟ وكأن علامة خروج هذا الإنسان وفك قيده ما يسأل عنه في هذا الحديث- فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قال: قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك ألا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية؟ -بحيرة طبرية في فلسطين- قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قال: قلنا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر -بحيرة هنالك-؟ قالوا: عن أي شيء تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قال: قلنا: نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين -صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء كانوا نصارى، فيسألهم الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم- ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ قال: فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، فكان هذا سبب إسلام
ففيه: أن المسيح الدجال لا يقدر على دخول مكة والمدينة، قال الذي روى الحديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعن بمخصرته في المنبر وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم أخبرتنا، فازدادوا يقيناً بما قال صلى الله عليه وسلم، قال: فإنه أعجبني حديث
فالغرض: أنهم ذكروا الجساسة التي رأوها مع الدجال وهي هذه الدابة التي تخرج يوماً من الأيام تكلم الناس بأن الناس كانوا بآيات الله عز وجل لا يوقنون.
نسأل الله العفو والعافية والتثبيت في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر