يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله, وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
بينا في الدرس الماضي معنى التبرك وأصل التبرك، وأن التبرك عبادة, وجماع التبرك هو طلب البركة، وإذا قلنا بأن جماع التبرك هو طلب البركة أو زيادة الخير, فالطلب إذاً لا يكون إلا ممن يملك هذه البركة، ولا أحد يملك هذه البركة إلا الله جل في علاه.
وطلب البركة يتعلق بها أمران:
الأول: ألا يكون الطلب إلا من الله, فمن طلب من غير الله جل في علاه فقد وقع في الشرك؛ لأن الطلب دعاء والدعاء عبادة, ومن صرف العبادة لغير لله فقد وقع في الشرك, فمن صلى لغير الله فقد أشرك, وأيضاً من دعا غير الله لجلب منفعة أو دفع مضرة فقد أشرك.
الأمر الثاني: من اعتقد بأن البركة بيد أحد غير الله فقد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، ومن اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد وقع في الشرك.
فهناك قاعدة تقول: من عبد الله واعتقد في الله حق الاعتقاد ثم اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه فقد وقع في الشرك الأصغر؛ لقول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وقوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].
في هذا الدرس سنبين التبرك الممنوع، وقد ابتدأنا به من باب قول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الخير من الشر يقع فيه
فنحن نبين للناس الشركيات التي لا بد أن يتجنبوها وحتى يسلم توحيد المرء.
فإذا قال امرؤ: أن البركة نزلت في أزمنة معينة، فإن لم يأت عليها بدليل من كتاب الله ولا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد افترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل في علاه علام الغيوب, وهو الذي يملك البركة وهو الذي أنزل البركة, فهو يعلم أين تكون البركة, وما السبب الذي إذا أخذ به المرء حصلت له البركة، فإن قال الله لنا: إن زمان كذا ومكان كذا فيها البركة في أعمالكم وفي أرزاقكم، أخذنا بهذه الأسباب، وإن لم يذكر الله جل في علاه فليس لأحد أن يتقدم بين يدي الله ورسوله ويقول: هذا زمان تتنزل فيه البركات, وتكثر فيه الرحمات, وترفع فيه الدرجات, وتغفر فيه السيئات.
أو يقول مثلاً: ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة، فنفعل فيها كذا وكذا, أو الأعياد المخترعة: كعيد الحب، وعيد الشجرة, فكل هذا لا يصح؛ لأن الله جل في علاه لم يذكر في كتابه أن هذه الأيام أيام مباركات, فيتبرك بها المرء.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وأخبرنا خبره، ولم يقصر في البلاغ؛ والله جل في علاه يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] فلو كانت هذه الأزمنة من المولد النبوي أو ليلة الإسراء والمعراج أو ليلة بدر أو غيرها أزمنة مباركة تتنزل فيها البركات لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأزمنة من الأزمنة المباركات, لزم من يقول ببركتها الآتي:
أولاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر في البيان, وحاشاه صلى الله عليه وسلم، فقد شهد الله أنه بلغ وأتم البلاغ.
ثانياً: أنكم مفترون ومتقدمون بين يدي الله ورسوله، فلا نقبل قولكم.
إذاً: فهؤلاء قد افتروا على الله وعلى رسوله بأن ابتدعوا أزمنةً وقالوا: إن هذه الأزمنة تتنزل فيها البركات، وهذا من باب الشرك الأصغر لا الشرك الأكبر؛ لأنهم لم يعتقدوا في غير الله ولم يطلبوا البركة من غير الله جل في علاه, لكنهم اتخذوا سبباً لم يشرعه الله جل في علاه للبركة, وقد بينا أن البركة عبادة, والأصل في العبادات التوقيف.
وختاماً نقول: ليس معنى كلامنا أننا نغلق على الناس هذا الباب ونقول لهم: لا بركة في أي شيء، لا، فإن ديننا السمح وشريعتنا الغراء إذا أغلقت باباً فتحت أبواباً للناس، ففتحت أبواب الرجاء والخير للناس, فهناك التبرك المشروع, فإنا نرجو من الله جل في علاه أن يبارك لنا فيما رزقنا، وأن البركة أفضل بكثير من الكثرة.
الأول: الاعتقاد الصحيح بأن البركة بيد الله جل في علاه.
الثاني: لا تطلب البركة من غير الله.
الثالث: اتخاذ الأسباب الصحيحة التي بها نحصل على البركة.
وهذه البركة أنواع: فهي أقوال وأفعال وهيئات وأمكنة وأزمنة.
وقد رد في الأثر: (أنه لا يعبد الله بخير مما خرج منه) وهو القرآن، ويقول عثمان بن عفان كما في (الشُّعَب) بسند صحيح: لو طهرت قلوبنا لما شبعنا من كتاب الله.
فالبركة الحسية: هي مضاعفة الحسنات، وأما البركة المعنوية: فهي حلاوة الإيمان, والتلذذ بكلام الله جل في علاه, فترى الشخص يهجر كل كلام، ولا يريد أن يتكلم بشيء إلا بكتاب الله, فهو مع كتاب الله نائماً ومستيقظاً, جالساً وقاعداً, قائماً وماشياً, ويدور في خلده وعلى لسانه كلام الله جل في علاه, فهذه هي البركة التي تشع نوراً في قلب العبد, فيحلو بها الإيمان، ويتلذذ المرء بتلاوة كلام الله جل في علاه, ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ناصحاً للرجل الكبير الشيخ الهرم: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله جل في علاه) وأدنى من ذلك منزلة ذكر الله, فالذكر أيضاً يأتي للمرء بالبركات، فإن المرء إذا قال: لا إله إلا الله مائة مرة صباحاً ومائة مرة مساءً فإن البركة تأتيه من كل حدب وصوب, وهذه بركة معنوية.
وأما الحسية: فإن الله جل في علاه يحفظه من الشيطان, والله جل في علاه يكتب له أجر عتق عشر رقاب, وأيضاً يكتب الله له حرزاً وحفظاً وحصناً من الشيطان الرجيم, فلا يستطيع إليه سبيلاً.
وأيضاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تأتي بالبركة حسياً ومعنوياً، فكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تزيد البركة, بل من بركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يكفيك همك، ويغفر ذنب, فمن بركة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يكفيك الهم والحزن, ويبارك لك في رزقك.
وأيضاً كثرة الاستغفار تأتي بالبركة في الدنيا والآخرة معنوياً وحسياً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر من الاستغفار) يعني: يرى في صحيفته يوم القيامة كثرة الاستغفار, فبالاستغفار تتنزل الرحمات, وينزل الغيث من السماء, ويكون الولد, وتكثر الأموال.
فإذا استيقن المرء وعلم أن البركة بيد الله، وطلبها من الله مع الأخذ بالسبب الصحيح الشرعي من تلاوة قرآن وكثرة ذكر الله جل في علاه, فإن البركة ستحل به من كل جانب.
ومجلس طلب العلم تحفه الملائكة، وتنزل فيه الرحمة، وتغشاه السكينة، فمن بركة مجالس العلم أن الجاهل الذي يأتي لمصلحة دنيوية حين يجلس في مجلس العلم، وتأتي الملائكة لتكتب الأسماء، فتقول: يا رب إن معهم فلاناً ما جاء إلا لحاجة دنيوية، فيقول الله جل في علاه: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
وأيضاً من بركة طلب العلم أن الملائكة دائماً تحف طالب العلم, وتضع أجنحتها رضاً بما يفعل طالب العلم, فهنيئاً لطالب العلم البركة الحسية والمعنوية، وقد ورد في الحديث: (أن رجلاً فقيراً جلس يسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويكتب الحديث، فجاء أخوه الذي يرعاء ويسعى عليه ويكد ويتعب له, فقال: يا رسول الله إني أكد من أجل فلان ويتركني ويأتيك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : دعه لعلك ترزق به) يعني: أن الرزق الذي يأتيك لو كان درهماً واحداً فببركة طلب علم أخيك ستأتيك آلاف الدراهم.
فهذه البركة فاتت على كثير من الناس, وضاعت عن أذهان كثير من الناس, وما فاز بها إلا من حباه الله أن يسلك طريق طلب العلم.
وأيضاً من البركات في الأفعال: الاجتماع, يقول النبي صلى الله عليه وسلم (يد الله مع الجماعة) فالاجتماع دائماً يأتي بالبركة الحسية والمعنوية، فإذا كان الله معك وهو ناصرك فمن يستطيع أن يغلبك؟! وإذا كان الله معك رازقك فمن يمنع عنك الرزق؟! وإذا كان الله معك غافراً لذنبك فمن يأخذك بهذا الذنب؟! وإذا كان الله معك رافعاً إياك دراجات فمن يذمك؟! فالممدوح بحق من مدحه الله, ولما دخل الأعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أعطني؛ فإن مدحي زين وذمي شين، قال صلى الله عليه وسلم ذاك الله) يعني: أن المدح بحق من الله والذم بحق من الله.
وأما حسياً فمثل: الاجتماع على الطعام، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة, والنبي صلى الله عليه وسلم ينصحنا ويحث الأمة على هذه البركة والتمسك بها فيقول: (اجتمعوا على طعامكم، واذكروا الله عليه؛ يبارك لهم فيه)، فالبركة في الطعام تأتي بالاجتماع، وتأتي بتسمية الله جل في علاه عليه.
وأيضاً من أجل الأسباب مع طلب العلم للحصول على البركة: التقوى، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ [الأعراف:96] وما قال: كثرنا، قال: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، وقال سبحانه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
وأيضاً من الأطعمة والأشربة التي هي مباركة: ماء زمزم, فماء زمزم كله بركة, كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له) وفي رواية صحيحة قال: (إنه طعام طعم، وشفاء سقم).
وبقي أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه أربعين يوماً وليلة لا يأكل شيئاً غير ماء زمزم.
وأيضاً: الزيتون مبارك، قال الله تعالى: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ [النور:35]،والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا من هذا الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة).
وأيضاً: الحبة السوداء, فالحبة السوداء فيها بركة، وكثير من الناس يغفل عنها مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحبة السوداء دواء من كل داء إلا الموت).
وأيضاً: عسل النحل فيه بركة، فعجباً لهؤلاء القوم الذين يذهبون يتمسحون بالأولياء وتراب الأولياء ويتركون هذه البركات الحسية والمعنوية التي نراها في عسل النحل، قال الله عنه : فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه جاءه رجل يشتكي بطن أخيه, فقال: أسقه عسلاً، فازداد الأمر عليه، قال: اسقه عسلاً، فازداد الأمر عليه، قال: اسقه عسلاً, فازداد الأمر عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذبت بطن أخيك، اسقه عسلاً, فشفي الرجل بعدما شرب العسل) ، فالعسل فيه بركة.
وأول هذه الأماكن: مكة، فمكة حرم الله المبارك, وقد حرمها إبراهيم عليه السلام, وفيها البيت مبارك, كما قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96].
والمدينة أيضاً مباركة, وقد حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفيها المسجد النبوي.
وأيضاً: بيت المقدس مبارك, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً بركة هذه البقاع الثلاث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الأقصى، والمسجد الحرام)ثم فسر النبي صلى الله عليه وسلم بركة هذه البقاع بقوله: (إن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة, والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، وقد جاء في الأثر وإن كان يضعفه بعضهم: (أن الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)، لكن يستأنس به، وله شواهد تدل على مضاعفة الأجر بالصلاة في بيت المقدس.
إذاً: فالتبرك بهذه الأماكن ليس بترابها ولا بجدرانها، بل بالأعمال فيها.
وأيضاً: أرض الشام كلها مباركة، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب تفضيل هذه الأرض عن غيرها، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الملائكة باسطةً أجنحتها على أرض الشام) فهذه من بركة أرض الشام، وكذلك جاء في الحديث: (اللهم بارك لنا في شامنا).
إذاً: فأرض الشام بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها أرض مباركة.
وكذلك المدينة فضلها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليمت، فإني شفيع لمن مات في المدينة).
فعلى المرء أن يلتمس البركة في هذه الأراضي ليس في جدرانها ولا بترابها, وعندما نقول: هذه الأراضي مباركة لا نعني أن الناس الذين فيها مباركون؛ لأنك قد تجد في هذه الأراضي المباركة أفسق وأفجر أهل الأرض, فالناس لا يقاسون بالأراضي, ولو قيس الناس بالأراضي لكان أرفع الناس أبا جهل , مع أنه أكفر الناس.
إذاً: فالناس لا يقاسون بالأراضي, وإنما الأمر كما قال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] يعني: أن ميزان الأشخاص ومقياسهم عند ربهم هي القلوب التي عمرت بالإيمان.
وقلت: مسألة نظرية؛ لأنه لا يوجد أي أثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم الآن, فنحن نتعلمه علماً نظرياً حتى نستدل به على من يدعي غير ذلك.
فنقول: التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى قسمين: الأول: تبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: تبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي فقهه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وذلك عندما هاجر معه، فقد كان رضي الله عنه يتقدم أمامه ويتأخر خلفه, ويأتي عن يمينه ويأتي عن يساره, فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب فعله، فقال: أتذكر الطلب فأكون في الخلف, وأتذكر العدو من الأمام فأكون في الأمام وعن يمينك وعن يسارك, ثم قال: إن أنا مت فلا أعدو نفسي, وأما إذا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الرسالة لن تبلغ للناس.
إذاً: فالبركة كل البركة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رسالته, وفي كلامه, وفي أفعاله, بل وفي نومه وفي استيقاظه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي, فالصحابة رضوان الله عليهم, تبركوا بكل شيء يمس النبي صلى الله عليه وسلم: بذاته, وأفعاله, وأقواله, كما ورد في الصحيح في صلح الحديبية: (ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها وجهه وجسده؛ تبركاً بأثر النبي صلى الله عليه وسلم, وما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً إلا تزاحموا عليه؛ تبركاً بفضل وضوء النبي صلى الله عليه وسلم).
وفي صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على
والقول الراجح في تفسير هذا الحديث ما ذكره النووي من أن أم سليم كانت من المحارم للنبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليها، فلما نام وعرق أخذت عرق النبي صلى الله عليه وسلم تتبرك به, فالنبي صلى الله عليه وسلم مدحها لذلك, وأخذ أنس ابنها منها من هذا العرق وكان يتبرك به, وجعل منه حنوطاً له عند موته, وأعطى أنس ثابت البناني من هذا العرق، فأخذ هذا العرق وجعله حنوطاً له, وأخذ أيوب من ثابت من هذا العرق؛ ليتبرك به.
وأيضاً من الأدلة على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء كن يأتين بالأطفال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فيأخذ التمرة ويمضغها ويضعها في فم الطفل ويحنكه، ويدعو له بالبركة, وكل ذلك تبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا وجدنا أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فإن لنا أن نتبرك به، وتحل علينا البركة بوجوده، ولذلك كان أحمد بن حنبل يحتفظ بشعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وكان يضعها عند عينه.
إذاً: فقد كان الصحابة يتبركون بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبأثر النبي صلى الله عليه وسلم, وبدعاء النبي صلى الله عليه وسلم, وبعرق النبي صلى الله عليه وسلم, وكانوا يتبركون بثياب النبي صلى الله عليه وسلم, فقد جاء في الحديث: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها وأرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً! فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، قال: فكانت كفنه) فهذا أراد أن يتبرك بتلك البردة.
وكذلك قصة ذلك الصحابي الذي طلب القصاص من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (القصاص, فرفع عن ثوبه, فاحتضن ذلك الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بطنه، فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله قد استوى الصفان وما أعلم متى سيكون موتي في هذه اللحظة أو في غيرها، فأردت أن يكون آخر عهد لي في هذه الدنيا أن أمس بطنك)، فما أفقه هذا الصحابي رضي الله عنه وأرضاه!
وأيضاً من الأدلة على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى
وهذه عائشة رضي الله عنها تقول: كان عندي شعير وكنت آخذ منه للأكل مرة بعد مرة ولم ينفد، تقول: فقلت إن هذا الشعير لا ينتهي! لأكيلن هذا الشعير، فلما كالت الشعير وأحصت هذا الشعير أحصي عليها, ونفد.
فهذه الأدلة كلها تدل على التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم, وبأفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
الصورة الأولى: التبرك بأفعالهم ودعائهم, وهذا جائز باتفاق أهل السنة والجماعة، فيجوز للمرء أن يتبرك بأفعال الصالحين ودعائهم, فإذا رأيت ولياً صالحاً عابداً تقياً ورعاً زاهداً فإن لك أن تتبرك بأفعاله وبدعائه وبعلمه.
وتتبرك بأفعاله فتأتي به في بيتك وتجلس معه مجلساً فيه علم وتذكير بالله جل في علاه، وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مجلس فيه بركة, ومن بركة الصالح أنه دائماً يذكرك بالله, ويسمع أذنك بالآيات والأحاديث, ويحرك قلبك بالإيمان بالله جل في علاه, فهذا تبرك بأفعاله.
وأيضاً تتبرك بدعائه، والدليل على ذلك حديث عكاشة بن محصن رضي الله عنه وأرضاه, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، فقال
فهذه بركة بدعاء الصالحين.
فأما من الأثر: فاستدلوا بقول الله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة:248]، قالوا: أي أنهم يتبركون بآثار موسى وهارون.
وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل الطفل إليه فيحنكه ويدعو له بالبركة, وهذه دلالة على أن الصالح الذي ارتقى مرتقى النبي صلى الله عليه وسلم وتوظف بوظيفته من تبليغ العلم أنه ينزل منزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضاً بحديث عتبان بن مالك : (أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عنده في مكان يتخذه مسجداً) تبركاً بأثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيار الصحابة الذين ثبتت الأدلة على فضلهم وورعهم, فهذا تبرك بأثر النبي وأثر الصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستدلون بذلك على أنه يمكن التبرك بآثار الصالحين.
وأما استدلالكم بقوله تعالى: (( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ )) فهذا في أثر موسى وهارون, ونحن نتفق معكم على أن التبرك بآثار الأنبياء صحيح.
وأيضاً نقول لهم: لو كان التبرك هذا خيراً لسبقونا إليه, فإن أبا بكر , وعمر، وعثمان وعلياً بالاتفاق هم أفضل الأمة على الإطلاق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم, فلم يأت أحد من الأمة ليتبرك بوضوء أبي بكر، ولا وضوء عمر، ولا وضوء عثمان، ولا وضوء علي لا من الصحابة ولا من التابعين، ولو أن هذا انتشر بينهم على أنه سنة لفعلوا ذلك, فلما لما يفعلوا ذلك مع وجود المقتضي وانتفاء المانع, دل ذلك على أنه لم يشرع!
فهذا الضابط من أقوى الضوابط التي تمنعكم من البدع.
فالغلو ذريعة أيضاً للاعتقاد في الأموات وسؤالهم من دون الله جل في علاه, فهذا أقوى الأدلة على المنع من التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل الثاني: أن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك, فلم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عمر ولا ابن عباس ولا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم, ولما لم يفعلوه دل ذلك على أحد أمرين:
الأمر الأول: أنهم علموه وتقاعسوا عن الخير, وحاشاهم فهم أسبق الناس للخير, وأحرص الناس على الخير.
الأمر الثاني: أنهم لم يعلموه، أو أنهم علموا أنه ممنوع, فإن قلنا: لم يعلموه فهذا بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم كل شيء, إذاً فيبقى أنهم علموا أنه ممنوع، فيسعنا ما وسعهم, فنعمل ما عملوا ونكف عما كفوا, ولا خير في ابتداع من خلف، والخير كل الخير في اتباع من سلف.
إذاً: فالراجح الصحيح سداً للذريعة أن نقول: بأن التبرك بآثار الصالحين مرجوح ولا يصح أن يباح لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم.
والتحنيك تبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: وهذا دليل على أنه يتبرك بالصالحين في تحنيك الطفل, يعني: يجوز أن يذهب الشخص بطفله إلى الصالحين والأولياء والأبرار ليحنكوه. فنقول: لا يجوز التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه إن كان سنة ولم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عباس ولا ابن عمر ولا الزبير ولا عبد الله بن الزبير ولا الأفاضل الأخيار من الصحابة, فإما أن تتهم الصحابة بالتقاعس عن السنة, وإما أن تقول: هم لم يفعلوه إذاً فليس بسنة.
فإن قالوا: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فنقول: إن كان التحنيك تبركاً فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التبرك لا يتعدى إلى غيره, وإن كان من أجل الطب فهو جائز، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم، وهو أن الحلو إذا دخل في المعدة ففيه فوائد جمة للقلب وللمعدة ولغيرهما من الأجهزة, ويمكن لنا أن نخرج قولاً آخر وهو أن التحـنيك نفسه سنة فعلية, لكن التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا تبرك بآثار الصالحين, والتحنيك سنة, والتبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك على أنه سنة وطب فله ذلك, ومن فعله معتقداً البركة في الأولياء والصالحين فلا يجوز له ذلك؛ لأن الراجح أن التبرك بآثار الصالحين لا يصح بحال من الأحوال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر