يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ورد في بعض الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سألته بعض النساء عن الجهاد وفضله، وأن الرجال يحوزون الأجر العظيم بذلك، فما للنساء في هذا الباب؟ فقال: (خدمتكن لأزواجكن تعدل ذلك) أي: تعدل الجهاد في سبيل الله، وهذا الباب فيه أحاديث مجتمعة يمكن أن يؤخذ منها حكم شرعي، وهذه الأحاديث تشير إلى حقيقة واضحة جلية، وهي: وجوب خدمة المرأة لزوجها.
والمطالع لبعض الكتب الفقهية يرى بعض الآراء التي تقول: إن خدمة المرأة لزوجها ليست بواجبة، والوجوب الشرعي هو ما يلزم المكلف أن يفعله وإلا وقع في الإثم.
وقال علماء الأصول في تعريف الواجب الشرعي: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
ولأن الألفاظ عندنا لها دلالات فيجب أن نبين معنى اللفظ، عندما نقول: (وجوب خدمة المرأة لزوجها) أي: أن المرأة إن لم تخدم زوجها فهي آثمة، مستحقة للعقاب، فهذا البحث يختلف فيه بعض العلماء، فمنهم من يقول: إن الخدمة واجبة، ومنهم من يقول: إن الخدمة مستحبة فقط، بمعنى: أن المرأة إن خدمت زوجها فبها ونعمت، وإن لم تفعل فلا إثم عليها.. هذا هو رد القائلين باستحباب الخدمة فقط، مع أن القول بوجوب الخدمة هو الراجح، بل هو الصواب؛ لأن الله تبارك وتعالى قد قال: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228] لهن وعليهن، فما لهن عند الرجال؟ أن يعاشروهن بالمعروف، وكما في الحديث: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت).
كما أن الإنفاق عليها وعلى أولادها واجب وحتم لازم على الرجل، بحيث أنه يأثم إذا لم ينفق على امرأته؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وهذا يدلك على عظم الإثم.
فيقال: إن المرأة أيضاً تستمتع بالرجل، فهذا حق مشترك، كلاهما يستمتع بصاحبه، فما هي التبعة على المرأة مقابل هذه الخدمات الهائلة بالنسبة للرجل؟ هل الرجل يعجن ويخبز ويغسل الملابس وينظف البيت؟ فما عمل المرأة إذاً؟! وأين قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]؟ ما الذي عليهن إذاً؟ إذا كان الرجل يفعل كل ذلك، ويضرب في الأرض حتى يكسب قوته وقوت أولاده من عشرات الأفواه والأيدي كل يوم، ثم يأتي في خاتمة اليوم أو خاتمة الأسبوع أو الشهر فيعطيها ما تريد.. كيف يقال: إن المرأة ليس عليها أن تخدم الرجل..؟!
بل وصل الشطط ببعض هؤلاء العلماء إلى أن قال: يلزم الرجل إن كانت زوجته تدخن أن يأتي لها بالسجائر! ويزعم أن هذا معروف، كيف والتدخين حرام؟ يعني كيف لو أرادت المرأة -مثلاً- أن تخرج متبرجة أو تشرب خمراً، يكون عقوقاً من الرجل أن يمنعها من ذلك؟! هذا شطط.
والذين يقولون باستحباب الخدمة فقط، لا أتصور أحداً منهم لو جاء بأضياف إلى البيت فقال لامرأته: أعدي طعاماً. فقالت له: إن الخدمة مستحبة، أي: لا جناح علي ولا إثم إن لم أخدمك أنت وأضيافك، التمس من يفعل لك ذلك. لا أتصور أن يقف الرجل عند القول باستحباب الخدمة، بل لعله يطلقها.
المعروف في العقود غير الموقوف عليها أن العرف هو الذي يتحكم فيها، فإن كان على الرجل حق فعلى المرأة حق أيضاً، وإلا لم يكن هذا من العشرة بالمعروف.
قالوا أيضاً: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعاً وإحساناً، وهذا من أعجب ما يكون، هل خدمة فاطمة كانت إحساناً؟ في الحديث الذي رواه الشيخان: أن فاطمة رضي الله عنها ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب خادماً، وقد جاءه رقيق. وفي بعض الروايات: أن علياً لما رآها تخدم وقد تورمت يداها من الخدمة قال لها: قد جاء أباك رقيق، فاستخدميه -استخدمي أحد هؤلاء الرقيق- فذهبت إلى البيت فلم تجده، فتركت الخبر عند عائشة رضي الله عنها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقصت عليه عائشة مطلب فاطمة رضي الله عنها ذهب إلى البيت، فوجدهما قد أخذا فراشهما، قال: مكانكما، فصعد على الفراش، قالت فاطمة : حتى وجدت برد قدميه عند صدري. فقال لها: (أفلا أدلك على خير لكما من خادم؟ -وفي بعض الروايات-: قال لهما: أفلا أدلكما على خير من خادم؟ تسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، وتكبراه أربعاً وثلاثين، فذلك خير لكما من خادم) سئل علي : أما تركت هذا؟ قال: قط. قيل: ولا ليلة صفين -المعركة المشهورة- قال: ولا ليلة صفين ).
لو كانت خدمة المرأة مستحبة فقط لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـعلي : إن الخدمة ليست بواجبة عليها، أما وقد قال ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحداً؛ فدل ذلك على أن الخدمة واجبة على المرأة، وهو قول ابن حبيب ، وقول أبي ثور ، وهو وجه في مذهب الحنابلة.
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح أن أسماء رضي الله عنها، قالت: ( كنت أقوم على خدمة الزبير فكنت أحتز لفرسه، وأعلفه، وأسوسه، وأقوم عليه ) ومعلوم أن هذا كله كان يقوم على عين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يرى ذلك.
وفي صحيح البخاري أن أسماء رضي الله عنها كانت تقول: ( وكنت لا أحسن أخبز، وكن لي جارات صدق من الأنصار كن يخبزن لي ) فخدمة المرأة لزوجها كانت مشتهرة، ولا شك أن بعض النساء كن يكرهن ذلك على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يؤثر قط أنه قال لرجل من الرجال: إن خدمة المرأة مستحبة فقط، ويلزمك أن تأتي للمرأة بخادم؛ فدل ذلك على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة.
ومسألة أن العقد إنما هو للاستمتاع فقط مسألة في غاية التهافت؛ لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة دلت على أن خدمة المرأة لزوجها واجبة، لكن الخدمة إنما تكون بالمعروف، لا تكلفها فوق طاقتها، فإنه ليس على المرأة حتم لازم أن تخدم أم الرجل، أو تخدم أباه، هذا ليس حتم لازم على المرأة، ولكن تندب إليه، فلا تكلفها غصباً بالأعمال الجسيمة؛ لأن كل شيء مقيد بالمعروف، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وليست كخدمة الحضرية، كل فعل إنما يكون بالمعروف.
ثم لا تنس أن الخدمة وإن كانت على المرأة واجبة إلا أنه يستحب للرجل أن يشارك أهل بيته في بعض العمل، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون في خدمة أهله) وفي الشمائل للترمذي : (يفلي ثوبه، ويقوم على إصلاح نعله، فإذا أذن للصلاة خرج إلى الصلاة) هذا هو مقتضى المعروف: أن تشارك زوجك في بعض العمل لاسيما إن وجدتها أثقلت بكاهل الولد أو أثقل كاهلها بالعمل.
لكن إذا نظر المرء إلى بعض الأحاديث الأخر رأى قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً-: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها بغير إذنه فله مثل أجرها) فهذا بظاهره يؤذن أن تنفق المرأة من بيت زوجها بغير إذنه.
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها بغير أمره كان لها نصف الأجر) فهذا يدل على أنها ليست آثمة، بدليل أن لها نصف أجر زوجها الذي اكتسب.
وهذه الأحاديث لا يضاد بعضها بعضاً؛ لأن الأمر في الحديث الأول إنما يفرض على العرف، بمعنى أن يأذن الرجل إذناً دائماً للمرأة أن تنفق، أو أن تعلم المرأة من حال زوجها أنه إذا علم بإنفاقها للصدقات لم يتضايق ولم يمنعها -من خلال قرائن الأحوال- فإذا علمت المرأة ذلك من أمر زوجها، وأنه إن علم بتصدقها من البيت لم يغضب؛ جاز لها أن تنفق ولها نصف الأجر.
أما إن كانت تعلم أن الرجل لا يأذن ويتضايق، فلا يجوز لها أن تتصدق، قال الإمام البغوي : أجمع العلماء على أن المرأة لا يجوز لها أن تخرج شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه، فإن فعلت فهي مأجورة غير مأزورة، وهذا الإجماع إنما خرج من معاني بعض الأحاديث الصحيحة كحديث أبي أمامة الباهلي .
إذاً: لا تضارب بين الأحاديث، لكن ينبغي أن نعلم شيئاً، وهو: أن المرأة إن كان لها مال خاص؛ كأن يكون مهرها، لأن بعض النساء يأخذن المهر كله، فهذا المهر حقها، فلها مطلق الحرية أن تتصرف فيه بغير إذن زوجها.
وهناك صورة أخرى ذكرها العلماء، قالوا: إن أعطاها الرجل مالاً خاصاً بها فلا ترجع إلى زوجها في الإذن، فلو كان يعطيها مصروفاً شخصياً فلها أن تتصرف به بحد معرفتها؛ لأنه صار ملكاً لها، لكن ينبغي للنساء أن يستأذن -ولا أقصد بـ(ينبغي) أنه واجب شرعاً- أزواجهن حفاظاً على قلوبهن من التغير، فهذا من حق الرجل على المرأة: أن تصون ماله، لا تبعثره ولا تنثره، إنما القيد في مثل هذه المعاملات بالمعروف.
كما جاءت هند بنت عتبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: (يا رسول الله! إن
ولكن هناك حديث مطلق يمنع خروج المرأة من البيت بغير إذن الزوج، فسواء كانت المرأة في بيت أبيها أو كانت في بيت زوجها، طالما أنها زوجة لأحد الرجال، سواء بنى بها أو لم يبن، فلا يجوز لها أن تخرج من البيت إلا بإذنه.
وهذا أدب عالٍ؛ لأن المرأة أسيرة عند الرجل، كما ورد في الحديث الصحيح: (اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم) والعاني هو: الأسير، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: لا شك أن النكاح ضرب من الرق.
والدليل على ذلك: أن المرأة لا تستطيع أن تتزوج وهي متزوجة؛ لأنها مسترقة، ولا تستطيع أن تطلق نفسها وهي تحت الرجل، فهذا يدل على أنها أسيرة، فهذه المرأة المأسورة لا يحل لها أن تخرج من الأسر إلا بإذن زوجها.
ليس معنى هذا أنه امتهان للنساء أنهن عبيد، لكن معنى الرق: أي أنها ليست ملك نفسها، أي: لا تستطيع أن تتصرف في نفسها، لا بد أن ترجع إلى المالك، والزوج هو المالك.
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت يزيد، فقال لها: (أي هذه! أذات بعل أنت -أي: ذات زوج-؟ قالت: نعم. قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في خدمته- قال لها: فانظري أين أنت منه، فإنه جنتك أو نارك) هل هناك امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسمع مثل هذه الأحاديث ثم تعق زوجها؟ (انظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك أو نارك) أي: إن أطعته دخلت الجنة، ولكن بفعل الطاعات الأخرى؛ لأن بعض النساء يتصورن أنهن إن أطعن أزواجهن وتركن كل شيء دون ذلك أنهن في الجنة.. وهذا محال! كل هذا بشرط أن تؤدي الواجبات المفروضة عليها كمسلمة، ثم تطيع زوجها، أما أن تظن أن طاعة الزوج ممكن أن تنجيها إن تركت الصلاة أو صوم رمضان أو نحو ذلك.. هيهات! (إنما هو جنتك أو نارك) فدل على أن طاعة الزوج من أسباب دخول المرأة الجنة.
وفي الحديث الصحيح: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحصنت فرجها، وأطاعت زوجها؛ قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة الثمانية شئت) فهذا الحديث يدل على أن طاعة الزوج من الأشياء التي إذا فعلته المرأة دخلت الجنة.
جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا لعنتها الحور العين؛ تقول لها: قاتلك الله لا تؤذيه، إنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا).
وقد أخذ بعض العلماء من هذه الجملة الأخيرة (يوشك أن يفارقك إلينا) أن الرجل إذا أحب زوجته في الدنيا وجمع الإيمان بينهما كانت زوجته في الآخرة، وأنه إن كرهها في الدنيا وملها أبدله الله تعالى من الحور العين.
يقول علماء البيان: إن الألفاظ قوالب المعاني، فمثلاً: إذا سمعت كلمة (يد) فإن المعنى المتبادر إلى ذهنك أنها اليد التي تتكون من خمسة أصابع، هل يخطر على بالك إذا سمعت كلمة (اليد) أنها بمعنى النعمة؟ لأن المعنى الذي وضع هذا اللفظ له يقتضي هذا المعنى المتبادر إلى أذهان الجميع.
كقوله تبارك وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] الذين لجئوا للتأويل قالوا: إن (اليد) هنا بمعنى النعمة، وهذا إخراج للفظ عن الغالب المعروف، ولكن لا نشبه ربنا بخلقه، تعالى الله عن ذلك، كل شيء يخطر ببالك فالله خلاف ذلك، له يد تبارك وتعالى كما أثبت لنفسه، لكن ليست كيد المخلوقين، لا نستطيع أن نتصورها.
إنما إن قلت: إن فلاناً له عليّ يداً، فالمقصود باليد هنا النعمة، والجملة تؤدي إلى هذا المعنى، وهذا ما يسميه العلماء بالقرينة الصارفة للفظ عن معناه الحقيقي المجرد، كقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : (بينما رجل في الطريق يزور أخاً له، إذ بعث الله له ملكاً في صورة رجل، قال له الملك: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إلى قرية كذا أزور أخاً لي. قال له: هل ترى أن له عليك يداً؟ -أي: نعمة، فأنت تزوره بمقتضى هذا الجميل؟- قال: لا، غير أني أزوره في الله تبارك وتعالى، قال: فإني رسول رسول الله إليك، يخبرك أنه يحبك كما أحببته فيه).
فاللفظ: (هل ترى له عليك يداً؟) لا يقال: (عليه يد) هي اليد الحقيقية؛ لأن الجملة لا تعين على ذلك، فإذا ورد لفظ السجود في الحديث لا يتبادر منه إلا السجود المعروف (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
مما يدل على أن المقصود بالسجود هو السجود على الأرض: ما ورد في سياق هذا الحديث وغيره (أن
ومن هذا الحديث استدل العلماء على العذر بالجهل؛ لأن الرجل إن سجد لصنم أو لبشر وهو يعلم أن السجود لا يكون إلا لله كفر.
وأخذ العلماء من هذا الحديث أن الرجل إن سجد وهو لا يدري أن مثل هذا السجود يكفر العبد بفعله؛ عذر بجهله، وإلا لو كان لا يعذر بجهله لقال النبي عليه الصلاة والسلام لـمعاذ : قد كفرت بهذا الفعل، اذهب فاغتسل، وقل الشهادتين وادخل في الإسلام، أما أنه لم يقل له شيئاً من هذا، وأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ فدل على أن الجاهل إذا فعل فعلاً من أفعال الكفر لا يعلم به أنه يعذر.
فهذا يدل على أن السجود المقصود به: السجود الحقيقي المعروف، أفرأيت إلى هذا الحديث، يقول: (إن كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ثم تأتي امرأة تقصر في حق زوجها! لا ينبغي لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تفعل ذلك.
هذه الدنيا قصيرة جداً، كما ورد في بعض الأحاديث -ولكنها غير صحيحة، لكن ورد هذا على بعض ألسنة السلف-: أن الدنيا خطوة رجل مؤمن..
فيروى في بعض الأحاديث أو بعض الإسرائيليات أن نوحاً عليه السلام -وهو أطول الأنبياء عمراً- سئل عن الدنيا؟ فقال: باب دخلت منه وباب خرجت منه، ولا يحس المرء بهذه الحقيقة المرة إلا وهو يعايش ملائكة الله تبارك تعالى وهي تنزع الروح، الذين عاشوا ستين أو سبعين سنة سلهم: هل الدنيا قصيرة أم لا؟ تجدها قصيرة، فهي لا تستحق النزاعات.
لقد وصف الله عز وجل الزواج أنه سكن، بل وصف الرجل مع المرأة في عشرتهما بأبلغ من ذلك: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187] فانظر إلى قوة هذا التعبير.. كلاهما لبس الآخر ملابسة!
لم الخصومة والنزاع؟ وتتصور المرأة أن الرجل متسلط عليها؟ هب ذلك، إن الظلم لا يدفع بظلم مثله، والمثل الجائر الفاسد الذي يجري على ألسنة الناس (الكبر على أهل الكبر صدقة) متى كان الكبر صدقة؟ متى كانت المعاصي تدخل في جملة الصدقات التي يتقرب إلى الله بها؟ لا يجوز أن يُدفع الباطل بباطل، إنما يدفع بحق أو يصبر، لا تقل: كما ظلمني أظلمه.. إذا ظلمك أحد فادفع ظلمه بحق أو اصبر عليه، لكن الله تبارك وتعالى الذي حرم الظلم على هذا الإنسان حرمه عليك أيضاً، فالمرأة لا تتصور أن الزوج خصم لها، فتصبر عليه، فإن صبرها عليه لها به أجر.
أين نحن من مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الترمذي وغيره-: (رحم الله عبداً استيقظ من الليل، فأيقظ امرأته -أي: لتصلي معه- فإن أبت نضح الماء على وجهها، ورحم الله امرأة استيقظت من الليل فأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت الماء على وجهه فأيقضته) .
صورة مختلفة تماماً للبيت المؤمن الصالح، ولكن ينبغي الالتزام أو فهم معنى النضح، النضح ماء خفيف جداً، يكون باليد أو بالفم، فلا تأت بوعاء ماء وترشه! لا، ماء خفيف جداً.
ثم يجب على الرجل أو المرأة أن يترفق كلاهما بالآخر في هذا الباب، هب أن الرجل متعب أو المرأة متعبة كأن تكون طيلة اليوم في عمل البيت، ليس واجباً أن توقظها، إنما هذا ندب تندب إلى هذا الفعل إن علمت راحة المرأة.
عرضت علي حالة في غاية العجب: رجل تزوج امرأة، وأرادا أن يطبقا هذا الحديث، ولكن المرأة تستيقظ في الفجر والرجل لا يستيقظ؛ من شدة تعبه وعمله في اليوم، وكان يعمل عملاً شاقاً، ويأتي في الليل متأخراً، فكانت توقظه فيأبى، فأغلظت المرأة عليه في الإيقاظ، وقالت: كيف تصلي الفجر متأخراً؟ طلقني. ولم يكن مضى على زواجهم أكثر من ثلاثة أسابيع، قال لها: اذهبي فأنت طالق.
ثم جاءت المرأة تستفتي في هذا الأمر، فقالت: هل يجوز أن أقول هذا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام عرضت عليه قصة كما في سنن أبي داود أن امرأة صفوان بن المعطل السلمي شكت زوجها للنبي عليه الصلاة والسلام وهو جالس، فقالت: يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس. فقال صفوان : يا رسول الله! لا تعجل علي. فأما قولها: (يضربني إذا صليت) فإنها تصلي بسورتين -أي: بعد الفاتحة- وقد نهيتها عن ذلك، وأمرتها أن تصلي بسورة واحدة، فقال لها: أطيعي زوجك -لأن الصلاة تنعقد بالفاتحة فقط بدون قراءة سورة، فكيف إذا كانت المرأة تؤمر بسورة واحدة، وهذا مستحب، وطاعة الزوج فرض-.
وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فإني رجل شاب، وهي تستأنس الصوم، ولا تستأذنني، فكنت آتيها فأفسد عليها صومها. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) وهذا في غير رمضان.
أما قولها: (لا أصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس) فإنا آل بيت عرف عنا ذلك، فواضح من سياق الحديث أن هذه جبلة، فإنه إذا نام ينام نوماً عميقاً لا يستيقظ، ولا يملك أن يستيقظ وإن أيقظه أحد، والشريعة سمحة- فقال عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظت فصلِ؛ لأنه جاء في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) فكيف تقول له: طلقني؟ لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر