تقدم لنا ما يتعلق بالرضاع وذكرنا جملة من أحكامه، ومن ذلك تعريفه في اللغة والاصطلاح، وكذلك أيضاً ما يتعلق بشروطه، وكذلك أيضاً ما يتعلق بالأحكام المترتبة على الرضاع، وأنه إذا تمت شروط الرضاع؛ ثبتت جملة من الأحكام، منها: النظر والخلوة والمحرمية، ومحارم صاحب اللبن محارمه، ومحارمها محارمه، وذكرنا ما يتعلق بضابط انتشار الحرمة، وأن الحرمة تنتشر بالنسبة لصاحب اللبن لأصوله وفروعه وحواشيه دون فروعهم، وكذلك أيضاً المرضعة، وأما المرتضع فإنه لا ينتشر إلا لفروعه.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها).
إذا كان قبل الدخول فلا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قِبلها، مثال ذلك: لو أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة قبل أن يدخل بزوجته الكبيرة، فيفسد نكاح الكبيرة، وكذلك أيضاً الصغيرة، أما الكبيرة فيفسد نكاحها لأنها تكون أم زوجة، وأم الزوجة تحرم بمجرد العقد، وأما الصغيرة فإنها تكون ربيبة؛ لأنها ستكون بنت الزوجة، لكن بنت الزوجة لا تحرم إلا بالدخول، وسيأتي.
قال المؤلف: (وكذا إن كانت طفلة فدبت فرضعت من نائمة).
لو كانت الزوجة طفلة فدبت هذه الطفلة ورضعت من زوجة له نائمة، إذا كانت هذه الزوجة له واللبن له؛ تكون ابنة له، فينفسخ النكاح، كذلك أيضاً لو أن هذا الزوجة الصغيرة دبت ورضعت من أمه؛ فإنها تكون أختاً له، وإن رضعت من أخته فإنها تكون ابنة أخته.
قال: (انفسخ النكاح ولا مهر).
ما دام أنه قبل الدخول فإنه لا مهر لهذه المرأة؛ لأنه لا فعل للزوج بهذا الفسخ.
قال: (وبعد الدخول مهرها بحاله).
وصورة ذلك: لو أن زوجته الكبيرة التي دخل بها أرضعت زوجته الصغيرة؛ ينفسخ نكاح زوجته الكبيرة؛ لأنها أصبحت أم زوجة، وكذلك أيضاً ينفسخ نكاح الزوجة الصغيرة؛ لأنها أصبحت ربيبة، والربيبة تحرم بالدخول؛ فينفسخ نكاح الزوجتين.
المهم الذي يعنينا هنا هو أن الزوجة الكبيرة انفسخ نكاحها، وما يتعلق بالمهر يجب على الزوج المهر لها؛ لحديث عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولها المهر بما استحل من فرجها )، فالمهر هنا يجب على الزوج؛ لكون المهر قد استقر بالدخول، فيجب لها كامل المهر، كما تقدم قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ولها المهر بما استحل من فرجها )، وقال بعض العلماء: الزوج لا يلزمه إلا نصف المسمى؛ لأن الزوجة شاركت في إفساد هذا النكاح.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن أفسده غيرها فلها على الزوج نصف المسمى قبله، وجميعه بعده).
يعني: إذا كان المفسد غير الزوجة، مثل: أخت الزوج.. أم الزوج.. بنت الزوج.. إلى آخره، فلو أن أخت الزوج أرضعت زوجته الصغيرة نقول: انفسخ نكاح هذه الزوجة؛ لأنها أصبحت بنت أخته، وكذلك أيضاً لو أن أم الزوج أرضعت زوجة ابنها الصغيرة؛ انفسخ نكاح هذه الزوجة؛ لأنها تكون أختاً له، فينفسخ النكاح، فما دام أنه قبل الدخول لها نصف المسمى، وإذا كان الانفساخ بعد الدخول لها المهر جميعه؛ لأنه استقر بالدخول، كما تقدم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولها المهر بما استحل من فرجها ).
وقد ينفسخ نكاح الزوجة الكبيرة بعد الدخول، والمفسد غير الزوجة، مثاله: لو أن أحداً أخذ لبن هذه المرأة الكبيرة، وسقاه للصغيرة، هنا الآن انفسخ نكاح الزوجة الكبيرة؛ لأنها أصبحت أم زوجة، والمهر يجب جميعه للزوج؛ لما تقدم من الحديث، والزوج يرجع على المفسد.
قال المؤلف رحمه الله: (ويرجع الزوج به على المفسد).
إن كان قبل الدخول رجع بالنصف، وإن كان بعد الدخول رجع بجميع المهر.
عندنا مسألتان:
المسألة الأولى: ما يتعلق بصحة النكاح.
والمسألة الثانية: تتعلق بالمهر.
لو قال لزوجته: أنت أختي لرضاع، يقول المؤلف رحمه الله: (بطل النكاح)؛ لأنه أقر بما يوجب فسخ النكاح، فلزمه ذلك، وهذا فيما إذا كان عند القاضي، أو تروفع إلى القاضي، ويبطل النكاح لأن القاضي يحكم على نحو ما يسمع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما أقضي على نحو ما أسمع )، أما إذا ما ترافعا إلى القاضي فهذا يوكل إلى دينه، وإنما يحكم القاضي ببطلان النكاح؛ لأنه أقر بما يوجب انفساخ النكاح، هذا بالنسبة لما يتعلق بصحة النكاح.
وأما ما يتعلق بالمهر، فإن كان قبل الدخول وصدقته فلا مهر، لأنهما اتفقا على أن النكاح باطل، والنكاح الباطل إذا حصلت به الفرقة قبل الدخول أو الخلوة فلا مهر لها؛ لأنهما أقرا بأن النكاح باطل، وإن كان بعد الدخول فلها المهر بما استحل من فرجها لما تقدم.
قال: (فإن كان قبل الدخول فصدقته؛ فلا مهر، وإن كذبته) أيضاً وهذا قبل الدخول إن كذبته، قالت: أنت كاذب؛ فلها نصف المهر.
إذاً: بالنسبة للمهر: إما أن يكون قبل الدخول، وإما أن يكون بعد الدخول، إن كان قبل الدخول فإن صدقته فلا شيء لها؛ لأن النكاح الباطل لا يجب فيه شيء إذا حصلت الفرقة قبل الدخول، وإن كذبته قالت: أنت كاذب فلها نصف المهر؛ لأنه لا يقبل قوله في إسقاط حق غيره، هذا إذا كان قبل الدخول.
الحالة الثانية: أن يكون ذلك بعد الدخول، فإذا كان بعد الدخول فلها المهر بما استحل من فرجها، سواء صدقته أو كذبته؛ لما تقدم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فلها المهر بما استحل من فرجها ).
فالخلاصة: أن ما يتعلق بصحة النكاح نقول: يبطل النكاح حكماً إذا ترافعا إلى القاضي، أو كان ذلك في مجلس القضاء؛ يبطل فيما يتعلق بالمهر، فإن كان قبل الدخول ففيه تفصيل: إن صدقته فلا شيء لها، وإن كذبته فلها النصف، وإن كان بعد الدخول فلها المهر بما استحل من فرجها.
قال: (وإن قالت هي ذلك فأكذبها فهي زوجته حكماً)، يعني: لو قالت لزوجها: أنت أخي من الرضاعة، قال: كذبتي، يقول المؤلف رحمه الله: (فهي زوجته حكماً)؛ لأنه لا يقبل قولها في إبطال حق الزوج من النكاح، بمعنى: لو أنه رفع ذلك إلى القاضي فإن القاضي لا يحكم ببطلان النكاح، فهي لو قالت لزوجها: أنت أخي من الرضاعة، ورفع ذلك إلى القاضي وكذبها، قال: أنت كاذبة؛ فإنه لا يحكم ببطلان النكاح؛ لأن الفرقة إنما هي بيد الزوج وليست بيد المرأة، وأيضاً لا يقبل قولها في إبطال حق الزوج من النكاح.
القسم الأول: شك في أصل الرضاعة؛ فهذا لا يثبت به التحريم، فإذا شكت المرضعة هل أرضعت هذه الطفلة أو هذا الطفل أو لم ترضعه؛ فالأصل عدم التحريم.
القسم الثاني: الشك في كماله، فإذا شكت المرضعة هل أرضعت رضعتين أو ثلاثاً أو خمساً؟ فنقول: الأصل والمتيقن أنها رضعتان، وأما الثالثة والرابعة والخامسة فهذه مشكوك فيها، والأصل عدم التحريم.
المسألة الأولى: ضابط الرضعة، كما تقدم لنا أنه يشترط لصحة الرضاع ولكي يكون ناشر الحرمة أن يكون خمس رضعات، واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في ضابط الرضعة على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أن ضابط الرضعة ما دام أن الطفل ملتقم للثدي ويتغذى منه؛ فهذه رضعة، فإذا تركه باختياره أو تركه بغير اختياره، فإنها تكون رضعة، وهذا هو المشهور من المذهب، وعلى هذا فالمرأة بإمكانها أن ترضعه خمس رضعات في جلسة واحدة، تلقمه الثدي ثم تبعد الثدي عنه، ثم تلقمه ثم تبعد الثدي، يعني: سواء تركه باختياره أو تركه بغير اختياره.
الرأي الثاني: أن ضابط الرضعة هي المصة، فإذا مص مصة فهي رضعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحرم المصة ولا المصتان )، وهذا القول أوسع من الذي قبله، وعلى هذا يمكن أن تثبت خمس رضعات بالتقام الثدي مرة واحدة، فإذا التقم الثدي ثم مصه خمس مرات دون أن يتركه؛ ثبت التحريم.
الرأي الثالث في بيان ضابط الرضعة: أن الرضعة بمنزلة الأكلة، كالغدوة والعشوة، وعلى هذا لا بد أن يشرب من اللبن حتى يرتوي ثم يترك ذلك حتى يحتاج اللبن مرة أخرى، ثم يشرب حتى يتغذى وهكذا، وهذا هو الذي ذهب إليه ورجحه ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدي، وكذلك أيضاً الشيخ السعدي رحمه الله، وقالوا بأن الرضعة بمنزلة الغدوة والعشوة والأكلة، خمس رضعات، يعني: الغدوة هذا بالنسبة للكبير والصغير له رضعة تكون بمنزلة الغدوة والعشوة إلى آخره، وهذا لعله أقرب الأقوال.
المسلك الأول: مسلك النسخ، وهذا ذهب إليه بعض أهل العلم رحمهم الله، وأن حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة منسوخ، وهذا المسلك ضعيف؛ لأن النسخ لا يصار له إلا بشرطين:
الشرط الأول: تعذر الجمع.
والشرط الثاني: العلم بالتاريخ.
المسلك الثاني: الخصوصية، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم، أن قصة سالم مولى أبي حذيفة خاصة، وأنها خصوصية عين، بمعنى أن هذا الحكم خاص بـسالم مولى أبي حذيفة لا يتجاوزه إلى غيره إلى يوم القيامة، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله تعالى، لكن كما سلف أن بينا أن القول بخصوصية العين فيه نظر؛ لأن الشريعة ما تنزل لأفراد الناس، إنما تنزل لعموم الناس، الشريعة نزلت من السماء، لا تنزل لزيد وعمرو، والذي له خصوصية يمتاز بها عن غيره إنما هو النبي صلى الله عليه وسلم فقط، أما من عداه من الناس فكسائر الناس، لا يمتاز بحكم شرعي ينفرد به عن بقية الناس، وإلا لو قلنا بهذا لشبهنا سالمـاً رضي الله تعالى عنه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
المسلك الثالث -وهو مسلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله-: أنه حادثة وصف وحال، وأن من حاله وصفته كحال ووصف سالم مولى أبي حذيفة أنه يأخذ حكمه، وأيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول بأنه لا يأخذ حكمه في كل الأحكام، يعني: هذا الرضاع إنما يبيح الخلوة والدخول إلى آخره، ولا يبيح كل الأحكام، وأن هذا الحكم يتبعض.
والصواب في ذلك ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله، ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ( استأذن عليّ
كذلك أيضاً من المسائل المتعلقة بالرضاع: إذا تزوجت المرأة وفيها لبن من الأول، وهذا يحصل، قد تلد ثم بعد ذلك تخرج من العدة وترضع طفلاً، فلمن يكون هذا الطفل؟ وكما تقدم لنا أن الفقهاء يسمونها بأم المعتدات؛ لأنها تقضي على كل عدة، بمجرد أن تضع خرجت من العدة، لها أن تتزوج، فقد تتزوج وهي ترضع، هذه المسألة لها خمس حالات:
الحالة الأولى: أن لا يوجد سبب للبن من الثاني.. لا يوجد حمل ولا ولادة، فاللبن للأول.
الحالة الثانية: أن تحمل وتلد من الثاني، فاللبن للثاني.
الحالة الثالثة: أن تحمل من الثاني، لكن اللبن لم يتغير، فاللبن للأول.
الحالة الرابعة: أن تحمل من الثاني، وتغير اللبن بأن زاد؛ فيكون للأول والثاني.
الحالة الخامسة: بعد أن تزوجت الثاني انقطع اللبن ثم وجد سبب من الثاني فرجع اللبن، فيكون للثاني.
والله أعلم، وصلى وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر