أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:75-88].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، الآية.
وأعيد إلى أذهانكم أن السور المكية التي نزلت بمكة تعمل على إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، يصبح صاحبها حياً كامل الحياة، يسمع ويبصر، وينطق ويعطي ويأخذ، ويذهب ويجيء، وفاقد هذه الحياة ميت، ولا أدل على ذلك من أن أهل الذمة في ديار المسلمين لا يؤمرون بصلاة ولا صيام، ولا زكاة ولا حج ولا جهاد؛ وذلك لأنهم موتى، فإن نفخ في أحدهم الروح وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فقد حيا، ويؤمر بالاغتسال على الفور، ويدعى إلى الصلاة، ويؤمر بالصيام، وغيرها من شرائع الدين؛ وذلك لكمال حياته، وأما وهو ميت فلا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف.
وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]؟ أي: أي شيء منعك أن تسجد لآدم، وقد خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، وهو عبدي، وأمرتك بالسجود له، وأمرت الملائكة كلهم بالسجود له، فسجدوا كلهم في السماء والأرض. فأي شيء منعك؟ وحقاً لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه وأصبح بشراً أمر الملائكة في السماء والأرض أن يسجدوا له، فسجدوا سجود تحية، لا سجود عبادة، بل العبادة لمن أمر فأُطيع، وأما المسجود عنده وإليه فهو من باب إكرام الله تعالى له فقط. وقد ذكرت أننا نسجد لله تعالى خلف مقام إبراهيم بعد الطواف، وليست تلك عبادة للمقام، وإنما العبادة لله الذي أمرنا بقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. لكن المقام الذي هو الحجر لما قدم من الخير وصنع من المعروف اعترف الله له بذلك، وأمر عباده أن يسجدوا عنده؛ إذ كان هذا الحجر كأنه هو الذي ساعد إبراهيم على إكمال البيت، فإن إبراهيم كان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة والطين، فلما ارتفع البناء جيء بهذا المقام يعلو فوقه، حتى أكمل البناء، فمن ثم أكرمه الله بالصلاة عنده.
وقوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فيه إثبات اليدين لله، ولنعلم ولنعتقد أن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وأن سمعه وبصره ويده ليست كهذه المخلوقات أبداً، ولن تكون مثلها أبداً؛ لأنه خالقها، فنؤمن بيدي الله، ولكن نبرئ الله أن تكون يده كيد فلان أو فلان، وإن خطر ببالك هذا فانزعه تماماً من نفسك، وآمن بما أخبر تعالى به عن نفسه.
ثم قال له موبخاً مؤدباً: أَسْتَكْبَرْتَ [ص:75]؟ أي: يا إبليس! أحملك الكبر على ألا تسجد؟ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص:75]؟ أي: أم أنك من أصحاب المقامات العالية والدرجات الرفيعة التي لا تنزل إلى هذا المستوى وتسجد لآدم، ووالله ما منعه إلا الكبر فقط.
وقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص:76]، أذكركم بأن مادة الخلق ثلاثة: أولاً النور، وهو مادة خلق الملائكة، فهم مخلوقون من نور.
ثانياً: النار، وهي مادة خلق الجن على كثرتهم، فهم بالمليارات، فأصل خلقهم من النار.
ثالثاً: الطين، وهي أصل خلق البشرية.
وقوله: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص:77]، أي: مرجوم مطرود بعيداً، فما دخلها بعد ذلك قط.
وهنا لطيفة علمية، وهي: كيف استطاع إبليس أن يصل إلى آدم وهو في الجنة، مع أنه قد خرج منها، ويوسوس له ويغره ويخدعه حتى أكل من الشجرة، وأبعد من الجنة؟ الروايات الإسرائيلية وغيرها تقول أموراً كثيرة، منها: أنه دخل في حية. والآن بعدما ظهرت هذه العجائب في الكون أصبح الإيمان بهذا شيئاً عادياً، فإنك قد تكون في بيتك ومع ذلك تتكلم مع آخر في بيت آخر، وقد تكون في المدينة المنورة ومع ذلك تتكلم مع آخر في المغرب العربي. إذاً: فلا مانع أن يكون آدم في الجنة وإبليس خارج الجنة، ومع ذلك وسوس له وغرر به وخدعه.
وقوله: إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78]، المراد بيوم الدين هو يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب.
وقوله: إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79]، يوم البعث هو النفخة الثانية، فالنفخة الأولى: نفخة الفناء وموت كل حي. والنفخة الثانية: نفخة البعث من القبور. فطلب من ربه أن يبقيه حياً حتى يبعث مع الناس، ولا يموت قبل ذلك أبداً.
قال تعالى: إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص:81]، أي: ليس إلى يوم يبعثون، ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم ينفخ إسرافيل نفخة الفناء، فيصعق كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان، فسأحييك إلى هذه النفخة تفعل ما شئت وما قدرت. أما إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [ص:79] فلا؛ لأنه يريد أن يبقى حياً دائماً، لا يموت أبداً إلى يوم البعث. فسيحييه الله إلى النفخة الأولى نفخة الفناء، وبينها وبين النفخة الثانية التي هي نفخة البعث أربعون سنة.
وهذه الآيات والتي سبقتها كلها تقرر أن محمداً رسول الله؛ إذ لو لم يكن رسول الله فلن يحدثنا عن السماء وما جرى فيها، فهو إنما حدثنا بهذه المواقف لكونه رسول الله يوحى إليه.
وقوله: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، أي: لها، بل أنا أتلقى الوحي من ربي وربكم، وخالقي وخالقكم، ولست ممن يدعون العلم وهم ليسوا بعلماء..
وقوله: إِلَّا ذِكْرٌ [ص:87]، أي: فليس بسحر ولا بشعر أبداً، وذلك لأنهم قالوا عن النبي: ساحر وشاعر، وغير ذلك.
وقوله: لِلْعَالَمِينَ [ص:87]، أي: أبيضهم وأسودهم، ومؤمنهم وكافرهم، وما من إنسان يسمع القرآن ويتأمله إلا ويسلم، وقل أن يسمع إنسان القرآن ويفهم معناه ويكفر، فهو ذكرى للعالمين إلى يوم الدين. ولهذا يبعدون عن سماعه، ويغلقون آذانهم حتى لا يسمعوه، فترى أحدهم يجلس فإذا تحدث مؤمن بآية قام ونهض من المكان، ولو سمع لتسرب القرآن إلى قلبه وهداه الله، وقد قالوا رسمياً وأعلنتها دولتهم في مكة: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ [فصلت:26]، أي: معشر المواطنين! وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، أي: إذا كان محمد يقرأ أو أحد من أصحابه فصيحوا وضجوا؛ حتى لا يسمع القرآن أحد.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: ذم الكبر والحسد وحرمتهما وبيان جزائهما ] وقد حمل إبليس الحسد والكبر على ألا يسجد لآدم، فأدى به ذلك إلى اللعن والطرد من رحمة الله وإلى جهنم. إذاً: فلنجاهد أنفسنا، ولا نسمح أبداً لهذا الخلق أن يستقر فيها، ولنكن متواضعين متطامنين، ولتكن هذه حياتنا بلا كبر ولا حسد. فإن أعطى الله أحدنا مالاً قال: هذا فضل الله، وإن أعطاه علماً قال: هذا فضل الله، وإن أعطاه جمالاً قال: هذا فضل الله، ولنحمد الله عز وجل على ما وهب، ولا نحسد الموهوب، ومن أعظم الذنوب وأشدها الكبر والحسد، ويكفي أنهما تسببا في طرد إبليس ولعنه.
[ ثانياً: مشروعية القياس إن كان قياساً صحيحاً، وبيان أخطار القياس الفاسد ] فيجوز القياس بين أمر وأمر، لكن على شرط أن يكون القياس صالحاً نافعاً غير ضار، وأن يكون الذي يقيس على علم وبصيرة، وقياس إبليس فاسد، لأنه قال: آدم خلق من طين وخلقت من نار، ولن أسجد له؛ لأني خلقت من أفضل مما خلق منه. ولو تأمل لوجد أن الطين أفضل من النار؛ فإن النار تدمر وتحرق وتميت، والطين يحيي وينبت.
[ ثالثاً: مشروعية القسم بالله وبصفاته وأسمائه ] دل على هذا قول الله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82]. فإن فيها مشروعية الحلف بصفات الله تعالى، فإن إبليس قال: فَبِعِزَّتِكَ [ص:82]. والعز وصف لله، ولكن لا ينبغي أن نحلف بغير الله أبداً ولو تقطع ألسنتنا.
[ رابعاً: بيان أن من كتب الله سعادتهم لا يقوى الشيطان على إغوائهم وإضلالهم ] فمن كتب الله سعادته في الأزل في كتاب المقادير فلن يقوى الشيطان على إضلاله وإفساده؛ لأن الله استخلصه له؛ ليكون في جواره في الملكوت الأعلى، فهو يحفظه من إبليس، فلا يستطيع أن يضله أو يفتنه أبداً.
[ خامساً: لا يجوز أخذ الأجرة على بيان الحق والدين ] فلا يحل لأحد أن يقول: إذا أردت أن أفتيك فأعطني كذا من الريالات، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ويا من يعرف الحق! إذا سئلت عنه فأجب وبينه، ولا تجحده ولا ترد من سألك عنه، ولا تقل: لا بد من منصب، أو مال، والحمد لله أنه لا يوجد عالم من علماء المسلمين يقول: أعطني كذا لأفتيك في كذا.
[ سادساً: ذم التكلّف المفضي إلى الكذب والتقول على الله والرسول والمؤمنين ] وقد ذم الشرع التكلّف والتصنع بدون علم، وقد يحاول البعض أن يصير عالماً وهو لم يصر بعد، فيفتي بدون علم، وأحسن ما يقول من سئل عن مالا يعلم: الله أعلم. فلا تتكلف، وتبدأ تبحث عن الأدلة وأنت عاجز عنها، ولكن قل: الله أعلم.
قال الشيخ في النهر غفر الله ولنا ولوالدينا أجمعين: [ التكلف: معالجة الكلفة، وهو ما يشق على المرء عمله أو علمه أو قوله؛ لعدم قدرته على ذلك، روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من سئل عما لا يعلم فليقل: لا أعلم ولا يتكلف، فإن قوله: لا أعلم علم ] وما دام أنه قال: الله أعلم فقد علم أنه لا يعلم، وأن الله أعلم منه [ وروي أن للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه ] فهو يحاول أن يعلو من هو فوقه أو أشرف منه [ ويتعاطى ما لا ينال ] أي: يحاول أن يعمل شيئاً فلا يحصل منه على شيء، فاعمل ما تستطيع تحقيقه والحصول عليه، وإلا كان عملك لهواً وعبثاً [ ويقول ما لا يعلم ] كأن يقول: حصل كذا وكذا وهو لا يعلم، فيكون قد كذب وافترى، والعياذ بالله.
[ سابعاً: ظهر مصداق ما أخبر به القرآن بعد حين قصير وطويل ] وقد عرفوا ذلك في بدر، وعرفوه في فتح مكة، وعرفوه في فتح الإسلام، وعرفوا أن الله أرسل رسوله بالحق، وأنه هو النبي الرسول.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر